المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التقليد في أصول الدين) - حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - جـ ٢

[حسن العطار]

فهرس الكتاب

- ‌مَسْأَلَةٌ) فِي صِيَغِ الْعُمُومِ

- ‌(مَسْأَلَةٌ جَوَابُ السَّائِلِ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ دُونَهُ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ إنْ تَأَخَّرَ الْخَاصُّ عَنْ الْعَمَلِ) بِالْعَامِّ الْمُعَارِضِ لَهُ أَيْ عَنْ وَقْتِهِ

- ‌(الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ)

- ‌ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ كَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ)

- ‌(الظَّاهِرُ وَالْمُؤَوَّلُ)

- ‌(الْمُجْمَلُ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ)

- ‌(النَّسْخُ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ النَّسْخُ وَاقِعٌ عِنْدَ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ)

- ‌(خَاتِمَةٌ لِلنَّسْخِ)

- ‌(الْكِتَابُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ)

- ‌[الْكَلَامُ فِي الْأَخْبَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْخَبَرُ إمَّا مَقْطُوعٌ بِكَذِبِهِ أَوْ اسْتِدْلَالًا]

- ‌مَسْأَلَةٌ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إلَّا بِقَرِينَةٍ)

- ‌[مَسْأَلَة الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ]

- ‌(مَسْأَلَةُ الْإِخْبَارِ عَنْ) شَيْءٍ (عَامٍّ) لِلنَّاسِ (لَا تَرَافُعَ فِيهِ) إلَى الْحُكَّامِ

- ‌[مَسْأَلَة الشَّخْصُ الَّذِي يُسَمَّى صَحَابِيًّا]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الْمُرْسَلُ قَوْلَ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ)

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى لِلْعَارِفِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ) : (الصَّحِيحُ يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ)

- ‌(خَاتِمَةٌ) (مُسْتَنَدُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ) فِي الرِّوَايَةِ

- ‌(الْكِتَابُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ) مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌[اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاعِ بِالْمُجْتَهِدِينَ]

- ‌ اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاعِ (بِالْمُسْلِمِينَ)

- ‌[اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاع بِالْعُدُولِ]

- ‌ الْإِجْمَاعُ (لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابَةِ)

- ‌ الْإِجْمَاعَ (الْمَنْقُولَ بِالْآحَادِ)

- ‌[إجْمَاعَ الْأُمَمِ السَّابِقَة]

- ‌ الْإِجْمَاعُ (السُّكُوتِيُّ)

- ‌[التَّمَسُّكَ بِأَقَلَّ مَا قِيلَ فِي الْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الصَّحِيحُ إمْكَانُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌ حُرْمَةِ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ

- ‌(خَاتِمَةٌ: جَاحِدُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ)

- ‌(الْكِتَابُ الرَّابِعُ فِي) (الْقِيَاسِ) مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ الْقِيَاسُ (حُجَّةٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ)

- ‌ الْقِيَاسَ عَلَى مَنْسُوخٍ)

- ‌[أَرْكَانُ الْقِيَاسِ]

- ‌[الرُّكْن الْأَوَّلُ الْأَصْلُ]

- ‌(الثَّانِي) مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ (حُكْمُ الْأَصْلِ

- ‌(الثَّالِثُ) مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ (الْفَرْعُ

- ‌(الرَّابِعُ) مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ (الْعِلَّةُ)

- ‌ الْعِلَّةُ (الْقَاصِرَةُ)

- ‌ التَّعْلِيلُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ

- ‌(التَّعْلِيلَ) لِلْحُكْمِ الْوَاحِدِ (بِعِلَّتَيْنِ) فَأَكْثَرَ

- ‌(لَا يُشْتَرَطُ) فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ (الْقَطْعُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ)

- ‌[انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ لِلْعِلَّةِ]

- ‌[لِلْمُسْتَدِلِّ دَفْعُ الْمُعَارَضَةِ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌(مَسَالِكُ الْعِلَّةِ)

- ‌(الْأَوَّلُ) مِنْهَا (الْإِجْمَاعُ)

- ‌(الثَّانِي) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (النَّصُّ الصَّرِيحُ)

- ‌[الثَّالِثُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ الْإِيمَاءُ]

- ‌(الرَّابِعُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ

- ‌(الْخَامِسُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (الْمُنَاسَبَةُ وَالْإِخَالَةُ)

- ‌(السَّادِسُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مَا يُسَمَّى بِالشَّبَهِ

- ‌[مَسْأَلَةُ الْمُنَاسَبَةُ تَنْخَرِمُ بِمَفْسَدَةٍ تَلْزَمُ الْحُكْمَ رَاجِحَةٍ عَلَى مَصْلَحَتِهِ أَوْ مُسَاوِيَةٍ لَهَا]

- ‌(السَّابِعُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (الدَّوَرَانُ

- ‌(الثَّامِنُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (الطَّرْدُ

- ‌(التَّاسِعُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌(الْعَاشِرُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (إلْغَاءُ الْفَارِقِ)

- ‌(خَاتِمَةٌ فِي نَفْيِ مَسْلَكَيْنِ ضَعِيفَيْنِ

- ‌(الْقَوَادِحُ)

- ‌[خَاتِمَةٌ] (الْقِيَاسُ مِنْ الدِّينِ)

- ‌(الْكِتَابُ الْخَامِسُ فِي الِاسْتِدْلَالِ

- ‌(مَسْأَلَةُ الِاسْتِقْرَاءِ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ)

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الِاسْتِصْحَابِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ لَا يُطَالَبُ النَّافِيَ) لِلشَّيْءِ (بِالدَّلِيلِ) عَلَى انْتِفَائِهِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ كَانَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم مُتَعَبَّدًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِشَرْعٍ]

- ‌(مَسْأَلَةُ حُكْمِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ قَبْلَ الشَّرْعِ)

- ‌(مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْسَانِ

- ‌(مَسْأَلَةُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ) الْمُجْتَهِدِ

- ‌(مَسْأَلَةُ الْإِلْهَامِ

- ‌[خَاتِمَةٌ مَبْنَى الْفِقْهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ]

- ‌(الْكِتَابُ السَّادِسُ فِي التَّعَادُلِ وَالتَّرَاجِيحِ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ يُرَجَّحُ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ)

- ‌(الْكِتَابُ السَّابِعُ فِي الِاجْتِهَادِ) :

- ‌[مَسْأَلَةُ الْمُصِيبِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ)

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيٍّ أَوْ عَالِمٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ اُحْكُمْ بِمَا تَشَاءُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ]

- ‌(مَسْأَلَةُ التَّقْلِيدِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ لِلْمُجْتَهِدِ وَتَجَدَّدَ لَهُ مَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ عَمَّا ظَنَّهُ فِيهَا أَوَّلًا وَلَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ]

- ‌(مَسْأَلَةُ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ عَلَى التَّفْرِيعِ وَالتَّرْجِيحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا)

- ‌ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ)

- ‌[خَاتِمَةٌ فِي مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ الْمُصَفِّي لِلْقُلُوبِ]

الفصل: ‌ التقليد في أصول الدين)

وَقَدْ تَفَقَّهَ عَلَى الْأَوَّلِ إنْ أَرَادَ بِعَدَمِ الْفِسْقِ الْجَوَازَ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ وَامْتِنَاعُ التَّتَبُّعِ شَامِلٌ لِلْمُلْتَزِمِ وَغَيْرِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَقْيِيدُ الْجَوَازِ السَّابِقِ فِيهِمَا بِمَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى تَتَبُّعِ الرُّخَصِ.

(مَسْأَلَةٌ اُخْتُلِفَ فِي‌

‌ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ)

ــ

[حاشية العطار]

اتِّبَاعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ إذْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْلُكَ الْمَسْلَكَ الْأَخَفَّ عَلَيْهِ إنْ كَانَ لَهُ إلَيْهِ سَبِيلٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِقَوْلٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ الْأَخَفِّ اهـ.، وَقَالَ ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ التَّشْدِيدَاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي الْمُنْتَقِلِ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ إلْزَامَاتٌ مِنْهُمْ لِكَفِّ النَّاسِ عَنْ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ، وَإِلَّا فَأَخْذُ الْعَامِّيِّ بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ يَكُونُ قَوْلُهُ أَخَفَّ عَلَيْهِ لَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ مِنْهُ عَقْلًا وَشَرْعًا اهـ.

هَذَا مَا نَقَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَامِّيِّ إذَا قَلَّدَ إمَامًا فِي مَسْأَلَةٍ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْمَذَاهِبُ يَسْأَلُونَ فِيمَا يَسْنَحُ لَهُمْ الْعُلَمَاءُ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ سَوَاءٌ اتَّبَعَ الرُّخْصَ فِي ذَلِكَ أَوْ الْعَزَائِمَ؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْمُصِيبَ وَاحِدًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَمَنْ جَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فَلَا إنْكَارَ عَلَى مَنْ قَلَّدَهُ بِالصَّوَابِ، وَأَمَّا مَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ حَزْمٍ مِنْ حِكَايَتِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ مِنْ الْمَذَاهِبِ فَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَتَبَّعَهَا عَنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِمَنْ قَالَ بِهَا أَوْ عَلَى الرُّخَصِ الْمُرَكَّبَةِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ نَقَلَهُ عَنْ السَّيِّدِ السَّمْهُودِيِّ.

فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ جَوَازُ التَّقْلِيدِ وَجَوَازُ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ مَا اعْتَبَرَهُ الْمُجْتَهِدُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَ التَّقْلِيدُ فِيهَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّتُهَا كَيْ لَا يَقَعَ فِي حُكْمٍ مُرَكَّبٍ مِنْ اجْتِهَادَيْنِ كَمَا إذَا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ لَمْسٍ مُجَرَّدٍ عَنْ الشَّهْوَةِ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ، وَهَذَا عَمَلُ مَنْ مَنَعَ التَّلْفِيقَ فِي التَّقْلِيدِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّلْفِيقُ فِي أَجْزَاءِ الْحُكْمِ لَا فِي جُزْئِيَّاتِ الْمَسَائِلِ كَمَا نَقَلْنَاهُ، وَنَقَلَ الْإِسْنَوِيُّ فِي تَمْهِيدِهِ عَنْ الْقَرَافِيِّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ جَوَازُ تَقْلِيدِ مَذْهَبِ الْغَيْرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْقِعًا فِي أَمْرٍ يُجْمِعُ عَلَى إبْطَالِهِ إمَامُهُ الْأَوَّلُ وَإِمَامُهُ الثَّانِي فَمَنْ قَلَّدَ مَالِكًا مَثَلًا فِي عَدَمِ النَّقْضِ بِاللَّمْسِ الْخَالِي عَنْ الشَّهْوَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُدَلِّكَ بَدَنَهُ وَيَمْسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، وَإِلَّا فَتَكُونُ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً عِنْدَ الْإِمَامَيْنِ اهـ.

قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَمِنْ فُرُوع هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ تَقْلِيدًا لِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ بِلَا شُهُودٍ تَقْلِيدًا لِمَالِكٍ وَوَطِئَ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ فَلَوْ نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَيْضًا حُدَّ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَيْنِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْبُطْلَانِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ وَالتَّتَبُّعُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُدَوَّنَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِمْ الْآنَ وَهُمْ الْأَرْبَعَةُ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ؛ لِأَنَّهُ بِمَوْتِ أَصْحَابِهِمْ انْقَرَضَتْ مَذَاهِبُهُمْ، وَقَدْ كَانُوا كَثِيرِينَ أَوَّلًا وَيُقَيَّدُ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ بِقَيْدٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْعَزَائِمَ رَأْسًا بِحَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ إلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ.

وَأَمَّا الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فَقَدْ مَنَعَ تَتَبُّعَ الرُّخَصِ قَائِلًا إنَّ الْعَوَامَّ وَالْفُقَهَاءَ وَكُلَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْصِبَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْ تَقْلِيدِ إمَامٍ وَاتِّبَاعِ قُدْوَةٍ إذْ تَحْكِيمُ الْعُقُولِ الْقَاصِرَةِ الذَّاهِلَةِ عَنْ مَأْخَذِ الشَّرْعِ مُحَالٌ وَتَخَيُّرُ أَطْيَبِ الْمَذَاهِبِ وَأَسْهَلِ الْمَطَالِبِ بِالْتِقَاطِ الْأَخَفِّ وَالْأَهْوَنِ مِنْ مَذْهَبِ كُلِّ ذِي مَذْهَبٍ مُحَالٌ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ التَّمْيِيزِ وَالتَّشَهُّرِ، وَيَتَّسِعُ الْخَرْقُ عَلَى فَاعِلِهِ فَيَنْسَلُّ عَنْ مُعْظَمِ مَضَايِقِ الشَّرْعِ بِآحَادِ التَّوَسُّعَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ أَئِمَّةُ الشَّرْعِ فِي آحَادِ الْقَوَاعِدِ عَلَى رَدِّهَا وَالْآخَرَانِ اتِّبَاعُ الْأَفْضَلِ مُتَحَتِّمٌ وَتَخَيُّرُ الْمَذَاهِبِ يَجُرُّ لَا مَحَالَةَ إلَى اتِّبَاعِ الْأَفْضَلِ تَارَةً وَالْمَفْضُولِ أُخْرَى وَلَا مُبَالَاةَ بِقَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ الْخِيَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ تَلَقِّيًا مِنْ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَسَادَهُ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَقَدْ تَفَقَّهَ عَلَى الْأَوَّلِ) أَرَادَ تَقْوِيَةَ الْأَوَّلِ (قَوْلُهُ: لِلْمُلْتَزِمِ وَغَيْرِهِ) وَهُوَ صَاحِبُ الْحَادِثَةِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ لَهُ وَإِذَا عَمِلَ الْعَامِّيُّ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ فِي حَادِثَةٍ (قَوْلُهُ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ شُمُولِ الِامْتِنَاعِ وَضَمِيرُ التَّثْنِيَةِ يَعُودُ لِلْمُلْتَزِمِ وَغَيْرِهِ.

[التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ]

(قَوْلُهُ: فِي التَّقْلِيدِ هُوَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ قِلَادَةً فِي عُنُقِهِ فَهُوَ تَابِعٌ

ص: 442

أَيْ مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَوُجُودِ الْبَارِي وَمَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيُّ لَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ النَّظَرُ

ــ

[حاشية العطار]

لَهُ تَبَعَ الدَّابَّةِ لِقَائِدِهَا، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَلِّدٍ يَنْقَادُ وَبَهِيمَةٍ تُقَادُ، وَأَمَّا التَّلَامِذَةُ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ إرْشَادِ الْمَشَايِخِ لَهُمْ إلَى الْأَدِلَّةِ مِنْ الْعَارِفِينَ وَضَرَبَ السَّنُوسِيُّ فِي شَرْحِ الْجَزَائِرِيَّةِ مِثَالًا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُقَلِّدِينَ بِجَمَاعَةٍ نَظَرُوا لِلْهِلَالِ فَسَبَقَ بَعْضُهُمْ إلَى رُؤْيَتِهِ فَإِنْ أَخْبَرَ الْبَاقِي وَصَدَّقُوهُ مِنْ غَيْرِ مُعَانَاةٍ وَتَطَلُّعٍ لَهُ كَانُوا مُقَلِّدِينَ وَإِنْ أَرْشَدَهُمْ بِالْعَلَامَاتِ حَتَّى عَثَرُوا عَلَيْهِ خَرَجُوا عَنْ التَّقْلِيدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُولَى إذَا سَأَلَتْ عَنْ الْهِلَالِ كَانَ جَوَابُهَا قَالُوا إنَّهُ ظَهَرَ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتَقُولُ رَأَيْته بِعَيْنَيَّ فِي مَكَانِ كَذَا وَتَذْكُرُ الْعَلَامَاتِ وَأُصُولُ الدِّينِ قَوَاعِدُهُ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الْكَلَامِيَّةُ لِابْتِنَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ عَلَيْهَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْخِلَافِ فِي التَّقْلِيدِ فِيهِ شَيْئًا لَكِنْ قَضِيَّةُ كَلَامِهِ فِيمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّقْلِيدِ تَرْجِيحُ قَوْلِهِ وَقِيلَ النَّظَرُ فِيهِ حَرَامٌ فَيَكُونُ الرَّاجِحُ عِنْدَهُ وُجُوبُ التَّقْلِيدِ فِيهِ انْتَهَى، وَمَا فِي شَرْحِ الْكُبْرَى نَقْلًا عَنْ الْقَاضِي أَنَّ التَّقْلِيدَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَمَرَ بِتَقْلِيدِ مَنْ شَاءَ لَزِمَ نَجَاتُهُ بِتَقْلِيدِ الضَّالِّينَ وَإِنْ أَمَرَ بِتَقْلِيدِ الْمُحَقِّقِينَ فَإِمَّا بِدُونِ دَلِيلٍ يَعْلَمُ بِهِ حَقِيقَتَهُمْ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ أَوْ بِدَلِيلٍ فَلَا يَكُونُ مُقَلِّدًا فَمُنْدَفِعٌ إذْ يَتَّفِقُ تَقْلِيدُ الْمُحَقِّقِ لِمُجَرَّدِ حُسْنِ ظَنٍّ بِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ التَّقْلِيدِ فَهُوَ مُقَلِّدٌ فِيمَنْ قَلَّدَهُ أَيْضًا.

وَهَذَا وَاقِعٌ كَثِيرًا حَتَّى فِيمَنْ نُسِبَ إلَى الْعِلْمِ فَإِنَّا نَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِكَلَامٍ لَا أَصْلَ لَهُ لِحُسْنِ ظَنٍّ بِقَائِلِهِ وَشُهْرَتِهِ فِي الْعِلْمِ حَتَّى لَوْ بَرْهَنَ لَهُ عَلَى بُطْلَانِهِ أَوْ أَتَى لَهُ بِنَقْلٍ يُخَالِفُهُ عَنْ إمَامٍ مُحَقِّقٍ فِي هَذَا الْفَنِّ، إمَّا أَنْ لَا يَرْجِعَ أَصْلًا أَوْ يَرْجِعَ ظَاهِرًا أَوْ يَعْتَذِرَ بِأَنَّ الشَّيْخَ لَهُ اطِّلَاعٌ كَثِيرٌ فَهُوَ أَدْرَى وَمَا دَرَى الْغَبِيُّ أَنَّ هَذَا الشَّيْخَ لَيْسَ مَعْصُومًا عَنْ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ (قَوْلُهُ: أَيْ مَسَائِلُ الِاعْتِقَادِ) وَهِيَ الْقَضَايَا الْمُعْتَقَدَةُ فَتَمْثِيلُ الشَّارِحِ لَهَا بِقَوْلِهِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ فِيهِ تَسَمُّحٌ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحُدُوثِ وَمَا بَعْدَهُ يَقَعُ مَحْمُولًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، كَأَنْ يُقَالَ الْعَالَمُ حَادِثٌ إلَخْ وَالْمُرَادُ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ مِنْ حَيْثُ إثْبَاتُهُ أَوْ يُقَدَّرُ مُضَافٌ أَيْ كَثُبُوتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ بَلْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ لَهَا كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إثْبَاتِ الْوَاجِبِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ وَبَقِيَّةِ الْعَقَائِدِ وَلِشَرَافَةِ هَذَا الْأَصْلِ اعْتَنَتْ الْمُحَقِّقُونَ بِإِفْرَادِهِ بِالتَّأْلِيفِ، وَكَثُرَ فِيهِ الْجِدَالُ وَالنِّزَاعُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فَصَارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ غَوَامِضِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَأَكْثَرُ مَنْ أَلَّفَ فِي هَذَا الْفَنِّ يُصَدِّرُ كِتَابَهُ بِمَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ كَمَتْنِ عَقَائِدِ النَّسَفِيِّ وَمَتْنِ عَقَائِدِ الْعَضُدِ (قَوْلُهُ: وَغَيْرُ ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَبَاحِث النُّبُوَّةِ، وَقَدْ سَلَكَ الشَّارِحُ مَسْلَكًا لَطِيفًا فِي الْعَطْفِ يُعْلَمُ سِرُّهُ مِمَّا قَرَرْنَاهُ فِي كَوْنِ حُدُوثِ الْعَالَمِ أَصْلًا عَظِيمًا (قَوْلُهُ: فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَخْ) تَفْصِيلٌ لِلِاخْتِلَافِ (قَوْلُهُ: بَلْ يَجِبُ النَّظَرُ) أَيْ وُجُوبًا شَرْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَاحْتَجَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ النَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَسَائِرِ مَا يُؤَدِّي إلَى

ص: 443

لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهِ الْيَقِينُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى لِلنَّاسِ {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وَيُقَاسُ غَيْرُ الْوَحْدَانِيَّةِ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ وَغَيْرُهُ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ وَلَا يَجِبُ النَّظَرُ اكْتِفَاءً بِالْعَقْدِ الْجَازِمِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْتَفِي فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْأَعْرَابِ وَلَيْسُوا أَهْلًا لِلنَّظَرِ بِالتَّلَفُّظِ بِكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ الْمُنْبِئِ عَنْ الْعَقْدِ الْجَازِمِ، وَيُقَاسُ غَيْرُ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ.

(وَقِيلَ النَّظَرُ فِيهِ حَرَامٌ) ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي الشُّبَهِ وَالضَّلَالِ لِاخْتِلَافِ الْأَذْهَانِ وَالْأَنْظَارِ بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ فَيَجِبُ بِأَنْ يَجْزِمَ الْمُكَلَّفُ عَقْدَهُ بِمَا يَأْتِي بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْعَقَائِدِ وَدَفَعَ الْأَوَّلُونَ دَلِيلَ الثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَعْرَابَ لَيْسُوا أَهْلًا لِلنَّظَرِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ النَّظَرُ عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ كَمَا أَجَابَ الْأَعْرَابِيُّ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ سُؤَالِهِ بِمَ عَرَفْت رَبَّك فَقَالَ: الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَأَثَرُ الْأَقْدَامِ تَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ

ــ

[حاشية العطار]

ثُبُوتِ الشَّرْعِ عَقْلِيٌّ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ إلَّا بِالشَّرْعِ لَزِمَ إفْحَامُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَمْ يَكُنْ لِلْبَعْثَةِ فَائِدَةٌ وَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ وَوَجْهُ اللُّزُومِ أَنَّ النَّبِيَّ إذَا قَالَ لِلْمُكَلَّفِ اُنْظُرْ فِي مُعْجِزَتِي حَتَّى يَظْهَرَ لَك صِدْقُ دَعْوَايَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ.

لِأَنَّ تَرْكَ غَيْرِ الْوَاجِبِ جَائِزٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى مَا لَمْ يُثْبِتْ الشَّرْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ إلَّا بِالشَّرْعِ وَلَا يَثْبُتُ الشَّرْعُ مَا لَمْ أَنْظُرْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ إذْ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَقُولَ لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ يَجِبْ عَقْلًا وَلَا يَجِبُ عَقْلًا مَا لَمْ أَنْظُرْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ نَظَرِيٌّ يَفْتَقِرُ إلَى تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَتَحْقِيقِ أَنَّ النَّظَرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ أَنَّ فِيهِ إلْجَاءَ الْخَصْمِ إلَى الِاعْتِرَافِ بِنَقِيضِ دَلِيلِهِ حَيْثُ دَلَّ عَلَى نَفْيِ مَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَهُ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهِ) أَيْ فِي أُصُولِ الدِّينِ الْيَقِينُ أَيْ وَلَا يَقِينَ مَعَ التَّقْلِيدِ (قَوْلُهُ: وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ) مِنْ تَتِمَّةِ الدَّلِيلِ وَتَوْطِئَةً لِمَا بَعْدَهُ لِيُفِيدَ قَوْلَهُ وَاتَّبِعُوهُ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْعِلْمِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ وَدَفْعٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا الْوُجُوبُ وُجُوبُ أُصُولٍ فَيَكُونُ الْمُقَلِّدُ كَافِرًا أَوْ وُجُوبُ فُرُوعٍ فَيَكُونُ آثِمًا، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ عَنْ تَقْلِيدٍ وَهِيَ جَزْمٌ بِلَا دَلِيلٍ فَالظَّانُّ وَالشَّاكُّ وَالْمُتَوَهِّمُ كَافِرٌ بِإِجْمَاعٍ كَمَا ذَكَرَهُ السَّنُوسِيُّ فِي الْوُسْطَى (قَوْلُهُ: وَيُقَاسُ غَيْرُ الْوَحْدَانِيَّةِ) أَيْ الَّتِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْأَمْرُ فِي {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ فَتَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا أَيْضًا. (قَوْلُهُ: بِالتَّلَفُّظِ إلَخْ) قَدْ يُقَالُ إنَّمَا اكْتَفَى الشَّارِعُ بِكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ لِأَجْلِ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُمْ بَعْدَ إيمَانِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ (قَوْلُهُ:، وَيُقَاسُ غَيْرُ الْإِيمَانِ) أَيْ غَيْرُ الْإِيمَانِ بِمَضْمُونِ كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ فَالْمَقِيسُ عَلَيْهِ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَضْمُونِ كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ، وَالْمَقِيسُ بَقِيَّةُ الْعَقَائِدِ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ النَّظَرُ فِيهِ حَرَامٌ) مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ النَّظَرِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَعَدَمُهُ النَّظَرُ فِي غَيْرِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا النَّظَرُ فِيهَا فَوَاجِبٌ إجْمَاعًا كَمَا ذَكَرَهُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ اهـ زَكَرِيَّا.

قَالَ سم مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي ذَكَرَهُ يَعُودُ لِقَوْلِهِ أَمَّا النَّظَرُ إلَخْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِ السَّعْدِ وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَمْنُوعَةٌ أَلَا تَرَى إلَى تَمْثِيلِ الشَّارِحِ لِمَحَلِّ الْخِلَافِ بِقَوْلِهِ وَوُجُودُ الْبَارِي إلَخْ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّ السَّعْدَ فِي أَثْنَاءِ اسْتِدْلَالِهِ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ جَوَازُ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ فَلَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الْجُمْلَةِ اهـ. وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٍ بِعُمُومِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ اهـ. مُلَخَّصًا.

ثُمَّ إنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ أَيْضًا فِيمَا جَهِلَهُ كُفْرٌ كَصِفَاتِ السُّلُوبِ وَالصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ، أَمَّا صِفَاتُ الْمَعَانِي وَنَحْوُهَا مِمَّا لَا يَكْفُرُ مُسْكِرُهُ فَلَا (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي الشَّبَهِ) إذْ الِاسْتِدْلَال بِفَتْحِ بَابِ الْجِدَالِ وَنِهَايَةِ إقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالٌ وَلِلَّهِ الْقَائِلُ

لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْت الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا

وَسَرَّحْت طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ

فَلَمْ أَرَ إلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ

عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمٍ

(قَوْلُهُ: كَمَا أَجَابَ الْأَعْرَابِيُّ) وَتَقُولُ الْعَامَّةُ إذَا رَأَتْ مَا يُعْجِبُهَا سُبْحَانَ الْخَالِقِ بَلْ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَمْ

ص: 444

أَلَا تَدُلُّ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ، وَمَا يُذْعِنُ أَحَدٌ مِنْ الْأَعْرَابِ أَوْ غَيْرِهِمْ لِلْإِيمَانِ فَيَأْتِي بِكَلِمَتِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَنْظُرَ فَيَهْتَدِيَ لِذَلِكَ، أَمَّا النَّظَرُ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ تَحْرِيرِ الْأَدِلَّةِ وَتَدْقِيقِهَا وَدَفْعِ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ هَهُنَا فَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ الْمُتَأَهِّلِينَ لَهُ يَكْفِي قِيَامُ بَعْضِهِمْ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْخَوْضِ فِيهِ الْوُقُوعُ فِي الشُّبَهِ وَالضَّلَالِ فَلَيْسَ لَهُ الْخَوْضُ فِيهِ وَهَذَا مَحْمَلُ نَهْيِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ رضي الله عنهم مِنْ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ تَصِحُّ عَقَائِدُ الْمُقَلِّدِ، وَإِنْ كَانَ آثِمًا بِتَرْكِ النَّظَرِ عَلَى الْأَوَّلِ.

