الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس السادس والتسعون بعد المائة
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227) } .
* * *
عن قتادة: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال: هذا القرآن، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} ، قال: جبريل.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} ، أي: ذكر إنزال القرآن على محمد موجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم. {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، قال مجاهد: عبد الله بن سلام وغيره من علمائهم.
قال ابن كثير: ثم قال تعالى مخبرًا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن: أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة، وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به، ولهذا قال:{نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} ، قال ابن عباس: أدخلنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين.
{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} . قال البغوي: أي: لنؤمن ونصدّق. يتمنّون الرجعة والنظرة. قال مقاتل: لما أوعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا: إلى
…
متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب؟ قال الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} ؟ .
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} . قال البغوي: والمعنى: أنهم وإن طال تمتّعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتّع شيئًا، ويكونون كأنهم لم يكونوا في نعيم قطّ. قال ابن كثير: وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قطّ؟ هل رأيت نعيمًا قطّ؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب» ، أي: ما كأنّ شيئًا كان.
ثم قال تعالى مخبرًا عن عدله في خلقه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى} . قال البغوي: أي: رسل ينذرونهم تذكرة. قيل: محلّها رفع. أي: تلك ذكرى وما كنا ظالمين في تعذيبهم، حيث قدّمنا الحجّة عليهم وأعذرنا إليهم.
قوله عز وجل: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ
مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) } .
عن قتادة في قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} ، قال: هذا القرآن.
وفي قوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} ، قال: عن سمع السماء.
وقوله تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يحذّر به غيره يقول: أنت أكرم الخلق عليّ، ولو اتخذت إلهًا غيري لعذّبتك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا فعمّ
وقال ابن زيد في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يقول: لِنْ لهم.
وقوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ، أي: من الشرك والمعاصي. وروى ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدّث الناس ويفتيهم، وولده إلى جنبه وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدّثون، فقيل له: ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ فقال: لإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أزهد
الناس في الدنيا الأنبياء، وأشدّهم عليهم الأقربون» ، وذلك فيما أنزل الله عز وجل قال الله تعالى:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} إلى قوله: {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} .
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} ، أي: المصلّين. قال عكرمة: قائمًا، وساجدًا وراكعًا، وجالسًا. وقال قتادة: يراك وحدك ويراك في الجمع. وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أي: السميع لأقوال عباده، العليم
بحركاتهم وسكناتهم، كما قال تعالى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .
وقوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} ؟ هذا جواب قول المشركين: إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد، فقال تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ، ثم أخبر أنهم إنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة فقال:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ، أي: كذاب فاجر. قال قتادة: هم: الكهنة، تسترق الجنُّ السمع ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإِنس.
وقوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} ، قالت عائشة: الشياطين تسترق السمع، فتجيء بكلمة حق فيقذفها في أذن وليّه، ويزيد فيها أكثر من مائة كذبة.
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ} ، أهل الغيّ لا أهل الرشاد والهدى. وقال مجاهد: يتبعهم الشياطين. وعن ابن عباس: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ، يقول: في كل لغو يخوضون. وقال قتادة: يمدحون قومًا بباطل، ويشتمون قومًا بباطل.
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} ، قال البغوي: أي: يكذبون في شعرهم، يقولون: فعلنا وفعلنا وهم كَذَبة. وعن ابن عباس: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في كلامهم،
…
{وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} ، قال: يردّون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين. وروى البغوي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» . وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول:
خلّوا بني الكفار عن سبيله
…
اليوم نضربكم على تنزيله
ضربًا يزيل الهمام عن مقيله
…
ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خلّ عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح
النبل» . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، كقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» . قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، يعني: من الشعراء وغيرهم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كتب أبي في وصيّته سطرين: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا، حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن يعدل فذاك ظنّي به ورجائي فيه، وإن يجرؤ يبدّل فلا أعلم الغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ
…
يَنقَلِبُونَ} . رواه ابن أبي حاتم. والله أعلم.
* * *