الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن كثير: يقول تعالى: هذه {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} ، وفيه تنبيه على الاعتناء بها. وعن ابن عباس في قوله:{وَفَرَضْنَاهَا} ، يقول: بيّنّاها. وعن ابن جريج: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، قال: الحلال، والحرام، والحدود، {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} ، قال عطاء: يقام حمدًا لله ولا يعطّل، وليس بالقتل. وقال عمران: قلت لأبي مجلز: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} إلى: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل حدًّا أو تقطع يده، قال: إنما ذاك أنه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم الحدّ.
وقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال الزهري: الطائفة الثلاثة فصاعدًا. وعن ابن عباس: أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد أيها الناس، فإن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل
عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلّوا
بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أُحْصِنَ من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة، أو كان الحَبَلُ أو الاعتراف) . متفق عليه. وفي الصحيحين أيضًا في حديث العسيفي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ، فغدا عليهما فاعترفت فرجمها. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنا نقرأ: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) . رواه النسائي وغيره. قال ابن كثير: آية الرجم كانت مكتوبة، فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به. والله أعلم.
وقوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، قال عبد الله بن عمرو كانت امرأة يقال لها: أم مهزول وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجها، فأنزل الله عز وجل:{الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . رواه النسائي. وفي رواية الإِمام أحمد: فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ
ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حرّم الله عليهم الجنّة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والذي يقرّ في
أهله
…
الخبث» . رواه أحمد. وفي رواية: «والديّوث» .
قال ابن كثير: المحصنة هي: الحرة البالغة العفيفة. وقال الشعبي في القاذف إذا تاب وعلم منه خير: أن شهادته جائزة، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته، وتوبتُه إكذابُه نفسَه. وقال الضحاك: إذا تاب وأصلح قبلت شهادته.
قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} ، أي: يدفع عنها الحدّ شهادتها. وعن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ، قال سعد بن عبادة وهو سيّد الأنصار رضي الله عنه: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيّدكم» ؟ فقالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قطّ إلا بكرًا، وما طلّق امرأة قطّ فاجترأ رجل منا أن
يتزوّجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق وأنها من الله، ولكني قد تعجّبت، إني لوجدت لكاعًا قد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته!
قال: فما لبثوا إلَاّ يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنيه فلم يهيّجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتدّ عليه واجتمعت الأنصار وقالوا: قد ابتُلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجًا، وقال هلال: يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتدّ عليك مما جئت به، والله يعلم إني لصادق، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل
الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي، وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربّد وجهه. يعني: فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الآية، فَسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أبشر يا هلال، فقد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا» . فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أرسلوا إليها» . فأرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما، فذكّرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليهما فقالت: كذب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لاعِنُوا بينهما» فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كان الخامسة قيل له:«يا هلال اتّق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجِبة التي توجب عليك العذاب» . فقال: والله لا يعذّبني الله
عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين؛ ثم قيل للمرأة:«اشهدي» . فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة:«اتّق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجِبة التي توجب عليك العذاب» . فتلكّأت ساعة وهمّت بالاعتراف ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أنه لا يُدْعَى ولدها لأب ولا يُرْمَى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحدّ، وقضى أن لا
بيت عليه ولا قوت لها من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفّى عنها، وقال: إن جاءت به أصيهب أو حمش الساقين فهو: لهلال، وإن جاءت به أورق جعدًا جماليًا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فهو: للذي رميت به، فجاءت به أورق جعدًا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» . قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر، وكان يدعى لأمّه ولا يدعى لأب. رواه أحمد وغيره.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: يا رسول الله مالي؟ قال: «لا مال لك إن كنت صدقت عليها، فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها» .
وقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} قال البغوي: جواب (لولا) محذوف. يعني: لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم
ورفع عنكم الحدّ باللعان {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة، {حَكِيمٌ} فيما فرض من الحدود.
وقال ابن كثير: ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق، فقال تعالى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: لخرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم، {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} ، أي: على عبادة، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلّظة، {حَكِيمٌ} فيما يشرعه ويأمر به، وفيما ينهى عنه.
* * *