(وَعَنْ الْأَشْعَرِيِّ) أَنَّهُ (لَا يَصِحُّ إيمَانُ الْمُقَلِّدِ) وَشَنَّعَ أَقْوَامٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَكْفِيرُ الْعَوَامّ وَهُمْ غَالِبُ الْمُؤْمِنِينَ، (وَقَالَ) الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ (الْقُشَيْرِيُّ) فِي دَفْعِ التَّشْنِيعِ هَذَا (مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالتَّحْقِيقُ) فِي الْمَسْأَلَةِ الدَّافِعُ لِلتَّشْنِيعِ أَنَّهُ (إنْ كَانَ) التَّقْلِيدُ (أَخْذَ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَعَ احْتِمَالِ شَكٍّ أَوْ وَهْمٍ) بِأَنْ لَا يَجْزِمَ بِهِ (فَلَا يَكْفِي) إيمَانُ الْمُقَلِّدِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا إيمَانَ مَعَ أَدْنَى تَرَدُّدٍ فِيهِ. (وَإِنْ كَانَ) التَّقْلِيدُ أَخْذَ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَكِنْ (جَزْمًا) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ (فَيَكْفِي) إيمَانُ الْمُقَلِّدِ

ــ

[حاشية العطار]

يَبْلُغُوا سِنَّ التَّمْيِيزِ يُقْسِمُونَ بِاَللَّهِ وَبِالنَّبِيِّ وَيَسْتَعْطِفُونَ وَالِدَيْهِمَا بِالْقَسَمِ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مِصْدَاقُ حَدِيثِ «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» .

(قَوْلُهُ: أَلَا تَدُلُّ) أَيْ السَّمَاءُ وَالْأَبْرَاجُ وَالْأَرْضُ وَالْفِجَاجُ وَإِلَّا لَقَالَ يَدُلَّانِ أَيْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ (قَوْلُهُ: لِلْإِيمَانِ) أَيْ لَأَظْهَرَاهُ، وَإِلَّا فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِذْعَانُ فَيَنْحَلُّ الْمَعْنَى وَمَا يُذْعِنُ أَحَدٌ لِلْإِذْعَانِ (قَوْلُهُ: فِي حَقِّ الْمُتَأَهِّلِينَ) أَيْ فَإِذَا لَمْ يُقْسِمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَمْ تَأْثَمْ الْعَامَّةُ.

(قَوْلُهُ: وَعَنْ الْأَشْعَرِيِّ إلَخْ) هُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ نُسِبَ إلَى جَدِّهِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الصَّحَابِيِّ كَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ تَرْجَمَهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُصَنِّفُ وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ مَالِكِيٌّ نَاقِلًا لَهُ عَنْ سَيِّدِي عَلِيٍّ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَمَا يُقَالُ أَنَّهُ وَاضِعُ عِلْمِ الْكَلَامِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ آخِذٌ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَهُ تَأْلِيفٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ وَاضِعُ عِلْمِ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكِنْ قِيلَ إنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَكَلَّمَ فِيهِ، وَأَلَّفَ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِيهِ رِسَالَةً وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَقِيلَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. (قَوْلُهُ: وَتَكْفِيرُ الْعَوَامّ إلَخْ) رُدَّ بِأَنَّهُمْ عَارِفُونَ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ وَهُوَ كَافٍ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِدَلِيلٍ إجْمَالِيٍّ يَرْفَعُ النَّاظِرَ عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ فَرْضُ عَيْنٍ لَا مَخْرَجَ عَنْهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ وَبِدَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنْ إزَاحَةِ الشَّبَهِ وَإِلْزَامِ الْمُنْكِرِينَ وَإِرْشَادِ الْمُسْتَرْشِدِينَ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَا بُدَّ مِنْ أَنَّهُ يَقُومُ بِهِ الْبَعْضُ.

(قَوْلُهُ: مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ) فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ النَّقْلَ عَنْهُ مَشْهُورٌ، وَقَدْ قَالَ فِي الْمَقَاصِدِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ ابْتِنَاءِ الِاعْتِقَادِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْأُصُولِ عَلَى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ الِاقْتِدَارُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ وَعَلَى مُحَاوَلَةِ الْخُصُومِ وَدَفْعِ الشَّبَهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ حَتَّى حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، لَكِنْ ذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مُؤْمِنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ لِوُجُودِ التَّصْدِيقِ لَكِنَّهُ عَاصٍ بِتَرْكِهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ اهـ.

وَفِي مُخْتَصَرِ الْفُتُوحَاتِ إنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ لِضَعِيفِ النَّظَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ الدِّينِ إنْ نَظَرَ فِيهِ لِقُصُورِهِ قَالَ وَقَدْ رَأَيْنَا جَمَاعَةً خَرَجُوا عَنْ الدِّينِ بِالنَّظَرِ لَمَّا كَانَتْ فِطْرَتُهُمْ مَعْلُومَةً، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ إنْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ النَّجَاةَ فَلْيَأْخُذْ عَقَائِدَهُ تَقْلِيدًا كَمَا أَخَذَ أَحْكَامَ دِينِهِ تَقْلِيدًا اهـ. (قَوْلُهُ: أَوْ وَهْمٍ) أَيْ فَيَكُونُ الْحَاصِلُ عِنْدَهُ ظَنًّا؛ لِأَنَّ الْوَهْمَ هُوَ الطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّارِحُ بِأَنْ لَا يَجْزِمَ إلَخْ أَشَارَ بِهِ إلَى دُخُولِ الظَّنِّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ لَا إيمَانَ مَعَ تَرَدُّدٍ) فِيهِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ السَّنُوسِيُّ فِي شَرْحِ كُبْرَاهُ مِمَّا وَقَعَ سُؤَالٌ لِسَيِّدِي أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى وَغَيْرِهِ عَنْهُ مِنْ فُقَهَاءِ بِجَايَةَ فِيمَنْ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ إيمَانًا مِنْ إسْلَامٍ

ص: 445

عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ (خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ) فِي قَوْلِهِ لَا يَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ مِنْ النَّظَرِ وَعَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ الْجَازِمِ فِي الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَلْيَجْزِمْ) أَيْ الْمُكَلَّفُ (عَقْدَهُ بِأَنَّ الْعَالَمَ) وَهُوَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا حَاجَةَ لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَصِفَاتِهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ عَيْنَهُ (مُحْدَثٌ)

ــ

[حاشية العطار]

وَلَا الرَّسُولَ مِنْ الْمُرْسِلِ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ مَعْنَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَقُولُ سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته هَلْ يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَمْ لَا فَأَجَابُوا كُلُّهُمْ بِأَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ بِنَصِيبٍ وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِإِيمَانٍ وَلَا بِإِسْلَامٍ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَجُوسِيِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ إلَّا فِي الْقَتْلِ لِظَاهِرِ الشَّهَادَةِ.

وَنَقَلَ هَذَا صَاحِبُ الْمِعْيَارِ الْوَنْشَرِيسِيُّ وَزَادَ لَا نِكَاحَ لَهُ وَلَا طَلَاقَ فَإِنْ عَلِمَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الشَّرَائِعَ صَحَّ عَقْدُهُ عَلَيْهَا وَلَوْ بَعْدَ بَتَاتٍ سَابِقٍ لِعَدَمِ صِحَّةِ عَقْدِهِ الَّذِي هُوَ مِلْكُهُ فَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ الَّذِي هُوَ عَدَمُهَا قَالَ سَيِّدٌ الشَّاوِيُّ الْمَغْرِبِيُّ الْجَزَائِرِيُّ مَا فَرَضَهُ عُلَمَاءُ بِجَايَةَ مِنْ هَذَا الَّذِي حَكَمُوا عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمَجُوسِيِّ أَنَّهُ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَتُصَوِّرَ مِنْ هَذَا الْجَهْلِ يُعْلَمُ أَنَّ مَنْ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّقْلِيدُ إذْ هُوَ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَخْتَصُّ الْمُقَلِّدُ بِمَنْ نَشَأَ فِي شَاهِقِ جَبَلٍ كَمَا قَالَهُ التَّفْتَازَانِيُّ قَائِلًا مَا مَنْ كَانَ يَنْظُرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ عَارِفٌ لَا مُقَلِّدٌ فَكَلَامُ التَّفْتَازَانِيِّ مُعْتَرَضٌ بِهَذَا الْمَنْقُولِ عَنْ فُقَهَاءِ بِجَايَةَ وَغَيْرِهِمْ وَبِالْمُشَاهَدَةِ الَّتِي نَرَاهَا فِيمَنْ مَعَنَا وَيُخَالِطُنَا وَيَحْضُرُ مَجَالِسَ الْعِلْمِ وَمَا وَصَلَ لِمَرْتَبَةِ التَّقْلِيدِ مِنْ الطَّلَبَةِ فَكَيْفَ بِالْعَوَامِّ، وَقَدْ رَأَيْت عَوَامًّا يَعْتَقِدُونَ الْجِهَةَ وَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُمْ فَقَدْ جَحَدَ الضَّرُورَةَ، وَيَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ الْعَبْدِ وَتَأْثِيرَ الْأَسْبَابِ بَلْ قَالَ الشَّيْخُ السَّنُوسِيُّ رَزَقَنِي اللَّهُ مَسَائِلَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِالْغَلَطِ فِيهَا مَنْ عُرِفَ بِكَثْرَةِ الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ قِيلَ أَشَارَ لِابْنِ ذِكْرِيٍّ فَانْظُرْ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تُجْحَدُ كَيْفَ يَصِحُّ مَا قَالَهُ التَّفْتَازَانِيُّ.

وَأَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ مَرَّاكُشَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ شَاهَدَ أَهْلَ بَلَدِهِ قُلُوبَهُمْ صَافِيَةً مِنْ التَّخْلِيطِ عَارِيَّةً عَنْ دَرَجَةِ التَّقْلِيدِ فَلَا يَعُمُّ حُكْمُهُ قَوْمًا نُشَاهِدُهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ فَإِنَّ أَحْمَقَ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ يَقِينَهُ لِظَنِّ غَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُ الشَّاوِيِّ.

(قَوْلُهُ: عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ) قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ نَظَرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَسَمِعَ مِنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي كُفْرِهِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّهُ هَلْ يُعَاقَبُ عِقَابَ الْكَافِرِ فَقَالَ الْكَثِيرُونَ نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ، وَالْجَهْلُ بِذَلِكَ كُفْرٌ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَدَخَلَ مَسْجِدَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ» مَحْمُولٌ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ بَعْضُ ذَوِي التَّحْقِيقِ مِنْهُمْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَكِنَّهُ مُصَدِّقٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عِقَابُهُ لِذَلِكَ اهـ. بِنَصِّهِ وَلَا مِرْيَةَ فِي مُخَالَفَتِهِ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالشَّارِحِ. اهـ.

نَقَلَهُ النَّاصِرُ قَالَ سم لَوْ ثَبَتَتْ الْمُخَالَفَةُ الْمَذْكُورَةُ لَمْ تَضُرَّ الْمُصَنِّفَ وَالشَّارِحَ إذْ لَا يَلْزَمُهُمَا تَقْلِيدُ التَّفْتَازَانِيِّ فِي كُلِّ مَا يَنْقُلُهُ وَكَثِيرًا مَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي النَّقْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَقْلِ غَيْرِ الْمُخَالِفِ لِنَقْلِهِ اهـ.

وَهَذَا الْجَوَابُ كَافٍ فَلَا حَاجَةَ بَعْدَهُ لِمَا أَطَالَ بِهِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَسْلَمُ عَنْ خَدْشٍ (قَوْلُهُ: فَلْيَجْزِمْ) أَيْ الْمُكَلَّفُ إنَّمَا قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَعَقَدَهُ أَيْ اعْتِقَادَهُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ أَوْ الْمَفْعُولِيَّةِ بِتَضْمِينِ يَجْزِمْ مَعْنَى يَخْلُصْ وَكَانَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ قَوْلَ الْمَتْنِ عَقَدَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ وَيَكُونُ الْإِسْنَادُ حِينَئِذٍ مَجَازِيًّا وَمَا سَلَكَهُ الشَّارِحُ أَقْعَدُ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ مَا سِوَى اللَّهِ إلَخْ) يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّ الْعَالَمَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْمُمْكِنَاتِ الْمَوْجُودَةِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ لَهُ أَفْرَادٌ بَلْ أَجْزَاءٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ جَمْعُهُ فِي مِثْلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْقَدَرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْكُلِّ وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ الْأَجْنَاسِ إذْ يُقَالُ عَالَمُ الْأَجْسَامِ وَعَالَمُ الْأَعْرَاضِ وَعَالَمُ الْأَرْوَاحِ وَعَالَمُ الْإِنْسَانِ أَوْ الْحَيَوَانِ أَوْ النَّبَاتِ وَالْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَالْعَالَمُ السُّفْلِيُّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَزَيْدٌ لَيْسَ بِعَالَمٍ بَلْ مِنْ الْعَالَمِ هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْكَشَّافِ مَعَ مَا ذَكَرَهُ الْمَوْلَى الْخَيَالِيُّ (قَوْلُهُ: وَلَا حَاجَةَ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ اسْتَثْنَاهَا إلَى أَنَّ الْغَيْرَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِهَا وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّارِحِ وَلَا حَاجَةَ إلَخْ نَظَرٌ إلَى أَنَّهُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، وَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرًا مُنْفَكًّا فَالْخُلْفُ لَفْظِيٌّ لَكِنْ قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي حَاشِيَةِ الْخَيَالِيِّ

ص: 446

أَيْ مُوجَدٌ عَنْ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ أَيْ يَعْرِضُ لَهُ التَّغَيُّرُ كَمَا يُشَاهَدُ، وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ مُحْدَثٌ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ (وَلَهُ صَانِعٌ) ضَرُورَةً أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ (وَهُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ) إذْ لَوْ جَازَ كَوْنُهُ اثْنَيْنِ

ــ

[حاشية العطار]

إنَّ حَمْلَ الْغَيْرِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ بَعِيدٌ عَنْ الْفَهْمِ (قَوْلُهُ: أَيْ مُوجَدٌ عَنْ الْعَدَمِ) هَذَا تَفْسِيرُ الْحُدُوثِ بِاصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا فَوُجِدَ، وَالْفَلَاسِفَةُ لَمَّا قَالُوا بِقِدَمِ الْعَالَمِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ عِنْدَهُمْ فَسَّرُوا الْحُدُوثَ بِالِاحْتِيَاجِ إلَى الْغَيْرِ فَالْحُدُوثُ بِهَذَا الْمَعْنَى يُجَامِعُ الْقِدَمَ الزَّمَانِيَّ عِنْدَهُمْ وَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ مُخْطِئٌ فَإِنَّهُ قَدِيمٌ بِالنَّظَرِ لِعِلْمِ اللَّهِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قِدَمَهُ بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ يَرْجِعُ لِقَدَمِ الْعِلْمِ نَفْسِهِ، وَأَمْثَالُ هَذَا لَا يُؤْخَذُ بِظَاهِرِهِ (قَوْلُهُ: أَيْ يَعْرِضُ لَهُ التَّغَيُّرُ) بَعْضُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَعْضُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا شُوهِدَ كَالْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ اخْتَصَرَ الشَّارِحُ الدَّلِيلَ وَكَأَنَّهُ عَوَّلَ عَلَى بَسْطِهِ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ الْأَعْرَاضَ هِيَ الَّتِي يُشَاهَدُ فِيهَا التَّغَيُّرُ، وَأَمَّا الْأَجْرَامُ فَلِمُلَازَمَتِهَا الْحَادِثَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَاهَدُ تَغَيُّرُ ذَاتِ الْجُرْمِ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ الْعَرَضِ الْحَادِثِ، وَكُلُّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ.

وَأَمَّا صِغَرُ الْأَجْرَامِ وَكِبَرِهَا فَرَاجِعٌ لِتَبَدُّلِ الْأَعْرَاضِ، وَكَذَلِكَ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ وَالذُّبُولُ وَالنَّمَاءُ وَاسْتِحَالَةُ بَعْضِ الْأَجْسَامِ كَالْمَاءِ فِي الْمِلْحِ لَيْسَ انْعِدَامًا حَقِيقِيًّا كُلُّ ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ وَالْمَبْسُوطَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَنَقَلَ سَيِّدِي يَحْيَى الشَّاوِيُّ عَنْ الْخَفَّافِ فِي شَرْحِ عَقِيدَةِ أَبِي عَمْرٍو أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ فِي حُكْمِ الْجُرْمِ أَنْ يَرَى الْجُرْمَ كَذَا وَكَذَا، فَتَغَيُّرُ الْأَحْكَامِ بِظُهُورِ الْأَعْرَاضِ فِي الذَّوَاتِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَبِعَدَمِ ظُهُورِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي الْمُشَاهَدَةِ مِنْ حَيْثُ الْأَحْكَامُ وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ضَرُورِيَّةٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْعُقَلَاءُ إنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ هَذَا عَنْ عَدَمِ مَحْضٍ أَوْ عَنْ كَوْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَبِهِ يَسْقُطُ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَوْ كَانَ التَّغَيُّرُ مُشَاهَدًا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ عَنْ كَوْنٍ وَقَدْ ذَكَرَ مُنْلَا جَامِي فِي الدُّرَّةِ الْفَاخِرَةِ بُرْهَانًا لَطِيفًا مُخْتَصَرًا فَقَالَ إنَّ فِي الْوُجُودِ وَاجِبًا، وَإِلَّا لَزِمَ انْحِصَارُ الْمَوْجُودِ فِي الْمُمْكِنِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ أَصْلًا فَإِنَّ الْمُمْكِنَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّدًا لَا يَسْتَقِلُّ بِوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا فِي إيجَادِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْإِيجَادِ بَعْدَ مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ فَإِذَنْ لَا وُجُودَ وَلَا إيجَادَ فَلَا مَوْجُودَ لَا بِذَاتِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَإِذَنْ ثَبَتَ وُجُودُ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ بَعْدِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الدَّوَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ. قَالَ: وَأَمَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَهُوَ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ، وَيَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ وَلَمَّا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ اصْطَلَحُوا عَلَى إطْلَاقِ الْحُدُوثِ عَلَى الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالذَّاتِ بِالْعَدَمِ بِمَعْنَى أَنَّ كَوْنَهُ مَسْبُوقًا بِوُجُودِ الْفَاعِلِ سَبَقًا ذَاتِيًّا يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ عَدَمِهِ عَلَى وُجُودِهِ بِالذَّاتِ (قَوْلُهُ: ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ إلَخْ) يُحْتَمَلُ أَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَا جِهَةُ النِّسْبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا قَابَلَ النَّظَرَ أَيْ أَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ ضَرُورِيٌّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ فِي الْجُمْلَةِ خَلَا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ جَهَلَةِ الْفَلَاسِفَةِ زَعَمَتْ أَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ بِغَيْرِ فَاعِلٍ وَهُوَ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ قَالَ الْفَخْرُ فِي الْمَعَالِمِ إنَّ الْعِلْمَ بِهَا أَعْنِي بِقَضِيَّةِ أَنَّ كُلَّ حَادِثٍ لَهُ مُحْدِثٌ مَرْكُوزٌ فِي فِطْرَةِ طَبْعِ الصِّبْيَانِ فَإِنَّك إذَا لَطَمْت وَجْهَ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاك وَقُلْت لَهُ حَصَلَتْ هَذِهِ اللَّطْمَةُ مِنْ غَيْرِ فَاعِلٍ لَا يُصَدِّقُك أَلْبَتَّةَ بَلْ فِي فِطْرَةٍ إلَيْهَا ثُمَّ فَإِنَّ الْحِمَارَ وَإِذَا أَحَسَّ بِصَوْتِ خَشَبَةٍ فَزِعَ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي فِطْرَتِهِ أَنَّ حُصُولَ صَوْتِ الْخَشَبَةِ بِدُونِ الْخَشَبَةِ مُحَالٌ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ) لَوْ قَالَ وَهُوَ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ لَكَانَ أَحْسَنَ إذْ الْإِلَهُ كُلِّيٌّ فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالْوَاحِدِ لَهُ فَائِدَةٌ (قَوْلُهُ: إذْ لَوْ جَازَ كَوْنُهُ إلَخْ) اسْتَدَلَّ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ دُونَ السَّمْعِيِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] جَرْيًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ إلَّا بِالْعَقْلِ وَقِيلَ يَصِحُّ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَعَلَى الْأَوَّلِ

ص: 447

لَجَازَ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا وَالْآخَرُ ضِدَّهُ الَّذِي لَا ضِدَّ لَهُ غَيْرُهُ كَحَرَكَةِ زَيْدٍ وَسُكُونِهِ فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ الْمُرَادَيْنِ وَعَدَمُ وُقُوعِهِمَا لِامْتِنَاعِ ارْتِفَاعِ الضِّدَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَاجْتِمَاعِهِمَا فَيَتَعَيَّنُ وُقُوعُ أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ مُرِيدُهُ هُوَ الْإِلَهُ دُونَ الْآخَرِ لِعَجْزِهِ فَلَا يَكُونُ الْإِلَهُ إلَّا وَاحِدٌ أَوْ إطْلَاقُ الْمُتَكَلِّمِينَ اسْمَ الصَّانِعِ عَلَيْهِ تَعَالَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] .

(وَالْوَاحِدُ الشَّيْءُ الَّذِي

ــ

[حاشية العطار]

جَرَى السَّنُوسِيُّ فِي كُبْرَاهُ وَكَلَامُ الْخَيَالِيِّ فِي حَوَاشِي الْعَقَائِدِ يَمِيلُ إلَى الثَّانِي، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أَدِلَّةَ الْعَقَائِدِ مِنْهَا مَا هُوَ عَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَأَدِلَّةِ الصِّفَاتِ التَّأْثِيرِ وَمَا هُوَ سَمْعِيٌّ كَأَحْوَالِ الْمَعَادِ وَمِنْهَا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ كَالْوَحْدَانِيَّةِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِنَادِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ إلَى الشَّرْعِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَمَيَّزْ عِلْمُ الْكَلَامِ عَنْ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ الْفَلَاسِفَةُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الْخَيَالِيُّ إنَّ الْأَحْكَامَ الِاعْتِقَادِيَّةَ إنَّمَا يُعْتَدُّ بِهَا إذَا أُخِذَتْ مِنْ الشَّرْعِ وَالْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ جَعَلَ الْآيَةَ أَعْنِيَ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] حُجَّةً إقْنَاعِيَّةً قَالَ: لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ عَادِيَةٌ عَلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْخِطَابِيَّاتِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِوُجُودِ التَّمَانُعِ وَالتَّغَالُبِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْحَاكِمِ عَلَى مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] وَإِلَّا فَإِنْ أُرِيدَ الْفَسَادُ بِالْفِعْلِ أَيْ خُرُوجُهُمَا عَنْ هَذَا النِّظَامِ الْمُشَاهَدِ فَمُجَرَّدُ التَّعَدُّدِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ لِجَوَازِ الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ، وَإِنْ أُرِيدَ إمْكَانُ الْفَسَادِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى انْتِفَائِهِ بَلْ النُّصُوصُ شَاهِدَةٌ بِطَيِّ السَّمَاوَاتِ رُفِعَ هَذَا النِّظَامُ فَيَكُونُ مُمْكِنًا لَا مَحَالَةَ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِيهِ إنَّهُ تَعْيِيبٌ لِبَرَاهِينِ الْقُرْآنِ وَهُوَ كُفْرٌ.

وَأَجَابَ بَعْضُ مَنْ انْتَصَرَ لَهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ يَحْتَوِي عَلَى الْأَدِلَّةِ الْإِقْنَاعِيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ مِنْ الْبَلَاغَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَم أَنَّ مَبْحَث الْوَحْدَانِيَّةِ أَشْرَفُ مَبَاحِثِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ فَقِيلَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَقَدْ كَثُرَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَرَمَزَ إلَيْهِ الْعَارِفُونَ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ سَيِّدِي عَلِيٌّ وَفَا

وَحَّدْت عَبْدَك فِي الْهَوَى يَا سَيِّدِي

وَأَرَى الْعَبِيدَ تُوَحِّدُ السَّادَاتِ

إنْ شِئْت عِدْنِي بِالْوِصَالِ وَلَا تَفِي

أَوْ شِئْت وَاصِلْنِي مَدَى السَّاعَاتِ

فَمَنْ اسْتَقَرَّ عَلَى شُهُودٍ وَاحِدٍ

لَمْ يَلْتَفِتْ يَوْمًا إلَى مِيقَاتِ

وَحَيَاةِ وَجْهِك قَدْ مَلَأْت جَوَانِحِي

وَعَمَّرْت مِنِّي سَائِرَ الذَّرَّاتِ

وَحَجَبْت عَنِّي الْغَيْرَ حِينَ ظَهَرْت لِي

فَكَأَنَّمَا الْخَلَوَاتُ فِي الْجَلَوَاتِ

حَضَرَ الْحَبِيبُ فَلَسْت أَذْكُرُ فَائِتًا

أَبَدًا وَلَا أَلْهُو بِمَا هُوَ آتِ

وَقَدْ نَقَلَ الشَّاوِيُّ فِي حَاشِيَةِ الصُّغْرَى عَنْ البيلِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ عَرَفَةَ الْفِقْهِيِّ أَنَّ التَّوْحِيد مَصْدَرُ وَحَّدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ يُوَحِّدُهُ تَوْحِيدًا فَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَادِثٌ، وَالتَّوَحُّدُ مَصْدَرُ تَوَحَّدَ اللَّهُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ يَتَوَحَّدُ تَوَحُّدًا بِمَعْنَى اتَّصَفَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فَهُوَ قَدِيمٌ فَالتَّوْحِيدُ كَالتَّقْدِيسِ حَادِثٌ وَالتَّوَحُّدُ كَالتَّقَدُّسِ قَدِيمٌ اهـ.

(قَوْلُهُ: لَجَازَ أَنْ يُرِيدَ إلَخْ) لَا يُقَالُ يَلْزَمُ هَذَا التَّمَانُعُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى كَلَامِ الْقَدَرِيَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْكُفْرُ إثْبَاتُ شَرِيكٍ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِبَادَةِ لَا فِي تَأْثِيرٍ مَا فَالْقَدَرِيَّةُ وَإِنْ قَالُوا الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ إقْدَارَهُ عَلَيْهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يُقَالُ أَنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَلْ أَسْوَأُ حَالًا إذْ الْمَجُوسُ قَالُوا بِمُؤَثِّرَيْنِ وَهَؤُلَاءِ يُثْبِتُوا مَا لَا حَصْرَ لَهُ مِنْ الْمُؤَثِّرِينَ فَخُرِّجَ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ لِلزَّجْرِ.

