الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثالث والسبعون بعد المائة
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) } .
* * *
عن مجاهد في قول الله: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} ، قال: أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث، وحكم سليمان بجزة الغنم، وألبانها لأهل الحرث، وعليهم رعايتها على أهل الحرث، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون لهم الحرث كهيئة يوم أُكل، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم. وقال شريح: كان النفش ليلاً.
وقال الحسن: كان الحكم بما قضى به سليمان ولم يعنف الله داود في حكمه. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» .
وقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} ، قال وهب: كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير. {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} ، أي: ما ذكرهن: التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير.
وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} ، أي: الدروع قال قتادة: كانت قبل داود صفائح، وكان أول من صنع الحلق وسرد داود.
قال قتادة: ورّث الله سليمان داود، فورثه نبوته وملكه، وزاده على ذلك أن سخر له الريح والشياطين. وقال ابن زيد في قوله:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} ، قال: عاصفة شديدة، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ، قال: الشام. قال البغوي: وذلك أنها كانت تجرى بسليمان وأصحابه حيث شاء سليمان، ثم يعود إلى منزله بالشام.
قال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد، قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إليَّ أعطيتني المال، والولد، فلم يبق من قلبي شعبة إلَاّ قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني وفرّغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني.
وقال الحسن: قال إبليس: يا رب سلّطني على جسده، فإن أصابه الضر فيه أطاعني وعصاك، قال: تسلط على جسده، فأتاه فنفخ فيه نفخة
فرح من لدن قرنه إلى قدمه، قال فأصابه البلاء بعد البلاء حتى حُمل فوُضع على مزبلة كناسة لبني إسرائيل، فلم يبق له مال، ولا ولد، ولا صديق، ولا أحد يَقربُه غير زوجته، صبرت معه بصدق وكانت تأتيه بطعام، وتحمد الله معه إذا حمد، وأيوب على ذلك لا يفتر عن ذكر الله، والتحميد والثناء على الله، والصبر على ما ابتلاه الله؛ قال: ومرّ به
رجلان، ولا والله ما على ظهر الأرض يومئذٍ أكرم على الله من أيوب، فقال أحد الرجلين لصاحبه: لو كان لله في هذا حاجة ما بلغ به هذا، فلم يسمع أيوب شيئًا كان أشد عليه من هذه الكلمة.
وقال ابن عباس: لما مسّه الشيطان بنصبٍ وعذاب، أنساه الله الدعاء أن يدعوه فيكشف ما به من ضرّ، غير أنه كان يذكر الله كثيرًا ولا يزيده البلاء في الله إلَاّ رغبة وحسن إيمان، فلما انتهى الأجل وقضى الله أنه كاشف ما به من ضرّ، أذن له في الدعاء ويسّره له، وكان قبل ذلك يقول الله تبارك وتعالى:(لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعوني ثم لا أستجيب له) ، فلما دعا استجيب له وأبدَلَه بكل شيء ذهب له ضعفين، ردّ إليه أهله ومثلهم معهم، وأثنى عليه فقال:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
وفي خبر وهب بن منبه: فركض برجله وانفجرت له عين، فدخل فيها فاغتسل، فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء، ثم خرج فجلس وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده، فقامت كالوالهة متلدّدة، ثم قالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ها هنا؟ قال: لا، ثم تبسّم
فعرفته بمضحكه فاعتنقته. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه فقيل له: يا أيوب أما تشبع؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك» ؟ .
وعن مجاهد في قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} ، قال: قيل له: إن شئت
أحييناهم لك، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وتعطى مثلهم في الدنيا، فاختار أن يكونوا في الآخرة ومثلهم في الدنيا. وعن محمد بن كعب القرظي في قوله:{رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} ، قال: أيّما مؤمن أصابه بلاء فذكر ما أصاب أيوب فليقل: قد أصاب من هو خير منا، نبيًا من الأنبياء.
عن مجاهد في قوله: {وَذَا الْكِفْلِ} ، قال: رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمه لهم ويقضي بينهم بالعدل ففعل ذلك فسمّي ذا الكفل.
قال وهب بن منبه: إن يونس بن متى كان عبدًا صالحًا، وكان في خُلُقٍه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة، ولها أثقال لا يحملها إلَاّ قليل، تفسَّخ تحتها تفسُّخ الربع تحت الحمل، فقذفها بين يديه وخرج هاربًا منها، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعثه الله - يعني: يونس - إلى أهل
قريته، فردّوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه: أني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا، فاخرج من بين أظهرهم فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم. فقالوا: ارمقوه فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليلة التي وُعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرّقوا بين كل دابة وولدها ثم عجّوا إلى الله فاستقالوه فأقالهم، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مرّ به مارٌ فقال: ما فعل أهل القرية؟ قال: فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم، عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها، وعجّوا إلى الله وتابوا إليه فقبل منهم وأخّر عنهم العذاب، قال: فقال يونس عند ذلك - وغضب -: والله لا أرجع إليهم كذّابًا أبدًا، وعدتهم العذاب في يوم ثم رُدّ عنهم، ومضى على وجهه مغاضبًا.
وفي رواية: فخرج يونس لينتظر العذاب فلم ير شيئًا، قال: جرَّبوا عليّ كذبًا، فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر.
وعن ابن عباس: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} ، يقول: ظن أن لن نقضي عليه عقوبة، ولا بلاء، وعقوبته أخذ النون إياه. قال الحسن: وكان له سلف من عبادة وتسبيح، فتداركه الله بها فلم يدعه للشيطان. وعن قتادة:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} ، قال: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وقال ابن عباس:{نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، معترفًا بذنبه من خطيئته. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، دعوة يونس بن متى» ، قال فقلت: يا رسول الله هي ليونس بن متى خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: «هي ليونس بن متى خاصة، وللمؤمنين عامة. إذا دَعوا بها ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي
…
الْمُؤْمِنِينَ} » . رواه ابن جرير. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» .
قوله عز وجل: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91) } .
عن قتادة قوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} ، كانت عاقرًا فجعلها الله ولودًا، {وَوَهَبْنَا لَهُ} منها:{يَحْيَى} . وقال عطاء: كان في خلقها شيء فأصحلها الله.
وعن ابن جريج أنهم: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} ، قال:{رَغَباً} في رحمة الله، {وَرَهَباً} من عذاب الله.
وقوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، أي: متواضعين. قال قتادة: ذللاً لأمر الله. وقال مجاهد: الخشوع هو: الخوف اللازم في القلب. وقوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، يعني: مريم عليها السلام، حفظت فرجها من الحرام، وأمر الله جبريل فنفخ في جيب درعها
فدخلت في فرجها فحملت بعيسى، فكان من أم بلا أب، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
عن ابن عباس قوله: {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، يقول: دينكم دين واحد. وقوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} ، قال البغوي: أي:
اختلفوا في الدين فصاروا فرقًا وأحزابًا، {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فنجزيهم بأعمالهم، {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} ، أي: لعمله حافظون.
* * *