الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثامن والأربعون بعد المائتين
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
(30)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) } .
* * *
عن قتادة: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، قال: عليهم وزعة تردّ أولاهم على أُخراهم. قال في جامع البيان: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} ، (ما) مزيدة لتأكيد ظرفيته للشهادة، أي: إنما تقع فيه البتة، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من المعاصي. وعن أنس رضي الله عنه قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «ألا تَسْأَلُونِي من أي شيء ضَحِكْتُ» ؟ قالوا: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال:
…
«عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة! يقول: أي رب أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: بلى. فيقول: فإني لا أقبل علي شاهدًا إلا من نفسي. فيقول الله تبارك وتعالى: أليس كفى بي شهيدًا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيردد هذا الكلام مرارًا قال: فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان
يعمل، فيقول: بعدًا لكنّ وسحقًا عنكنّ كنت أجادل» . رواه مسلم وغيره. وعن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام، وإن أول ما
يتكلم من الآدمي فخذه وكفه» . رواه ابن جرير وغيره.
وعن السدي: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} ، أي: تسخفون منها. وعن قتادة: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} ، يقول: وما كنتم تظنون، {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} حتى بلغ:{كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} . والله إن عليك يا ابن آدم لشهودًا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سر أمرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظنّ فليفعل ولا قوّة إلا بالله. وعن عبد الله بن مسعود قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ دخل ثلاثة نفر: ثقفي، وختناه قرشيان، قليل فقه قلوبهما كثير شحوم بطونهما، فتحدثوا بينهم بحديث فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إنه يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا خفضنا. وقال الآخر: إذا كان يسمع منه شيئًا فهو يسمعه كله. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية:{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} ، فقرأ حتى بلغ:{وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} . رواه ابن جرير وغيره.
وعن معمر قال: تلا الحسن: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} فقال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن بالله الظن، فأحسن العمل. وأما الكافر، والمنافق فأساء الظن، فأساءا العمل. وعن قتادة: الظن ظنان: ظنّ منج، وظنّ مُرْدٍ. قال:
…
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} قال: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} وهذا الظنّ المنجي ظنًا يقينًا. وقال: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} ، هذا ظنّ مُرْدٍ. وقال الكافرون:{إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} ؛ وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول - ويروي ذلك عن ربه -:
«عَبْدِي غير ظنِّه بِي، وأنا مَعَهُ إذَا دَعانِي» . قوله تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} ، قال البغوي:{وَإِن يَسْتَعْتِبُوا} ، يسترضوا ويطلبوا العتبى، {فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} ، المرضيين. والمعتب: الذي قبل أعتابه وأجيب إلى ما سأل.
قوله عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) } .
عن مجاهد: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء} قال: شياطين، {فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ، قال السدي: من أمر الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} ، من أمر الآخرة، {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ، قال: العذاب، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} ، وعن ابن عباس قوله:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ، قال: هذا قول المشركين قالوا: لا تتبعوا هذا القرآن والهوا عنه. وعن مجاهد: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} ، قال: المكاء والتصفير وتخليط من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ قريش تفعله.
{فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال البغوي: وهو: الشرك بالله. وعن علي رضي الله عنه في قوله: {رَبَّنَا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} قال: إبليس، وابن آدم الذي قتل أخاه {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ} ، قال ابن عباس: ليكونا أشد عذابًا منًا.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) } .
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام. وقال عكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله. وعن مجاهد: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به. وعن الزهري قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: استقاموا والله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب. وقال قتادة: استقاموا على طاعة الله. وكان الحسن إذا تلاها قال: اللهم فأنت ربّنا فارزقنا الاستقامة. وعن مجاهد: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} عند الموت، {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} قال:{أَلَّا تَخَافُوا} ما تَقْدُمُون عليه من أمر الآخرة، {وَلَا تَحْزَنُوا} ، على ما خلّفتم من دنياكم فإنا نخلفكم في ذلك كلّه {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} .
وعن السدي: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ، قال ابن كثير: أي: مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم،
{نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} ، أي: ضيافة وعطاء وإنعامًا من غفور لذنوبكم، {رَّحِيمٍ} ، بكم. وفي الصحيح عن
أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . قلنا: يا رسول الله كلنا نكره الموت! قال: «ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه، فليس شيء أحبّ إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى فأحبّ الله لقاءه - قال -: وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشرّ فكره لقاء الله فكره الله لقاءه» . رواه أحمد وغيره.
* * *