(قَوْلُهُ: كَحَرَكَةِ زَيْدٍ وَسُكُونِهِ) أَيْ بِأَنْ تَتَعَلَّقَ إرَادَتُهُمَا مَعًا بِإِيجَادِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَا بِدْعَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا إذْ لَا تَضَادَّ بَيْنَهُمَا بَلْ بَيْنَ الْمُرَادَيْنِ اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: دُونَ الْآخَرِ) أَيْ فَلَيْسَ إلَهٌ وَمَا يُقَالُ زِيَادَةً عَلَى مَا هُنَا وَمَا جَازَ عَلَى أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ جَازَ عَلَى الْآخَرِ فَيَلْزَمُ عَجْزُ الثَّانِي أَيْضًا فَيُؤَدِّي إلَى عَدَمِ الْإِلَهِ الْمُؤَدِّي إلَى عَدَمِ الْعَالَمِ الْمُشَاهَدِ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ (قَوْلُهُ: مَأْخُوذٌ إلَخْ) بِنَاءً عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِوُرُودِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ عَلَى أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ

ص: 448

لَا يَنْقَسِمُ) بِوَجْهٍ (وَلَا يُشَبَّهُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ أَيْ لَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ شَبَهٌ (بِوَجْهٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدِيمٌ) أَيْ (لَا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ) وَلَا انْتِهَاءَ إذْ لَوْ كَانَ حَادِثًا لَاحْتَاجَ إلَى مُحْدِثٍ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ (حَقِيقَتُهُ) تَعَالَى (مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الْحَقَائِقِ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ لَيْسَتْ مَعْلُومَةً الْآنَ) أَيْ فِي الدُّنْيَا لِلنَّاسِ، وَقَالَ كَثِيرٌ إنَّهَا مَعْلُومَةٌ لَهُمْ الْآنَ لِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالْعِلْمِ بِوَحْدَانِيِّتِهِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَتِهِ.

وَأُجِيبَ بِمَنْعِ التَّوَقُّفِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ بِالْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ بِوَجْهٍ وَهُوَ تَعَالَى يُعْلِمُ بِصِفَاتِهِ كَمَا أَجَابَ بِهَا مُوسَى عليه الصلاة والسلام فِرْعَوْنَ السَّائِلَ عَنْهُ تَعَالَى كَمَا قَصَّ عَلَيْنَا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] إلَخْ (وَاخْتَلَفُوا) أَيْ الْمُحَقِّقُونَ (هَلْ يُمْكِنُ عِلْمُهَا فِي الْآخِرَةِ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ لِحُصُولِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي وَبَعْضُهُمْ لَا، وَالرُّؤْيَةُ لَا تُفِيدُ الْحَقِيقَةَ.

(لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ)

ــ

[حاشية العطار]

رَوَى أَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الصَّانِعَ لَمْ يَرِدْ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فَرْقًا بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَإِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى مَفْهُومٍ كُلِّيٍّ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَا هُنَا ثُمَّ إنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِطْلَاقِ التَّوَاتُرُ كَمَا قَالَهُ الْمُقْتَرَحُ.

وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَمَلِيَّةٌ لَا اعْتِقَادِيَّةٌ وَخَبَرُ الْآحَادِ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ.

(قَوْلُهُ: لَا يَنْقَسِمُ بِوَجْهٍ) أَيْ لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْوَهْمِ وَلَا بِالْغَرَضِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ وَنَفْيُ الِانْقِسَامِ نَفْيٌ لِلْكَمِّ الْمُتَّصِلِ، وَقَوْلُهُ وَلَا يُشْبِهُ إلَخْ نَفْيٌ لِلْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ فَالْكُمُّ الْمُتَّصِلُ هُوَ الْمِقْدَارُ وَالْكُمُّ الْمُنْفَصِلُ هُوَ الْعَدَدُ فَالْمَعْنَى أَنَّ التَّرْكِيبَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الْأَجْزَاءِ وَالْعَدَدَ الْحَاصِلَ بِفَرْضِ نَظِيرٍ مَنْفِيَّانِ عَنْهُ سبحانه وتعالى فَقَوْلُهُمْ لِنَفْيِ الْكَمِّ أَيْ لِنَفْيِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْكَمُّ فَتَأَمَّلْهُ (قَوْلُهُ: أَيْ لَا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ) جَرَى عَلَى مَا هُوَ التَّحْقِيقُ مِنْ أَنَّ مَفْهُومَ الْقِدَمِ كَالْبَقَاءِ سَلْبِيٌّ وَعَلَيْهِ الْمُقْتَرَحُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ، وَقَالَ الشَّرِيفُ زَكَرِيَّا وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ آخِرًا وَقَرَّرَهُ بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إمَّا حَادِثٌ وَإِمَّا قَدِيمٌ فَالْحَادِثُ مَا لَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ مَا سَبَقَ عَدَمُهُ وُجُودَهُ، وَالْقَدِيمُ مَا لَا أَوَّلَ لَهُ وَهُوَ سَلْبُ مَا وَجَبَ لِلْحَادِثِ فَالْقِدَمُ إذَنْ نَفْيُ الْأَوَّلِيَّةِ وَنَفْيُ الْأَوَّلِيَّةِ سَلْبٌ مَحْضٌ، وَكَذَا قَالَ فِي الْبَقَاءِ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ دَوَامِ الْوُجُودِ عَلَى وَجْهٍ يَنْتَفِي مِنْهُ الْعَدَمُ اللَّاحِقُ وَهَذَا مُخْتَارُنَا اهـ.

(قَوْلُهُ: وَلَا انْتِهَاءَ) تَفْسِيرٌ لِلْقَدِيمِ بِاللَّازِمِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَفْهُومُ الْبَقَاءِ وَلَمَّا كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ أُخِذَ فِي أَحَدِهِمَا تَفْسِيرُ صَاحِبِهِ، وَقَوْلُهُ إذْ لَوْ كَانَ حَادِثًا إلَخْ تَعْلِيلٌ لِلِابْتِدَاءِ لِوُجُودِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا انْتِهَاءَ فَتَرْكُهُ قِدَمَهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ.

قَالَ الْعَكَّاوِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْكُبْرَى اتَّفَقَتْ الْعُقَلَاءُ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَأُورِدَ عَدَمُنَا فِي الْأَزَلِ وَأُجِيبَ بِتَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالْمَوْجُودَاتِ فَإِنْ قُلْت عَدَمُنَا فِي الْأَزَلِ وَاجِبٌ كَعَدَمِ الْمُسْتَحِيلِ فَلِمَ جَازَ انْقِطَاعُهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ وُجُوبَ عَدَمِنَا مُقَيَّدٌ بِالْأَزَلِ فَهُوَ مُمْكِنٌ فِيمَا يُزَالُ، وَأَمَّا عَدَمُ الْمُسْتَحِيلِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَالَ الْفِهْرِيُّ إنَّ الْإِيرَادَ مِنْ أَصْلِهِ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ وُجُودَنَا قَطَعَ عَدَمَنَا فِيمَا لَا يَزَالُ لَا فِي الْأَزَلِ، وَإِلَّا لَوُجِدْنَا فِي الْأَزَلِ وَهُوَ مُحَالٌ (قَوْلُهُ: حَقِيقَتُهُ تَعَالَى) ذَكَرَهَا لِلْمُشَاكَلَةِ وَإِلَّا فَقَدْ مَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا فِي اللَّهِ (قَوْلُهُ: وَبَعْضُهُمْ لَا) وَهُوَ الصَّحِيحُ وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ إنْ سَأَلَنَا سَائِلٌ عَنْ اللَّهِ مَا هُوَ قُلْنَا إنْ أَرَادَ مَا اسْمُهُ فَاَللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَإِنْ أَرَادَ مَا صِفَتُهُ فَسَمِيعٌ بَصِيرٌ وَإِنْ أَرَادَ مَا فِعْلُهُ فَخَلْقُ الْمَخْلُوقَاتِ وَوَضْعُ كُلِّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ وَإِنْ أَرَادَ كُنْهَهُ فَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ الْمِثَالِ وَالْجِنْسِ اهـ.

اللَّهُ أَعْظَمُ قَدْرًا أَنْ يُحِيطَ بِهِ

عِلْمٌ وَعَقْلٌ وَرُؤًى جَلَّ سُلْطَانَا

(قَوْلُهُ: وَالرُّؤْيَةُ لَا تُفِيدُ الْحَقِيقَةَ) فَإِنَّهَا عَلَى خِلَافِ الرُّؤْيَةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الدُّنْيَا إذْ هِيَ بِلَا كَيْفٍ وَلَا جِهَةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي قَالَ الدَّوَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: وَأَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُنْهِ فَغَيْرُ وَاقِعَةٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِامْتِنَاعِهَا كَحُجَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَلَمْ أَطَّلِعْ عَلَى دَلِيلٍ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ سِوَى مَا قَالَ أَرِسْطُو فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ كَمَا تَعْتَرِي الْعَيْنَ عِنْد التَّحَقُّقِ فِي جُرْمِ الشَّمْسِ ظُلْمَةٌ وَكُدْرَةٌ تَمْنَعُهَا عَنْ تَمَامِ الْإِبْصَارِ كَذَلِكَ تَعْتَرِي الْعَقْلَ عِنْدَ إرَادَةِ اكْتِنَاهِ ذَاتِهِ تَعَالَى حِيرَةً وَدَهْشَةً تَمْنَعُهُ عَنْ اكْتِنَاهِهِ وَهُوَ كَمَا تَرَى

ص: 449

لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْحُدُوثِ وَهَذِهِ حَادِثَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَقْسَامُ الْعَالَمِ إذْ هُوَ إمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي الْعَرَضُ وَالْأَوَّلُ وَيُسَمَّى بِالْعَيْنِ وَهُوَ مَحَلُّ الثَّانِي الْمُقَوِّمِ لَهُ إمَّا مُرَكَّبٌ وَهُوَ الْجِسْمُ أَوْ غَيْرُ مُرَكَّبٍ وَهُوَ الْجَوْهَرُ، وَقَدْ يُقَيَّدُ بِالْفَرْدِ (وَلَمْ يَزَلْ وَحْدَهُ وَلَا مَكَانَ وَلَا زَمَانَ وَلَا قُطْرَ وَلَا أَوَانَ) هَذَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إذْ الْقُطْرُ مَكَانٌ مَخْصُوصٌ كَالْبَلَدِ وَالْأَوَانُ زَمَانٌ مَخْصُوصٌ كَزَمَانِ الزَّرْعِ وَالدَّاعِي إلَى الْعَطْفِ الْخَطَابَةُ فِي التَّنْزِيهِ أَيْ هُوَ مَوْجُودٌ وَحْدَهُ قَبْلَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُمَا.

(ثُمَّ

ــ

[حاشية العطار]

كَلَامٌ خَطَابِيٌّ بَلْ شِعْرِيٌّ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى امْتِنَاعِهَا بِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَعَالَى لَيْسَتْ بَدِيهِيَّةً وَالرَّسْمُ لَا يُفِيدُ الْكُنْهَ وَالْحَدُّ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّهُ بَسْطٌ وَوَجْهُ ضَعْفِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْبَسَاطَةَ الْعَقْلِيَّةَ مُحْتَاجَةٌ إلَى الْبُرْهَانِ وَعَدَمُ إفَادَةِ الرَّسْمِ الْكُنْهَ لَيْسَ كُلِّيًّا إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ إفَادَتِهِ الْكُنْهَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَادِّ وَعَدَمُ الْبَدَاهَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ مُحْتَاجٌ إلَى دَلِيلٍ فَرُبَّمَا يَحْصُلُ بِالْبَدِيهَةِ بَعْدَ تَهْذِيبِ النَّفْسِ بِالشَّرَائِعِ الْحَقَّةِ وَتَجْرِيدِهَا عَنْ الْكُدُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَلَائِقِ الْجِسْمَانِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ حُصُولِهَا كَثِيرَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «سُبْحَانَك مَا عَرَفْنَاك حَقَّ مَعْرِفَتِك» وَقَوْلُهُ «تَفَكَّرُوا فِي آلَائِهِ تَعَالَى وَلَا تَفَكَّرُوا فِي ذَاتِهِ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَقْدِرُوا قَدْرَهُ» . اهـ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ إلَخْ) فِيهِ قِيَاسٌ مِنْ الشَّكْلِ الثَّانِي هَكَذَا الْجَوَاهِرُ وَالْأَعْرَاضُ حَادِثَةٌ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْإِلَهِ بِحَادِثٍ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ بِإِلَهٍ وَيَنْعَكِسُ إلَى لَا شَيْءَ مِنْ الْإِلَهِ بِجَوَاهِرَ أَوْ أَعْرَاضٍ (قَوْلُهُ: الْمُقَوِّمُ لَهُ) أَيْ لِلثَّانِي الَّذِي هُوَ الْعَرَضُ يَعْنِي أَنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ الْمَحَلُّ مُقَوِّمٌ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ لِلْعَرَضِ أَيْ أَنَّ وُجُودَ الْجَوْهَرِ هُوَ بِعَيْنِهِ وُجُودُ الْعَرَضِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ حُلُولِ الصُّورَةِ الْجِسْمِيَّةِ فِي الْهَيُولَى عَلَى مَا تَزْعُمُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ تَرَكُّبِ الْجِسْمِ مِنْهُمَا وَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جَوْهَرٌ فَإِنَّ الصُّورَةَ الْجِسْمِيَّةَ عِنْدَهُمْ مُقَوِّمَةٌ لِلْهَيُولَى بِمَعْنَى احْتِيَاجِ الْهَيُولَى إلَيْهَا فِي التَّحَقُّقِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا مُحْتَاجَةً إلَيْهَا فِي الْحُلُولِ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي حَوَاشِي مَقُولَاتِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ السِّجَاعِيِّ (قَوْلُهُ: وَقَدْ يُقَيَّدُ بِالْفَرْدِ) أَيْ فَيُقَالُ جَوْهَرٌ فَرْدِيٌّ أَيْ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْقِسْمَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَنَفَاهُ الْحُكَمَاءُ وَلِكُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ أَدِلَّةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا (قَوْلُهُ: لَمْ يَزَلْ وَحْدَهُ) أَيْ مُنْفَرِدًا مُتَوَحِّدًا وَفِي الْيَوَاقِيتِ نَقْلًا عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ مَنْ أَدْرَجَ فِي حَدِيثِ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ مَا نَصُّهُ وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ قَالَ تَعَالَى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31]{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل: 40] الْآيَةَ وَشَنَّعَ عَلَى ذَلِكَ وَلَحْنِ التَّعْبِيرِ بِالْآنَ قَالَ وَأَمَّا كَانَ فَانْسَلَخَتْ هُنَا عَنْ الزَّمَانِ اهـ. مُلَخَّصًا.

وَهُوَ مَقَامٌ لِلشَّيْخِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ هَذَا الْقَائِلِ عَلَى حَالِ وِحْدَةِ الْوُجُودِ أَلَا تَرَى قَوْلَ بَعْضِهِمْ الْأَعْيَانُ الثَّابِتَةُ مَا شَمَّتْ رَائِحَةَ الْوُجُودِ

مَنْ لَا وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ

فَوُجُودُهُ لَوْلَاهُ عَيْنُ مُحَالٍ

قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ الْعُلُومِ الْمُمْكِنُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ هَالِكٌ دَائِمًا، وَقَالَ فِي مِشْكَاةِ الْأَوَارْتَرَقِّي الْعَارِفُونَ مِنْ حَضِيضِ الْمَجَازِ إلَى ذُرْوَةِ الْحَقِيقَةِ فَرَأَوْا بِالْمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ هَالِكًا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ بَلْ هُوَ هَالِكٌ أَزَلًا وَأَبَدًا اهـ.

وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ إشَارَاتِ وِحْدَةِ الْوُجُودِ قَوْله تَعَالَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] إلَى قَوْلِهِ {مُحِيطٌ} [فصلت: 54] وَثَمَّ مَجَالٌ عَظِيمٌ جَالَتْ فِيهِ جِيَادُ أَفْكَارِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَارِفِينَ حَتَّى أَنَّ الْجَلَالَ الدَّوَانِيَّ مَعَ رُسُوخِ قَدَمِهِ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَالسَّيِّدَ الشَّرِيفَ الْجُرْجَانِيَّ عَرَّجَا عَلَى مَا عَرَّجَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَذَكَرَهَا الْأَوَّلُ فِي رِسَالَتِهِ الزَّوْرَاءِ وَالثَّانِي فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْأَصْفَهَانِيِّ عَلَى التَّجْرِيدِ رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ وَفِي الْيَوَاقِيتِ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنْ الْفُتُوحَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْحَقَّ تَعَالَى مُفْتَقِرٌ فِي ظُهُورِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ إلَى وُجُودِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّ لَهُ الْغِنَى عَلَى الْإِطْلَاقِ اهـ.

إلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ إنَّ الْأَشْيَاءَ فِي حَالِ عَدَمِهَا كَانَتْ مَشْهُودَةً لَهُ تَعَالَى كَمَا هِيَ مَشْهُودَةٌ لَهُ حَالَ وُجُودِهَا سَوَاءٌ فَهُوَ يُدْرِكُهَا سُبْحَانَهُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي حَقَائِقِهَا حَالَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا بِإِدْرَاكٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ إيجَادُهُ لِلْأَشْيَاءِ عَنْ فَقْرٍ

ص: 450

أَحْدَثَ هَذَا الْعَالَمَ)

ــ

[حاشية العطار]

بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْحَقَّ تَعَالَى وَلَوْ أَعْطَاهُ حَرْفَ كُنْ وَأَرَادَ شَيْئًا مَا طَلَبَ إلَّا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ لِيَكُونَ عِنْدَهُ فَافْتَرَقَ الْأَمْرَانِ وَأَنْشَدَ

الْكُلُّ مُفْتَقِرٌ مَا الْكُلُّ مُسْتَغْنِي

هَذَا هُوَ الْحَقُّ قَدْ قُلْنَا وَلَا نَكْنِي

إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا تَفَضَّلَ بِالْمَظَاهِرِ لِحِكْمَةٍ تَعُودُ عَلَى الْعَالَمِ فِي تَعَرُّفِهِمْ.

وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ عَرَفْت اللَّهَ بِاَللَّهِ وَمَا ثَمَّ إلَّا اللَّهَ وَفِعْلَهُ لَكِنْ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْوِحْدَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ عَلَى خَطَرٍ، وَفِيهَا أَيْضًا مَا نَصُّهُ قَالَ فِي لَوَاقِحِ الْأَنْوَارِ مِنْ كَمَالِ الْعِرْفَانِ شُهُودُ عَبْدٍ وَرَبٍّ وَكُلُّ عَارِفٍ نَفَى شُهُودَ الْعَبْدِ فِي وَقْتٍ مَا فَلَيْسَ هُوَ بِعَارِفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَاحِبُ حَالٍ وَصَاحِبُ الْحَالِ سَكْرَانُ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ، وَقَالَ فِي بَابِ الْأَسْرَارِ لَا يَتْرُكُ الْأَغْيَارُ إلَّا الْأَغْيَارَ فَلَوْ تَرَكَ تَعَالَى الْخَلْقَ مَنْ كَانَ يَحْفَظُهُمْ وَيَلْحَظُهُمْ لَوْ تُرِكَتْ الْأَغْيَارُ لَتُرِكَتْ التَّكَالِيفُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ وَمَنْ تَرَكَ التَّكَالِيفَ كَانَ مُعَانِدًا عَاصِيًا أَوْ جَاحِدًا فَمِنْ كَمَالِ التَّخَلُّقِ بِأَسْمَاءِ الْحَقِّ الِاشْتِغَالُ بِاَللَّهِ وَبِالْخَلْقِ. (قَوْلُهُ: الْخَطَابَةُ) أَيْ الْإِطْنَابُ وَالْمُبَالَغَةُ (قَوْلُهُ: قَبْلَ الْمَكَانِ) قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ فِي الْأَرْبَعِينَ وَاجِبُ الْوُجُودِ سَابِقٌ عَلَى الْعَالَمِ بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ إذْ لَوْلَاهُ لَمَا وُجِدَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ مَعَهُ بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ قَبْلَ وَمَعَ بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ جَمِيعًا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَهُوَ إذْنٌ مُتَأَخِّرُ الْوُجُودِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِالزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ زَمَانِيًّا؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا مَعَ مِنْ جُمْلَةِ الْإِضَافَاتِ كَالْأُخُوَّةِ وَالنُّبُوَّةِ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ مَعَ الثَّانِي بِالزَّمَانِ كَانَ الثَّانِي مَعَهُ بِالزَّمَانِ أَيْضًا بَلْ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ ثَبَتَتْ الْمَعِيَّةُ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَجَبَ عَلَيْك أَنْ تُثْبِتَهَا فِي الشَّيْءِ الثَّانِي، فَظَهَرَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَجَائِزَ الْوُجُودِ لَا يَكُونَانِ مَعًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَاعْتِبَارٍ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ، وَصَحَّ قَوْلُنَا كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ.

(قَوْلُهُ: ثُمَّ أَحْدَثَ إلَخْ) ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الْإِخْبَارِيِّ أَوْ الْوُجُودِيِّ إذْ وُجُودُ الْخَالِقِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِ الْمَخْلُوقِ. قَالَ سَيِّدِي يَحْيَى الشَّاوِيُّ فَإِنْ قُلْت مَا مَعْنَى سَبْقُ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَمِنْ أَيِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ التَّقَدُّمِ وَكَمْ أَقْسَامُ التَّقَدُّمِ؟ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَعْبَةٌ عَلَى مَا اعْتَادَهُ الْوَهْمُ فِي التَّقَدُّمِ قُلْت هَذِهِ مَسْأَلَةٌ غَرِقَتْ فِيهَا سُفُنُ الْفَهْمِ وَالْوَهْمِ فَإِنْ فَازَتْ سَفِينَتُك هُنَا فُزْت بِقَصَبِ السَّبْقِ.

فَأَقُولُ وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ فَإِذَنْ نَقُولُ إنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ الزَّمَانِيَّ يَجِبُ نَفْيُهُمَا عَنْ الْبَارِي وَكَمَا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْعَالَمِ زَمَانًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ زَمَانًا فَإِنَّا كَمَا نَفَيْنَا التَّقَدُّمَ الزَّمَانِيَّ نَفَيْنَا الْمَعِيَّةَ فَخَلِّصْ سَفِينَتَك مِنْ هَذِهِ اللُّجَّةِ فَإِنَّ مَا لَا يَقْبَلُ الزَّمَانِيَّ، وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مَكَانِيًّا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَالْمَعِيَّةُ الزَّمَانِيَّةُ كَمَا أَنَّ مَا لَا يَقْبَلُ الْمَكَانَ وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مَكَانِيًّا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ الْمَكَانِيُّ، ثُمَّ قَالَ فَوَاجِبُ الْوُجُودِ سَابِقٌ عَلَى الْعَالَمِ بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ إلَخْ وَقَدْ لُخِّصَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ لِلْفَخْرِ الرَّازِيّ رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ انْتَهَى وَلَمَّا افْتَتَحَ الْعَلَّامَةُ الْغُنَيْمِيُّ حَاشِيَتَهُ عَلَى شَرْحِ السَّنُوسِيِّ لِصُغْرَاهُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَدِيمِ بِالذَّاتِ وَالزَّمَانِ شَنَّعَ عَلَيْهِ بَعْضُ مُعَاصِرِيهِ مِنْ الْمَغَارِبَةِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الزَّمَانِ بِمَعْزِلٍ وَتَكَلَّفَ بَعْضٌ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ وَالْحَقُّ مَعَ الْمُعْتَرِضِ (قَوْلُهُ: أَحْدَثَ هَذَا الْعَالَمَ إلَخْ) قَالَ الْفَلَاسِفَةُ لَوْ كَانَ حَادِثًا لَكَانَ وُجُودُ الصَّانِعِ سَابِقًا عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَكَانَ حَادِثًا مِثْلَهُ فَإِمَّا بِغَيْرِ مُدَّةٍ وَهُوَ تَنَاقُضٌ أَوْ بِمُدَّةٍ مُتَنَاهِيَةٍ فَيَلْزَمُ ابْتِدَاؤُهُ أَوْ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ قِدَمِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ حِينَئِذٍ عَالَمٌ قَدِيمٌ أَوْ فِيهَا عَالَمٌ قَدِيمٌ.

وَأَجَابَ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي نِهَايَةِ الْإِقْدَامِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا جَاءَهُمْ مِنْ جَعْلِ التَّقَدُّمِ زَمَانِيًّا، وَنَحْنُ نَقُولُ هُوَ تَقَدُّمٌ ذَاتِيٌّ لَا فِي زَمَنٍ وَيُقِرُّ بِهِ تَقَدُّمُ أَمْسِ عَلَى الْيَوْمِ إذْ لَيْسَ زَمَنٌ ثَالِثٌ يَقَعُ فِيهِ التَّقَدُّمُ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِقَبْلَ اكْتِفَاءً بِالِاعْتِبَارِ فَالزَّمَنُ حَادِثٌ وَوُجُودُ الصَّانِعِ وَوُجُوبُهُ ذَاتِيٌّ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ اهـ.

قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ رَفْعُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يُقَرِّبُ الْأَمْرَ إلَى

ص: 451

الْمُشَاهَدَ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِهَا فِيهِمَا (مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ) إلَيْهِ، (وَلَوْ شَاءَ مَا اخْتَرَعَهُ) فَهُوَ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ لَا بِالذَّاتِ (لَمْ يَحْدُثْ بِابْتِدَاعِهِ فِي ذَاتِهِ حَادِثٌ) فَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ فَهُوَ كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .

ــ

[حاشية العطار]

الْأَذْهَانِ فَرَفْعُهُمَا أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ وَمَنْ دَامَ فِي عُشِّهِمَا اخْتَبَطَ فِي الْجَهْلِ وَتَلَاطَمَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الشُّبَهِ فَظَنَّ الْمَدَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ بِالنِّهَايَةِ أَوْ بِعَدَمِ النِّهَايَةِ، وَالتَّأَخُّرُ وَالتَّقَدُّمُ وَذَلِكَ كُلُّهُ يُفْضِي إلَى جَهَالَاتٍ وَقَعَ فِيهَا الْفَلَاسِفَةُ.

(قَوْلُهُ: الْمُشَاهَدُ) أَخَذَهُ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ بِهَذَا، وَالْمُرَادُ الْمُشَاهَدُ بَعْضُهُ إذْ فِيهِ مَا لَمْ تُشَاهِدْهُ وَقَدْ أَثْبَتَ بَعْضُ الْمُتَأَهِّلِينَ مِنْ الْحُكَمَاءِ وَوَافَقَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ عَالَمًا يُسَمَّى عَالَمُ الْمِثَالِ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ عَالَمَيْ الْمَحْسُوسِ وَالْمَعْقُولِ لَيْسَ فِي تَجَرُّدِ الْمُجَرَّدَاتِ وَلَا فِي مُخَالَطَةِ الْمَادِّيَّاتِ، وَفِيهِ لِكُلِّ مَوْجُودٍ مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ وَالْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ حَتَّى الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْأَوْضَاعِ وَالْهَيْئَاتِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ مِثَالٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ مُعَلَّقٌ لَا فِي مَادَّةٍ وَمَحَلٍّ يَظْهَرُ لِلْحِسِّ بِمَعُونَةِ مَظْهَرٍ كَالْمِرْآةِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ يُنْتَقَلُ مِنْ مَظْهَرٍ إلَى مَظْهَرٍ، وَقَدْ يَبْطُلُ كَمَا إذَا فَسَدَتْ الْمِرْآةُ أَوْ الْخَيَالُ أَوْ زَالَتْ الْمُقَابَلَةُ أَوْ التَّخَيُّلُ وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ عَالَمٌ عَظِيمُ الْفُسْحَةِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ يَحْذُو حَذْوَ الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ لَا تَتَنَاهَى عَجَائِبُهُ وَلَا تُحْصَى مُدَّتُهُ وَمِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمُدُنِ جَابَلْقَا وَجَابَرْصَا وَهُمَا مَدِينَتَانِ عَظِيمَتَانِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَلْفُ بَابٍ لَا يُحْصَى مَا فِيهِمَا مِنْ الْخَلَائِقِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا يُرَى فِي الْمَنَامِ أَوْ يُتَخَيَّلُ فِي الْيَقَظَةِ بَلْ يُشَاهَدُ فِي الْأَمْرَاضِ وَعِنْدَ غَلَبَةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الْمِقْدَارِيَّةِ الَّتِي لَا تَحَقُّقَ لَهَا فِي عَالَمِ الْحِسِّ كُلِّهَا مِنْ عَالَمِ الْمِثَالِ، وَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْغَرَائِبِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ كَمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ مَعَ إقَامَتِهِ بِبَلَدِهِ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيَّامَ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْ بَعْضِ جُدْرَانِ الْبَيْتِ أَوْ خَرَجَ مِنْ بَيْتٍ مَسْدُودِ الْأَبْوَابِ وَالْكَوَّاتِ، وَأَنَّهُ أَحْضَرَ بَعْضَ الْأَشْخَاصِ أَوْ الثِّمَارِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ قَالَ وَلَمَّا كَانَتْ الدَّعْوَى عَالِيَةً وَالشُّبْهَةُ وَاهِيَةً لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْحُكَمَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.

