الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} ، أي: هذه آيات
…
{الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: بيّن واضح، {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ، أي: إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدّقه وعمل بما فيه، وأقام الصلاة المكتوبة وآتى الزكاة المفروضة، وأيقن بالدار الآخرة والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرّها، والجنة والنار، كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} .
وقال تعالى: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} ، ولهذا قال تعالى ها هنا:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} ، أي: يكذّبون بها ويستبعدون وقوعها {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} ، أي: حسّنّا لهم ما هم فيه ومددنا لهم في غيّهم، فهم يتيهون في ضلالهم، وكان هذا جزاء على ما كذّبوا من الدار الآخرة، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ} ،
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} ، أي: في الدنيا والآخرة، {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} ، أي: ليس يخسر أنفسهم وأهليهم سواهم من أهل الحشر.
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} ، أي: تؤتى القرآن، {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} ، أي: وحيًا من عند الله الحكيم في أمره ونهيه العليم بالأمور كلها فخبره هو الصدق وحكمه هو العدل كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَاّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مذكّرًا له ما كان من أمر موسى عليه السلام، كيف اصطفاه الله وكلّمه وناجاه، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلّة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملأه، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن إتباعه والانقياد له، فقال تعالى:{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} ، أي: اذكر حين سار
موسى بأهله فأضلّ الطريق، وذلك في ليل وظلام. فآنسوا من جانب الطور نارًا، أي: رأى نارًا تأجّج وتضطرم فقال لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} ، أي: عن الطريق، {أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ، أي: تستدفئون به، وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نورًا عظيمًا، ولهذا قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} ، أي: فلما أتاها ورأى منظرًا هائلاً عظيمًا، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقّدًا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ثم رفع رأسه فإذا نورها متّصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره: لم تكن نارًا، وإنما كانت نورًا يتوهّج. - وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين - فوقف موسى متعجبًا مما رأى. فنودي أن بورك من في النار. قال ابن عباس: تقدّس، {وَمَنْ حَوْلَهَا} ، أي: من الملائكة. قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود وهو الطيالسي، حدثنا شعبة والمسعودي عن عمرو بن مرة سمع أبا عبيدة يحدّث عن أبي موسى
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل - زاد المسعودي - وحجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه كل شيء أدركه بصره» ، ثم قرأ أبو عبيدة:{أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة.
وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبه به شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم
المباين لجميع المخلوقات ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بل هو الأحد الصمد المنزّه عن مماثلة المحدَثات.
وقوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه {الْعَزِيزُ} الذي عزّ كل شيء وقهره وغلبه
…
{الْحَكِيمُ} في أقواله وأفعاله، ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلاً واضحًا على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء، فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حيّة عظيمة هائلة، في غاية الكِبْر وسرعة الحركة مع ذلك، ولهذا قال تعالى:{فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} والجانّ: ضرب من الحيّات أسرعه حركة وأكثره اضطرابًا، فلما عاين موسى ذلك:{وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} ، أي: لم يلتفت من شدّة فَرَقِه، {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ، أي: لا تخف مما
ترى فإني أريد أن أصطفيك رسولاً وأجعلك نبيًا وجيهًا. وقوله تعالى:
…
{إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أنه من كان على عمل سيِّء ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} .
وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار، وصدق من جعل له معجزة وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف.
وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} ، أي: هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيّدك بهنّ وأجعلهنّ برهانًا لك، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} ، أي: بيّنة واضحة ظاهرة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين، {وَجَحَدُوا بِهَا} ، أي: في ظاهر أمرهم، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} ، أي: علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله، ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها، {ظُلْماً وَعُلُوّاً} ، أي: ظلمًا من أنفسهم سجية
ملعونة. {وَعُلُوّاً} ، أي: استكبارًا عن إتباع الحق، ولهذا قال تعالى:{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، أي: انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم، في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة؛ وفحوى الكلام يقول: احذروا أيها المكذّبون لمحمد صلى الله عليه وسلم، الجاحدون بما جاء به من ربه أن يصيبكم ما أصابهم.
* * *