الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغناء الصوفي والأناشيد الإسلامية
بعد أن بينا الغناء المحرم بقسميه: بالآلة وبدونها، معتمدين في ذلك على كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى الآثار السلفية، وأقوال الأئمة، فقد آن لنا أن نتحدث عن الغناء الصوفي، وعما يعرف اليوم بـ (الأناشيد الإسلامية أو الدينية)، فأقول وبالله أستعين:
إن مما لا شك فيه أنه كما لا يجوز أن لا نعبد أحداً إلا الله تحقيقاً لشهادة أن (لا إله إلا الله)، فكذلك لا يجوز لنا أن نعبد الله أو نتقرب إليه إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحقيقاً لشهادة (محمد رسول الله)، فإذا تحقق المؤمن بذلك كان محباً متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أحبه الله كان الله معه وناصراً له.
وقد كنت ذكرت في مقدمة تعليقي على رسالة العز بن عبد السلام رحمه الله «بداية السول في تفضيل الرسول» بعد حديثين معروفين في حب الله والرسول، وأن من كان ذلك فيه وجد حلاوة الإيمان ما نصه:
قلت: فإذا كان مثل موسى كليم الله لا يسعه أن يتبع غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل يسع ذلك غيره؟ ! فهذا من الأدلة القاطعة على وجوب إفراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الاتباع،
وهو من لوازم شهادة «أن محمداً رسول الله» ولذلك جعل الله تبارك وتعالى في الآية المتقدمة اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم دون سواه- دليلاً على حب الله إياه، ومما لا شك فيه أن من أحبه الله كان الله معه في كل شيء كما في الحديث القدسي الصحيح:
«وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه
…
».
رواه البخاري. وهو مخرج في «الصحيحة» (1640).
وإذا كانت هذه العناية الإلهية إنما هي بعبده المحبوب من الله، كان واجباً على كل مسلم أن يتخذ السبب الذي يجعله محبوباً عند الله، ألا وهو اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده دون سواه، وبذلك فقط يحظى بالعناية الخاصة من مولاه تبارك وتعالى، ألست ترى أنه لا سبيل إلى معرفة الفرائض وتميزها من النوافل إلا باتباعه صلى الله عليه وآله وسلم وحده؟
إذا عرف هذا فإني أرى لزاماً علي انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الدين النصيحة» أن أذكر من ابتلي من إخواننا المسلمين-من كانوا وحيثما كانوا- بالغناء الصوفي، أو بما يسمونه بـ (الأناشيد الدينية)؛ إسماعاً واستماعاً بما يلي:
أولاً: أن مما لا يرتاب فيه عالم من علماء المسلمين العارفين حقاً بفقه الكتاب والسنة؛ ومنهج السلف الصالح؛ الذين أمرنا بالتمسك بنهجهم، ونهينا عن مخالفة سبيلهم في مثل قوله تعالى:{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} ، أقول: لا يخفى على أحد من هؤلاء العلماء أن الغناء المذكور محدث لم يكن معروفاً في القرون المشهود لها بالخيرية.
ثانياً: أنه من المسلَّم عندهم أنه لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لما تقدم بيانه، وقد ضرب لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بعض الأمثلة التي تؤكد لكل ذي علم منصف ما ذكرنا، فقال رحمه الله تعالى:
«ومن المعلوم أن الدين له (أصلان)، فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وشرعوا ديناً لم يأذن به الله.
ولو سئل العالم عمن يعدو بين الجبلين، هل يباح له ذلك؟ قال: نعم، فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إن فعله على هذا الوجه [فهو] حرام منكر، يستتاب فاعله؛ فإن تاب وإلا قتل.
ولو سئل عن كشف الرأس، ولبس الإزار والرداء؟ أفتى بأن هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاج؟ قال: إن هذا حرام منكر.
ولو سئل عمن يقوم في الشمس؟ قال: هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة؟ قال: هذا منكر، كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال:«من هذا؟ » .
