الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الخامس والثمانون بعد المائة
{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) } .
* * *
قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن أبي وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإِفك ما قالوا فبرّأها الله تعالى وكلهم قد حدّثني بطائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدّثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدّق بعضًا؛ ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه فأيهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه. قالت عائشة رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد ما أنزل الحجاب، فأنا أُحْمَلُ في هودجي، وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما
قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري، فإذا عقدٌ بها من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين يرحّلونني فاحتملوا هودجي فرحّلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلن ولم يغشهنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام. فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه وحملوه،
وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السلمّي ثم الذكوانيّ قد عرس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان قد رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلّمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نمر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمناها شهرًا والناس يفيضون في قول أهل الإِفك ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول:«كيف تيكم» ؟ فذاك الذي يريبني
ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قِبَلَ المناصع وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأُوَل في التنزّه في البرّية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتّخذها في بيوتنا، وانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قِبَلَ بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، تسبّين رجلاً شهد بدرًا؟ ! فقالت: أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت: ماذا؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإِفك، فازددت مرضًا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم قال:«كيف تيكم» ؟ فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقّن الخبر من قِبَلِهِما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت
أبويّ فقلت لأمي: يا أمّتاه ماذا يتحدّث الناس به؟ فقالت: أي بنيّة هوِّني عليك فوالله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله، وقد تحدّث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ابن أبي طالب، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي
يعلم في نفسه لهم من الودّ فقال أسامة: يا رسول الله أَهْلُك ولا نعلم إلا خيرًا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: «أيْ بريرة، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة» ؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرًا قد أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» . فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو: سيد الخزرج وكان رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحميّة فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل؛ فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفّضهم حتى سكتوا. وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:
وبكيت يومي
ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنّان أن البكاء فالِقٌ كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني شيء قالت: فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: «أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه» . قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: والله لقد علمتُ، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدّقُنّي، فوالله ما أجد لي ولكم مَثَلاً إلا كما قال أبو يوسف:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا والله أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يُتلى ولَشَأني كان أحقر في نفسي من أن يُتكلّم فيّ بأمر يُتلى
ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرّئني الله بها، قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى أنه ليتحدّر منه مثل الجُمان من العرق، وهو في يوم شاتٍ من ثِقَلِ القول الذي أنزل عليه، قالت: فسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلّم بها أن قال:«أبشري يا عائشة، أما الله عز وجل فقد برّأك» . قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل، هو الذي أنزل براءتي،
وأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره -: والله لا أنفق عليه شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري، فقال:«يا زينب ماذا علمت أو رأيت» ؟ فقالت: يا رسول الله احمني سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع وطفقت أختها حمنة بنت
جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك. متفق عليه. وعند أهل السنن قالت:(لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضُربوا حدّهم) .
وعند أبي داود: (حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش) .
وقوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، أي: النار في الآخرة. قال ابن عباس: (الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبيّ وهو الذي تولّى كبره، وحسان، ومسطح، وحمنة بنت جحش) . وقال ابن زيد: أما الذي تولى كبره فعبد الله بن أبيّ ابن سلول الخبيث، هو الذي ابتدأ هذا الكلام وقال: امرأة نبيكم
باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها. وعن محمد بن إسحاق عن أبيه عن بعض رجال لبني النجار: أن أبا أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك. قال: فلما أنزل الله القرآن ذكر الله من قال الفاحشة ما قال من أهل الإفك: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} وذلك من حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} كما قال أبو أيوب وصاحبته) . رواه ابن جرير.
وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ، قال ابن كثير:
…
{لَوْلَا} ، أي: هلاّ، {جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ، يشهدون على صحة ما جاءوا به {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي: في حكم الله كاذبون فاجرون.
قال ابن زيد في قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} هذا للذين تكلّموا فتشهروا ذلك الكلام {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وعن مجاهد: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} ، قال: تروونه بعضكم عن بعض.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء
وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) } .
عن ابن عباس قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} ، يقول: ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئًا من الشر يدفعه عن نفسه. قال ابن زيد: كل شيء في القرآن من زكى أو تزكى فهو الإسلام؛ وقال مقاتل: {مَا زَكَى} ما صلح؛ وقال ابن قتيبة: ما طهر.
قال البغوي: والآية على العموم عند بعض المفسرين. قالوا: أخبر الله أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح مسلم.
عن ابن عباس قوله: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى آخر الآية. قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلّموا به، فأقسم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو بكر أن لا يتصدّق على رجل تكلّم بشيء من هذا ولا يصله، فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك، فأمر الله أن يغفر لهم، وأن يعفو عنهم.
قال ابن جرير في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} يقول تعالى ذكره: إن الذين يرمون بالفاحشة {الْمُحْصَنَاتِ} يعني: العفيفات {الْغَافِلَاتِ} عن الفواحش، {الْمُؤْمِنَاتِ} بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ، يقول: أُبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وذلك عذاب جهنم. وعن جعفر بن برقان قال: سألت ميمونًا قلت: الذي ذكر الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فجعله في هذه الآية توبة، وقال في الأخرى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، قال ميمون: أما الأولى فعسى أن تكون قد قارفت، وأما هذه فهي التي لم تقارف شيئًا من ذلك. وقال ابن زيد: هذا في عائشة، ومن صنع اليوم في المسلمات فله ما قال الله.
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، قال قتادة: ابن آدم، والله إن عليك لشهودًا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية. الظلمة عنده ضوء، والسرّ عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حَسَنُ الظنّ فليفعل، ولا قوة إلَاّ بالله.
وعن ابن عباس في قوله: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} ، يقول: حسابهم.
وقال البغوي: جزاؤهم الواجب، وقيل: حسابهم العدل، {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} يبين لهم حقيقة ما كان بَعدهم في الدنيا. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: وذلك أن عبد الله بن أبيّ كان يشكّ في الدين، فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين.
وعن ابن عباس قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} ، يقول: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. وقوله:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} ، يقول: الطَّيِّبَاتُ من القول لِلطَّيِّبِينَ من الرجال، والطيّبون من الرجال للطيّبات من القول: نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا من البهتان) . وقال ابن زيد: نزلت في عائشة حين رماها المنافق بالبهتان والفرية، فبرأها الله من ذلك؛ وكان عبد الله بن أبيّ هو خبيثًا، وكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبًا، وكان أولى أن تكون له الطيّبة،
وكانت عائشة الطيّبة، وكان أولى أن يكون لها الطيّب {أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} قال ها هنا: بُرّئت عائشة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
* * *