أَقُولُ جَعَلَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ لِلصُّوَرِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْمِرْآةِ مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْعَالَمِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي شَرْحِهِ عَلَى هَيَاكِلِ السُّهْرَوَرْدِيّ وَقَدْ نَقْلنَا عِبَارَتَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (قَوْلُهُ: لَا بِالذَّاتِ) أَيْ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ كَمَا قَالَ الْفَلَاسِفَةُ.

(قَوْلُهُ: حَادِثٌ) أَيْ مِنْ تَعَبٍ وَنَصَبٍ كَمَا قَالَ الْيَهُودُ إنَّهُ ابْتَدَأَ خَلْقَ الْخَلْقِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ أَوْ الْمَعْنَى لَمْ يَحْدُثْ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ بِإِحْدَاثِ الْعَالَمِ وَإِلَّا لَكَانَ إمَّا نَقْصًا وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ كَمَالًا فَيَلْزَمُ النَّقْصُ قَبْلَ حُصُولِهِ فَإِنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ اسْتِوَاءُ الْأُمُورِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِحَيْثُ لَا غَرَضَ لَهُ يَبْعَثُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَإِنَّ هَذَا جَبْرٌ مُنَافٍ لِلِاخْتِيَارِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُنَزَّهٌ عَنْ تَقَلُّبَاتِ الْأَطْوَارِ وَتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَمَا وَرَدَ مُوهِمًا لِذَلِكَ أُوِّلَ بِالْحِكْمَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِعَةِ إلَيْنَا نَحْوُ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أَيْ لِيَسْعَدُوا بِعِبَادَتِي فَإِنَّهَا رَأْسُ النِّعَمِ قَوْلُهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْكَافِ وَمِثْلُ صِلَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ مِثْلُ بِمَعْنَى ذَاتٍ أَوْ صِفَاتٍ، وَقِيلَ إنَّهُ كِنَايَةٌ عَلَى حَدِّ مِثْلُك لَا يَبْخَلُ يُرِيدُونَ أَنْتَ لَا تَبْخَلُ وَقِيلَ بَلْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ هُوَ مَثَلًا لِمِثْلِهِ فَلَا يَصْدُقُ نَفْيُ مِثْلِ الْمِثْلِ إلَّا بِنَفْيِ الْمِثْلِ مِنْ أَصْلِهِ نَظِيرُ لَيْسَ لِأَخِي زَيْدٍ أَخٌ أَيْ لَا أَخَ لِزَيْدٍ قَوْلُهُ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] لَا يُقَالُ إنَّ فِي تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ مَا يُشْعِرُ بِأَفْضَلِيَّتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نَجْتَزِئُ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى بَلْ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ نَعَمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاضُلِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِي الْحَادِثِ وَلَا ثَمَرَةَ فِي ذَلِكَ، وَاتِّحَادُ الدِّيَةِ فِيهِمَا يَقْضِي بِالتَّسَاوِي وَفِي الْيَوَاقِيتِ لِلْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ نَقْلًا عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَسَاوِيَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِرُجُوعِهَا كُلِّهَا إلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ وَقَعَ تَفَاضُلٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَقَالَ الشَّعْرَانِيُّ أَيْضًا كَانَ سَيِّدِي عَلِيٌّ وَفَا يَذْهَبُ إلَى التَّفَاضُلِ فِي الْأَسْمَاءِ وَيَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] هُوَ الِاسْمُ اللَّهُ

ص: 452

(الْقَدَرُ) وَهُوَ مَا يَقَعُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُقَدَّرُ فِي الْأَزَلِ. (خَيْرُهُ وَشَرُّهُ) كَائِنٌ

ــ

[حاشية العطار]

فَإِنَّهُ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا. قَالَ وَنَظِيرُ ذَلِكَ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] أَيْ وَلَذِكْرُ الِاسْمِ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ.

(قَوْلُهُ: الْقَدَرُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مِنْهُ، وَذَكَرَ الشَّارِحُ الْمُتَعَلِّقَ مَعَ كَوْنِهِ كَوْنًا عَامًّا وَاجِبَ الْحَذْفِ لِلْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ شَرَّهُ وَخَيْرَهُ بَدَلٌ مِنْ الْقَدَرِ إلَّا لَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْقَدْرُ مُبْتَدَأٌ أَوَّلُ، وَخَيْرُهُ وَشَرُّهُ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وَمِنْهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ كَائِنَانِ مِنْهُ (قَوْلُهُ: وَهُوَ مَا يَقَعُ إلَخْ) إشَارَةً إلَى أَنَّ الْقَدَرَ بِمَعْنَى الْمَقْدُورِ وَفَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِأَجْلِ قَوْلِهِ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ وَإِلَّا فَالْقَدَرُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ إيجَادُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ قَرِينُ الْقَضَاءِ فِي عِبَارَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَقَضَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ إرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَزَالُ وَقَدَرُهُ إيجَادُهُ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَدَرٍ مَخْصُوصٍ قَالَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْأُجْهُورِيُّ

إرَادَةُ اللَّهِ مَعَ التَّعَلُّقِ

فِي أَزَلٍ قَضَاؤُهُ فَحَقِّقْ

وَالْقَدَرُ الْإِيجَادُ لِلْأَشْيَا عَلَى

وَجْهٍ مُعَيَّنٍ أَرَادَهُ عَلَا

وَبَعْضُهُمْ قَدْ قَالَ مَعْنَى الْأَوَّلِ

الْعِلْمُ مَعَ تَعَلُّقٍ فِي الْأَزَلِ

وَالْقَدَرُ الْإِيجَادُ لِلْأُمُورِ

عَلَى وِفَاقِ عِلْمِهِ الْمَذْكُورِ

(قَوْلُهُ: خَيْرُهُ وَشَرُّهُ) كَوْنُ الْفِعْلِ شَرًّا إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ كَسْبِنَا، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ خَلْقِ اللَّهِ إيَّاهُ فَحَسَنٌ فَكُلُّ مَا صَدَرَ عَنْهُ سبحانه وتعالى فَضْلٌ أَوْ عَدْلٌ فِي عَبِيدِهِ وَلِسَيِّدِي مُحَمَّدٍ وَفَا رضي الله عنه

سَمِعْت اللَّهَ فِي سِرِّي يَقُولُ

أَنَا فِي الْمُلْكِ وَحْدِي لَا أَزُولُ

وَحَيْثُ الْكُلُّ مِنِّي لَا قَبِيحٌ

وَقُبْحُ الْقُبْحِ مِنْ حَيْثِيّ جَمِيلُ

فَالْفِعْلُ لَهُ جِهَتَانِ كَوْنُهُ مَقْضِيًّا لَهُ تَعَالَى وَكَوْنُهُ مُكْتَسَبَ الْعَبْدِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الرِّضَا بِالْقَدَرِ مِنْ الْجِهَةِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ وَلِذَلِكَ قِيلَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ» ، وَأَمَّا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] فَوَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَيْ كَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ التَّفْرِقَةُ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ.

رَوَى الْأَصْبَغُ بْنُ نَبَاتَةَ أَنَّ شَيْخًا قَامَ إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ صِفِّينَ فَقَالَ أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إلَى الشَّامِ أَكَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ فَقَالَ: وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا وَطِئْنَا مَوْطِئًا وَلَا هَبَطْنَا وَادِيًا وَلَا عَلَوْنَا تَلْعَةً إلَّا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ فَقَالَ الشَّيْخُ عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي مَا أَرَى لِي مِنْ الْأَجْرِ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ: مَهْ أَيُّهَا الشَّيْخُ عَظَّمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ فِي مَسِيرِكُمْ وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ وَفِي مُنْصَرَفِكُمْ وَأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِكُمْ مُكْرَهِينَ وَلَا إلَيْهَا مُضْطَرِّينَ فَقَالَ الشَّيْخُ كَيْفَ وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ سَاقَانَا فَقَالَ وَيْحَك لَعَلَّك ظَنَنْت قَضَاءً لَازِمًا وَقَدَرًا حَتْمًا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَلَمْ تَأْتِ لَائِمَةٌ مِنْ اللَّهِ لِمُذْنِبٍ وَلَا مَحْمَدَةٌ لِمُحْسِنٍ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْمَدْحِ مِنْ الْمُسِيءِ وَلَا الْمُسِيءُ أَوْلَى بِالذَّمِّ مِنْ الْمُحْسِنِ تِلْكَ مَقَالَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَجُنُودِ الشَّيْطَانِ وَشُهُودِ الزُّورِ وَأَهْلِ الْعَمَى عَنْ الصَّوَابِ، وَهُمْ قَدَرِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَجُوسُهَا إنَّ اللَّهَ أَمَرَ تَخْيِيرًا وَنَهَى تَحْذِيرًا وَكَلَّفَ يَسِيرًا لَمْ يَعْصِ مَغْلُوبًا وَلَمْ يُطِعْ مُكْرَهًا وَلَمْ يُرْسِلْ الرُّسُلَ إلَى خَلْقِهِ عَبَثًا وَلَمْ يَخْلُقْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ فَقَالَ الشَّيْخُ: وَمَا الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ اللَّذَانِ مَا سِرْنَا إلَّا بِهِمَا؟ قَالَ هُوَ الْأَمْرُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُكْمُ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى

ص: 453

(مِنْهُ) تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَإِرَادَتِهِ.

(عِلْمُهُ شَامِلٌ لِكُلِّ مَعْلُومٍ) أَيْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ مُمْكِنًا كَانَ أَوْ مُمْنَعًا.

ــ

[حاشية العطار]

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . اهـ.

(قَوْلُهُ: مِنْهُ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قُلْت سَيِّدِي وَمَوْلَايَ إذَا كَانَ الْكُلُّ مِنْك وَإِلَيْك كَانَ التَّكْلِيفُ بِمَنْزِلَةِ افْعَلْ يَا مَنْ لَا تَفْعَلْ فَقِيلَ لِي إذَا أَمَرْنَاك بِأَمْرٍ فَاقْبَلْ وَلَا تُحَاقِقْ فَإِنَّ حَضْرَةَ الْأَدَبِ لَا تَسَعُ الْمُخَالَفَةَ فَقُلْت يَا سَيِّدِي هُوَ نَفْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّك إنْ كُنْت قَضَيْت عَلَيَّ بِالْأَدَبِ أَوْ بِالْمُحَاقَّةِ فَلَا خُرُوجَ لِي عَنْ قَضَائِك فَقِيلَ لِي لَنْ نُوجِدَكَ إلَّا عَلَى مَا عَلِمْنَا وَلَا نَعْلَمُك إلَّا عَلَى مَا أَنْتَ وَلَنَا الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَقَالَ أَيْضًا قَدْ غَلَبَ عَلَيَّ شُهُودُ الْجَبْرِ الْبَاطِنِيِّ حَتَّى نَبَّهَنِي تِلْمِيذِي إسْمَاعِيلُ وَقَالَ لِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ أَمْرٌ ظَاهِرِيٌّ مَا صَحَّ كَوْنُهُ خَلِيقَةً وَلَا مُتَخَلِّقًا بِالْأَخْلَاقِ فَدَخَلَ عَلَيَّ بِكَلَامِهِ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَإِرَادَتِهِ.

1 -

(قَوْلُهُ: بِخَلْقِهِ وَإِرَادَتِهِ) وَالْعَبْدُ مَجْبُورٌ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الْأُمُورُ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ قَضَاءٍ وَقَدَرٍ، وَلِذَلِكَ سُمُّوا قَدَرِيَّةً؛ لِأَنَّهُمْ نَفَوْا الْقَدَرَ، وَقَدْ طَالَ النِّزَاعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ فَصَّلَهَا الْفَخْرُ فِي كُتُبِهِ لَا سِيَّمَا الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ وَاقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ مُتَعَارِضَةٌ فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْعَقْلِيَّاتِ وَعُمْدَتُهُ فِي ذَلِكَ دَلِيلُ الدَّاعِي الْمُوجِبُ وَدَلِيلُ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ وَلِذَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَذْكِيَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هُمَا الْعَدُوَّانِ لِلِاعْتِزَالِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَمَّ الدَّسْتُ لَنَا وَقَدْ أَشَارَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ وَكَانَ مُتَغَالِيًا فِي الرَّفْضِ وَالِاعْتِزَالِ إلَى بَعْضِ أَدِلَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ كَيْفَ يَأْمُرُ بِالْإِيمَانِ وَلَمْ يُرِدْهُ وَيَنْهَى عَنْ الْكُفْرِ وَيُرِيدُهُ وَيُعَاقِبُ عَلَى الْبَاطِلِ وَيُقَدِّرُهُ وَكَيْفَ يَصْرِفُ عَنْ الْإِيمَانِ ثُمَّ يَقُولُ {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] وَيَخْلُقُ فِيهِمْ الْإِفْكَ ثُمَّ يَقُولُ {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] وَأَنْشَأَ فِيهِمْ الْكُفْرَ ثُمَّ يَقُولُ {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] وَخَلَقَ فِيهِمْ لُبْسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ثُمَّ يَقُولُ {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران: 71] وَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ ثُمَّ يَقُولُ {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 99] وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ ثُمَّ يَقُولُ {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا} [النساء: 39] وَذَهَبَ بِهِمْ عَنْ الرُّشْدِ ثُمَّ قَالَ {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] وَأَضَلَّهُمْ عَنْ الدِّينِ حَتَّى أَعْرَضُوا ثُمَّ قَالَ {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وَفِي كَلَامِ الْخَوَّاصِ شَيْخِ الشَّعْرَانِيِّ مِثْلُ الْعَبِيدِ فِي كَوْنِهِمْ مَظْهَرًا لِأَفْعَالِهِمْ فَقَطْ كَالْبَابِ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِيهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لِلَّهِ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي نَفْيِ الْكِبْرِ وَالْعَجَبِ وَالْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَزَلِ مَخْلُوقَةٌ لَهُ تَعَالَى أَرَاحَ نَفْسَهُ مِنْ تَشَبُّثِهَا بِأَذْيَالِ الْأَمَانِي وَسَلَّاهَا عَنْ مَرَامِهَا وَعَمَّا هِيَ فِيهِ بِاعْتِقَادِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَانٍ

دَوَامُ حَالٍ مِنْ قَضَايَا الْمُحَالِ

وَالصَّبْرُ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ حَالِ

(قَوْلُهُ: شَامِلٌ لِكُلِّ مَعْلُومٍ) أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْعِلْمُ تَابِعًا لِلْمَعْلُومِ قَالَ الْفَخْرُ الْعِلْمُ بِالْوُقُوعِ تَابِعٌ لِلْوُقُوعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ يَتْبَعُ الشَّيْءَ فَلَا يُوجِبُ فِيهِ تَأْثِيرًا حَتَّى يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْإِرَادَةِ، وَلَا يُوجِبُ فِيهِ قَلْبًا حَتَّى يَكُونَ جَهْلًا فَالْعِلْمُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ بِوَجْهِ الصَّوَابِ وَالْحَقِّ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا فِيهِ لَيْسَ بِحَقٍّ بِأَنْ يُصَيِّرَهُ حَقًّا فَإِنَّ كَوْنَ غَيْرِ الْحَقِّ حَقًّا هُوَ عَيْنُ الْجَهْلِ فَكَمَا تَقُولُ الْقُدْرَةُ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مُمْكِنٌ وَتَعْنِي بِالْوَجْهِ اللَّائِقِ لَا بِكُلِّ وَجْهٍ حَتَّى تَعَلُّقَهَا بِجَمْعِ الضِّدَّيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُمْكِنِ جِنْسُهُ الْمَقْدُورُ فِي أَصْلِهِ فَكَذَا لَا يُعْقَلُ مِنْ قَوْلِنَا إنَّ الْعِلْمَ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَعْلَمُ نَقَائِضَ الْوَاجِبِ ثَابِتَةً، وَيَعْلَمُ مَثَلًا نَفْيَ الْوَاجِبِ وَيَعْلَمُ ثُبُوتَ الصَّاحِبَةِ وَالشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ أَخْذًا مِنْ عُمُومِ الْعِلْمِ فَإِنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ أَمْرٍ عَلَى وَجْهِهِ اللَّائِقِ وَنَفْيِهِ عَلَى الْوَجْهِ غَيْرِ اللَّائِقِ، وَهَذَا تَنْزِيهٌ لَهُ فَالْعِلْمُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ لَكِنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَهُ جِهَةُ حَقٍّ وَجِهَةُ بَاطِلٍ فَيَعْلَمُ جِهَةَ الْحَقِّ أَنَّهَا حَقٌّ كَثُبُوتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَعْلَمُ جِهَةَ الْبَاطِلِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ كَنَفْيِهَا وَلَا يَعْلَمُ الثُّبُوتَ لَلشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهَا جِهَةُ بَاطِلٍ فَيَعْلَمُ أَنَّ ثُبُوتَهُ بَاطِلٌ، وَيَعْلَمُ نَفْيَهُ؛ لِأَنَّهُ جِهَةُ حَقٍّ ثُمَّ إنَّ لِلْعِلْمِ تَعَلُّقًا وَاحِدًا تَنْجِيزِيًّا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فَيَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنِ قَبْلَ وُجُودِهِ فَيَعْلَمُ وُجُودَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ، ثُمَّ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ عِلْمُ عَدَمِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ لَكِنْ مَحَطُّ الْعِلْمِ الْوُجُودُ وَكُلُّ مَا بَقِيَ مِنْ لَوَازِمِهِ وَلَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ صُلُوحِيٌّ قَدِيمٌ فَإِنَّ الصَّالِحَ لَأَنْ يَعْلَمَ لَيْسَ بِعَالَمٍ، وَقِيلَ إنَّ لَهُ تَعَلُّقَيْنِ صَلَاحِي وَتَنْجِيزِي فَيَتَعَلَّقُ بِالْأَشْيَاءِ كَوْنُهَا وَيُسَمَّى هَذَا عِلْمًا بِمَا

ص: 454

(جُزْئِيَّاتٌ وَكُلِّيَّاتٌ) .

(وَقُدْرَتُهُ) شَامِلَةٌ (لِكُلِّ مَقْدُورٍ) أَيْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُمْكِنُ بِخِلَافِ الْمُمْتَنِعِ.

(مَا عُلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ) أَيْ يُوجَدُ (إرَادَةً) أَيْ أَرَادَ وُجُودَهُ (وَمَا لَا) أَيْ وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ (فَلَا) يُرِيدُ وُجُودَهُ

ــ

[حاشية العطار]

سَيَكُونُ ثُمَّ يَعْلَمُ بَعْدَ كَوْنِهَا أَنَّهَا كَانَتْ، وَذَلِكَ عِلْمٌ بِمَا كَانَ وَالْعِلْمُ بِمَا سَيَكُونُ غَيْرُ الْعِلْمِ بِمَا كَانَ وَرُدَّ بِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِمَا كَانَ أَوْ سَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْلُومِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ وَتَعَلُّقِهِ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ فَالْمَعْلُومُ قَبْلَ كَوْنِهِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَبَعْدَ كَوْنِهِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ وَمَثَّلَهُ الشِّهْرِسْتَانِيّ بِمَا لَوْ أَخْبَرَنَا صَادِقٌ بِوُقُوعِ أَمْرٍ عَلِمْنَا كَوْنَهُ لَا مَحَالَةَ لَمْ يَخْتَلِفْ عِلْمُنَا قَبْلَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْوَاقِعِ وَوُقُوعُ الِاخْتِلَافِ فِي عِلْمِنَا بِالْأَشْيَاءِ لِتَغَيُّرِ عِلْمِنَا بِعَدَمِ الْيَقِينِ وَالثَّبَاتِ، وَلِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى ثُمَّ فِي حَاشِيَةِ الشَّاوِيِّ عَلَى الصُّغْرَى قَالَ الضَّرِيرُ

وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَلَى التَّفْصِيلِ

يُنَاقِضُ الْعِلْمَ عَلَى التَّجْمِيلِ

قَالَ ابْنُ خَلِيلٍ سَمِعْت بَعْضَ الْمُدَرِّسِينَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ يَقُولُ فِي دَرْسِهِ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَذَلِكَ جَهْلٌ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى الْعِلْمِ حَيْثُ صَارَ يَتَوَلَّى تَدْرِيسَهُ مِثْلُ هَذَا قَالَ الشَّيْخُ وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ إلَخْ فَإِنَّ الشَّيْءَ الْمُجْمَلَ هُوَ الَّذِي لَمْ تُدْرَكْ حَقِيقَتُهُ وَالْمُفَصَّلَ هُوَ مُدْرَكُ الْحَقِيقَةِ، فَيَجْتَمِعُ عِنْدَ ذَلِكَ مُدْرَكٌ لَا مُدْرَكٌ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَنَظِيرُهُ لَوْ قُلْت اللَّهُ أَعْلَمُ بِالدَّلِيلِ الْجُمَلِيِّ وَالتَّفْصِيلِيِّ كَانَتْ تَنَاقُضًا اهـ.

أَقُولُ لَيْتَ هَذَا الْقَائِلَ عَاشَ حَتَّى الْآنَ لِيَرَى مَا يَقُولُهُ الْمُدَرِّسُونَ فِي دُرُوسِهِمْ بَلْ مَا يَنْقُلُهُ الْمُؤَلِّفُونَ فِي عَصْرِنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الصُّغْرَى وَمَا كُتِبَ عَلَيْهَا مِنْ الْحَوَاشِي وَالشُّرُوحِ عُمْدَةً وَإِمَامًا، وَلَمْ تَطْمَحْ نُفُوسُهُمْ بِمَا قَرَّرَهُ مُحَقِّقُوا هَذَا الْفَنِّ فِي كُتُبِهِمْ حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَتَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَقْلٍ سَاطِعٍ أَوْ بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ لَمْ يَعْدِلْ عَمَّا اسْتَقَرَّ فِي ذِهْنِهِ مِمَّا يُخَالِفُ الصَّوَابَ، وَقَالَ لَا أَعْدِلُ عَمَّا رَأَيْته فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، ثُمَّ إنِّي رَأَيْت فِي شَرْحِ الدَّوَانِي عَلَى الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ أَشْكَالًا حَاصِلَةً أَنَّهُ إذَا كَانَ صُدُورُ الْمُمْكِنَاتِ عَنْ الْوَاجِبِ تَعَالَى بِالِاخْتِيَارِ وَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مَسْبُوقَةً بِالْعِلْمِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ وُجُودٌ أَزَلِيٌّ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِاللَّاشَيْءِ الْمَحْضِ مُحَالٌ بَدِيهَةً وَمَا يَقُولُهُ الظَّاهِرِيُّونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ قَدِيمٌ وَالتَّعَلُّقَ حَادِثٌ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ إذْ الْعِلْمُ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالشَّيْءِ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْلُومًا فَهُوَ يُفْضِي إلَى نَفْيِ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا قُلْت الْمَخْلَصُ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بِالْعِلْمِ الْبَسِيطِ الْإِجْمَالِيِّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ مَبْدَأٌ لِوُجُودِهِ التَّفْصِيلِيِّ فِي الْخَارِجِ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الْإِجْمَالِيَّ فِينَا مَبْدَأٌ لِحُصُولِ التَّفَاصِيلِ فِينَا.

(قَوْلُهُ: جُزْئِيَّاتٌ وَكُلِّيَّاتٌ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الْمُنْكِرِينَ عِلْمَهُ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ قَالَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ اُشْتُهِرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَادِّيَّةَ بِالْوَجْهِ الْجُزْئِيِّ بَلْ إنَّمَا يَعْلَمُهَا بِوَجْهٍ كُلِّيٍّ مُنْحَصِرٍ فِي الْخَارِجِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَقَدْ كَثُرَ تَشْنِيعُ الطَّوَائِفِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَرَّرَ كَلَامَهُمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ فَرَاجِعْهُ إنْ شِئْت، وَقَالَ مُنْلَا جَامِي فِي الدُّرَّةِ الْفَاخِرَةِ اُشْتُهِرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ ادَّعُوا انْتِفَاءَ عِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَلَكِنْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَالَ نَفْيُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ مِمَّا أَحَالَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ كَلَامَهُمْ إلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَأَنَا أَقُولُ هُمْ وَإِنْ أُوِّلَ كَلَامُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ تَكْفِيرٌ فَلَهُمْ عَظَائِمُ أَجْمَعَ عَلَى كُفْرِهِمْ فِيهَا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَقَائِدِهِمْ الْفَاسِدَةِ.

(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمُمْتَنِعِ) أَيْ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ لَا لِنَقْصٍ فِيهَا بَلْ لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهِ لِلْوُجُودِ فَلَا يَصْلُحُ لَأَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ وَمِثْلُهُ الْوَاجِبُ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَمَا فِي دَلَائِلِ الْخَيْرَاتِ «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً تَعْظِيمًا لِحَقِّي خَلَقَ اللَّهُ عز وجل مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ مَلَكًا» إلَخْ فَمِنْ فِيهِ تَعْلِيلِيَّةٌ وَإِلَّا فَقَلْبُ الْعَرْضِ جَوْهَرًا مُحَالٌ عَقْلِيٌّ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ، وَأَمَّا الْمَسْخُ فَلَيْسَ فِيهِ قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ أَتَمَّ الْبَيَانِ فِي حَوَاشِي الْمَقُولَاتِ الْكُبْرَى. قَالَ الْإِمَامُ الشَّعْرَانِيُّ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى اسْمِهِ الْقَادِرِ فَإِنْ قُلْت فَهَلْ اطَّلَعَ أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى صُورَةِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ حَالَ الْإِيجَادِ أَمْ هُوَ مِنْ سِرِّ الْقَدَرِ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ.

فَالْجَوَابُ كَمَا قَالَهُ يَعْنِي ابْنَ الْعَرَبِيِّ فِي

ص: 455

فَالْإِرَادَةُ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ.

(بَقَاؤُهُ) تَعَالَى (غَيْرَ مُسْتَفْتَحٍ وَلَا مُتَنَاهٍ) أَيْ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ.

(لَمْ يَزَلْ) سُبْحَانَهُ مَوْجُودًا (بِأَسْمَائِهِ) أَيْ بِمَعَانِيهَا وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ كَالْعَالِمِ وَالْخَالِقِ.

(وَصِفَاتِ ذَاتِهِ)

ــ

[حاشية العطار]

شَرْحِ تَرْجُمَانِ الْأَشْوَاقِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سِرِّ الْقَدَرِ وَسِرُّ الْقَدَرِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا أَفْرَادٌ. قَالَ وَقَدْ أَطْلَعَنَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَا يَسَعُنَا الْإِفْصَاحُ عَنْهُ لِغَلَبَةِ مُنَازَعَةِ الْمَحْبُوبِينَ قَالَ تَعَالَى {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] وَذَلِكَ لَنَا بِحُكْمِ الْوِرَاثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ طَوَى سِرَّ عِلْمِ الْقَدَرِ عَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ مَا عَدَا سَيِّدَنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَمَنْ وَرِثَهُ فِيهِ كَأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ يَوْمًا أَتَدْرِي يَوْمَ لَا يَوْمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه نَعَمْ ذَلِكَ يَوْمُ الْمَقَادِيرِ» أَوْ كَمَا قَالَ وَنَقَلَ عَنْهُ الشَّعْرَانِيُّ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الْمُحَالِ عَقْلًا، وَأَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ دَخَلَ الْأَرْضَ الْمَخْلُوقَةَ مِنْ بَقِيَّةِ خَمِيرَةِ طِينَةِ آدَمَ فَرَأَى فِيهَا ذَلِكَ بِعَيْنِهِ اهـ.