قالوا: هذا أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«مروه فليتكلم، وليجلس، وليستظل، وليتم صومه» .
فهذا لو فعله لراحةٍ أو غرض مباح لم ينه عنه، لكن لما فعله على وجه العبادة نهي عنه.
وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة كما كانوا يفعلونه في الجاهلية .. كان عاصياً مذموماً مبتدعاً، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن العاصي يعلم أنه
عاصٍ فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب، ولهذا من حضر السماع للعب أو لهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب.
وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى؛ فإنه يتخذه ديناً، وإذا نهي عنه كان كمن نهى عن دينه! ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله إذا تركه!
فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين: إن اتخاذ هذا ديناً طريقاً إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى فهو ضال مضل، مخالف لإجماع المسلمين.
ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلاً متكلماً في الدين بلا علم».
«مجموع الفتاوى» (11/ 631 - 633).
ثالثاً: إن من المقرر عند العلماء أنه لا يجوز التقرب إلى الله بما لم يشرعه الله، ولو كان أصله مشروعاً؛ كالأذان مثلاً لصلاة العيدين، وكالصلاة التي تسمى بصلاة الرغائب، وكالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند العطاس، ومن البائع عند عرضه بضاعته للزبون-ونحو ذلك كثير وكثير جداً- من محدثات الأمور التي يسميها الإمام الشاطبي رحمه الله بـ «البدع الإضافية» ، وحقق في كتابه العظيم حقاً «الاعتصام» دخولها في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» .
فإذا عرف ذلك فالتقرب إلى الله بما حرم يكون محرماً من باب أولى، بل هو شديد التحريم؛ لما فيه من المخالفة والمشاققة لشريعة الله، وقد توعد الله من فعل ذلك بقوله:{ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} .
يضاف إلى ذلك أن فيه تشبهاً بالكفار من النصارى وغيرهم ممن قال الله
تعالى فيهم: {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا} ، وبالمشركين الذين قال فيهم:{وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية} قال العلماء: (المكاء): الصفير، و (التصدية): التصفيق.
ولذلك اشتد إنكار العلماء عليهم قديماً وحديثاً، فقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
«تركت بالعراق شيئاً يقال له: (التغبير)، أحدثته الزنادقة، يصدون الناس عن القرآن» .
وسئل عنه أحمد؟ فقال: «بدعة» ، (وفي رواية: فكرهه ونهى عن استماعه) وقال: [إذا رأيت إنساناً منهم في طريق فخذ في طريق أخرى].
و(التغبير): شعر يزهد في الدنيا، يغني به مغن، فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه، كما قال ابن القيم وغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «المجموع» (11/ 570):
«اختلف الفقهاء في السماع، فأباحه قوم، وكرهه قوم، فأنا أوجبه-أو قال: آمر به» ! فخالف إجماع العلماء في الأمر به.
والفارابي كان بارعاً في الغناء الذي يسمونه (الموسيقى)، وله فيه طريقة عند أهل صناعة الغناء، وحكايته مع ابن حمدان مشهورة؛ لما ضرب فأبكاهم، ثم أضحكهم، ثم نومهم! ثم خرج! ».
وقال (ص 565):
ثم قال الشيخ (ص 573 - 576):
«ومن كان له خبرة بحائق الدين، وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها، عرف أن سماع المكاء والتصدية، لا يجلب للقلوب منفعة، ولا مصلحة، إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد، يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس.
ولهذا يورث أصحابه سكراً أعظم من سكر الخمر، فيجدون لذة بلا تمييز، كما يجد شارب الخمر، بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر، حتى يقتل بعضهم بعضاً من غير مس بيد، بل بما يقترن بهم من الشياطين؛ فإنه يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تنزل عليهم الشياطين في تلك الحال، ويتكلمون على ألسنتهم كما يتكلم الجني على لسان المصروع: إما بكلام من جنس كلام الأعاجم، الذين لا يفقه كلامهم؛ كلسان الترك، أو الفرس، أو غيرهم، ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان غريباً لا يحسن أن يتكلم بذلك، بل يكون الكلام من جنس كلام من تكون تلك الشياطين من إخوانهم، وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى، وهذا يعرفه أهل المكاشفة «شهوداً وعياناً» .
