الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس التاسع بعد المائتين
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) } .
* * *
عن ابن عباس قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} إلى آخر الآية، قال: ذلك مثل ضربه الله لمن عبد غيره. وقال قتادة: هذا مثل ضربه للمشرك، مثل إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت: واهن ضعيف لا ينفعه. وقال ابن زيد: لا يغني أولياؤهم عنهم شيئًا، كما لا يغني العنكبوت بيتها هذا.
قال ابن كثير: ثم قال تعالى متوعدًا لمن عبد غيره وأشرك به: أنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال، ويعلم ما يشركون به من الأنداد، وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم، ثم قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} ، أي: وما يفهمها ويتدبّرها إلا الراسخون في العلم المتضلّعون منه. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} ، قال:«العالم من لم يغفل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» . رواه
البغوي. وعن عمرو بن مرة
قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني لأني سمعت الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} .
وقوله تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} .
قال البغوي: أي: للحق وإظهار الحق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في خلقها، {لَآيَةً} لدلالة، {لِّلْمُؤْمِنِينَ} على قدرته وتوحيده.
عن ابن عباس قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} ، يقول: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله؛ وقال: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا.
وعن عبد الله بن ربيعة قال: قال عبد الله بن عباس: هل تدري ما قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قال: قلت: نعم، التسبيح، والتحميد، والتكبير في الصلاة، وقراءة القرآن ونحو ذلك، قال: لقد قلت قولاً عجبًا وما هو كذلك، ولكنه إنما يقول: ذكر الله إياكم عند ما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه، أكبر من ذكركم إياه. وعن ابن عون في قول الله:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر.
وعن ابن عباس في قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قال: لها وجهان: ذكر الله أكبر مما سواه، وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان
أحدهما أعظم من الآخر، ولما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} . فيجازيكم.
قال ابن زيد في قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال: ليست بمنسوخة. انتهى. وهذه الآية كقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، أي: حادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح الحجّة، وعاندوا وكابروا فحينئذٍ ينتقل من الجدال إلى الجلاد. وعن سعيد: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ * إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، قال: أهل الحرب من لا عهد له جادله بالسيف. وعن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية فيفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون» . رواه ابن جرير وغيره.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} .
قال البغوي: وكذلك يعني كما أنزلنا إليهم الكتاب: {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، يعني: مؤمني أهل الكتاب، {وَمِنْ هَؤُلَاء} ، يعني: أهل مكة: {مَن يُؤْمِنُ بِهِ} وهم مؤمنو أهل مكة، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} وذلك أن اليهود وأهل مكة عرفوا أن محمدًا نبيّ، والقرآن حقّ فجحدوا. وقال قتادة: الجحود إنما يكون بعد المعرفة.
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو} يا محمد {مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} يعني: لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي، {إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ، قال قتادة: إذًا لقالوا إنما هذا شيء تعلّمه محمد وكتبه.
وقال الحسن في قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} القرآن، {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، يعني المؤمنين.
قال ابن كثير: ولهذا جاء في صفة هذه الأمة: أناجيلهم في صدورهم.
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في تعنّتهم وطلبهم {آيَاتٌ} يعنون: ترشدهم إلى أن محمدًا رسول الله كما أتى صالح بناقته، قال الله تعالى:{قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} أي: إنما أمر ذلك إلى الله.
وقوله: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: إنما بعثت نذيرًا لكم، بيّن النذارة فعليّ أن أبلغكم رسالة الله تعالى، و {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} .
ثم قال تعالى مبيّنًا كثرة جهلهم وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدلّهم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة عشر سور من مثله، بل عن معارضة سورة منه، فقال تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي: أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم
، الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمّيّ لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدًا من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح؟ انتهى ملخصًا. وذكر الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ما من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» .
وقال البغوي: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في إنزال القرآن: {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، أي: تذكيرًا وعظة لمن آمن وعمل بها، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
شَهِيداً} ، أنيّ رسوله وهذا القرآن كتابه، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} ، قال ابن عباس: بغير الله. وقال قتادة: بعبادة الشيطان، {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
قال ابن كثير: في يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل، كذّبوا برسل الله مع قيام الأدلّة على صدقهم، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل، فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم.
* * *