الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس السابع بعد المائتين
[سورة العنكبوت]
مكية، وهي تسع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{آلم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ
مِنْ
خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) } .
* * *
قوله عز وجل: {آلم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) } .
قال البغوي: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ} أَظَنَّ الناسُ، {أَنْ يُتْرَكُوا} بغير اختبار ولا ابتلاء، {أَنْ يَقُولُوا} ، أي: بأن يقولوا، {آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم؟ كلا لنختبرنهم ليبَّين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب. وعن مجاهد:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} قال: ابتلينا الذين من قبلهم. وفي الحديث الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» .
وقوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
قال البغوي: والله أعلم بهم قبل الاختبار. ومعنى الآية: وليظهرنّ الله الصادقين من الكاذبين حتى يُوجِدَ معلومَه، وعن قتادة قوله: {أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي: أهل الشرك {أَن يَسْبِقُونَا} ، قال مجاهد: أن يعجزونا، {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} .
قال ابن كثير: بئس ما يظنون. {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ} ، أي: في الدار الآخرة وعمل الصالحات، ورَجَا ما عند الله من الثواب الجزيل، فإن الله سيحقق له. رجاءه ويوفّيه عمله كاملاً موفّرًا، فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء بصير بكل الكائنات، ولهذا قال تعالى:{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وقوله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} ، أي: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولهذا قال تعالى:{وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . قال الحسن البصري: أن الرجل ليجاهد، وما ضرب يومًا من الدهر بسيف.
ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم ومع برّه وإحسانه بهم، يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء، وهو: أنه يكفَّر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون. فيقبل القليل من الحسنات ويثب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويجزي على السيّئة بمثلها أو يعفو ويصفح، كما قال تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ،
عن قتادة: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} إلى قوله: {فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، قال: نزلت في سعد بن أبي وقاص لما هاجر قالت أمه: والله لا يُظِلُّني بيت حتى يرجع، فأنزل الله في ذلك أن يحسن إليهما ولا يطيعهما في الشرك. وروى مسلم وغيره عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: نزلت في أربع آيات، فذكر قصته وقال: قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أَطْعَمُ طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أموت أو تكفر. قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قال البغوي: ثم إنها مكثت يومًا وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يومًا آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها فقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره: بالبر بوالديه والإحسان إليهما، وأن لا يطيعهما في الشرك، فذلك قوله عز وجل:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} . جاء في الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله الخالق» .
ثم أوعد بالمصير إليه فقال: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} ، أي: في زمرة الصالحين. وهم: الأنبياء، والأولياء. قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، وذاك أن يؤدّوا فرائض الله ويجتنبوا محارمه، {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} في مدخل الصالحين. وذلك: الجنة.
عن ابن عباس قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} ، قال: أن يرتدّ عن دين الله إذا أوذي في الله. وعن مجاهد قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}
إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} ، قال: أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة.
عن مجاهد قوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} ، قال: قول كفار قريش
بمكة لمن آمن منهم، يقول: قالوا: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتّبعونا إن كان عليكم شيء فهو علينا.
وعن قتادة: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} ، أي: أوزارهم، {وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} ، يقول: أوزار من أضلّوا. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» .
وقوله تعالى: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ، سؤال توبيخ وتقريع.
* * *