وهؤلاء الذين يدخلون النار مع خروجهم عن الشريعة هم من هذا النمط،
فإن الشياطين تلابس أحدهم، بحيث يسقط إحساس بدنه، حتى إن المصروع يضرب ضرباً عظيماً، وهو لا يحس بذلك، ولا يؤثر في جسده، فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين، وتدخل بهم النار، وقد تطير بهم في الهواء، وإنما يلبس أحدهم الشيطانُ مع تغيب عقله، كما يلبس الشيطان المصروع.
وبأرض الهند والمغرب ضرب من الزط يقال لأحدهم: المصلي، فإنه يصلى النار كما يصلى هؤلاء، وتلبسه ويدخلها ويطير في الهواء، ويقف على رأس الزج، ويفعل أشياء أبلغ مما يفعله هؤلاء، وهم من الزط الذين لا خلاق لهم، والجن تخطف كثيراً من الإنس وتغيبه عن أبصار الناس، وتطير بهم في الهواء، وقد باشرنا من هذه الأمور ما يطول وصفه، وكذلك يفعل هذا هؤلاء المتولهون والمنتسبون إلى بعض المشايخ إذا حصل له وجد سماعي، وعند سماع المكاء والتصدية، منهم من يصعد في الهواء، ويقف على زج الرمح، ويدخل النار، ويأخذ الحديد المحمى بالنار ثم يضعه على بدنه، وأنواع من هذا الجنس، ولا تحصل له هذه الحال عند الصلاة، ولا عند الذكر، ولا عند قراءة القرآن؛ لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية نبوية محمدية، تطرد الشياطين، وتلك عبادات بدعية شركية شيطانية فلسفية تجلب الشياطين.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» ، وقد ثبت في الحديث الصحيح «أن أسيد بن حضير لما قرأ سورة الكهف تنزلت الملائكة لسماعها، كالظلة فيها السرج» .
ولهذا كان المكاء والتصدية يدعو إلى الفواحش والظلم، ويصد عن حقيقة ذكر الله تعالى والصلاة كما يفعل الخمر، والسلف يسمونه تغبيراً؛ لأن التغبير هو الضرب بالقضيب على جلد من الجلود، وهو ما يغبر صوت الإنسان على
التلحين، فقد يضم إلى صوت الإنسان، إما التصفيق بأحد اليدين على الأخرى، وإما الضرب بقضيب على فخذ وجلد، وإما الضرب باليد على أختها، أو غيرها؛ على دف أو طبل، كناقوس النصارى، والنفخ في صفارة كبوق اليهود، فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته».
ومن العلماء الذين بالغوا في الإنكار على غناء الصوفية القاضي أبو الطيب الطبري فقال:
ومنهم الإمام الطرطوشي، سئل عن قوم في مكان يقرؤون شيئاً من القرآن، ثم ينشد لهم منشد شيئاً من الشعر، فيرقصون ويطربون، ويضربون بالدف والشبابة، هل الحضور معهم حلال أو لا؟
فأجاب: مذهب الصوفية هذا بطالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأما الرقص والتواجد، فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، فأتوا يرقصون حوله، ويتواجدون، وهو-أي: الرقص- دين الكفار وعباد العجل، وإنما كان مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين».
ومنهم الإمام القرطبي، قال بعد أن ذكر الغناء الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وفيه وصف النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة، ولا يختلف
في تحريمه:
وقد أفتى بنحو هذا الإمام الحافظ ابن الصلاح في فتوى له مسهبة جواباً على سؤال من بعضهم عمن يستحلون الغناء بالدف والشبابة مع الرقص والتصفيق، ويعتقدون أن ذلك حلال وقربة، وأنه من أفضل العبادات! ؟
فأجاب رحمه الله بما خلاصته مما يناسب المقام، قال:
«لقد كذبوا على الله سبحانه وتعالى، وشايعوا بقولهم هذا باطنية الملحدين، وخالفوا إجماع المسلمين، ومن خالف إجماعهم، فعليه ما في قوله تعالى:{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} .
