الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس السادس بعد المائتين
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى
وَمَنْ
هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (85) وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) } .
* * *
عن قتادة: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} كنا نحدث أنه كان ابن عمه أخي أبيه، وكان يسمى النور من حسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامريّ فأهلكه البغي، إنما بغى عليهم بكثرة ماله.
وعن مجاهد: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} قال: مفاتح من جلود كمفاتح العيدان. وعن ابن عباس في قوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} ، قال: لتثقل بالعصبة. قال قتادة: ذكر لنا أن العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين.
وعن مجاهد في قوله: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ، قال: المتبذّخين الأشِرين البَطِرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. وقال: هو: فرح البغي.
وعن ابن عباس: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، قال: أن تعمل فيها لآخرتك. وعن قتادة: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، قال: طلب الحلال. قال ابن
كثير: وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرّب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة. {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزَوْرِك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي: أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي: لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض وتسيء إلى خلق الله، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
وقال ابن زيد في قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ، قال: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا. وقرأ: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} الآية. وعن مجاهد: {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} كقوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} ، زرقًا سود الوجوه، والملائكة لا تسأل عنهم قد عرفتهم. وقال الحسن: لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ.
عن مجاهد: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ، قال: على براذين بيض عليها سروج الأرجوان عليهم المعصفرات. وعن قتادة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} . (ذُكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة) .
{فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ} ، أي: جند ينصرونه، وما عنده منعة يمتنع بها من الله، {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ
يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ} ، قال: ألم تر. وقال مجاهد: ألم تعلم. وقال ابن كثير: قال بعضهم: معناه ويلك اعلم وقواه. وقال: فلما خسف به أصبحوا يقولون: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ، أي: ليس المال بدالّ على رضى الله عن صاحبه، فإن الله يعطي ويمنع ويضيّق ويوسّع، يخفض ويرفع، وله الحكمة التامّة والحجّة البالغة. وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن
مسعود: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحبّ) .
{لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} ، أي: لولا لطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به، لأن وددنا أن نكون مثله. {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، يعنون: أنه كان كافرًا ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة.
عن مسلم البطين: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} قال: العلوّ: التكبر في الأرض بغير الحق، والفساد: الأخذ بغير الحق. وعن ابن جريج قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} قال: تعظيمًا وتجبّرًا {وَلَا فَسَاداً} عملاً بالمعاصي. وعن قتادة: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي: الجنة للمتقين.
وقوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} .
قال ابن كثير: أي: ثواب الله خير من حسنة العبد، فكيف والله يضاعفه أضعافًا كثيرة؟ وهذا مقام الفضل؛ ثم قال:{وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا مقام العدل.
عن مجاهد في قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، قال: إلى الجنة. وقال الحسن: أي والله إن له لمعادًا يبعثه الله يوم القيامة ويدخله الجنة.
وعن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، يقول: لرادّك إلى الجنة، ثم سائلك عن القرآن؛ وعنه {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى مكة.
قال ابن كثير: ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسرّ ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: ولهذا فسّر ابن عباس تارة أخرى قوله:
{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بالموت، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن.
وقال البغوي: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} ، أي: يعلم من جاء بالهدى، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لفي ضلال مبين، فقال الله عز وجل:{قُل} لهم: {رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى} يعني: نفسه، {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، يعني: المشركين. والله أعلم بالفريقين.
قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} ، أي: يوحى إليك القرآن، {إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ، قال الفراء: هذا من الاستثناء المنقطع معناه: لكن ربك رحمك فأعطاك القرآن، {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ} ، أي: معيناً لهم على دينهم. وقال مقاتل: وذلك حين دُعي إلى دين آبائه، فذكّره الله نعمه ونهاه عن مظاهرهم على ما هم عليه، {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} ، يعني: القرآن، {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} إلى معرفته وتوحيده {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أهل دينه، أي: لا تظاهروا الكافرين ولا توافقوهم.
وقال ابن كثير: وقوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: لا تليق العبادة إلَاّ له ولا تنبغي الإلهية إلَاّ لعظمته.
وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، إخبار بأنه الدائم، ثم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فعبّر بالوجه عن الذات وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، أي: إلَاّ إياه. وقوله: {لَهُ الْحُكْمُ} ، أي: الملك والتصرّف ولا معقّب لحكمه.
…
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي: يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم.
* * *