الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثاني والثلاثون بعد المائتين
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ
الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) } .
* * *
قال البغوي: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ، أي: القيامة، والبعث. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . قال الله تعالى:{مَا يَنْظُرُونَ} ، أي: ينتظرون {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى، {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} ، يعني: يختصمون في أمر الدنيا من البيع والشراء، ويتكلمون في المجالس والأسواق. قال: ورُوينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويناه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يَطْعَمُها» . وعن قتادة: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} ، أي: فيما في أيديهم، {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} قال: أعلجوا عن ذلك.
قال البغوي: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهي النفخة الأخيرة نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة.
وعن قتادة: {فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ} ، أي: القبور. {إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} ، يقول: يخرجون، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} ، قال: هذا قول أهل الضلالة والرقدة ما بين النفختين، {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ، قال: أهل الهدى، {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . قال البغوي: وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها، صار عذاب القبر في جنبها كالنوم، فقالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا.
وقوله تعالى: {إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، يعني: النفخة الأخيرة {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
عن ابن عباس: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ، قال: افتضاض الأبكار، {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ} ، قال: هي السُّرُر في الحِجال، {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} ، قال
البغوي: يتمنون ويشتهون. {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ، أي: يسلم الله عليهم {قَوْلاً} ، أي: يقول الله لهم قولاً. ثم روى بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة، أمر الله جهنم فيخرج منها عُنق ساطع مظلم، ثم يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية، إلى قوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} فيتميز الناس ويجثون، وهي قول الله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} » الآية. رواه ابن جرير. وقوله
تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} قال البغوي: ألم آمركم يا بني آدم: {أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} ، أي: لا تطيعوا الشيطان في معصية الله؟ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة {وَأَنْ اعْبُدُونِي} أطيعوني ووحّدوني {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} . {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} أي: خلقًا كثيرًا، {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس؟ ويقال لهم لما دنوا من النار:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} بها في الدنيا، {اصْلَوْهَا} : ادخلوها {الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هذا حين ينكر الكفار كفرهم وتكذيبهم الرسل بقولهم: ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم. انتهى.
وروى مسلم وغيره في حديث أبي هريرة (الطويل) : «ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيّك وبكتابك، وصمت وصلّيت وتصدّقت، ويثني بخير ما استطاع، قال: فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدًا؟ فيفكر في نفسه: من الذي يشهد عليه؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي قال: فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق ليعذر من نفسه، وذلك الذي يسخط الله تعالى عليه» .
قوله عز وجل: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا
مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) } .
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} ، أي: الطريق، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} ، يقول: لو شئنا لتركناهم عميًا يتردّدون، {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي: لأقعدناهم على أرجلهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} فلم يستطيعوا أن يتقدموا ولا يتأخروا، {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} يقول: من نمد له في العمر ننكسه في الخلق {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} ، يعني: الهرم، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} . قال البغوي: فيعتبروا، ويعلموا أن الذي قدر على تصريف أحوال الناس يقدر على البعث بعد الموت. وعن قتادة قوله:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} ، قال: قيل لعائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: (كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل آخره أوله، وأوله آخره، فقال أبو بكر: أنه ليس
هكذا، فقال نبي الله:«إني والله ما أنا بشاعر، ولا ينبغي لي» ، والبيت المشار إليه قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} قال البغوي {إِنْ هُوَ} . يعني: القرآن، {إِلَّا ذِكْرٌ} موعظة، {وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} في: الفرائض،
والحدود، والأحكام. {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} ، يعني: مؤمنًا حي القلب لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر. {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} وتجب حجة العذاب، {عَلَى الْكَافِرِينَ} ، قال ابن كثير: أي: هو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين.
قال البغوي: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} تولينا خلقه بإبداعنا من غير إعانة أحد، {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ضابطون قاهرون، أي: لم يخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها، بل هي مسخرة لهم،
وهي قوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} سخرناها لهم {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} ، أي: ما يركبون وهي الإبل، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} لحمانها. {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} ، أي: من أصوافها وأوبارها ونسلها وَمَشَارِب من ألبانها، {أَفَلا يَشْكُرُونَ} رب هذه النعم؟ وقال ابن جرير يقول:{أَفَلا يَشْكُرُونَ} نعمتي هذه وإحساني إليهم بطاعتي، وإفراد الألوهية لي والعبادة، وترك طاعة الشيطان وعبادة الأصنام؟
وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} . قال ابن كثير: يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله، يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى.
قال الله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ، أي: لا تقدر الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل، وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الانتصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء؛ لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.
وقوله تبارك وتعالى: {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} ، قال مجاهد: يعني: عند الحساب، يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة، محضرة عند حساب عابديها، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم، وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم. وقال قتادة:{لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ، يعني: الآلهة، {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} ، والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرًا، ولا تدفع عنهم شرًا.
وقوله تعالى: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} ، أي: تكذيبهم لك وكفرهم بالله، {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وسنجازيهم على أعمالهم.
قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
(78)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ
الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) } .
قال مجاهد وغيره: جاء أبيّ بن خلف - لعنه الله - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم. يميتك الله تعالى ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» ، ونزلت هذه الآيات من آخر سورة يس:{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} إلى آخرهن.
وقوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} ، قال البغوي: جدل بالباطل بين الخصومة، يعني: إنه مخلوق من نطفة، ثم يخاصم. فكيف لا يتفكر في بدوّ خلقه حتى يدع الخصومة! {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} بدء أمره {قالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} بالية؟ {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً} . قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما: المرخ. والأخرى: العفار، فمن أراد منهم النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتخرج منهما النار بإذن الله عز وجل؛ تقول
العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} ، أي: تقدحون، وتوقدون النار من ذلك الشجر. ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان، فقال:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} ، أي: قل: بلى، هو قادر على ذلك، {وَهُوَ الْخَلاقُ} يخلق
خلقًا بعد خلق، {الْعَلِيم} بجميع ما خلق. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} ملك، {كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وعن حذيفة رضي الله عنه قال:(قُمت مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ السبعَ الطوال في سبع ركعاتٍ وكان إذا رفع رأسه من الركوع قال: «سمع اللَّهُ لمن حمده - ثم قال -: الحمد لله ذي الملكوتِ والجبروتِ، والكبرياءِ والعظمة» ؛ وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فانصرف وقد كادت تنكَسِرُ رجلاي) . رواه أحمد. وفي حديث عوف بن مالك عند أبي داود: (ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: «سبحان ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة» ؛ ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك) . وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأوا على موتاكم سورة يس» . رواه البغوي وغيره. والله أعلم.
* * *