ومنهم الإمام الشاطبي-رحمه الله فقال إجابة عن سؤال وجه إليه عن قوم ينتمون إلى الصوفية؛ يجتمعون فيذكرون الله جهراً بصوت واحد، ثم يغنون ويرقصون؟ ! :
ثم ذكر أن الجواب لما وصل إلى بعض البلاد قامت القيامة على العاملين بتلك البدع، وخافوا اندراس طريقتهم وانقطاع أكلهم منها، فلجؤوا إلى فتاوى
لبعض شيوخ الوقت يستغلونها لصالح بدعتهم، فرد الشاطبي عليهم، وبين أنها حجة عليهم.
وبسط الكلام في ذلك جداً في نحو ثلاثين صفحة (358 - 388)، فمن شاء التوسع رجع إليه.
وكان قبل ذلك ذكر أصولاً ومآخذ يعتمد عليها أهل البدع والأهواء، وبين بطلانها ومخالفتها للشرع بياناً شافياً، فرأيت أن أقدم إلى القراء خلاصة عنها لأهميتها، ولأن علماء الأصول لم يبسطوا القول في بيانها، كما قال هو نفسه رحمه الله (1/ 297)، فاطلبها من الحاشية.
ومنهم العلامة المحقق الأديب الأريب ابن قيم الجوزية، وقد بلغ الغاية في الاحتجاج لتحريم الغناء والملاهي، والغناء الصوفي في كتابه الكبير «الكلام في مسألة السماع» ، وقد توسع جداً في الاستدلال على ذلك بالكتاب والسنة والآثار السلفية وبيان مذاهب العلماء والمراجحة بينها، والرد على المستحلين لما حرم الله، ومن طرائفه أنه عقد مجلس مناظرة بين صاحب غناء وصاحب قرآن في فصول رائعة ممتعة، الحجة فيها ساطعة على المستحلين والمبتدعة، جزاه الله خيراً، وقد قال في رده المجمل على الغناء الصوفي ما مختصره (ص 106 - 108):
«إن هذا السماع على هذا الوجه حرام قبيح لا يبيحه أحد من المسلمين، ولا يستحسنه إلا من خلع جلباب الحياء والدين عن وجهه، وجاهر الله ورسوله ودينه وعباده بالقبيح، وسماع مشتمل على مثل هذه الأمور قبحه مستقر في فطر الناس، حتى إن الكفار ليعيرون به المسلمين ودينهم.
نعم؛ خواص المسلمين ودين الإسلام براء من هذا السماع الذي كم حصل به من مفسدة في العقل والدين، والحريم والصبيان، فكم أفسد من دين، وأمات من سنة، وأحيا من فجور وبدعة .. !
ولو لم يكن فيه من المفاسد إلا ثقل استماع القرآن على قلوب أهله، واستطالته إذا قرئ بين يدي سماعهم، ومرورهم على آياته صماً وعمياً، لم يحصل لهم من ذوق ولا وجد ولا حلاوة، بل ولا يصغي أكثر الحاضرين أو كثير منهم إليه، ولا يقومون معانيه، ولا يغضون أصواتهم عند تلاوته
…
تلي الكتاب فاطرقوا لا خيفةً
…
لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وإلى الغناء فكالذباب تراقصوا
…
والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادنٍ
…
فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا
…
تقييده بأوامر ونواهي
والرقص خف عليهم بعد الغنا
…
يا باطلاً قد لاق بالأشباه
يا أمة ما خان دين محمد
…
وجنى عليه ومله إلا هي
وبالجملة فمفاسد هذا السماع في القلوب والنفوس والأديان أكثر من أن يحيط به العد».