وَأَقُولُ إنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَدْسُوسًا عَلَى الشَّيْخِ الشَّعْرَانِيِّ أَوْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَلَعَلَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ أَرَادَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَعْلَمُهُ وَاعْتِقَادُ ظَاهِرِهِ لَا يَجُوزُ وَيُنْسَبُ لِأَبِي حَيَّانَ

إنَّ عَقْلِي لَفِي عِقَالٍ إذَا مَا

أَنَا صَدَّقْت كُلَّ قَوْلٍ مُحَالِ

وَلَمْ يُثْبِتْ الْمُصَنِّفُ صِفَةَ التَّكْوِينِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُثْبِتُ لَهُ الْمَاتُرِيدِيَّةُ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ التَّكْوِينَ صِفَةً مُغَايِرَةً لِلْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ فَالْمُثْبِتُ لَهُ يَقُولُ إنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا صِحَّةُ التَّأْثِيرِ وَالْإِيجَادُ عَنْ الْفَاعِلِ وَالتَّكْوِينُ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا الْإِيجَادُ بِالْفِعْلِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ الْقُدْرَةُ بِهِ فِي الْأَوَّلِ وَصَحَّ صُدُورُهُ عَنْهُ إذَا تَرَجَّحَ بِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ أَحَدُ جَانِبَيْهِ تَعَلَّقَ التَّكْوِينُ بِإِيجَادِهِ فَوُجِدَ فَعَلَى هَذَا تَعَلُّقَاتُ الْقُدْرَةِ كُلُّهَا قَدِيمَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ الَّتِي يَصِحُّ صُدُورُهَا عَنْ الْوَاجِبِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالنَّافُونَ لِلتَّكْوِينِ قَالُوا إنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا الْإِيجَادُ، وَأَمَّا صِحَّةُ الصُّدُورِ فَهُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لِإِمْكَانِهَا الذَّاتِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الطَّرْفَانِ مُسْتَوِيَيْنِ صَلُحَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَثَرًا لِلْفَاعِلِ فَلَا تَحْتَاجُ صِحَّةُ الصُّدُورِ إلَى الْمُخَصِّصِ إنَّمَا الْمُحْتَاجُ صُدُورُ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ مِنْ الْفَاعِلِ إلَى الْمُخَصِّصِ وَهُوَ الْإِرَادَةُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ التَّكْوِينِ حِينَئِذٍ.

(قَوْلُهُ: فَالْإِرَادَةُ) أَيْ السَّابِقُ تَعَلُّقُهَا تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ فِي التَّعَلُّقِ وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ فِي الْفَاعِلِ بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَلَا تَصْلُحُ لِتَخْصِيصِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِالْوُقُوعِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ إذْ نِسْبَتُهَا إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا بُدَّ فِي تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالْوُقُوعِ مِنْ صِفَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْإِرَادَةُ التَّابِعُ تَعَلُّقُهَا لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ، ثُمَّ التَّحْقِيقُ أَنَّ لِلْإِرَادَةِ تَعَلُّقًا وَاحِدًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا، وَهُوَ تَعْيِينُهَا فِي الْأَزَلِ الْمُمْكِنِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ صُلُوحِيٌّ قَدِيمٌ وَلَا تَنْجِيزِيٌّ حَادِثٌ فَتَبَعِيَّةُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ التَّعَقُّلِ إذْ لَا يُعْقَلُ فِي الْقَدِيمِ تَرْتِيبٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا حَادِثًا يَكُونُ التَّرَتُّبُ بِحَسَبِ التَّحَقُّقِ.

(قَوْلُهُ: بَقَاؤُهُ غَيْرُ مُسْتَفْتَحٍ) أَيْ بَقَاءُ وُجُودِهِ أَيْ وُجُودِ الْبَاقِي الشَّامِلِ لِلْقَدِيمِ الْبَاقِي بِخِلَافِ الْبَقَاءِ الْآتِي هُوَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ لَا يَشْمَلُ الْقَدِيمَ كَنَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

(قَوْلُهُ: أَيْ بِمَعَانِيهَا إلَخْ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْأَسْمَاءَ أَلْفَاظٌ لَا تُوصَفُ بِالْقِدَمِ وَفِي الْيَوَاقِيتِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الَّذِي أَعْطَاهُ الْكَشْفُ أَنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ اسْمٌ وَاحِدٌ كَرَامَهُرْمُزَ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ.

(قَوْلُهُ: وَصِفَاتُ ذَاتِهِ) لَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِهَا زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ أَوْ لَا وَهَلْ وُجُوبُهَا وَقِدَمُهَا ذَاتِيٌّ أَوْ هِيَ ذَاتُهَا مُمْكِنَةٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ النِّزَاعِ وَنِعْمَ مَا قَالَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ أَنَّ مَسْأَلَةَ زِيَادَةِ الصِّفَاتِ وَعَدَمِ زِيَادَتِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا تَكْفِيرُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ الْأَصْفِيَاءِ يَقُولُ عِنْدِي أَنَّ زِيَادَةَ الصِّفَاتِ وَعَدَمَهَا وَأَمْثَالَهَا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِكَشْفٍ حَقِيقِيٍّ لِلْعَارِفِينَ، وَأَمَّا مَنْ تَمَرَّنَ الِاسْتِدْلَالَ فَإِنْ اتَّفَقَ لَهُ كَشْفٌ فَإِنَّمَا يَرَى مَا كَانَ غَالِبًا عَلَى اعْتِقَادٍ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْفِكْرِيِّ وَلَا أَرَى بَأْسًا فِي اعْتِقَادِ أَحَدِ طَرَفَيْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اهـ.

وَقَالَ الشَّعْرَانِيُّ وَاَلَّذِي تَلَخَّصَ مِنْ جَمِيعِ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّهُ قَائِلٌ

ص: 456

وَهِيَ (مَا دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ) لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهَا (مِنْ قُدْرَةٍ) وَهِيَ صِفَةٌ تُؤَثِّرُ فِي الشَّيْءِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ (وَعِلْمٍ) وَهُوَ صِفَةٌ يَنْكَشِفُ بِهَا الشَّيْءُ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ (وَحَيَاةٍ) وَهِيَ صِفَةٌ تَقْتَضِي صِحَّةَ الْعِلْمِ لِمَوْصُوفِهَا (وَإِرَادَةٍ) وَهِيَ صِفَةٌ تُخَصِّصُ أَحَدَ طَرَفَيْ الشَّيْءِ

ــ

[حاشية العطار]

بِأَنَّ الصِّفَاتِ عَيْنٌ لَا غَيْرُ كَشْفًا وَيَقِينًا وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْلَى اهـ.

وَقَالَ مُنْلَا جَامِي نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ ذَوَاتُنَا نَاقِصَةٌ، وَإِنَّمَا يُكَمِّلُهَا الصِّفَاتُ فَأَمَّا ذَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَهِيَ كَامِلَةٌ لَا تَحْتَاجُ فِي شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ إذْ كُلُّ مَا يُحْتَاجُ فِي شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ فَهُوَ نَاقِصٌ وَالنُّقْصَانُ لَا يَلِيقُ بِالْوَاجِبِ تَعَالَى فَذَاتُهُ كَافِيَةٌ لِلْكُلِّ فِي الْكُلِّ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْلُومَاتِ عِلْمٌ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقْدُورَاتِ قُدْرَةٌ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَادَاتِ إرَادَةٌ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ لَيْسَ فِيهَا اثْنَيْنِيَّةٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ اهـ.

وَقَدْ وَرَدَ عَلَيْنَا قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ بَعْضٌ مِنْ عُلَمَاءِ بُلْغَارَ وَمَعَهُ سُؤَالٌ يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْخِلَافَاتِ وَفِيهِ كَلَامٌ وَقَعَ بَيْنَ عُلَمَاءِ تِلْكَ الْبِلَادِ فَكَتَبْت فِي شَأْنِ ذَلِكَ رِسَالَةً اسْتَوْفَيْت فِيهَا أَطْرَافَ الْمَسْأَلَةِ، وَمَسْأَلَةُ الصِّفَاتِ مِنْ الْمُعْضِلَاتِ حَتَّى أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ رحمه الله مَعَ كَمَالِ مَهَارَتِهِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَمَزِيدِ تَقَدُّمِهِ فِيهِ اضْطَرَبَ كَلَامُهُ فِيهَا، وَزَلَّتْ قَدَمُهُ فِي بَعْضِ مَبَاحِثِهَا.

قَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ فِي شَرْحِ الْمَعَالِمِ إنَّ الْحَاصِلَ فِي الْمَعْقُولِ هَهُنَا أَرْبَعَةٌ ذَاتٌ وَصِفَاتٌ وَأَحْوَالٌ وَتَعَلُّقَاتٌ فَالْقَاضِي أَثْبَتَ الْجَمِيعَ، وَالشَّيْخُ وَالْأُسْتَاذُ أَثْبَتَا الْجَمِيعَ إلَّا الْأَحْوَالَ فَإِنَّ مَا زَعَمُوا أَنَّهُ حَالٌ وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ الزَّائِدُ عَلَى مَعْقُولِ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ فَهُوَ مُجَرَّدٌ نِسْبَةً فِي الْعَقْلِ فَقَطْ، وَالْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتُوا الذَّاتَ دُونَ الصِّفَاتِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْمُعْتَزِلِيُّ أَثْبَتَ الذَّاتَ وَالتَّعَلُّقَاتِ كَمَا صَارَ إلَيْهِ الْفَخْرُ وَقَضَى بِصِحَّةِ تَجَدُّدِهَا عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْفَخْرِ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الذَّاتَ الْمَخْصُوصَةَ مُوجِبَةٌ لِهَذِهِ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ ابْتِدَاءً إلَخْ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ عُقُولَ الْبَشَرِ قَاصِرَةٌ عَنْ الْوُصُولِ إلَى هَذِهِ الْمَضَايِقِ مَعَ جَزْمِهِ بِأَنَّ الذَّاتَ مُوجِبَةٌ لِتِلْكَ الْإِضَافَاتِ إمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِوَاسِطَةِ جَمْعٍ بَيْنَ جَرَيَانِ الْعَقْلِ وَوَقْفِهِ، وَهَذَا ظَاهِرَةُ تَنَاقُضٍ وَغَايَةُ مَا يُقْبَلُ كَلَامُهُ مِنْ التَّأْوِيلِ أَنْ يُرِيدَ بِالْإِيجَابِ الِاسْتِلْزَامَ لَا التَّأْثِيرَ، وَيُرِيدَ أَنَّ اسْتِلْزَامَ النَّسَبِ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَمَّا اسْتِلْزَامُ الذَّاتِ لِلصِّفَاتِ وَالصِّفَاتِ لِلْأَحْوَالِ وَالْأَحْوَالِ لِهَذِهِ الْإِضَافَاتِ أَوْ اسْتِلْزَامُ الصِّفَاتِ لِلْإِضَافَةِ بِدُونِ وَاسِطَةِ الْأَحْوَالِ أَوْ اسْتِلْزَامُ الذَّاتِ لِحَالَةٍ تَسْتَلْزِمُ هَذِهِ التَّعْلِيقَاتِ فَكَأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ تَوَقُّفٌ عَقْلِيٌّ لَمْ يَقُمْ لَهُ عَلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ.

وَلَكِنَّهُ يَكُونُ وَاقِفًا فِي ذَلِكَ وَقْفَ حِيرَةٍ كَمَا وَقَفَ الْأَصْحَابُ فِي أَخَصِّ وَصْفِ الْبَارِي وَفِي حَصْرِ الصِّفَاتِ وَسِرِّ الْقَدَرِ، فَالْمَحَلُّ الَّذِي جَزَمَ فِيهِ غَيْرُ الْمَحَلِّ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ سِوَى دَعْوَى عَدَمِ عِلْمٍ فَإِنَّ الْمَدَارِكَ الْعَقْلِيَّةَ فِيهِ غَامِضَةٌ وَنُصُوصَ الشَّرْعِ غَيْرُ مُفْصِحَةٍ فِيهِ إفْصَاحًا قَاطِعًا لِلِاحْتِمَالِ لَكِنَّ تَصْرِيحَهُ بِالْإِمْكَانِ وَالِافْتِقَارِ يُبْعِدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ كُلُّ دَاءٍ يُعَالِجُهُ الطَّبِيبُ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ) يُشِيرُ إلَى دَلِيلِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمُتْقَنَةَ الْمُشَاهَدَةُ لَنَا دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ إلَهٍ وَاجِبٍ قَدِيمٍ مُتَّصِفٍ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ مُنَزَّهٍ عَنْ سِمَاتِ النَّقْصِ كَمَا قِيلَ:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ

تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ

(قَوْلُهُ: عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ) فَلَهَا تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ حَادِثٌ (قَوْلُهُ: يَنْكَشِفُ) فِيهِ أَنَّ الِانْكِشَافَ انْفِعَالٌ فَيُوهِمُ حُدُوثَ اتِّضَاحٍ بَعْدَ خَفَاءٍ وَعِلْمُهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ بَلْ هُوَ عِلْمٌ حُضُورِيٌّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِأَنَّهُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ دُونَ سَبْقِ خَفَاءٍ ثُمَّ إنَّهُ خَرَجَ بِقَيْدِ الِانْكِشَافِ الصِّفَاتُ الَّتِي لَا تُوجِبُ انْكِشَافًا كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، ثُمَّ إنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ صِفَةَ تَأْثِيرٍ (قَوْلُهُ: تَقْتَضِي صِحَّةَ الْعِلْمِ) وَكَذَا بَاقِي الصِّفَاتِ ثُمَّ الصِّحَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْجَوَازِ أَيْ لَا يَجُوزُ بِدُونِهَا فَالْجَوَازُ رَفْعُ الِاسْتِحَالَةِ أَيْ عِنْدَ وُجُودِ الْحَيَاةِ لَا يَسْتَحِيلُ الِاتِّصَافُ بِالْإِدْرَاكِ فَهُوَ إمْكَانٌ عَامٌّ شَامِلٌ لِلْوَاجِبِ وَالْجَائِزِ فَفِي حَقِّ الْقَدِيمِ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ وَفِي حَقِّنَا بِمَعْنَى الْجَوَازِ وَهِيَ فِي الْحَادِثِ مُرْتَبِطَةٌ بِالرُّوحِ

ص: 457

مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِالْوُقُوعِ (أَوْ) دَلَّ عَلَيْهَا (التَّنْزِيهُ) لَهُ تَعَالَى (عَنْ النَّقْصِ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ) وَهُمَا صِفَتَانِ

ــ

[حاشية العطار]

بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى عَادَتَهُ إذَا اتَّصَلَتْ الرُّوحُ بِالْجَسَدِ حَصَلَ لَهُ وَصْفُ الْحَيَاةِ فَحَيَاةُ الْجِسْمِ بِالرُّوحِ وَحَيَاةُ اللَّهِ بِلَا رُوحٍ لِاسْتِغْنَاءِ صِفَاتِهِ عَنْ مُقَوِّمٍ تَقُومُ بِسَبَبِهِ.

(قَوْلُهُ: مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ) أَرَادَ بِهِمَا الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَلَوْ عَبَّرَ بِمَا عَبَّرَ بِهِ غَيْرُهُ بِتَخْصِيصِ الْمُمْكِنِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَهِيَ الْمُتَقَابِلَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ:

الْمُمْكِنَاتُ الْمُتَقَابِلَاتُ

وُجُودُنَا وَالْعَدَمُ الصِّفَاتُ

أَزْمِنَةٌ أَمْكِنَةٌ جِهَاتُ

كَذَا الْمَقَادِيرُ رَوَى الثِّقَاتُ

لَكَانَ أَحْسَنَ لِعُمُومِهِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ تَعَالَى مَرِيدٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَزَعَمَ أَهْلُ الِاعْتِزَالِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الشَّرَّ فَيَلْزَمُهُمْ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِ إرَادَتِهِ تَعَالَى وَهُوَ غَايَةُ الشَّنَاعَةِ حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ مَا أَلْزَمَنِي أَحَدٌ مِثْلَ مَا أَلْزَمَنِي مَجُوسِيٌّ كَانَ مَعِي فِي السَّفِينَةِ فَقُلْت لَهُ لِمَ لَا تُسْلِمُ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ إسْلَامِي فَإِذَا أَرَادَ إسْلَامِي أَسْلَمْت، فَقُلْت لِلْمَجُوسِيِّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ إسْلَامَك وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتْرُكُك فَقَالَ الْمَجُوسِيُّ فَأَنَا إذًا أَكُونُ مَعَ الشَّرِيكِ الْأَغْلَبِ، وَقَالَ الْفَلَاسِفَةُ الْإِرَادَةُ هِيَ الْعِلْمُ بِالنِّظَامِ الْأَكْمَلِ وَيُسَمُّونَهُ الْعِنَايَةَ الْأَزَلِيَّةَ قَالَ ابْنُ سِينَا الْعِنَايَةُ هِيَ إحَاطَةُ عِلْمِ الْأَوَّلِ تَعَالَى بِالْكُلِّ وَبِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْكُلُّ حَتَّى يَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ النِّظَامِ اهـ.

وَمِنْ هَهُنَا شَنَّعَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْغَزَالِيِّ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ بِأَنَّهُ مَيْلٌ لِكَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ وَانْتَصَرَ لَهُ آخَرُونَ فَقِيلَ مَدْسُوسٌ عَلَيْهِ وَقِيلَ بِالنَّظَرِ لِتَعَلُّقِ عِلْمٍ بِمَا كَانَ فَلَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ أَوْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَسَعُهُ عُقُولُنَا وَفِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ كَلَامٌ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَمَّ لَنَا إلَّا رُتْبَتَانِ قِدَمٌ وَحُدُوثٌ فَالْحَقُّ تَعَالَى لَهُ رُتْبَةُ الْقِدَمِ وَالْمَخْلُوقُ لَهُ رُتْبَةُ الْحُدُوثِ فَلَوْ خَلَقَ تبارك وتعالى مَا خَلَقَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ رُتْبَةِ الْحُدُوثِ فَلَا يُقَالُ هَلْ يَقْدِرُ الْحَقُّ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ قَدِيمًا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ مُهْمَلٌ لِاسْتِحَالَتِهِ اهـ.

وَقِيلَ إنَّ مُعْظَمَ مَا فِي الْإِحْيَاءِ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ لِأَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ أَجْمَلَ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ اعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ اللَّهَ لَوْ جَعَلَ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ عَلَى عِلْمِ أَعْلَمِهِمْ بِهِ وَعَقْلِ أَعْقَلِهِمْ عَنْهُ وَحِكْمَةِ أَحْكَمِهِمْ عِنْدَهُ ثُمَّ زَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلَائِقِ مِثْلَ عَدَدِ جَمِيعِهِمْ وَأَضْعَافِهِ عِلْمًا وَحِكْمَةً وَعَقْلًا ثُمَّ كَشَفَ لَهُمْ الْعَوَاقِبَ، وَأَطْلَعَهُمْ عَلَى السَّرَائِرِ وَأَعْلَمَهُمْ بَوَاطِنَ النِّعَمِ وَعَرَّفَهُمْ دَقَائِقَ الْعُقُوبَاتِ وَأَوْقَفَهُمْ عَلَى خَفَايَا اللُّطْفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ دَبِّرُوا الْمُلْكَ بِمَا أَعْطَيْتُكُمْ مِنْ الْعُلُومِ وَالْعُقُولِ عَنْ مُشَاهَدَتِكُمْ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ ثُمَّ أَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَوَّاهُمْ لَهُ لَمَا زَادَ تَدْبِيرُهُمْ عَلَى مَا نَرَاهُ مِنْ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَلَا أَوْجَبَتْ الْعُقُولُ وَالْمُكَاشَفَاتُ وَلَا الْعُلُومُ وَالْمُشَاهَدَاتُ غَيْرَ هَذَا التَّدْبِيرِ، وَلَا قَضَتْ بِغَيْرِ هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي نُعَانِيهِ وَنَتَقَلَّبُ فِيهِ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ اهـ.

(قَوْلُهُ: أَوْ دَلَّ عَلَيْهَا) التَّنْزِيهُ قَدْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّنْزِيهُ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ هُنَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّنْزِيهُ؛ لِأَنَّ أَضْدَادَهَا كَالْعَجْزِ وَنَحْوِهِ نَقْصٌ.

(قَوْلُهُ: مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ) هُمَا صِفَتَانِ أَزَلِيَّتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى الْعِلْمِ وَخَالَفَ الْكَعْبِيُّ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالُوا إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَرْجِعَانِ لِلْعِلْمِ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِكُلِّ مَوْجُودٍ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا بِذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَتَنْجِيزِيًّا حَادِثًا، وَهُوَ تَعَلُّقُهُمَا بِالْحَوَادِثِ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَلَيْسَ لَهُمَا تَعَلُّقٌ صَلَاحِيٌّ وَاخْتِصَاصُ سَمْعِنَا بِالْمَسْمُوعَاتِ وَبَصَرِنَا بِالْمُبْصَرَاتِ عَادِيٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْرِقَ اللَّهُ الْعَادَةَ وَيَتَعَلَّقَ سَمْعُنَا وَبَصَرُنَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ عَقِيبَ صَرْفِ الْبَاصِرَةِ إدْرَاكَ الْأَصْوَاتِ مَثَلًا، وَتَعَلُّقُهُمَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ السَّنُوسِيُّ وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ فُضَلَاءِ الْمَغَارِبَةِ وَهُوَ سَيِّدِي عُمَرُ الْمَغِيلِيُّ وَقَالَ إنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْمَعْدُومِ وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ تَأْلِيفًا نَحْوَ الْكُرَّاسَتَيْنِ يَرُدُّ بِهِ عَلَى السَّنُوسِيِّ قَالَ

ص: 458

يَزِيدُ الِانْكِشَافُ بِهِمَا عَلَى الِانْكِشَافِ بِالْعِلْمِ.

(وَكَلَامٍ) وَهُوَ صِفَةٌ

ــ

[حاشية العطار]

الشَّاوِيُّ وَلَا يَنْهَضُ رَدًّا وَأَمَّا قَوْلُ الْعَارِفِ بِاَللَّهِ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ مِفْتَاحِ الْفَلَاحِ إنَّ اللَّهَ سَمِعَ وَأَبْصَرَ فِي أَزَلِهِ ذَوَاتَ الْعَالَمِ حَاضِرَةً مَوْجُودَةً لَمْ يَغِبْ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَقَدْ سَمِعَ فِي أَزَلِهِ الْعَالَمَ بِمَا فِيهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. قَالَ وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا غَوْرٌ بَعِيدُ الْعُقْرِ لَا يُدْرِك مُنْتَهَاهُ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ اهـ.

فَلَهُ تَأْوِيلٌ (قَوْلُهُ: يَزِيدُ الِانْكِشَافُ إلَخْ) الْمُرَادُ أَنَّ حَقِيقَةَ الِانْكِشَافِ بِهَا غَيْرُ حَقِيقَةِ الِانْكِشَافِ بِالْعِلْمِ، وَإِلَّا فَعِلْمُهُ سُبْحَانَهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يُعْهَدُ فِي الشَّاهِدِ مِنْ أَنَّ الْبَصَرَ يُفِيدُ بِالْمُشَاهَدَةِ وُضُوحًا فَوْقَ الْعِلْمِ فَإِنَّ جَمِيعَ صِفَاتِهِ تَعَالَى تَامَّةٌ كَامِلَةٌ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهَا مَا كَانَ مِنْ سِمَاتِ الْحَوَادِثِ مِنْ الْخَفَاءِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ اتَّحَدَ الْمُتَعَلِّقُ وَكَانَتْ الْجِهَةُ مُتَّحِدَةً بِالنَّوْعِ كَالِانْكِشَافِ فِي الْعِلْمِ وَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ مَعَ جَزْمِنَا بِالْمُغَايَرَةِ وَإِلَّا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ صِفَةً) أَيْ قَدِيمَةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ تَعَالَى مُنَزَّهَةً عَنْ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي إنْكَارِهَا وَلِلْكَرَامِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهَا مُؤَلَّفَةٌ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ الْحَادِثَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ تَعَالَى وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ بَلْ تَغَالَى الْبَعْضُ مِنْهُمْ وَقَالَ بِقَدَمِ الْجِلْدِ وَالْغِلَافِ، وَمَنْشَأُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ هُنَا قِيَاسَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ وَهُمَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ لَهُ وَكُلُّ مَا هُوَ صِفَةٌ لَهُ فَهُوَ قَدِيمٌ. كَلَامُ اللَّهِ مُؤَلَّفٌ مِنْ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَادِثٌ فَمَنَعَ كُلُّ طَائِفَةٍ بَعْضَ الْمُقَدِّمَاتِ فَالْحَنَابِلَةُ مَنَعُوا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ فَهُوَ حَادِثٌ، وَالْمُعْتَزِلَةُ مَنَعُوا أَنَّ الْمُؤَلَّفَ مِنْ الْأَصْوَاتِ صِفَةُ اللَّهِ وَمَنَعَ الْكَرَّامِيَّةُ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ صِفَةٌ لَهُ فَهُوَ قَدِيمٌ ثُمَّ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي حُدُوثِ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ إنَّمَا نِزَاعُهُمْ فِي إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَعَدَمِهِ، وَحَقَّقَ الْمَوْلَى الْعَضُدُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّيْخِ أَنَّ الْأَلْفَاظَ أَيْضًا قَدِيمَةٌ، وَأَفْرَدَ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً وَمَا زَالَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا سِيَّمَا مَا وَقَعَ لِأَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ مِمَّا هُوَ مَسْطُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ التَّوَارِيخِ وَارْتَفَعَتْ الْفِتْنَةُ فِي زَمَنِ الْوَاثِقِ بِسَبَبِ أَنَّ شَيْخَنَا تَنَاظَرَ مَعَ الْقَاضِي أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ قَالَ لَهُ مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ الشَّيْخُ الْمَسْأَلَةُ لِي قَالَ سَلْ قَالَ مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ هُوَ مَخْلُوقٌ قَالَ الشَّيْخُ هَذَا شَيْءٌ عَلِمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ أَمْ لَمْ يَعْلَمُوهُ؟ فَقَالَ لَمْ يَعْلَمُوهُ فَقَالَ الشَّيْخُ: سُبْحَانَ اللَّهِ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ تَعْلَمُهُ أَنْتَ يَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ فَخَجِلَ ثُمَّ قَالَ أَقِلْنِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قَالَ قَدْ فَعَلْت قَالَ عَلِمُوهُ وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إلَيْهِ وَلَا أَظْهَرُوهُ لَهُمْ فَقَالَ أَلَا وَسِعَك وَوَسِعَنَا مَا وَسِعَهُمْ مِنْ السُّكُوتِ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْوَاثِقُ دَخَلَ الْخَلْوَةَ وَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ الْإِلْزَامَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّيْخُ وَيُرْوَى أَنَّهُ جَعَلَ ثَوْبَهُ فِي فِيهِ مِنْ الضَّحِكِ عَلَى ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ ثُمَّ أَمَرَ الْحَاجِبَ أَنْ يُطْلِقَ الشَّيْخَ وَيُعْطِيَهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَسْأَلَةُ الْكَلَامُ مِمَّا كَثُرَ فِيهَا النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ حَتَّى قِيلَ إنَّمَا سُمِّيَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ بِالْكَلَامِ.

لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَغْمَضُ مَبَاحِثِهِ وَأَشْهَرُهَا وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ فِيهَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي نَتْلُوهَا وَنَتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهَا حَادِثَةٌ، وَالْقَوْلُ بِقِدَمِهَا سَفْسَطَةٌ إلَّا أَنَّ السَّلَفَ تَحَاشَوْا عَنْ الْقَوْلِ بِحُدُوثِهَا فَمَنَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنْ يُقَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ حَادِثٌ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ بِمَا أَوْهَمَ وَقَدْ يُلْبِسُ بِهِ الْمُبْتَدِعُ وَمَعْنَى كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ الْبَشَرِ بَلْ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلَ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا عَلَى مَا هُوَ التَّحْقِيقُ خِلَافًا لِمَا قِيلَ أَنَّ جِبْرِيلَ يُلْهَمُ الْمَعْنَى وَيُعَبِّرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَلِمَنْ قَالَ يُلْقِي الْمَعْنَى فِي قَلْبِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ دَالَّةٌ عَلَى الصِّفَةِ النَّفْسِيَّةِ الْقَدِيمَةِ قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي حَوَاشِي الْخَيَالِيِّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ مَدْلُولَ اللَّفْظِيِّ أَنَّهُ مَدْلُولُهُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْعِبَارَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ وَكَيْفَ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ تَعَالَى بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ غَرَضُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ تَغَيُّرِ الْعِبَارَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ وَهُوَ الْأَصْلُ

ص: 459

عَبَّرَ عَنْهَا بِالنَّظْمِ الْمَعْرُوفِ الْمُسَمَّى بِكَلَامِ اللَّهِ أَيْضًا وَيُسَمَّيَانِ بِالْقُرْآنِ أَيْضًا.

(وَبَقَاءٍ) وَهُوَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ.

أَمَّا صِفَاتُ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْأَمَانَةِ فَلَيْسَتْ أَزَلِيَّةً خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ بَلْ هِيَ حَادِثَةٌ أَيْ مُتَجَدِّدَةٌ؛ لِأَنَّهَا إضَافَاتٌ تَعْرِضُ لِلْقُدْرَةِ وَهِيَ تَعَلُّقَاتُهَا بِوُجُودَاتِ الْمَقْدُورَاتِ لِأَوْقَاتِ وُجُودَاتِهَا وَلَا مَحْذُورَ فِي اتِّصَافِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ بِالْإِضَافَاتِ كَكَوْنِهِ قَبْلَ الْعَالَمِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ وَأَزَلِيَّةِ أَسْمَائِهِ الرَّاجِعَةِ إلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ مِنْ حَيْثُ رُجُوعُهَا إلَى الْقُدْرَةِ لَا الْفِعْلِ فَالْخَالِقُ مَثَلًا مِنْ شَأْنِهِ الْخَلْقُ أَيْ هُوَ الَّذِي بِالصِّفَةِ الَّتِي بِهَا يَصِحُّ الْخَلْقُ وَهِيَ الْقُدْرَةُ كَمَا يُقَالُ فِي الْمَاءِ فِي الْكُوزِ مُرْوٍ أَيْ هُوَ

ــ

[حاشية العطار]

بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَلْفَاظِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمَعَانِي الثَّانَوِيَّةِ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ انْتَهَى فَالدَّالُّ حَادِثٌ وَالْمَدْلُولُ قَدِيمٌ وَهَذَا الْمَدْلُولُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ الْمَقْرُوءُ قَدِيمٌ وَالْقِرَاءَةُ حَادِثَةٌ.

وَفَهِمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَدْلُولُ الْوَضْعِيُّ فَقَالَ إنَّ بَعْضَ الْمَدْلُولِ قَدِيمٌ وَبَعْضَهُ حَادِثٌ إلَى آخِرِ مَا قَالَ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الدَّلَالَةَ عَقْلِيَّةٌ كَمَا سَمِعْت. (قَوْلُهُ: عَبَّرَ عَنْهَا إلَخْ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ الدَّلَالَةَ وَضْعِيَّةٌ كَمَا فَهِمَهُ الْقَرَافِيُّ فَإِنَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ هِيَ الْمَدْلُولَاتُ اللُّغَوِيَّةُ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ بِأَنَّ الْمَعْنَى عَبَّرَ مِنْ أَجْلِهَا أَيْ أَنَّهَا مَنْشَأُ التَّعْبِيرِ وَمَبْدَؤُهُ وَفِي حَاشِيَةِ الشَّاوِيِّ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ النَّظَرُ فِي مَدْلُولِهِ بِحَيْثِيَّتَيْنِ فَبِحَيْثِيَّةِ مَدْلُولِهِ الَّذِي بِهِ حَصَلَتْ لَهُ التَّسْمِيَةُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ تَعَالَى يُقَالُ مَدْلُولُ هَذَا الْقُرْآنِ قَدِيمٌ بِلَا تَفْصِيلٍ إذْ مَدْلُولُهُ هُوَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ وَبِحَيْثِيَّةِ مَدْلُولِ مُفْرَدَاتِهِ وَتَرَاكِيبِهِ مِنْ حَيْثُ الِاقْتِضَاءَاتُ الْعَرَبِيَّةُ فَهَذَا يُقَالُ إنَّ مَدْلُولَهُ قَدِيمٌ كَمَدْلُولِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَمَدْلُولُ سَمِيعٍ وَعَلِيمٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَحَادِثٌ كَمَدْلُولِ لَفْظِ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْحَيْثِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَاحَظَهَا الْقَرَافِيُّ حَتَّى جَعَلَ الْقُرْآنَ مِنْهُ قَدِيمٌ وَمِنْهُ حَادِثٌ وَلَوْ رَاعَى أَنَّ مَدْلُولَهُ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ لَمْ يُمْكِنْهُ مَا قَالَ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِذَاتِهِ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا النَّظْمُ مِنْ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ فَكُلُّ الْمَعَانِي الْمَفْهُومَةِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ هِيَ مَفْهُومَةٌ مِنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِهِ وَالْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ هُوَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْحُرُوفِ أَيْضًا فَالْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ دَالٌّ عَلَى مَدْلُولَاتِهِ وَمَدْلُولٌ لِلْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُ الشَّيْءِ مَدْلُولًا لِشَيْءٍ دَالًّا عَلَى غَيْرِهِ لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ اهـ.

(فَائِدَةٌ) ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي أَوَّلُ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ أَحَدُ أَصْحَابِ إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بَدَّعَهُ وَهَجَرَهُ ثُمَّ قَالَ بِذَلِكَ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ إمَامُ الظَّاهِرِيَّةِ يَوْمَئِذٍ بِنَيْسَابُورَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ فَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّجَارُؤُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّكَلُّمُ بِهِ إلَّا فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ) ظَاهِرُهُ الْمُرُورُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ أَنَّ الْبَقَاءَ صِفَةٌ مَعْنًى، وَإِلَّا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَطْلَقَ الِاسْتِمْرَارَ، وَأَرَادَ لَازِمَهُ الَّذِي هُوَ سَلْبُ الْعَدَمِ اللَّاحِقِ وَقَدْ عَبَّرَ بِالِاسْتِمْرَارِ الْمُقْتَرَحِ وَقَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ نِسْبَةً زَمَانِيَّةً بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ عَدَمٌ اهـ.

وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ هُوَ وَالْقِدَمُ صِفَتَانِ سَلْبِيَّتَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ فَالْحَادِثُ مَا لَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ مَا سَبَقَ عَدَمُهُ وُجُودَهُ وَالْقَدِيمُ مَا لَا أَوَّلَ لَهُ وَهُوَ سَلْبُ مَا وَجَبَ لِلْحَادِثِ فَالْقِدَمُ إذَنْ نَفْيُ الْأَوَّلِيَّةِ وَنَفْيُ الْأَوَّلِيَّةِ سَلْبٌ مَحْضٌ وَالْبَقَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ دَوَامِ الْوُجُودِ عَلَى وَجْهٍ يَنْتَفِي مَعَهُ الْعَدَمُ اللَّاحِقُ.

(قَوْلُهُ: خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ) أَيْ فِي جَعْلِهَا أَزَلِيَّةً وَإِرْجَاعِهَا إلَى صِفَةِ التَّكْوِينِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ (قَوْلُهُ: أَيْ مُتَجَدِّدَةً) أَيْ فِي الذِّهْنِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الِاعْتِبَارِيَّةَ لَا وُجُودَ لَهَا إلَّا فِي الذِّهْنِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي حَوَاشِي الْمَقُولَاتِ الصُّغْرَى، وَأَشَارَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ إلَى أَنَّ فِي إطْلَاقِ الْحُدُوثِ عَلَيْهَا تَسَمُّحًا (قَوْلُهُ: وَأَزَلِيَّةُ أَسْمَائِهِ إلَخْ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ رُجُوعُهَا إلَخْ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا دَفْعُ اعْتِرَاضٍ وَرَدٌّ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَزَلْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ إلَخْ (قَوْلُهُ: فِي جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ) مُتَعَلِّقٌ بِتَقَدَّمَ (قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ رُجُوعُهَا إلَخْ) الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ

ص: 460

بِالصِّفَةِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ الْإِرْوَاءُ عِنْدَ مُصَادَفَةِ الْبَاطِنِ وَفِي السَّيْفِ فِي الْغِمْدِ قَاطِعٌ أَيْ هُوَ بِالصِّفَةِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْمَحَلِّ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْخَالِقِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْخَلْقُ فَلَيْسَ صُدُورُهُ أَزَلِيًّا ذَكَرَ ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ، وَبَيَّنَ رُجُوعَ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا إلَى الذَّاتِ وَصِفَاتِهَا فِي الْمَقْصِدِ الْأَسْنَيْ.

(وَمَا صَحَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الصِّفَاتِ نَعْتَقِدُ ظَاهِرَ الْمَعْنَى) مِنْهُ (وَنُنَزِّهُهُ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُشْكِلِ) مِنْهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ» «إنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مُغْرِبِهَا» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.

(ثُمَّ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا أَنُؤَوِّلُ) الْمُشْكِلَ (أَمْ نُفَوِّضُ) مَعْنَاهُ الْمُرَادَ إلَيْهِ تَعَالَى (مُنَزِّهِينَ) لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ (مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ جَهْلَنَا بِتَفْصِيلِهِ لَا يَقْدَحُ) فِي اعْتِقَادِنَا الْمُرَادَ مِنْهُ مُجْمَلًا، وَالتَّفْوِيضُ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ أَسْلَمُ، وَالتَّأْوِيلُ مَذْهَبُ الْخَلَفِ وَهُوَ أَعْلَمُ أَيْ أَحْوَجُ إلَى مَزِيدِ عِلْمٍ فَيُؤَوَّلُ فِي الْآيَاتِ الِاسْتِوَاءُ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَالْوَجْهُ بِالذَّاتِ وَالْعَيْنُ بِالْبَصَرِ وَالْيَدُ بِالْقُدْرَةِ وَالْحَدِيثَانِ

ــ

[حاشية العطار]

إلَى الْقُدْرَةِ مَجَازٌ قَطْعًا إذْ إطْلَاقُهُ حِينَئِذٍ مِنْ إطْلَاقِ مَا بِالْفِعْلِ عَلَى مَا بِالْقُوَّةِ اهـ. نَاصِرٌ

(قَوْلُهُ: فَإِنْ أُرِيدَ الْخَالِقُ إلَخْ) هَذَا عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ لَفْظِيٌّ وَالْحَقُّ أَنَّهُ حَقِيقِيٌّ.

(قَوْلُهُ: فِي الْمَقْصِدِ الْأَسْنَيْ) فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى.

(قَوْلُهُ: وَمَا صَحَّ) أَيْ ثَبَتَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:

صَحَّ عِنْدَ النَّاسِ أَنِّي عَاشِقٌ

غَيْرَ أَنْ لَمْ يَعْرِفُوا عِشْقِي لِمَنْ

وَإِلَّا فَكُلُّ مَا فِي الْكِتَابِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِي كُتُبِهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ (قَوْلُهُ: مِنْهُ) قَدَّرَهُ لِأَجْلِ صِحَّةِ الرَّبْطِ فَهُوَ مِثْلُ السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ (قَوْلُهُ: وَنُنَزِّهُهُ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُشْكِلِ) مُخَصِّصٌ لِمَا قَبْلَهُ أَيْ نَعْتَقِدُ ظَاهِرَ الْمَعْنَى إلَّا أَنْ يَكُونَ مُشْكِلًا فَنُنَزِّهُهُ عَنْهُ.

(قَوْلُهُ: ثُمَّ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا) أَيْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَقَوْلُهُ أَنُؤَوِّلُ أَيْ يَجُوزُ أَنْ نُؤَوِّلَ أَوْ نُفَوِّضَ (قَوْلُهُ: مُنَزِّهِينَ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ نُفَوِّضُ وَفِيهِ أَنَّ التَّنْزِيهَ عَنْ ظَاهِرِهِ تَأْوِيلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ إلَى التَّأْوِيلِ مُجْمَلًا (قَوْلُهُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ) وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَمَا بَعْدَهَا هُمْ الْخَلَفُ وَقِيلَ الْخَلَفُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ (قَوْلُهُ: أَيْ أَحْوَجُ) وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْخَلَفَ أَعْلَمُ مِنْ السَّلَفِ (قَوْلُهُ: بِالِاسْتِيلَاءِ) كَمَا فِي قَوْلِهِ:

قَدْ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ

مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ

وَفِي آخِرِ حُكْمِ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ يَا مَنْ اسْتَوَى بِرَحْمَانِيَّتِهِ عَلَى عَرْشِهِ فَصَارَ الْعَرْشُ غَيْبًا فِي رَحْمَانِيَّتِهِ كَمَا صَارَتْ الْعَوَالِمُ غَيْبًا فِي عَرْشِهِ فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الرَّحْمَنُ اسْتَوَى بِرَحْمَانِيَّتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَرْشَ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا وَهِيَ مُغَيَّبَةٌ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] هُوَ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَيَغِيبُ فِيهَا كَمَا تَغِيبُ الْعَوَالِمُ فِيهِ إشَارَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] وَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفَ هُوَ الْمُشَارُ لَهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ أَنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» فَيُمْكِنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْكِتَابِ وَلَوْ قِيلَ الْقَهَّارُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَذَابَ الْعَرْشُ وَمَا فِيهِ وَمِنْ الْمُتَشَابِهِ حَدِيثُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَوَجَدْت بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ أَوْ كَمَا قَالَ فَيُؤَوَّلُ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَتَانِي إحْسَانٌ مِنْ رَبِّي وَيُؤَوَّلُ وَضْعُ الْيَدِ بِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِإِنْزَالِ الْمَعَارِفِ بِالْقَلْبِ وَوُجُودُ بَرْدِ الْأَنَامِلِ بِعُمُومِ إشْرَاقِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ فِي الصَّدْرِ بِأَرْجَائِهِ سَأَلَ الشَّعْرَانِيُّ شَيْخَهُ الْخَوَّاصَ لِمَاذَا

ص: 461

مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ نَحْوَ أَرَاك تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى يُقَالُ لِلْمُتَرَدِّدِ فِي أَمْرٍ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِإِقْدَامِهِ وَإِحْجَامِهِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالظَّرْفُ فِيهِ خَبَرٌ كَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ إنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ كُلَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى شَيْءٌ يَسِيرٌ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ شَاءَ كَمَا يُقَلِّبُ الْوَاحِدُ مِنْ عِبَادِهِ الْيَسِيرَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فَلَا يَرُدُّ تَائِبًا كَمَا يَبْسُطُ الْوَاحِدُ مِنْ عِبَادِهِ يَدَهُ لِلْعَطَاءِ أَيْ لِلْأَخَذَةِ فَلَا يَرُدُّ مُعْطِيًا.

(الْقُرْآنُ) وَهُوَ (كَلَامُهُ) تَعَالَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ (غَيْرُ مَخْلُوقٍ) وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا (عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا الْمَجَازِ مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِنَا) بِأَشْكَالِ الْكِتَابَةِ وَصُوَرِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ (مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِنَا) بِأَلْفَاظِهِ الْمَخِيلَةِ (مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِنَا) بِحُرُوفِهِ الْمَلْفُوظَةِ الْمَسْمُوعَةِ فَقَوْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى كُلٍّ مِنْ مَكْتُوبٍ وَمَحْفُوظٍ وَمَقْرُوءٍ وَقُدِّمَ لِلْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ لَا الْمَجَازِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ كُنْهَ الشَّيْءِ كَمَا هُوَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ لَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا فِي الصُّدُورِ وَلَا فِي الْأَلْسِنَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا مُقَابِلُ الْمَجَازِ أَيْ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْقُرْآنِ حَقِيقَةً أَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَحْفُوظٌ مَقْرُوءٌ وَاتِّصَافُهُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَيْ مَوْجُودٌ أَزَلًا وَأَبَدًا اتِّصَافٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ وُجُودَاتِ الْمَوْجُودِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وُجُودًا فِي الْخَارِجِ وَوُجُودًا فِي الذِّهْنِ وَوُجُودًا فِي الْعِبَارَةِ وَوُجُودًا فِي الْكِتَابَةِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْعِبَارَةِ وَهِيَ عَلَى مَا فِي الذِّهْنِ وَهُوَ عَلَى مَا فِي الْخَارِجِ.

(يُثِيبُ) اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَةَ الْمُكَلَّفِينَ (عَلَى الطَّاعَةِ) فَضْلًا (وَيُعَاقِبُ) هُمْ (إلَّا أَنْ يَغْفِرَ غَيْرَ الشِّرْكِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ) عَدْلًا لِإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37]{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: 38]{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39]{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]

ــ

[حاشية العطار]

يُؤَوِّلُ الْعُلَمَاءُ الْمُوهِمَ الْوَاقِعَ مِنْ الشَّارِعِ وَلَا يُؤَوِّلُونَ الْوَاقِعَ مِنْ الْوَلِيِّ مَعَ أَنَّ الْمَادَّةَ وَاحِدَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَقَالَ لَهُ لَوْ أَنْصَفُوا لَأَوَّلُوا الْوَاقِعَ مِنْ الْوَلِيِّ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِضَعْفِهِ فِي أَحْوَالِ الْحَضْرَةِ بِخِلَافِ الشَّارِعِ فَإِنَّهُ ذُو مَقَامٍ مَكِينٍ.

(قَوْلُهُ: مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ) الْمَذْكُورُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ هُوَ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ بِأُخْرَى قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمْثِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ إنَّمَا هُوَ فِي قَوْلٍ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ لَا فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِيثِ إذْ لَوْ قِيلَ إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ شَاءَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَمْثِيلٌ قَطْعًا اهـ.

وَلَك أَنْ تَقُولَ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّمْثِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمَجَازُ فِي جَمِيعِ مِفْرَادَتِهِ إذْ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْهَيْئَةُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ لَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. نَجَّارِيٌّ

(قَوْلُهُ: كَمَا يَبْسُطُ إلَخْ) قَدْ يُقَالُ الْمُنَاسَبَةُ كَمَا يَبْسُطُ الْوَاحِدُ مِنْ عُبَادَةَ يَدَهُ لِلْإِعْطَاءِ فَلَا يَرُدُّ مُسْتَعْطِيًا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الْأَبْلَغَ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ إذْ مَنْ بَسَطَ يَدَهُ لِلْأَخْذِ أَكْثَرُ مِمَّنْ بَسَطَ يَدَهُ لِلْإِعْطَاءِ.

(قَوْلُهُ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ) خَبَرُ الْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ مَكْتُوبٌ خَبَرٌ ثَانٍ وَمَحْفُوظٌ خَبَرٌ ثَالِثٌ وَمَقْرُوءٌ خَبَرٌ رَابِعٌ وَعَدَّدَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْوُجُودَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَهُ وُجُودَاتٌ أَرْبَعٌ (قَوْلُهُ: رَاجِعٌ إلَى كُلٍّ مِنْ مَكْتُوبٍ إلَخْ) أَيْ مُتَعَلِّقٌ بِكُلٍّ مِنْهَا مَعْنًى أَمَّا لَفْظًا فَبِالْأَوَّلِ فَقَطْ وَيُقَدَّرُ نَظِيرُهُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ إسْنَادَ كُلٍّ مِنْ مَكْتُوبٍ وَمَحْفُوظٍ وَمَقْرُوءٍ إلَى الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ إسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ وُجُودٍ مِنْ الْحَوَادِثِ الْأَرْبَعَةِ لَا إسْنَادٌ مَجَازِيٌّ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاتِّصَافَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي حَقِّ الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ مَجَازٌ قَطْعًا وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْوُجُودَاتِ الثَّلَاثَةِ غَيْرِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ بَيَانٌ لِلْعَلَاقَةِ الْمُصَحِّحَةِ لِلتَّجَوُّزِ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْكَسْتَلِيُّ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ (قَوْلُهُ: لَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ) وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِالذَّاتِ الْعَلِيَّةِ (قَوْلُهُ: فَإِنَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ إلَخْ) التَّحْقِيقُ أَنَّ الْوُجُودَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ، وَأَمَّا الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ فَأَثْبَتَهُ الْحُكَمَاءُ وَنَفَاهُ الْمُتَكَلِّمُونَ.

قَوْلُهُ {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] أَيْ مِنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ مَعَ التَّوْبَةِ

ص: 462

وَهَذَا الْأَخِيرُ مُخَصِّصٌ لِعُمُومَاتِ الْعِقَابِ.

(وَلَهُ) سُبْحَانَهُ (إثَابَةُ الْعَاصِي وَتَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَإِيلَامُ الدَّوَابِّ وَالْأَطْفَالِ) لِأَنَّهُمْ مِلْكُهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ لَكِنْ لَا يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ لِإِخْبَارِهِ بِإِثَابَةِ الْمُطِيعِ وَتَعْذِيبِ الْعَاصِي كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَرِدْ إيلَامُ الدَّوَابِّ وَالْأَطْفَالِ فِي غَيْرِ قِصَاصٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ أَمَّا فِي الْقِصَاصِ «فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءَ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ «يُقْتَصُّ لِلْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى الْجَمَّاءِ مِنْ الْقَرْنَاءِ وَحَتَّى لِلذَّرَّةِ مِنْ الذَّرَّةِ وَقَالَ لَيَخْتَصِمَنَّ كُلُّ شَيْءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى الشَّاتَانِ فِيمَا انْتَطَحَتَا» رَوَاهُمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي الْأَوَّلِ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ وَفِي الثَّانِي إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَقَضِيَّةُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ الْقِصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى التَّكْلِيفِ وَالتَّمْيِيزِ فَيُقْتَصُّ مِنْ الطِّفْلِ لِطِفْلٍ وَغَيْرِهِ

(وَيَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ) سُبْحَانَهُ (بِالظُّلْمِ) لِأَنَّهُ مَالِكُ الْأُمُورِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَلَا ظُلْمَ فِي التَّعْذِيبِ وَالْإِيلَامِ الْمَذْكُورَيْنِ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُمَا

(يَرَاهُ) سُبْحَانَهُ (الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَعْدَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمُوَافِقَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]

ــ

[حاشية العطار]

وَبِدُونِهَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي تَخْصِيصِهِمْ ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ وَبِالْكَبَائِرِ الْمَقْرُونَةِ بِالتَّوْبَةِ وَفِي شَرْحِ الْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ عَلَى الْعَقَائِدِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ تَسَاوِي مَا نُفِيَ عَنْهُ الْغُفْرَانُ وَمَا ثَبَتَ لَهُ (قَوْلُهُ: وَهَذَا الْأَخِيرُ) أَيْ النَّصُّ الْأَخِيرُ وَهُوَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (قَوْلُهُ: مُخَصِّصٌ لِعُمُومَاتِ الْعِقَابِ) أَيْ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي عِقَابِ الذُّنُوبِ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً إلَّا أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ لَمْ يُعَاقَبْ.

(قَوْلُهُ: لَكِنْ لَا يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ) أَيْ فِي الْآخِرَةِ وَإِلَّا فَإِيلَامُ الدَّوَابِّ وَالْأَطْفَالِ مُشَاهَدٌ فِي الدُّنْيَا

(قَوْلُهُ: وَيَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ تَعَالَى إلَخْ) الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الِاتِّصَافُ أَيْ يَسْتَحِيلُ اتِّصَافُهُ تَعَالَى بِالظُّلْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْكُلَّ مِلْكُهُ فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَحْكُمُ الْحَاكِمِينَ وَأَعْلَمُ الْعَالِمِينَ وَأَقْدَرُ الْقَادِرِينَ فَكُلُّ مَا وَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ يَكُونُ ذَلِكَ أَحْسَنَ الْمَوَاضِعِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَإِنْ خَفِيَ وَجْهُ حُسْنِهِ عَلَيْنَا (قَوْلُهُ: لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُمَا إلَخْ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَلَهُ إثَابَةُ الْعَاصِي إلَخْ مِنْ الْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ

(قَوْلُهُ: يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ) أَيْ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْآخِرَيْنِ خِلَافٌ بَلْ فِي النِّسَاءِ أَيْضًا وَهَلْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ فَقَطْ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ أَوْ بِالْوَجْهِ لِظَاهِرِ آيَةِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] أَوْ الذَّاتِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّاذِلِيُّ لَمَّا كُفَّ بَصَرُهُ انْعَكَسَ بَصَرِي لِبَصِيرَتِي فَصِرْت أُبْصِرُ بِكُلِّي كُلَّ مُحْتَمَلٍ وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ قِيلَ وَلَا مَانِعَ مِنْ اخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ نَوْعٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَتَى شَاءَ وَلِأَيِّ شَيْءٍ شَاءَ وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ تَوَقُّفِهَا عَلَى الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أُمُورٌ عَادِيَّةٌ يَجُوزُ تَخَلُّفُهَا وَدَعْوَاهُمْ الضَّرُورَةَ فِي ذَلِكَ مَمْنُوعَةٌ بِمُنَازَعَةِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ فَلَا يَسْلَمُ فِي الْغَائِبِ لِأَنَّ الرُّؤْيَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَانِ إمَّا بِالْمَاهِيَّةِ أَوْ بِالْهُوِيَّةِ لَا مَحَالَةَ فَيَجُوزُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الشُّرُوطِ وَاللَّوَازِمِ.

وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ بِلَا كَيْفٍ ثُمَّ إنَّ وُقُوعَ الرُّؤْيَةِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَقَدْ احْتَجَّ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالنَّصِّ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ

ص: 463

وَالْمُخَصِّصَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أَيْ لَا تَرَاهُ.

مِنْهَا

ــ

[حاشية العطار]

قَبْلَ حُدُوثِ الْمُخَالِفِ عَلَى وُقُوعِهَا وَكَوْنِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا حَتَّى إنَّهُ رَوَى حَدِيثَ الرُّؤْيَةِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ شَارِحُ الْمَقَاصِدِ وَلِهَذَا احْتَجَّ الشَّارِحُ عَلَيْهَا بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ قَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] إلَخْ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّظَرَ الْمَوْصُولَ بِإِلَى إمَّا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ أَوْ مَلْزُومٌ لَهَا بِشَهَادَةِ النَّقْلِ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالتَّتَبُّعِ لِمَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهِ وَإِمَّا مَجَازٌ عَنْهَا لِكَوْنِهِ عِبَارَةً عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ هُنَا الْحَقِيقَةُ لِامْتِنَاعِ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ فَتَعَيَّنَ الرُّؤْيَةُ لِكَوْنِهَا أَقْرَبَ الْمَجَازَاتِ بِحَيْثُ الْتَحَقَ بِالْحَقَائِقِ بِشَهَادَةِ الْعُرْفِ وَالتَّقْدِيمِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ دُونَ الْحَصْرِ أَوْ لِلْحَصْرِ ادِّعَاءً.

بِمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لِاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي مُشَاهَدَةِ جَمَالِهِ قَصَرُوا النَّظَرَ عَلَى عَظَمَةِ جَلَالِهِ كَأَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إلَى مَا سِوَاهُ وَلَا يَرَوْنَ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّ إلَى هُنَا لَيْسَتْ حَرْفًا بَلْ اسْمًا بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَاحِدُ الْآلَاءِ وَنَاظِرَةٌ مِنْ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] وَلَوْ سُلِّمَ فَالنَّظَرُ الْمَوْصُولُ بِإِلَى قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

وُجُوهٌ نَاظِرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ

إلَى الرَّحْمَنِ يَأْتِي بِالْفَلَاحِ

وَقَوْلِهِ:

كُلُّ الْخَلَائِقِ يَنْظُرُونَ سِجَالَهُ

نَظَرَ الْحَجِيجِ إلَى طُلُوعِ هِلَالِ

وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَوْقَ الْآيَةِ لِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَانِ أَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي غَايَةِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالْإِخْبَارُ بِانْتِظَارِهِمْ النِّعْمَةَ وَالثَّوَابَ لَا يُلَائِمُ ذَلِكَ بَلْ رُبَّمَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ مَوْتٌ أَحْمَرُ فَهُوَ بِالْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْقَلَقِ وَضِيقِ الصَّدْرِ أَجْدَرُ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْقَطْعِ بِالْحُصُولِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ إلَى اسْمًا بِمَعْنَى النِّعْمَةِ لَوْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ فَلَا خَفَاءَ فِي بُعْدِهِ وَغَرَابَتِهِ وَإِخْلَالِهِ بِالْفَهْمِ عِنْدَ تَعَلُّقِ النَّظَرِ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَحْمِلْ الْآيَةَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ وَكَوْنِ النَّظَرِ الْمَوْصُولِ بِإِلَى سِيَّمَا الْمُسْنَدَ إلَى الْوَجْهِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ الثِّقَاتِ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْأَبْيَاتُ لِجَوَازِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ بِتَأْوِيلَاتٍ لَا تَخْفَى وَقَوْلُ ابْنِ الْفَارِضِ:

عِدِينِي بِوَصْلٍ وَامْطُلِي بِنِجَازِهِ

فَعِنْدِي إذَا صَحَّ الْهَوَى حَسُنَ الْمَطْلُ

فَذَاكَ مَذَاقٌ آخَرُ وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ قَوْلِي:

وَإِنِّي لِمَا تَهْوَى مُطِيعٌ وَسَامِعٌ

وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْحَتْفُ يَا بَدْرُ فَأْمُرْنِي

وَمَا كَانَ تَأْخِيرِي لِعُذْرٍ وَإِنَّمَا

أَلَذُّ بِتَكْرَارِ الْحَدِيثِ عَلَى أُذْنِي

إلَّا أَنَّ الْمَطْلَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْشُوقِ وَهُنَا مِنْ جِهَةِ الْعَاشِقِ وَالْهَوَى شُجُونٌ وَالْجُنُونُ فُنُونٌ.

(قَوْلُهُ: وَالْمُخَصِّصَةِ لِقَوْلِهِ إلَخْ) هَذَا أَحَدُ أَجْوِبَةٍ عَنْ تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي امْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ قَالُوا الْإِدْرَاكُ بِالْبَصَرِ هُوَ الرُّؤْيَةُ وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ الْعَهْدِ، وَالْبَعْضِيَّةُ لِلْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فَاَللَّهُ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَإِلَّا لَزِمَ تَخَلُّفُ الْخَبَرِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ وَعَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ لِلْعُمُومِ فَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْإِدْرَاكِ الرُّؤْيَةُ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إبْصَارُ الْكُفَّارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فَلَا حَاجَةَ إلَى دَعْوَى التَّخْصِيصِ قَالُوا أَيْضًا إنَّ نَفْيَ إدْرَاكِهِ بِالْبَصَرِ وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّمَدُّحِ مُدْرَجٌ فِي أَثْنَاءِ الْمَدْحِ فَيَكُونُ نَقِيضُهُ وَهُوَ الْإِدْرَاكُ بِالْبَصَرِ نَقْصًا وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَيَدُلُّ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ عُمُومُ الْإِبْصَارِ وَكَوْنُ الْكَلَامِ لِعُمُومِ السَّلْبِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ عُمُومَهُ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ فَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَمَا يُقَالُ إنَّهُ تَمَدُّحٌ وَمَا بِهِ التَّمَدُّحُ يَدُومُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا يَزُولُ يُجَابُ عَنْهُ

ص: 464

حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» إلَخْ وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقَوْلُهُ تُضَارُّونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَالرَّاءُ مُشَدَّدَةٌ مِنْ الضِّرَارِ وَمُخَفَّفَةٌ مِنْ الضَّيْرِ أَيْ الضَّرَرِ أَيْ هَلْ يَحْصُلُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَا يُشَوِّشُ عَلَيْكُمْ الرُّؤْيَةَ بِحَيْثُ تَشُكُّونَ فِيهَا كَمَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَحَدِيثُ صُهَيْبٍ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَى رَبِّهِمْ تَعَالَى» وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] أَيْ فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إلَيْهِ تَعَالَى وَيَحْصُلُ بِأَنْ يَنْكَشِفَ انْكِشَافًا تَامًّا مَيَّزَهَا عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ أَمَّا الْكُفَّارُ فَلَا يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى

ــ

[حاشية العطار]

بِأَنَّ امْتِنَاعَ الزَّوَالِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْأَفْعَالِ فَقَدْ يَزُولُ لِحُدُوثِهَا وَالرُّؤْيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَقَدْ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَيْنِ وَقَدْ لَا يَخْلُقُ ثُمَّ لَوْ سُلِّمَ عُمُومُ الْأَوْقَاتِ فَغَايَتُهُ الظُّهُورُ وَالرُّجْحَانُ وَمِثْلُهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْعَمَلِيَّاتِ دُونَ الْعِلْمِيَّاتِ.

قَالَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ وَمَا قِيلَ مِنْ التَّمَدُّحِ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ لَنَا لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَتْ الرُّؤْيَةُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَمَدُّحٌ إنَّمَا التَّمَدُّحُ لِلْمُمْتَنِعِ الْمُتَعَزِّزِ بِحِجَابِ الْكِبْرِيَاءِ مَعَ إمْكَانِ رُؤْيَتِهِ وَلِأَنَّ عَدَمَ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا مَعَ كَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ كَافٍ فِي التَّمَدُّحِ اهـ.

قَالَ سَيِّدِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لَا غَرَابَةَ فِي رُؤْيَتِهِ تَعَالَى بِالْبَصَرِ مَعَ أَنَّهُ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ مُنَزَّهًا فَكَذَا بِالْبَصَرِ إذْ كِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ قَالَ وَفِي الْحَقِيقَةِ الرُّؤْيَةُ هِيَ الْمَعْرِفَةُ فِي الدُّنْيَا كَمُلَتْ فَتَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهَا وَجَعَلَهُ إشَارَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] كَمَا أَنَّ ظُلْمَةَ الْجَهْلِ إذْ ذَاكَ تَكُونُ حِجَابًا (قَوْلُهُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ) هَذَا الْحَدِيثُ مُثْبِتٌ لِلرُّؤْيَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا سَيَقُولُ الشَّارِحُ وَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ حَدِيثُ صُهَيْبٍ الْآتِي (قَوْلُهُ: لَيْلَةَ الْبَدْرِ) هِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْهِلَالُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ وَمَا عَدَا ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ قَمَرٌ (قَوْلُهُ: لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ) لَعَلَّ السِّرَّ فِي ذِكْرِ هَذَا فِي الشَّمْسِ دُونَ الْقَمَرِ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْقَمَرِ مَا يُفِيدُهُ ظَاهِرًا وَهُوَ قَوْلُهُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ إذْ إضَافَةُ اللَّيْلَةِ إلَى الْبَدْرِ تُلَوِّحُ بِأَنَّ نُورَهُ مُمْتَدٌّ إلَى آخِرِهَا وَلَا يَكُونُ إلَّا بِدُونِ سَحَابٍ اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ) أَيْ عَنْهُمْ فَهُمْ الْمَحْجُوبُونَ وَلَا حِجَابَ لَهُ تَعَالَى إذْ الْحِجَابُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْرَامِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَأْلِيفٍ لَهُ لَطِيفٍ أَلَّفَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّ اللَّهِ: إنَّ حِجَابَهُ النُّورُ وَفِي آخَرَ: إنَّ حِجَابَهُ النَّارُ: إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ مِنْ النُّورِ كَنُورِ الشَّمْسِ أَوْ الْبَرْقِ مَثَلًا أَوْ النَّارِ وَدَقَّقَ فِي ذَلِكَ لَا يَزْدَادُ يَقِينًا فِي إدْرَاكِ النُّورِ وَلَا يَصِلُ إلَى كُنْهِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَرُبَّمَا كَلَّ بَصَرُهُ أَوْ تَضَرَّرَ وَلَا يَنَالُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ الْإِنْسَانُ هَذَا الْحَادِثَ الْكَائِنَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ جِنْسِهِ فَكَيْفَ يُدْرِكُ مَنْ لَا يَطْمَعُ فِيهِ مَنَالٌ وَلَا لَهُ فِي خَلْقِهِ مِثَالٌ فَقَوْلُهُ حِجَابُهُ النُّورُ أَوْ النَّارُ مَعْنَاهُ أَنَّ حِجَابَ طَمَعِنَا فِي الْإِدْرَاكِ وَقَاطِعَ أَمَلِنَا مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ إدْرَاكِنَا لِلنُّورِ وَنَحْوِهِ فَصَارَ النُّورُ حِجَابًا لِلَّهِ مِنْ وُصُولِ الْأَطْمَاعِ إلَيْهِ حِجَابَ قِيَاسٍ أُخْرَوِيٍّ إذْ مَنْ لَا يَدْرِ إلَّا الْحَادِثَ يَيْأَسْ مِنْ الْقَدِيمِ اهـ.

(قَوْلُهُ: فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ إلَخْ) هُوَ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَبَعْضُهُمْ فَسَّرَ الْحُسْنَى بِالْجَزَاءِ الْمُسْتَحَقِّ وَالزِّيَادَةَ بِالْفَضْلِ فَإِنْ قِيلَ الرُّؤْيَةُ أَصْلُ الْكَرَامَاتِ وَأَعْظَمُهَا فَكَيْفَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالزِّيَادَةِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُعَدَّ فِي الْحُسْنَيَاتِ وَفِي أَجْزِيَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

(قَوْلُهُ: بِأَنْ يَنْكَشِفَ انْكِشَافًا تَامًّا) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ الرَّبُّ تَعَالَى يُرَى بِالنُّورِ الَّذِي خَلَقَهُ فِي الْأَعْيُنِ زَائِدًا عَلَى نُورِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ تَكْشِفُ مَا لَا يَكْشِفُهُ الْعِلْمُ وَلَوْ أَرَادَ الرَّبُّ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ فِي الْقَلْبِ نُورًا كَنُورِ الْأَعْيُنِ لَمَا أَعْجَزَهُ ذَلِكَ بَلْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ نُورَ الْأَعْيُنِ فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ لَأَمْكَنَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ تَامًّا أَيْ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ إدْرَاكُ الْعَبْدِ لَا بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: مُنَزَّهًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ) وَأَنْشَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي

ص: 465

{كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] الْمُوَافِقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]

(وَاخْتُلِفَ هَلْ تَجُوزُ الرُّؤْيَةُ) لَهُ تَعَالَى (فِي الدُّنْيَا) فِي الْيَقَظَةِ (وَفِي الْمَنَامِ) فَقِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ: لَا أَمَّا الْجَوَازُ فِي الْيَقَظَةِ؛ فَلِأَنَّ مُوسَى عليه السلام طَلَبَهَا حَيْثُ قَالَ {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] وَهُوَ لَا يَجْهَلُ مَا يَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى وَالْمَنْعُ لِأَنَّ قَوْمَهُ طَلَبُوهَا فَعُوقِبُوا قَالَ تَعَالَى {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153] وَاعْتُرِضَ هَذَا بِأَنَّ عِقَابَهُمْ لِعِنَادِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ فِي طَلَبِهَا لَا لِامْتِنَاعِهَا وَأَمَّا الْمَنْعُ فِي الْمَنَامِ؛ فَلِأَنَّ الْمَرْئِيَّ فِيهِ خَيَالٌ وَمِثَالٌ وَذَلِكَ عَلَى الْقَدِيمِ مُحَالٌ وَالْمُجِيزُ قَالَ لَا اسْتِحَالَةَ لِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْوُقُوعِ وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ فِي الْيَقَظَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ قَوْله تَعَالَى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَقَوْلُهُ لِمُوسَى {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ فِي صِفَةِ الدَّجَّالِ نَعَمْ اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي وُقُوعِهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ

ــ

[حاشية العطار]

الْكَشَّافِ:

لَجَمَاعَةٌ سَمُّوا هَوَاهُمْ سُنَّةً

وَجَمَاعَةٌ حُمُرٌ لَعَمْرِي مُوكَفَهْ

قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ فَتَخَوَّفُوا

شَنَعَ الْوَرَى فَتَسَتَّرُوا بِالْبَلْكَفَهْ

وَرَدَّ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنْ أَلْطَفِهَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنِيرِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ:

وَجَمَاعَةٌ كَفَرُوا بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ

هَذَا لَوَعْدُ اللَّهِ مَا لَنْ يُخْلِفَهْ

وَتَلَقَّبُوا النَّاجِينَ كَلَا إنَّهُمْ

إنْ لَمْ يَكُونُوا فِي لَظًى فَعَلَى شَفَهْ

وَقَوْلُ أَبِي حَيَّانَ:

شَبَّهْتَ جَهْلًا صَدْرَ أُمَّةِ أَحْمَدَ

وَذَوِي الْبَصَائِرِ بِالْحَمِيرِ الْمُوكَفَهْ

وَجَبَ الْخَسَارُ عَلَيْك فَانْظُرْ مُنْصِفًا

فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ فَهْيَ الْمُنْصِفَهْ

أَتَرَى الْكَلِيمَ أَتَى بِجَهْلٍ مَا أَتَى

وَأَتَى شُيُوخُك مَا أَتَوْا عَنْ مَعْرِفَهْ

إنَّ الْوُجُوهَ إلَيْهِ نَاظِرَةٌ بِذَا

جَاءَ الْكِتَابُ فَقُلْتُمُو هَذَا سَفَهْ

نَطَقَ الْكِتَابُ وَأَنْتَ تَنْطِقُ بِالْهَوَى

فَهَوَى بِكَ فِي الْمَهَاوِي الْمُتْلِفَهْ

وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ هَذَا أَلْطَفُ الرُّدُودِ وَآمَنُهَا لَسَلِمَ لَهُ فَالِاشْتِغَالُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ كَالتَّشَفِّي بِالْقَتِيلِ بَعْدَ قَتْلِهِ:

مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلَامُ

وَالْمُرَادُ بِآيَةِ الْأَعْرَافِ هِيَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه السلام {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُمْتَنِعَةً لَكَانَ طَلَبُهَا جَهْلًا أَوْ سَفَهًا وَعَبَثًا وَطَلَبًا لِلْمُحَالِ وَالْأَنْبِيَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ بِاسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ وَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَالْمُعَلَّقُ بِالْمُمْكِنِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِثُبُوتِ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْمُعَلَّقِ بِهِ وَالْمُحَالُ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ التَّقَادِيرِ الْمُمْكِنَةِ قَوْلُهُ: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ} [المطففين: 15] الْآيَةَ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى وُقُوعِ الرُّؤْيَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ خُصُّوا بِكَوْنِهِمْ مَحْجُوبِينَ فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ غَيْرَ مَحْجُوبِينَ وَهُوَ مَعْنَى الرُّؤْيَةِ وَالْحَمْلُ عَلَى كَوْنِهِمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ ثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ

(قَوْلُهُ: لِعِنَادِهِمْ) أَوْ لِعَدَمِ تَأَهُّلِهِمْ لَهَا (قَوْلُهُ: لَا اسْتِحَالَةَ لِذَلِكَ) أَيْ لِلْخَيَالِ وَالْمِثَالِ فِي الْمَنَامِ لِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ التَّمْثِيلُ فِي الْوَاقِعِ وَالرُّؤْيَةُ الْمَنَامِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّمْثِيلِ وَالتَّخَيُّلِ فَيَرَى فِيهِ مَنْ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَصُورَةٍ ذَا جِسْمٍ وَصُورَةٍ وَتُرَى الْمَعَانِي عَلَى صُورَةِ الْأَجْسَامِ كَالْعِلْمِ عَلَى صُورَةِ اللَّبَنِ قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَضْنُونِ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ: الْحَقُّ أَنَّا نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرَى فِي الْمَنَامِ كَمَا نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرَى، وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يَفْهَمُ مَعْنَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَعَلَّ الْعَالِمَ الَّذِي طَبْعُهُ قَرِيبٌ مِنْ طَبْعِ الْعَوَامّ يَفْهَمُ أَنَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَأَى حَقِيقَةَ شَخْصِهِ الْمُودَعِ فِي رَوْضَةِ الْمَدِينَةِ بِأَنْ شَقَّ الْقَبْرَ وَخَرَجَ مُرْتَحِلًا إلَى مَوْضِعِ الرُّؤْيَةِ وَلَا شَكَّ فِي جَهْلِ مَنْ يَتَوَهَّمُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَى أَلْفَ مَرَّةٍ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي أَلْفِ مَوْضِعٍ بِأَشْخَاصٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ شَخْصٌ وَاحِدٌ فِي مَكَانَيْنِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ شَخْصٌ وَاحِدٌ

ص: 466

الْمِعْرَاجِ وَالصَّحِيحُ نَعَمْ وَإِلَيْهِ اسْتَنَدَ الْقَائِلُ بِالْوُقُوعِ فِي الْجُمْلَةِ لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ رَأَيْت رَبَّك قَالَ رَأَيْت نُورًا» وَفِي رِوَايَةٍ «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» ؟ ، بِتَشْدِيدِ نُونِ أَنَّى وَضَمِيرُ أَرَاهُ لِلَّهِ أَيْ حَجَبَنِي النُّورُ الْمُغَشِّي لِلْبَصَرِ عَنْ رُؤْيَتِهِ وَقَدْ ذَكَرَ وُقُوعَهَا فِي الْمَنَامِ الْكَثِيرُ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ

ــ

[حاشية العطار]

فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ شَيْخٍ وَشَابٍّ طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ إلَخْ وَيُرَى عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَمَنْ انْتَهَى حُمْقُهُ إلَى هَذَا الْحَالِ فَقَدْ انْخَلَعَ عَنْ رِبْقَةِ الْعَقْلِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ ثُمَّ حُقِّقَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ مِثَالٌ صَارَ وَاسِطَةً بَيْنَهُ، وَبَيْنَهُ فِي تَعْرِيفِهِ فَكَمَا أَنَّ جَوْهَرَ النُّبُوَّةِ أَعْنِي الرُّوحَ الْمُقَدَّسَةَ الْبَاقِيَةَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالصُّورَةِ لَكِنَّ الْعَبْدَ يَعْرِفُ ذَاتَهُ بِوَاسِطَةِ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ مِنْ نُورٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مِثَالًا لِلْجَمَالِ الْحَقِيقِيِّ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا صُورَةَ لَهُ وَلَا لَوْنَ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمِثَالُ صَادِقًا حَقًّا وَوَاسِطَةً فِي التَّعْرِيفِ فَيَقُولُ الرَّائِي رَأَيْت فِي الْمَنَامِ لَا بِمَعْنَى رَأَيْت ذَاتَهُ كَمَا يَقُولُ رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا بِمَعْنَى أَنِّي رَأَيْت ذَاتَ رُوحِهِ أَوْ ذَاتَ شَخْصِهِ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ مِثْلٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا مِثْلَ لَهُ قُلْنَا هَذَا جَهْلٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمِثْلِ وَالْمِثَالِ وَلَيْسَ الْمِثَالُ عِبَارَةً عَنْ الْمِثْلِ إذْ الْمِثْلُ الْمُسَاوِي فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالْمِثَالُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْمُسَاوَاةِ فَإِنَّ الْعَقْلَ مَعْنًى لَا يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ مُمَاثَلَةً حَقِيقِيَّةً وَلَنَا أَنْ نَضْرِبَ الشَّمْسَ لَهُ مِثَالًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَحْسُوسَاتِ تَنْكَشِفُ بِنُورِ الشَّمْسِ كَمَا تَنْكَشِفُ الْمَعْقُولَاتُ بِالْعَقْلِ فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ كَافٍ فِي الْمِثَالِ وَيُمَثَّلُ فِي النَّوْمِ السُّلْطَانُ بِالشَّمْسِ وَالْوَزِيرُ بِالْقَمَرِ وَالسُّلْطَانُ لَا يُمَاثِلُ الشَّمْسَ بِصُورَتِهِ وَلَا بِمَعْنَاهُ وَلَا الْوَزِيرُ يُمَاثِلُ الْقَمَرَ إلَّا أَنَّ السُّلْطَانَ لَهُ اسْتِعْلَاءٌ عَلَى الْكُلِّ وَيَعُمُّ أَمْرُهُ الْجَمِيعَ وَالشَّمْسُ تُنَاسِبُهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ وَالْقَمَرُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْأَرْضِ فِي إفَاضَةِ النُّورِ كَمَا أَنَّ الْوَزِيرَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ السُّلْطَانِ وَالرَّعِيَّةِ فِي إفَاضَةِ نُورِ الْعَدْلِ فَهَذَا مِثَالٌ وَلَيْسَ بِمِثْلٍ وَقَالَ اللَّهُ {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] الْآيَةَ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ نُورِهِ وَبَيْنَ الزُّجَاجَةِ وَالْمِشْكَاةِ وَعَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّبَنِ فِي الْمَنَامِ بِالْإِسْلَامِ، وَالْحَبْلِ بِالْقُرْآنِ وَأَيُّ مُمَاثَلَةٍ بَيْنَ اللَّبَنِ وَالْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْحَبْلِ وَالْقُرْآنِ إلَّا فِي مُنَاسَبَةٍ وَهُوَ أَنَّ الْحَبْلَ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي النَّجَاةِ وَاللَّبَنَ غِذَاءُ الْحَيَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْإِسْلَامَ غِذَاءُ الْحَيَاةِ الْبَاطِنَةِ فَهَذِهِ كُلُّهَا مِثَالٌ وَلَيْسَتْ بِمِثْلٍ.

فَذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُرَيَانِ فِي الْمَنَامِ. وَإِنَّ مِثَالًا يَعْتَقِدُهُ النَّائِمُ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَاتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَجُوزُ أَنْ يُرَى وَكَيْفَ يُنْكَرُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِهِ فِي الْمَنَامَاتِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَرَهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ تَوَاتَرَ إلَيْهِ مِنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ اهـ. بِتَصَرُّفٍ وَقَدْ اتَّفَقَ لِي تَأْلِيفُ رِسَالَةٍ أَشْبَعْت فِيهَا الْقَوْلَ فِي رُؤْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم مَنَامًا وَفِيهَا كَلَامٌ نَفِيسٌ غَيْرُ هَذَا ثُمَّ إنَّ اخْتِلَافَ رُؤْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الرَّائِي فَهِيَ صِفَاتُ الرَّائِي ظَهَرَتْ لَهُ كَمَا تَظْهَرُ فِي الْمِرْآةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لِاحْتِمَالِ الْخَطَإِ فِي التَّحَمُّلِ وَعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي (حُكِيَ) أَنَّ رَجُلًا رَآهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ يَقُولُ إنَّ فِي الْمَحَلِّ الْفُلَانِيِّ رِكَازًا اذْهَبْ فَخُذْهُ وَلَا خُمْسَ عَلَيْك فَذَهَبَ فَوَجَدَهُ فَاسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَخْرِجْ الْخُمْسَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَقُصَارَى رُؤْيَتِك الْآحَادُ (قَوْلُهُ: الصَّحِيحُ نَعَمْ) هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.

وَأُجِيبَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّارِحُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي عَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ صَرَاحَتِهَا فَأَبُو ذَرٍّ نَافٍ وَغَيْرُهُ مُثْبِتٌ وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي إنْ قُلْت رُؤْيَتُهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ فِي السَّمَاءِ وَالدُّنْيَا اسْمٌ لِمَا فِي جَوْفِ فَلَكِ الْقَمَرِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ رَآهُ فِي زَمَنِ وُجُودِ الدُّنْيَا لَا فِي مَكَانِهَا وَالْآخِرَةُ اسْمٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْخَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَهُمَا فِي مَحَلِّهِمَا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ حُوِّلَا لِقَلْبِهِ.

(قَوْلُهُ: أَيْ حَجَبَنِي النُّورُ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم نُورٌ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ حَجَبَنِي نُورٌ قَوْلُهُ أَنَّى أَرَاهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ بِمَعْنَى كَيْفَ (قَوْلُهُ: مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ) رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت يَا رَبِّ مَا أَفْضَلُ مَا

ص: 467

وَعَلَى ذَلِكَ الْمُعَبِّرُونَ لِلرُّؤْيَا وَبَالَغَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي إنْكَارِهِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنْعِ

(السَّعِيدُ مَنْ كَتَبَهُ) أَيْ اللَّهُ (فِي الْأَزَلِ سَعِيدًا) أَيْ لَا فِي غَيْرِهِ (وَالشَّقِيُّ عَكْسُهُ) أَيْ مَنْ كَتَبَهُ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ شَقِيًّا لَا فِي غَيْرِهِ (ثُمَّ لَا يَتَبَدَّلَانِ) أَيْ الْمَكْتُوبَانِ فِي الْأَزَلِ بِخِلَافِ الْمَكْتُوبِ فِي غَيْرِهِ كَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَالَ تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] أَيْ أَصْلُهُ الَّذِي لَا يُغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ حَدِيثٌ «فَرَغَ رَبُّك مِنْ الْعِبَادِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (وَمَنْ عَلِمَ) أَيْ اللَّهُ (مَوْتَهُ مُؤْمِنًا فَلَيْسَ بِشَقِيٍّ) بَلْ هُوَ سَعِيدٌ وَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ كُفْرٌ وَقَدْ غُفِرَ وَمَنْ عَلِمَ مَوْتَهُ كَافِرًا فَشَقِيٌّ وَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ إيمَانٌ وَقَدْ حَبِطَ وَفِي قَوْلٍ لِلْأَشْعَرِيِّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا فَالسَّعَادَةُ الْمَوْتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالشَّقَاوَةُ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْأُولَى الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَعَلَى الثَّانِيَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ قَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] وَقَالَ {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 106 - 107](وَأَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (مَا زَالَ بِعَيْنِ الرِّضَا) مِنْهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ تَصْدِيقِهِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ حَالَةُ كُفْرٍ كَمَا ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ آمَنَ

(وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ) مِنْ اللَّهِ (غَيْرُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ) مِنْهُ فَإِنَّ مَعْنَى الْأَوَّلَيْنِ الْمُتَرَادِفَيْنِ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَى الثَّانِيَيْنِ الْمُتَرَادِفَيْنِ إذْ الرِّضَا الْإِرَادَةُ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ وَالْأَخَصُّ غَيْرُ الْأَعَمِّ (فَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) مَعَ وُقُوعِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ بِمَشِيئَتِهِ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ نَفْسُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ

(هُوَ الرَّزَّاقُ) كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: 58] أَيْ فَلَا رَازِقَ غَيْرُهُ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مَنْ حَصَلَ لَهُ الرِّزْقُ بِتَعَبٍ فَهُوَ الرَّازِقُ لِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ تَعَبٍ فَاَللَّهُ هُوَ الرَّازِقُ لَهُ (وَالرِّزْقُ) بِمَعْنَى الْمَرْزُوقِ

ــ

[حاشية العطار]

يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ قَالَ كَلَامِي يَا أَحْمَدُ فَقُلْت يَا رَبِّ بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ قَالَ بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ وَرَآهُ أَحْمَدُ بْنُ حَضْرَوَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَحْمَدُ كُلُّ الْخَلْقِ يَطْلُبُونَ مِنِّي إلَّا أَبَا يَزِيدَ فَإِنَّهُ يَطْلُبُنِي (قَوْلُهُ: وَعَلَى ذَلِكَ الْمُعَبِّرُونَ) فَإِنَّهُمْ يَعْقِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ بَابًا لِرُؤْيَةِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا

(قَوْلُهُ: لَا فِي غَيْرِهِ) أَخَذَهُ مِنْ مَفْهُومِ الظَّرْفِ أَعْنِي قَوْلَهُ فِي الْأَزَلِ لِأَنَّ الظَّرْفَ لَهُ مَفْهُومٌ (قَوْلُهُ: كَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ) أَشَارَ بِإِدْخَالِ الْكَافِ عَلَيْهِ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِيهِ مَا ذُكِرَ إذْ مِثْلُهُ الصُّحُفُ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. ثُمَّ تَطَرُّقُ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ إلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أُمَّ الْكِتَابِ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَصْلُهُ أَمَّا عَلَى أَنَّ أُمَّ الْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَإِنَّمَا فِيهِ طِبْقُ مَا فِي الْعِلْمِ الْقَدِيمِ فَلَا مَحْوَ وَلَا إثْبَاتَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُمَا فِي صَحَائِفِ الْحَفَظَةِ.

