الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الخامس والستون بعد المائة
[طه]
مكية، وهي مائة وخمس وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ
تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ
إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا
مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) } .
* * *
عن ابن عباس قوله تعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، فإن قومه قالوا: لقد شقي هذا الرجل بربه فأنزل الله تعالى ذكره {طه} ، يعني: يا رجل، {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . وقال قتادة:{مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، لا والله ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمة ونورًا ودليلاً إلى الجنة، {إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} وأن الله أنزل كتابه وبعث رسله رحمة رحم الله بها العباد، ليتذكر ذاكر وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذاكرًا له، أنزل الله فيه حلاله وحرامه. فقال:{تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ، قال
محمد بن كعب: أي: ما تحت الأرض السابعة. {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ، قال ابن عباس: السر: ما علمته أنت، وأخفى
ما قذف الله في قلبك مما لم تعلم. وفي رواية: السر ما أسرّ الإنسان في نفسه، وأخفى ما لم يعلمه الإنسان مما هو كائن.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} .
قال ابن كثير: أي: الذي أنزل عليك القرآن هو الله الذي لا إله إلَاّ هو ذو الأسماء الحسنى، والصفات العُلى.
قال البغوي: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ، أي: وقد أتاك، استفهام بمعنى: التقرير، وقال في جامع البيان: فيه تعظيم لشأن الحديث، وتبيين على أنه إنما عرفه بالوحي.
قال ابن عباس: لما قضى موسى الأجل سار بأهله فضل الطريق، وكان في الشتاء ورفعت لهم نار، فلما رآها ظن أنها نار وكانت من نور الله: قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار
هدًى، يقول: من يدل على الطريق. وقال وهب بن منبه: خرج موسى نحوها، فإذا هي شجر من
العليق؛ وبعض أهل الكتاب يقول: في عوسجة، فلما دنا، استأخرت عنه، فلما رأى استئخارها رجع عنها، وأوجس في نفسه منها خيفة، فلما أراد الرجعة دنت منه ثم كلمه من الشجرة، فلما سمع الصوت استأنس، قال الله تبارك وتعالى له:{يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} قال قتادة: كانتا من جلد حمار، فقيل له: اخلعهما. وقال الحسن: كانتا من بقر، لكن إنما أراد الله أن يباشر بقدميه بركة الأرض، وكان قد قدّس مرتين. وقال مجاهد: طوى: اسم الوادي.
وقوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} ، أي: اصطفيتك، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ، قال مجاهد: إذا صلى ذكر ربه وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فيصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} » . وعن ابن عباس قوله: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} ، يقول: لا أظهر عليها أحدًا غيري. وفي مصحف عبد الله ابن مسعود أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها مخلوق؟ وقيل: أخفيها فلا أقول هي: آتية.
{لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} ، أي: بما تعمل من خير وشر،
…
{فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} ، أي: عن التصديق بالساعة، {مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} فتهلك.
قال البغوي: قوله عز وجل: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ؟ سؤال تقرير، والحكمة في هذا السؤال تنبيهه وتوقيفه على أنها عصا، حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة.
وقوله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} ، قال السدي يقول: أضرب بها الشجر للغنم فيقع الورق.
وعن ابن عباس في قوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ، قال: حوائج أخرى قد علمتها، {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} ، أي: عصا كما كانت.
وعن مجاهد قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} ، قال كفّه تحت عضده، {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ، قال: من غير برص {لِنُرِيَكَ
مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} . قال ابن جرير: كي نريك من أدلّتنا الكبرى على عظيم سلطاننا وقدرتنا.
قال مجاهد في قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} ، قال: لجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون، تردّ به فرعون حين أخذ بلحيته.
وعن ابن عباس قوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} ، يقول: اشدد به ظهري.
وقوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} .
قال البغوي: يعني: في النبوة وتبليغ الرسالة، {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} ، قال ابن جرير: يقول: {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} ، لا يخفى عليك من أفعالنا شيء.
قوله عز وجل: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) } .