ومنهم المفسر المحقق الآلوسي، فقال بعد أن أطال النفس جداً في تفسير آية {لهو الحديث} والآثار وأقوال المفسرين فيها، وفي دلالتها على تحريم الغناء، ومذاهب الفقهاء فيه (11/ 72 - 73):
«وأنا أقول قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع، ولا يتحاشى من ذلك المساجد وغيرها، بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والحانات وسائر ما يعد من المحظورات، ومع ذلك فقد وظف لهم من غلة الوقف، ما وظف، ويسمونهم (المجدين)! ويعدون خلو المساجد من ذلك من قلة الاكتراث بالدين، وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم، ثم إنهم-قبحهم الله تعالى- إذا اعترض عليهم بما اشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون:
نعني بـ (الخمر): المحبة الإلهية، أو بـ (السكر): غلبتها، أو بـ (مية) و (ليلى) و (سعدى) مثلاً: المحبوب الأعظم وهو الله عز وجل! وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه، {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}
…
».
ثم نقل عن بعض الأجلة (ص 75) أنه قال:
وكان قبل ذلك نقل (ص 73) عن العز بن عبد السلام الإنكار الشديد لسماعهم ورقصهم وتصفيقهم، ثم تحدث عن وجدهم وأقوال العلماء فيه، وهل يؤاخذون عليه؟ ! وأنكره هو عليهم لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم عاد إلى التعرض لما يسمونه بـ (التمجيد) على المنائر، وأنكره.
ثم ذكر الأحاديث في تحريم المعازف، ومنها حديث البخاري، ثم ذكر حكم القعود في مجلس فيه شيء منها، وأقوال العماء في ذلك. ثم قال (ص 79):
«ثم إنك إن ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو استماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له من المتصوفة، فلو كان الأمر كما زعموا لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويأمروا أتباعهم به، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء، وقد قال الله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم} ، ولو كان استعمال الملاهي المطربات أو استماعها، من الدين، ومما يقرب إلى حضرة رب العالمين لبينه صلى الله عليه وسلم وأوضحه كمال الإيضاح لأمته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «والذي
نفسي بيده ما تركت شيئاً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به، وما تركت شيئاً يقربكم من النار، ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه».
وبعد؛ فهذا ما تيسر لي ذكره من أقوال العلماء المشهورين في إنكار الغناء الصوفي وبيان أنه بدعة ضلالة، بعد أن أثبتنا حرمة الغناء بالكتاب والسنة، وتقدمت أقوال أخرى لآخرين في بعض الفصول المتقدمة، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولابد لي بهذه المناسبة أن أَقصَّ على القراء ما وقع لي مع بعض الطلبة المقلدين من المناقشة حول هذا الغناء اللعين، وذلك منذ نحو نصف قرن من الزمان، وأنا في دكاني في دمشق أصلح الساعات، جاءني زبون من الطلبة، وعليه العمامة الأغبانية المزركشة المعروفة في سوريا، فلفت نظري ظرف كبير يتأبطه، ظننت أن فيه بعض إسطوانات صندوق سمع (فوتوغراف) المعروفة في ذلك الزمان، فلما سألته أجاب بما ظننت، فقلت له مستنكراً: أأنت مغني؟ قال: لا، ولكني أسمع الغناء، قلت: أما تعلم أنه حرام باتفاق الأئمة الأربعة؟ قال: لكني أفعل بنية حسنة! قلت: كيف ذلك؟ ! قال: إني أجلس أسبح الله وأذكره والسبحة بيدي، وأستمع لغناء أم كلثوم فأتذكر بصوتها العذب صوت الحور العين في الجنة! فأنكرت ذلك عليه أشد الإنكار، ولا أذكر الآن ما قلت له بعدها، ولكنه لما رجع بعد نحو أسبوع ليأخذ ساعته بعد تصليحها، جاء معه طالب أقوى منه معروف من جمعية رابطة العلماء، فتكلم في الموضوع مؤيداً لصاحبه! معتذراً عنه بحسن نيته، فأجبته بأن حسن النية لا يجعل المحرم حلالاً، فضلاً عن أن يجعله قربة إلى الله، أرأيت لو أن مسلماً استحل شرب الخمر بدعوى تذكر خمر الجنة؟ ! وهكذا يقال في الزنا أيضاً! فاتق الله، ولا تفتح على الناس باب استحلال حرمات الله، بل والتقرب إلى الله بأدنى الحيل، فانقطع الرجل.
