الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثالث والثمانون بعد المائة
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا
تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا
نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) } .
* * *
قال البغوي: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} ، أي: أنشأ لكم الأسماع، {وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} ، لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا، {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي: لم تشكروا هذه النعم. {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خلقكم، {فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تبعثون، {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، أي: تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان. قال الفرّاء: جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ما ترون من صنعه فتعتبرون؟
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} ، أي: كذّبوا كما كذب الأوّلون، {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لمحشورون؟ قالوا ذلك على طريق الإِنكار والتعجّب. {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} الوعد، {مِن قَبْلُ} أي: وَعَدَ آباءنا قوم زعموا أنهم رسل الله، فلم نر له حقيقة، {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أكاذيب الأولين.
قوله عز وجل: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) } .
قال البغوي: {قُل} يا محمد مجيبًا لهم: {لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا} من الخلق، {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها ومالكها، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ولا بدّ لهم من ذلك، لأنهم يقرّون أنها مخلوقة، فقل لهم إذا أقرّوا بذلك، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ؟ فتعلمون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت؟
{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} ؟ قال ابن كثير: أي: إذا كنتم تعرفون بأنه رب السماوات ورب العرش العظيم، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟
{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، قال البغوي: الملكوت الملك، والتاء فيه للمبالغة. {وَهُوَ يُجِيرُ} ، أي: يؤمّن من يشاء، {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} ؟ ، أي: لا يؤمّن عليه.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} . قال ابن كثير: أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو: الله تعالى وحده لا شريك له، {قُلْ فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ} ؟ أي: فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره، مع اعترافكم وعلمكم بذلك؟
ثم قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ} ، وهو الإِعلام بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلّة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، أي: في عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم على ذلك.
وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} ، أي: تفرّد بما خلقه فلم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره، ومنع الإِله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق، {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، أي: طلب بعضهم مغالبة بعض، كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم؛ ثم نزّه نفسه فقال:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
قوله عز وجل: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ
(95)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) } .
قال البغوي: قوله تعالى: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي} ، أي: إن أريتني {مَا يُوعَدُونَ} ، أي: ما أوعدتهم من العذاب، أي: يا ربّ {فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، أي: لا تهلكني بهلاكهم، {وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب لهم، {لَقَادِرُونَ} . وعن مجاهد في قوله:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} ، قال:
أعرض عن أذاهم إيّاك. قال الحسن: والله لا يصيبها صاحبها حتى يكظم غيظًا، ويصفح عما يكره.
وقال ابن زيد في قوله: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} خَنْقُهُمُ الناس فذلك همزاتهم، {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} في شيء من أمري. وقال ابن عباس: همزات الشياطين: نزعاتهم.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} ، قال قتادة: ما تمنّى أن يرجع إلى أهله وعشيرته، ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنّى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فَرَحِمَ الله امرءًا عمل فيما يتمنّاه الكافر إذا رأى العذاب.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . قال البغوي: {كَلَّا} كلمة ردع وزجر، أي: لا يرجع إليها {إِنَّهَا} يعني: سؤاله الرجعة، {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ولا ينالها، {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ} ، أي: أمامهم وبين أيديهم حاجز {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . وقال الضحاك: البرزخ: ما بين الموت إلى البعث.
قوله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) } .
قال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين، ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجيء فليأخذ حقّه، قال: فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته، وإن كان صغيرًا،
ومصداق ذلك في كتاب الله، قال الله تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} . رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن عباس: (إن للقيامة أحوالاً ومواطن، ففي مواطن يشتدّ عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي مواطن يفيقون إفاقة فيتساءلون) .
وقوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} ، قال ابن عباس يقول: عابسون. وقال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار وقد قلصت شفتاه وبدت أسنانه؟
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، قال ابن جريج: بلغنا أن أهل النار نادوا خزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ} ، فلم يجيبوهم ما شاء الله، فلما أجابوهم بعد حين قالوا:{فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} ، قال: ثم نادوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فسكت عنهم مالك خازن جهنم أربعين سنة، ثم أجابهم فقال:{إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} ، ثم نادى الأشقياء ربهم فقالوا:{رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، فسكت عنهم مثل مقدار الدنيا، ثم أجابهم بعد
ذلك تبارك وتعالى: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} .
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
قوله عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا
لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } .
قال البغوي: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ، أي: في الدنيا، وفي القبور، {عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، نسوا مدة لبثهم في الدنيا لِعِظَمِ ما هم بصدده من العذاب، {فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم، {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ} ، أي: ما لبثتم في الدنيا {إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً}
أي: لعبًا وباطًلا لا لحكمة، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} ، في الآخرة للجزاء؟ كما قال تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} ؟ {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} . قال ابن كثير: أي تقدّس أن يخلق شيئًا عبثًا فإنه الملك الحقّ المنزه عن ذلك، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم. أي: حسن المنظر بهيّ الشكل.
قال البغوي: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ، أي: لا حجّة له به ولا بينة، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك، {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} جزاؤه {عِندَ رَبِّهِ} يجازيه بعمله، كما قال تعالى:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لا يسعد من جحد وكذب،
…
{وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} .
* * *