قال البغوي: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} وحي إلهام، {مَا يُوحَى} ما يلهم؛ ثم فسّر ذلك الإلهام وعدّد نعمة عليه فقال:{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} ، يعني: نهر النيل، قال ابن إسحاق: لما ولدت موسى أمه أرضعته، حتى إذا أمر فرعون بقتل الغلمان من سنته تلك، عمدت إليه فصنعت به ما أمرها الله تعالى، جعلته في تابوت صغير ومهّدت له فيه، ثم عمدت إلى النيل فقذفته فيه، وأصبح فرعون في مجلس له، كان يجلس على شفير النيل كل غداة، فبينما هو جالس إذ مرّ النيل بالتابوت، فقذف به، وآسية ابنة مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه، فقال: إن هذا الشيء في البحر فائتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به، ففتح التابوت فإذا فيه صبي في مهده، فألقى الله عليه محبته وعطف عليه نفسه.
وعن قتادة قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ، قال: هو غذاؤه. قال ابن إسحاق: {قالت} ، يعني: أم موسى، {لأخته قصّيه} فانظري ما يفعلون به، فخرجت في ذلك
{فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون} ، وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه، فلا يؤتى بامرأة فيقبل ثديها فيرمضهم ذلك، فيؤتى بمرضع بعد
مرضع فلا يقبل شيئًا منهم، فقالت لهم أخته حين رأت من وُجْدِهم
…
به وحرصهم عليه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ؟ أي: لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرة الملك؟ قالوا: هاتي فأتت أمه فأخبرتها فانطلقت معها حتى أتتهم، فناولوها إياه فلما وضعته في حجرها أخذ ثديها، وسرّوا بذلك منه وردّه الله إلى أمه، {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} فبلغ لطف الله لها وله أن ردّ عليها ولدها، وعطف عليها نفع فرعون وأهل بيته، مع الأمَنَة من القتل الذي يُتخوف على غيره.
وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما قتل موسى الذي قَتَل من آل فرعون خطأ، فقال الله له: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} » . قال ابن كثير: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} ، وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله، ففرّ منهم هاربًا حتى ورد ماء مدين.
وعن ابن عباس قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} ، يقول: اختبرناك اختبارًا {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} ، قال ابن عباس يقول: لقد جئت ليمقات يا موسى. وقال قتادة: قدر الرسالة والنبوة.
قوله عز وجل: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا
أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) } .
قال ابن كثير: وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ، أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً، {لِنَفْسِي} ، أي: كما أريد، وأشاء. وعن ابن عباس قوله:{وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} لا تبطئا. وقال مجاهد: لا تضعفا. وقال ابن زيد: الواني هو الغافل المفرط. وعن السدي: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} ، قال: كَنَّياه.
وعن ابن عباس قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ، يقول: هل يتذكر أَوْ يَخْشَى.
وقال ابن كثير: أي: لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة. {أَوْ يَخْشَى} ، أي: يوجد طاعة من خشية ربه.
قال البغوي: فإن قيل: كيف قال: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} وقد سبق في علمه أنه لا يتذكّر ولا يُسْلِم؟ قيل: معناه اذهبا على رجاء منكما وطمع، وقضاء الله وراء أمركما.
وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} ، قال: نخاف أن يعجل علينا إذ نبلّغه كلامك وأمرك، {يَفْرُطَ} ويعجل،
وقرأ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . وقال ابن جرير: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} ، يقول: والسلامة لمن اتبع هدى الله، وهو بيانه. وعن قتادة قوله:{أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} عن طاعة الله.
قوله عز وجل: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي
كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) } .
عن ابن عباس: قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، يقول: خلق لكل شيء زوجه ثم هداه لمنحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده.
وقوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} ، أي: ما بالهم عبدوا غير الله، {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} . قال ابن عباس: لا يخطئ ربي ولا ينسى.
قال ابن كثير: لما أخبره موسى أن ربه الذي أرسله، هو الذي خلق ورزق وقدّر فهدى، شرع يحتجّ بالقرون الأولى، أي: الذين لم يعبدوا الله،
أي: فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم، سيجزيهم بعملهم.
وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً} .
قال البغوي: أصنافًا {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} مختلف الألوان، والطعوم، والمنافع، {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى} لذوي العقول، {مِنْهَا} ، أي: الأرض، {خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} يوم البعث.
* * *