فهذا مثال من تأثير الغناء الصوفي.
وما لي أذهب بالقراء بعيداً، فهذا الشيخ الغزالي الذي اشتهر بأنه من الدعاة الإسلاميين، وأعطي من أجل ذلك جائزة (إسلامية) عالمية كبرى! ! بتسبيح الغناء المذكور، ولو من أم كلثوم وفيروز! وحينما أنكر عليه أحد الطلبة استماعه لأغنية أم كلثوم فيما أظن:
أين ما يُدعى ظلاما
…
يا رفيق الليل أينا؟
أجاب بقوله: «إنني أعني شيئاً آخر» ! (ص 75/السنة)، يعني أن نيته حسنة!
وكان قبل ذلك (ص 70) وضع حديث «إنما الأعمال بالنيات» في غير موضعه، وذلك من الأدلة الكثيرة على جهله بفقه السنة، لأن معناه:«إنما الأعمال الصالحة بالنيات الصالحة» كما يدل على ذلك تمام الحديث، وهو ظاهر بأدنى تأمل، ولكن {من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} .
وختاماً أقول: لو لم يكن من شؤم الغناء الصوفي إلا قول أحدهم:
«سماع الغناء أنفع للمريد من سماع القرآن من ستة أوجه أو سبعة» ! لكفى! !
ولما قرأت هذا في «مسألة السماع» لابن القيم (1/ 161)، لم أكد أصدق أن هذا يقوله مسلم، حتى رأيته في كلام الغزالي في «الإحياء» (2/ 298) وبعبارة مطلقة؛ غير مقيدة بـ (المريد) مع الأسف الشديد! وأكده بأن أورد على نفسه سؤالاً أو اعتراضاً خلاصته:
إذا كان كلام الله تعالى أفضل من الغناء لا محالة فما بالهم لا يجتمعون على قارئ القرآن؟ فأجاب بقوله:
«فاعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه
…
»!
ثم سود أكثر من صفحتين كبيرتين في بيانها، فيتعجب الباحث كيف يصدر ذلك من فقيه من كبار فقهاء الشافعية، بل قال فيه من نُجِلّه:«حجة الإسلام» ، ومع ذلك فكلامه فيها هزيل جداً ليس فيه علم ولا فقه، يتبين ذلك من قوله:
فأقول: الله أكبر (لقد بلغ السيل الزبى)، فقد تضخمت المصيبة، لقد كانت محصورة في (المريدين) في نقل ابن القيم المتقدم، وإذا بالغزالي يصرح بأنها في (الشيوخ) أيضاً، وعنهم يدافع بذلك التعليل البارد الذي تغني حكايته عن رده، والله المستعان.
وإذا كان الغزالي هذا يصرح بأن القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال، فما لنا وللوجد الذي من أجله سوغ الصوفية الإعراض عن سماع القرآن، الوجد الذي أحسن أحواله أن يكون صاحبه مغلوباً عليه كالعطاس مثلاً، وأسوؤه أن يكون رياءً ونفاقاً، وأين هم من قوله تعالى في (القرآن):{قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} ؟ !
