الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثاني بعد المائتين
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
(24)
فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) } .
* * *
قال ابن إسحاق: لما بلغ موسى أشده واستوى آتاه الله حكمًا وعلمًا، فكانت له من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويطيعونه ويجتمعون إليه، فلما استند رأيه وعرف ما هو عليه من الحق، رأى فراق فرعون وقومه على ما هم عليه حقًا في دينه، فتكلّم وعادى، وأنكر حتى ذُكر ذلك منه، وحتى أخافوه وخافهم، حتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا خائفًا مستخفيًا، فدخلها يومًا {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ} مسلم، وهذا من أهل دين فرعون كافر، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن
شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة في البطش، فغضب بعدوّهما فنازعه، {فَوَكَزَهُ مُوسَى} وكزه قتله منها وهو لا يريد قتله، فقال:{هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} . وعن مجاهد: {فَوَكَزَهُ مُوسَى} ، قال: بجميع كفّه، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، قال قتادة: عرف المخرج فقال: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} ،
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} .
قال ابن كثير: أي: بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} ، أي: معينًا، {لِّلْمُجْرِمِينَ} ، أي: الكافرين بك المخالفين لأمرك.
وعن ابن عباس قال: أتي فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون، فخذ لنا بحقّنا ولا ترخص لهم في ذلك، قال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، لا يستقيم أن نقضي بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا ذلك، فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئًا، إذ مرّ موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيًا، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى، فغضب موسى فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعونيّ، فقال للإسرائيلي لِمَا فعل بالأمس واليوم:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فنظر الإسرائيليّ إلى موسى بعد ما قال هذا، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس، فخاف الإسرائيليّ أن يكون إياه أراد
وعن قتادة: {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ} هكذا تقتل النفس بغير نفس. وعن ابن إسحاق {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي: ما هكذا يكون الإصلاح.
قال ابن عباس: انطلق الفرعونيّ الذي كان يقاتل الإسرائيلي بالأمس إلى
قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيليّ حين يقول:{أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} ؟ فأرسل فرعون الذّباحين بقتل موسى فأخذوا الطريق الأعظم وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجل من شيعة موسى في أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره الخبر.
وعن قتادة: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً} من قتله النفس، {يَتَرَقَّبُ} أن يأخذه الطلب. وقال ابن إسحاق: ذكر لي أنه خرج على وجهه، {خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} ما يدري أي وجه يسلك، وهو يقول: ربِّ نجني من القوم الظالمين، فهيّأ الله الطريق إلى مدين، فخرج من مصر بلا زاد ولا حذاء ولا
ظهر ولا درهم. وقال ابن عباس: خرج موسى متوجّهًا نحو مدين، وليس له علم بالطريق، إلا حسن ظنه بربه، فإنه قال:{عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} .
قال سعيد بن جبير: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينها وبينها مسيرة ثمان، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، وخرج فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه.
وقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} ، قال أبو مالك: تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا ويخلوا لهم البئر.
{قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} ؟ قال ابن إسحاق: وجد لهما رحمة ودخلت فيهما خشية لما رأى من ضعفهما، وغلبة الناس على الماء دونهما؟ فقال لهم: ما خطبكما؟ أي: ما شأنكما؟ {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء
} امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقدر أن يمسّ ذلك من نفسه ولا يسقي ماشيته، ونحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا.
وقوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا} ، قال ابن عباس: فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرًا، حتى كانتا أول الرعاء ريًّا، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما. قال: وانصرف موسى إلى شجرة فاستظلّ بظلها، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ، وما يسأل الله إلا أكلة، وبرد الماء، وإن خضرة البقل لتُرى في بطنه من الهزال.
وعن ابن إسحاق: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء} قال: واضعة يدها على جبينها. قال السدي: لما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعًا سألهما فأخبرتاه خبر موسى، فأرسل إليه إحداهما فأتته تمشي على استحياء وهو يُستحى منه، {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فقام معها فمشت بين يديه فضربتها الريح فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: إمشي خلفي ودلّيني على الطريق إن أخطأت، فلما جاء الشيخ
…
{وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، قال ابن عباس يقول: ليس لفرعون ولا قومه علينا سلطان ولسنا في مملكته.
قوله عز وجل: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) } .
عن ابن عباس: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} ، قال: فأحفظته الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوّته وأمانته؟ قالت: أما قوَّته: فما رأيت من حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما أمانته: فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم إني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه ولم ينظر إليّ حتى بلّغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين، فَسُرِّيَ عن أبيها وصدّقها وظنّ به الذي قالت.
وقال ابن زيد: {قَالَ} له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، قال: وأيّتهما تريد أن تنكحني؟ قال: التي دعتك، قال: لا ألا وهي بريئة مما دخل نفسك عليها، فقال: هي عندك كذلك فزوّجه.
وقال ابن إسحاق: {قَالَ} موسى: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} ، قال: نعم. {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ،
فزوّجه وأقام معه يكفيه ويعمل له في رعاية غنمه وما يحتاج إليه منه. وقوله: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} ، أي: لا ظلم عليّ بأن أطالبَ بأكثر منهما. قال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل. {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ، قال ابن عباس: شهيد. وروى ابن ماجة في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى آجر نفسه ثماني سنين، أو عشر سنين على عفّة فرجه، وطعام بطنه» . والله أعلم.
* * *