الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن كثير: يخبر تعالى بعلم غيب السماوات والأرض، وأنه يعلم ما تكنّه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر، وسيجازَى كلّ بعمله؛ ثم قال عز وجل:{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ} ، أي: يخلف قوم لآخرين قبلهم، وجيل لجيل قبلهم، {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ، أي: فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره، {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} ، أي: كلّما استمرّوا على كفرهم أبغضهم الله تعالى، وكلّما استمرّوا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحَسُن عمله، ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وأحبه خالقه.
قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي: من الأصنام والأنداد،
…
{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} ، أي: ألهم شيء من ذلك؟ ما
يملكون من قطمير. وقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} ، أي: أم أنزلنا عليهم كتابًا بما يقولونه من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} ، أي: بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور، وباطل، وزور.
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عند أمره وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فقال:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا} ، أي: أن تضطربا عن أماكنهما، كما قال عز وجل:{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ} ، وقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} ؛ {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} ، أي: لا يقدر على قوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، أي: يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يعجل، ويستر آخرين ويغفر، ولهذا قال تعالى:{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} . قال: وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل
النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، أو النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .
قال البغوي: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، يعني: كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، وأقسموا بالله وقالوا: لو أتانا رسول الله لنكونن أهدى دينًا منهم، وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بُعث محمد كذبوه فأنزل الله عز وجل {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ} رسول، {لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} ، يعني: من اليهود والنصارى {وَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ} محمد صلى الله عليه وسلم، {مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً} ، أي: ما زادهم مجيئه إلَاّ تباعدًا عن الهدى. {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ} نَصَبَ (استكباراً) على البدل من (النفور) . {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} ، يعني: العمل القبيح، أضيف المكر إلى صفته؛ قال الكلبي: هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وسلم. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ} ، أي: لا يحل ولا يحيط المكر
السيئ، {إِلا بِأَهْلِهِ} فقتلوا يوم بدر. وقال ابن عباس: عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك. والمعنى: إن وبال مكرهم راجع عليهم، {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ} إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار؟ قال ابن كثير: وقال محمد بن كعب القُرَظِي: ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينزل به من: مكر، أو بغي، أو نكث. وتصديقها في كتاب الله:{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} . {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} .
وقوله تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} قال بعضهم: والتبديل: تغيير الصورة مع بقاء المادة، والتحويل: نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر. قال ابن كثير: وقوله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ} ، يعني: عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} ، أي: لا تغير ولا تبدل، بل هي جارية كذلك في كل مكذب، {وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} ، أي:{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ} ، ولا يكشف ذلك عنهم، ويحوله عنهم أحد. والله أعلم.
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) } .
عن قتادة: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} يخبركم: أنه أعطى القوم ما لم يعطكم. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} . قال البغوي: أي: ليفوت عنه {مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} من الجرائم، {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} ، يعني: على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور، {مِنْ دَابَّةٍ} كما كان في زمان نوح، أهلك الله ما على ظهر الأرض إلا من كان في سفينة نوح.
{وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أهل طاعته وأهل معصيته. وقال ابن كثير: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: ولكن يُنْظرهُم إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذٍ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهلَ الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية، ولهذا قال تبارك تعالى:
…
{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} .
* * *