الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة، لأنه المنعم المتفضّل على أهل الدنيا والآخرة، المالك لجميع ذلك، الحاكم في جميع ذلك، كما قال تعالى:{وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، ولهذا قال تعالى ها هنا:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ، أي: الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره، كما قال تعالى:{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى} ؛ ثم قال عز وجل: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} ، فهو المعبود أبدًا، المحمود على طول المدى. وقوله تعالى:{وَهُوَ الْحَكِيمُ} ، أي: في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، {الْخَبِيرُ} الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء.
قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي
آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) } .
قال ابن كثير: هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهنّ، مما أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لَمَّا أنكره مَنْ أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس عليه السلام وهي قوله تعالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ، والثانية هذه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ، والثالثة في سورة التغابن وهي قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، فقال تعالى:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ثم وصفه بما يؤكّد ذلك ويقرّره، فقال:{عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
قال مجاهد، وقتادة:{لا يَعْزُبُ عَنْهُ} : لا يغيب عنه. أي: الجميع متدرّج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة فإنه بكل شيء عليم؛ ثم بين حكمته في إعادة الأبدان، وقيام الساعة بقوله
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} ، أي: سعوا في الصدّ عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} ، أي: لينعم السعداء من المؤمنين ويعذّب الأشقياء من الكافرين، كما قال عز وجل:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} .
وقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} ، هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها، وهي: أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار، بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا، رأوه حينئذٍ عين اليقين ويقولون يومئذٍ أيضًا:{لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ، ويقال أيضًا:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ، {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} ، {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، {الْعَزِيزِ}
هو: المنيع الجناب الذي لا يغلب ولا يمانع، بل قد قهر كل شيء وغلبه، {الْحَمِيدِ} في جميع أقواله وأفعاله وشرعه، وقدره، وهو المحمود في ذلك كله جلّ وعلا.
وقال البغوي: قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، يعني: مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ، يعني: القرآن، {هُوَ الْحَقَّ} ، يعني: أنه من عند الله، {وَيَهْدِي} ، يعني: القرآن، {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وهو: الإِسلام.
قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (9) } .
قال ابن كثير: هذا إخبار من الله عز وجل عن استبعاد الكفرة الملحدين قيامَ الساعة، واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} ، أي: تفرّقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق {إِنَّكُمْ} أي: بعد هذا الحال {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، أي: تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك، وهو في هذا الإخبار لا يخلو أمره من قسمين: إما أن يكون قد تعمّد الافتراء على الله تعالى أنه قد أوحى إليه ذلك، أو أنه لم يتعمّد لكن
لَبَسَ عليه كما يَلْبِسُ على المعتوه والمجنون، ولهذا قالوا:{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ؟ قال الله عز وجل رادًّا عليهم: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} ، أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه، بل محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق البارّ الراشد الذي جاء بالحق، وهم: الكذبة الجهلة الأغنياء، {فِي الْعَذَابِ} ، أي: الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى، {وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} من الحق في الدنيا.
ثم قال منبهًا على قدرته في خلق السماوات والأرض فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} ، أي: حيثما توجّهوا وذهبوا فالسماء مطلِّة عليهم، والأرض تحتهم، كما قال عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ
…
الْمَاهِدُونَ} . قال عبد بن حميد: أخبرنا عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} ، قال: إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك، أو من بين يديك أو من خلفك، رأيت السماء والأرض.
وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} أي: لو شئنا لفعلنا بهم ذلك لظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخّر ذلك لحلمنا وعفونا؛ ثم قال:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} قال معمر عن قتادة: منيب: تائب. وقال سفيان عن قتادة: المنيب: المقبل إلى الله تعالى. أي: أن في النظر إلى خلق السماوات والأرض لدلالة لكل
عبد فطن لبيب رجّاع إلى الله، على قدرة الله على بعث الأجساد ووقوع المعاد، لأن من قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضيين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها، إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام، كما قال تعالى:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} .
وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
* * *