ورحم الله ابن القيم وجزاه خيراً، فقد عرف أضرار هذا السماع الشيطاني، وجلى مخالفته للسماع القرآني من وجوه كثيرة، في فصول علمية عديدة،
وبحوث فقهية مفيدة، وبين ضلال المتمسكين به ضلالاً بعيداً في كتابه السابق «مسألة السماع» ونحوه في «إغاثة اللهفان» ، وأنشأ فيهم قصائد من الشعر وصفهم فيها وصفاً دقيقاً صادقاً، منها قصيدة في ثلاثين ومائة بيت، في «الإغاثة» جاء فيها (1/ 232):
«تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا
…
بظواهر الجهال والضلال
جعلوا المرا فتحاً وألفاظ الخنا
…
شطحاً وصالوا صولة الإدلال
نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم
…
نبذ المسافر فضلة الأكال
جعلوا السماع مطية لهواهم
…
وغلوا، فقالوا فيه كل محال
هو طاعة، هو قربة، هو سنة
…
صدقوا لذاك الشيخ ذي الإضلال
شيخ قديم صادهم بتحيل
…
حتى أجابوا دعوة المحتال
هجروا له القرآن والأخبار والـ
…
آثار إذ شهدت لهم بضلال
ورأوا سماع الشعر أنفع للفتى
…
من أوجه سبع لهم بنوال
تالله ما ظفر العدو بمثلها
…
من مثلهم، واخيبة الآمال!
كلمة في الأناشيد الإسلامية:
هذا، وقد بقي عندي كلمة أخيرة أختم بها هذه الرسالة النافعة إن شاء الله تعالى، وهي حول ما يسمونه بـ (الأناشيد الإسلامية، أو الدينية) فأقول:
قد تبين من الفصل السابع ما يجوز التغني به من الشعر وما لا يجوز، كما تبين مما قبله تحريم آلات الطرب كلها إلا الدف في العيد والعرس للنساء، ومن هذا الفصل الأخير أنه لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما شرع الله، فكيف يجوز التقرب إليه بما حرم؟ وأنه من أجل ذلك حرم العلماء الغناء الصوفي، واشتد إنكارهم على مستحليه، فإذا استحضر القارئ في باله هذه الأصول
القوية تبين له بكل وضوح أنه لا فرق من حيث الحكم بين الغناء الصوفي والأناشيد الدينية.
بل قد يكون في هذه آفة أخرى، وهي أنها قد تلحن على ألحان الأغاني الماجنة، وتوقع على القوانين الموسيقية الشرقية أو الغربية التي تطرب السامعين وترقصهم، وتخرجهم عن طورهم، فيكون المقصود هو اللحن ويطرب، وليس النشيد بالذات، وهذه مخالفة جديدة وهي التشبه بالكفار والمجان.
وقد ينتج من وراء ذلك مخالفة أخرى؛ وهي التشبه بهم في إعراضهم عن القرآن وهجرهم إياه، فيدخلون في عموم شكوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قومه كما في قوله تعالى:{وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} .
وإني لأذكر جيداً أنني لما كنت في دمشق-قبل هجرتي إلى هنا (عمان) بسنتين-أن بعض الشباب المسلم بدأ يتغنى ببعض الأناشيد السليمة المعنى، قاصداً بذلك معارضة غناء الصوفية بمثل قصائد البوصيري وغيره، وسجل ذلك في شريط، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قرن معه الضرب على الدف! ثم استعملوه في أول الأمر في حفلات الأعراس، على أساس أن (الدف) جائز فيها، ثم شاع الشريط واستنسخت منه نسخ، وانتشر استعماله في كثير من البيوت، وأخذوا يستمعون إليه ليلاً نهاراً بمناسبة وبغير مناسبة، وصار ذلك سلواهم وهجيراهم! وما ذلك إلا من غلبة الهوى والجهل بمكائد الشيطان، فصرفهم عن الاهتمام بالقرآن وسماعه، فضلاً عن دراسته، وصار عندهم مهجوراً كما جاء في الآية الكريمة، قال الحافظ ابن كثير في «تفسيرها» (3/ 317):
«يقول تعالى مخبراً عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: {يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} ، وذلك أن المشركين كانوا لا يسمعون القرآن
ولا يستمعونه، كما قال تعالى:{وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} الآية، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به، وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه، فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء أن يخلصنا مما يسخطه، ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه، آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهاب».
(تحريم آلات الطرب (158 - 182 - 00)