(قَوْلُهُ: فَرَغَ رَبُّك) أَيْ قَضَى ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ (قَوْلُهُ: وَمَنْ عَلِمَ إلَخْ) الْمُنَاسِبُ التَّفْرِيعُ أَوْ حَذْفُهُ وَهَذَا هُوَ إيمَانُ الْمُوَافَاةِ (قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ سَعِيدٌ إلَخْ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السَّعَادَةَ الْأَزَلِيَّةَ هِيَ الْمَوْتُ عَلَى الْإِيمَانِ (قَوْلُهُ: وَقَدْ غُفِرَ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَقَعَتْ آخِرَ الْكَلَامِ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ وَقَدْ حَبِطَ وَأَشَارَ بِهِمَا لِدَفْعِ مَا يُقَالُ إنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْإِيمَانِ أَوْ الْكُفْرِ لَيْسَ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا أَيْ بَلْ هُوَ إيمَانٌ أَوْ كُفْرٌ وَلَكِنَّهُ غُفِرَ أَوْ حَبِطَ (قَوْلُهُ: خَالِدِينَ فِيهَا إلَخْ) سَقَطَ مِنْهُمْ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (قَوْلُهُ: وَأَبُو بَكْرٍ إلَخْ) أَيْ فَهُوَ سَعِيدٌ فَنَاسَبَ ذِكْرُهُ عَقِبَ قَوْلِهِ السَّعِيدُ إلَخْ (قَوْلُهُ: مَا زَالَ بِعَيْنِ الرِّضَا) أَيْ قَرِيرًا بِهَا أَيْ مَسْرُورًا بِهَا (قَوْلُهُ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ حَالَةُ كُفْرٍ) أَيْ كَسُجُودٍ لِصَنَمٍ وَنَحْوِهِ

(قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ) أَيْ عَلَى الْفِعْلِ الْمُرَادِ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَ إنْعَامٍ وَإِفْضَالٍ قَالَ النَّاصِرُ اعْتِبَارُ الْإِرَادَةِ فِي مَفْهُومِ الرِّضَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ الْكَافِرِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَفِيهِ لَا يَخْفَى فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ الرِّضَا عَدَمُ الِاعْتِرَاضِ كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ.

(قَوْلُهُ: وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَخْ) قَالَ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْمٌ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.

وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَوْلِهِ {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] بِأَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ دِينًا وَشَرْعًا بَلْ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ وَبِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادِ مَنْ وُفِّقَ لِلْإِيمَانِ وَلِهَذَا شَرَّفَهُمْ بِإِضَافَتِهِمْ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65] وَقَوْلِهِ {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] اهـ. زَكَرِيَّا

ص: 468

(مَا يُنْتَفَعُ بِهِ) فِي التَّغَذِّي وَغَيْرِهِ (وَلَوْ) كَانَ (حَرَامًا) بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ.

خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ لَا يَكُونُ إلَّا حَلَالًا لِاسْتِنَادِهِ إلَى اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْمُسْتَنِدُ إلَيْهِ لِانْتِفَاعِ عِبَادِهِ يَقْبُحُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ قُلْنَا لَا قُبْحَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَعِقَابُهُمْ عَلَى الْحَرَامِ لِسُوءِ مُبَاشَرَتِهِمْ أَسْبَابَهُ وَيَلْزَمُ الْمُعْتَزِلَةَ أَنَّ الْمُتَغَذِّيَ بِالْحَرَامِ فَقَطْ طُولَ عُمْرِهِ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ أَصْلًا وَهُوَ مُخَالِفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ مَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ

(بِيَدِهِ) تَعَالَى (الْهِدَايَةُ وَالْإِضْلَالُ) وَهُمَا (خَلْقُ الضَّلَالِ) وَهُوَ الْكُفْرُ (وَ) خَلْقُ (الِاهْتِدَاءِ وَهُوَ الْإِيمَانُ) قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] وَزَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهُمَا بِيَدِ الْعَبْدِ يَهْدِي نَفْسَهُ وَيُضِلُّهَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّهُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ

(وَالتَّوْفِيقُ خَلْقُ الْقُدْرَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى الطَّاعَةِ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ

ــ

[حاشية العطار]

(قَوْلُهُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَخْ) قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ الرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْحَيَوَانِ فَيَأْكُلُهُ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ حَلَالًا وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِمَا يَتَغَذَّى بِهِ الْحَيَوَانُ لِخُلُوِّهِ عَنْ مَعْنَى الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي مَفْهُومِ الرِّزْقِ (قَوْلُهُ: خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ) قَدْ فَسَّرُوا الرِّزْقَ تَارَةً بِمَمْلُوكٍ يَأْكُلُهُ الْمَالِكُ وَتَارَةً بِمَا لَا يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا حَلَالًا وَيَلْزَمُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ وَالْعَبِيدُ رِزْقًا وَهُوَ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَعَلَى التَّعْرِيفَيْنِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ إلَخْ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي.

(قَوْلُهُ: فِي الْجُمْلَةِ) إنَّمَا قَالَ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الرِّزْقَ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ مَا كَانَ بِتَعَبٍ فَهُوَ مِنْ الْعَبْدِ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ: وَيَلْزَمُ الْمُعْتَزِلَةَ إلَخْ) .

أُجِيبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ سَاقَ إلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ الْمُبَاحَاتِ إلَّا أَنَّهُ أَعَرَضَ عَنْهُ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ عَلَى أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُلْ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا قَالَهُ الْخَيَالِيُّ فَإِنْ أُجِيبَ بِمَنْعِ وُجُودِ مِثْلِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَإِنَّهُ قَدْ انْتَفَعَ بِدَمِ الْحَيْضِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةِ فَكَذَا يُقَالُ فِي مَادَّةِ مَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي تَرْشِيحِ التَّوْشِيحِ عَنْ وَالِدِهِ رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الرِّزْقُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ مِنْ الْمَأْمُورِ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ بِحَرَامٍ يُنْتِجُ لَا شَيْءَ مِنْ الرِّزْقِ بِحَرَامٍ وَبَيَانُ الصُّغْرَى {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [يس: 47] وَالْكُبْرَى أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ الْمُحَرَّمِ اهـ.

(قَوْلُهُ: بِيَدِهِ الْهِدَايَةُ إلَخْ) أَيْ بِقُدْرَتِهِ أَيْ أَنَّهُ خَالِقٌ لَهُمَا لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ خَالِقٌ لِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.

(قَوْلُهُ: خَلْقُ الْقُدْرَةِ) أَيْ عَلَى الطَّاعَةِ وَقَوْلُهُ وَالدَّاعِيَةُ أَيْ الرَّغْبَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِهَا لِلْعِلْمِ بِهَا مِنْ خَلْقِ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُحَقِّقُونَ (قَوْلُهُ: خَلْقُ الطَّاعَةِ إلَخْ) أَيْ لَا خَلْقُ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَادِثَةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ.

وَأَقُولُ بِأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي ذَاتِ الْفِعْلِ لَكِنْ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَةِ الرَّبِّ وَإِرَادَتِهِ فَقَدْ نُسِبَ إلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخَرُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ لَعَلَّنَا نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكُبْرَى وَلَا يَصِحُّ نِسْبَتُهَا لَهُمْ بَلْ هِيَ مَكْذُوبَةٌ عَنْهُمْ وَلَئِنْ صَحَّتْ فَإِنَّمَا قَالُوهَا فِي مُنَاظَرَةٍ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ جَرَّ إلَيْهَا الْجَدَلُ اهـ.

وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ قَدْ نَقَلَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ فِي كُتُبِهِمْ عَنْهُمْ وَاشْتُهِرَتْ وَقَدْ نَقَلَهَا صَاحِبُ نِهَايَةِ الْإِقْدَامِ عَنْ أَرْبَابِهَا وَاحْتَجَّ عَلَى صِحَّتِهَا وَفِي الشَّامِلِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ التَّصْرِيحُ بِمَا نُسِبَ إلَيْهِ وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ السَّنُوسِيُّ حُسْنُ ظَنٍّ مِنْهُ. قَالَ الشَّاوِيُّ وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ مَنْ أَخَذَ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ الْكُتُبِ يُحَرِّضُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا وَيَقُولُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْعَوَامّ مَا الْمَانِعُ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَةِ الرَّبِّ حَتَّى كَانَ عِنْدَهُ إدْخَالُ هَذَا الْعَقْدِ عَلَى

ص: 469

خَلْقُ الطَّاعَةِ، وَالْخِذْلَانُ ضِدُّهُ) فَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالدَّاعِيَةُ إلَيْهَا أَوْ خَلْقُ الْمَعْصِيَةِ (وَاللُّطْفُ مَا يَقَعُ عِنْدَهُ صَلَاحُ الْعَبْدِ أَخَرَةً) بِأَنْ تُقْطَعَ مِنْهُ الطَّاعَةُ دُونَ الْمَعْصِيَةِ

(وَالْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالْأَكِنَّةُ) الْوَارِدَةُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]{طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]{جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57] عِبَارَاتٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ (خَلْقُ الضَّلَالِ فِي الْقَلْبِ) كَالْإِضْلَالِ (وَالْمَاهِيَّاتِ) لِلْمُمْكِنَاتِ أَيْ حَقَائِقِهَا (مَجْعُولَةً) بَسِيطَةً كَانَتْ أَوْ مُرَكَّبَةً أَيْ كُلُّ مَاهِيَّةٍ بِجَعْلِ الْجَاعِلِ وَقِيلَ: لَا مُطْلَقًا بَلْ كُلُّ

ــ

[حاشية العطار]

النَّاسِ مِنْ الْقُرَبِ وَلَوْ عَلِمَ مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ لَمَا تَوَلَّعَ بِهَذِهِ الشَّهْوَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْوَرْطَةِ وَغَايَةُ الْأَخْذِ عَنْهُ الْجَهْلُ وَعَدَمُ الْإِدْرَاكِ بِالْأَحْوَطِ.

(قَوْلُهُ: أَخَرَةً بِوَزْنِ دَرَجَةٍ) أَيْ آخِرَ عُمْرِهِ

(قَوْلُهُ: وَالْمَاهِيَّاتُ إلَخْ) جَمْعُ مَاهِيَّةٍ تُطْلَقُ عَلَى مَا بِهِ يُجَابُ عَنْ السُّؤَالِ بِمَا هُوَ وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا وَعَلَى مَا بِهِ الشَّيْءُ هُوَ هُوَ وَهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ لَهُ بِاعْتِبَارِ تَشَخُّصِهِ هُوَ بِهِ وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ مَاهِيَّةً. وَبِاعْتِبَارِ تَحَقُّقِهِ حَقِيقَةً وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّارِحُ أَيْ حَقَائِقِهَا.

(قَوْلُهُ: بِجَعْلِ الْجَاعِلِ) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كَوْنَ الْمَاهِيَّةِ مَاهِيَّةً بِجَعْلِ الْجَاعِلِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَنَفْسِهِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ بَيْنَهُمَا جَعْلٌ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ أَثَرَ الْفَاعِلِ نَفْسُ الْمَاهِيَّاتِ أَوْ الْمَاهِيَّاتُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ فَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ يَقُولُ إنَّهَا أَثَرٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَى تَأْثِيرِ الْفَاعِلِ ثُمَّ الْعَقْلُ يَنْتَزِعُ مِنْهَا الْوُجُودَ وَيَصِفُهَا بِهِ فَالْوُجُودُ اعْتِبَارٌ عَقْلِيٌّ انْتِزَاعِيٌّ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَقَالَ بِهِ الْحُكَمَاءُ الْإِشْرَاقِيُّونَ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الثَّانِي يَقُولُ إنَّ أَثَرَ الْفَاعِلِ الْمَاهِيَّةُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ لَا مِنْ حَيْثُ نَفْسُهَا وَلَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ بَلْ أَثَرَ الْفَاعِلِ. ثُبُوتُهَا فِي الْخَارِجِ

ص: 470

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[حاشية العطار]

وَوُجُودُهَا فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَاهِيَّةَ مُتَّصِفَةً بِالْوُجُودِ فِي الْخَارِجِ فَالْمَاهِيَّةُ أَثَرٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ بِأَنْ تَكُونَ نَفْسُهَا صَادِرَةً عَنْهُ وَلَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمَاهِيَّةَ مَاهِيَّةً وَإِلَى

ص: 471

مَاهِيَّةٍ مُتَقَرِّرَةٌ بِذَاتِهَا.

(وَثَالِثُهَا) مَجْعُولَةً (إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً) بِخِلَافِ الْبَسِيطَةِ

(أَرْسَلَ الرَّبُّ تَعَالَى رُسُلَهُ) مُؤَيَّدِينَ مِنْهُ (بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ) أَيْ الظَّاهِرَاتِ (وَخُصَّ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم) مِنْهُمْ بِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ

ــ

[حاشية العطار]

هَذَا ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ لِلْمَاهِيَّةِ ثُبُوتًا فِي الْقِدَمِ وَكَذَلِكَ الْحُكَمَاءُ الْمَشَّاءُونَ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ أَثَرُ الْفَاعِلِ هُوَ الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِهِ الْوُجُودَ وَلَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إلَى أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ مَجْعُولَةً بِمَعْنَى كَوْنِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ مَاهِيَّةً.

إذْ لَا مَعْنَى لَهُ هَذَا هُوَ تَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ حَسْبَمَا حَقَّقَهُ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ فِي حَوَاشِي الزَّوْرَاءِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْجَعْلِ بِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَجْعُولَةً لَارْتَفَعَتْ الْمَجْعُولِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا أَوْ فِي وُجُودِهَا وَاتِّصَافِهَا بِالْوُجُودِ وَلَوْ ارْتَفَعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ لَزِمَ اسْتِغْنَاءُ الْمُمْكِنِ عَنْ الْمُؤَثِّرِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَعْلِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ الْإِنْسَانِيَّةُ مَثَلًا بِجَعْلِ الْجَاعِلِ لَمْ تَكُنْ الْإِنْسَانِيَّةُ عِنْدَ عَدَمِ جَعْلِ الْجَاعِلِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ أَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ؛ فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَثَرًا لِلْجَعْلِ وَيَكُونُ أَثَرًا لَهُ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الثَّانِي؛ فَلِأَنَّهُ سَلْبُ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ.

وَأُجِيبَ بِالْمَنْعِ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَمْ تَكُنْ الْإِنْسَانِيَّةُ إنْسَانِيَّةً قَضِيَّةٌ مَعْدُولَةٌ يَكُونُ مَوْضُوعُهَا مَوْجُودًا فَلَا نُسَلِّمُ هَذَا وَإِنْ أُرِيدَ قَضِيَّةٌ سَالِبَةٌ فَلَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ سَلْبِ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَعْدُومَ فِي الْخَارِجِ دَائِمًا مَسْلُوبٌ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا ارْتَفَعَ الْجَعْلُ فِي وَقْتٍ أَوْ دَائِمًا ارْتَفَعَ الْإِنْسَانِيَّةُ كَذَلِكَ فَيَصْدُقُ قَوْلُنَا لَيْسَ الْإِنْسَانِيَّةُ إنْسَانِيَّةً هَذَا مَا يُقَالُ هُنَا وَأَمَّا اسْتِيعَابُ أَطْرَافِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَقَدْ أَوْدَعْنَاهُ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً وَبَعْدَ إحَاطَتِك بِمَا قَرَّرْنَاهُ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخِ الْغُنَيْمِيِّ فِي حَوَاشِي شَرْحِ الصُّغْرَى إنْ كَانَ الْجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ فَلَا مَعْنَى لِتَصْيِيرِ الشَّيْءِ نَفْسَهُ لِلُزُومِ الْمُغَايَرَةِ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ فَهِيَ مَجْعُولَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَرَجْعُ الْخِلَافِ لَفْظِيًّا لَا فَرْقَ بَيْنَ بَسِيطٍ وَمُرَكَّبٍ سَاقِطٌ جِدًّا.

كَيْفَ وَقَدْ فَرَّعَ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى قَوْلِهِ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ الْآخَرُ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ مَبْسُوطَاتِ الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ فَتَأَمَّلْهُ

(قَوْلُهُ: أَرْسَلَ الرَّبُّ تَعَالَى رَسُولَهُ) قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ عِنْدَ قَوْلِ النَّسَفِيِّ وَفِي إرْسَالِ الرُّسُلِ حِكْمَةٌ أَيْ مَصْلَحَةٌ وَعَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ إرْسَالَ الرُّسُلِ وَاجِبٌ لَا بِمَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ قَضِيَّةَ الْحِكْمَةِ تَقْتَضِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ كَمَا زَعَمَتْ السُّمَنِيَّةُ وَالْبَرَاهِمَةُ وَلَا بِمُمْكِنٍ يَسْتَوِي طَرَفَاهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ اهـ.

قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِاقْتِضَاءِ الْحِكْمَةِ أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْحِكْمَةَ تُرَجِّحُ جَانِبَ وُقُوعِ الْإِرْسَالِ وَتُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْمُسَاوَاةِ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا الْوُجُوبُ هُوَ الْوُجُوبُ الْعَادِيُّ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ جَبَلَ أُحُدٍ لَمْ يَنْقَلِبْ ذَهَبًا مَعَ جَوَازِهِ وَلَيْسَ مِنْ الْوُجُوبِ الَّذِي زَعَمَهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِحَيْثُ يَكُونُ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِلسَّفَهِ وَالْعَبَثِ اهـ.

وَالرُّسُلُ جَمْعُ رَسُولٍ، فَعُولٌ مِنْ الرِّسَالَةِ وَهِيَ سِفَارَةُ الْعَبْدِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْ خَلِيقَتِهِ لِيُزِيحَ بِهَا عِلَلَهُمْ فِيمَا قَصُرَتْ عَنْهُ عُقُولُهُمْ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْيَوَاقِيتِ وَالْجَوَاهِرِ إنَّ الْإِرْسَالَ اخْتِبَارٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الْبَشَرِ كَمَا قَالُوا {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] وَأَيْضًا عَامَّةُ الْخَلْقِ لَا يُنَاسِبُهُمْ إرْشَادُ الرُّوحَانِيِّ الْمَحْضِ وَقَالَ فِي الْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ نَقْلًا عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ يَمْتَنِعُ رِسَالَةُ نَبِيَّيْنِ مَعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَا يَنْطِقَانِ فِي رِسَالَتِهِمَا بِلِسَانٍ وَاحِدٍ مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام فَلَمْ يَكُنْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ تَخُصُّهُ (قَوْلُهُ: بِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) الْبَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَقْصُورِ أَيْ خَتْمُ النُّبُوَّةِ قَاصِرٌ عَلَيْهِ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصَائِرِ لَمَّا كَانَ فَائِدَةُ الشَّرْعِ دَعْوَةَ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ وَإِرْشَادَهُمْ إلَى مَصَالِحِ الْعَرْشِ وَالْمَعَادِ وَإِعْلَامَهُمْ الْأُمُورَ الَّتِي تَعْجَزُ عَنْهَا عُقُولُهُمْ وَتَقْرِيرَ الْحِجَجِ الْقَاطِعَةِ وَإِزَالَةَ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ وَقَدْ تَكَفَّلَتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْغَرَّاءُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ مَزِيدٌ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الْآيَةَ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ حَاجَةٌ لِلْخَلْقِ إلَى بَعْثَةِ نَبِيٍّ فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ اهـ

ص: 472

كَمَا قَالَ كِتَابُهُ الْمُبِينُ {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40](الْمَبْعُوثُ إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ) كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «وَأُرْسِلْتُ إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» وَفُسِّرَ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كَمَا فُسِّرَ بِهِمَا مَنْ بَلَغَ، فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] أَيْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، وَالْعَالَمِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] .

وَصَرَّحَ الْحَلِيمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُرْسَلْ إلَى الْمَلَائِكَةِ وَفِي الْبَابِ الْخَامِسَ عَشَرَ بِانْفِكَاكِهِمْ مِنْ شَرْعِهِ وَفِي تَفْسِيرَيْ الْإِمَامِ الرَّازِيّ وَالْبُرْهَانِ النَّفْيُ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلَيْهِمْ (الْمُفَضَّلُ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ) مِنْ الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَشْرَكُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا ذُكِرَ (وَبَعْدَهُ) فِي التَّفْضِيلِ (الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ عليهم السلام) فَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْبَشَرِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ

ــ

[حاشية العطار]

فَشَرْعُهُ صلى الله عليه وسلم مُسْتَمِرٌّ لِلْحَشْرِ أَيْ لَا يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَشْرِ شَرْعٌ آخَرُ وَلَا يَلْزَمُ اسْتِمْرَارُ الْعَمَلِ بِهِ لِلْحَشْرِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَمُوتُونَ قَبْلَهُ بِالرِّيحِ الْمَيِّتَةِ وَتَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شِرَارِ النَّاسِ وَهَذَا مِنْ مَعَانِي اسْمِهِ صلى الله عليه وسلم الْحَاشِرِ وَنُزُولُ عِيسَى عليه السلام إنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ تَابِعٌ لَهُ وَلَيْسَتْ نُبُوَّةً مُبْتَدَأَةً حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى ابْتِدَاؤُهَا وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إشْكَالُ أَنَّ مَجِيءَ عِيسَى بِشَرِيعَتِنَا كَمَجِيءِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ بِشَرْعِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام وَقَدْ عُدُّوا أَنْبِيَاءً مُسْتَقِلِّينَ لِقَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّسُولِ أَنْ يَنْسَخَ شَرْعَ مَنْ قَبْلَهُ وَوَجْهُ السُّقُوطِ أَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إسْرَائِيلَ مَجِيئُهُمْ هَذَا هُوَ بَدْءُ نُبُوَّتِهِمْ وَلَا يُنَافِي التَّبَعِيَّةَ رَدُّ الْجُزْئِيَّةِ وَعَدَمُ قَبُولِهَا وَقَدْ قَبِلَهَا صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ أَخْذَهَا مُغَيًّا إلَى ذَلِكَ الزَّمَنِ فَعَدَمُ قَبُولِهَا تَنْفِيذٌ لِحُكْمِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم.

وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ عَدَمَ قَبُولِ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ فَإِنَّ عِلَّةَ قَبُولِهَا الِاحْتِيَاجُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إعْطَائِهِ الْعَسَاكِرَ لِلْجِهَادِ وَعِنْدَ نُزُولِ عِيسَى عليه السلام تَقْرُبُ الْقِيَامَةُ وَتَكْثُرُ الْأَمْوَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهَا أَحَدٌ فَهُوَ نَظِيرُ إعْطَائِهِ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْغَنَائِمِ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ لِتَكْثُرَ سَوَادُ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَثُرَ أَهْلُهُ سَقَطَ ذَلِكَ مِنْ زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا دَقِيقًا فَتَأَمَّلْهُ.

(قَوْلُهُ: الْمَبْعُوثُ إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ) ظَاهِرُ الْمَتْنِ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى الْمَلَائِكَةِ وَكَلَامُ الشَّارِحِ يَمِيلُ إلَى عَدَمِهِ (قَوْلُهُ: حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ إلَخْ) طُعِنَ فِيهِ بِمَا نَقَلَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ إلَيْهِمْ (قَوْلُهُ: الْمُفَضَّلُ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ) بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ شَذَّ الزَّمَخْشَرِيُّ فَذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] الْآيَةَ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَفْضَلُ وَقَدْ شُنِّعَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ جَرَاءَةٌ مِنْهُ، وَنَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّفْضِيلِ عَلَى يُونُسَ وَغَيْرِهِ لِلتَّوَاضُعِ أَوْ لَا تُفَضِّلُونِي تَفْضِيلًا يُؤَدِّي إلَى تَنْقِيصِ الْمَفْضُولِ وَذَكَرَ الْيُوسِيُّ فِي حَوَاشِي الْكُبْرَى يَنْبَغِي لَك أَنْ تَسْتَحْضِرَ فِي مَعْنَى الْأَفْضَلِيَّةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْوَلِيُّ الصَّالِحُ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ فِي رَسَائِلِهِ الْكُبْرَى حَيْثُ قَالَ: إنَّهَا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ أَجْلِ عِلَّةٍ مُوجِبَةٍ لِذَلِكَ وُجِدَتْ فِي الْفَاضِلِ وَوُجِدَتْ فِي الْمَفْضُولِ وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ عَبِيدِهِ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ وَذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ لَهُ بِحَقِّ سِيَادَتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْأَغْرَاضِ وَغَيْرُ هَذَا تَعَسُّفٌ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي سُوءِ الْأَدَبِ وَمَا زِلْت أَسْتَثْقِلُ قَوْلَهُمْ إنَّ فُلَانًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ حَالُهُ كَذَا وَحَالُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم كَذَا وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ لِمَا يُوهِمُ مِنْ النَّقْصِ وَالِانْحِطَاطِ اهـ.

(قَوْلُهُ: فَلَا يَشْرَكُهُ إلَخْ) تَفْرِيعٌ عَلَى الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ (قَوْلُهُ: فَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْبَشَرِ إلَخْ) فِي عَقَائِدِ النَّسَفِيِّ أَنَّ رُسُلَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ

ص: 473

(وَالْمُعْجِزَةُ) الْمُؤَيَّدُ بِهَا الرُّسُلُ (أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ) بِأَنْ يَظْهَرَ عَلَى خِلَافِهَا كَإِحْيَاءِ مَيِّتٍ وَإِعْدَامِ جِيلٍ وَانْفِجَارِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ (مَقْرُونٌ بِالتَّحَدِّي) مِنْهُمْ (مَعَ عَدَمِ الْمُعَارَضَةِ) مِنْ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْخَارِقِ (وَالتَّحَدِّي الدَّعْوَى) لِلرِّسَالَةِ فَخَرَجَ غَيْرُ الْخَارِقِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ وَالْخَارِقُ مِنْ غَيْرِ تَحَدٍّ وَهُوَ كَرَامَةُ الْوَلِيِّ

ــ

[حاشية العطار]

مِنْ رُسُلِ الْمَلَائِكَةِ وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ وَعَامَّةُ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْمَلَائِكَةِ اهـ.

وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ وَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ نَسَبَهُ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ فِي شَرْحِ عَقَائِدِ الْعَضُدِ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ قَالَ وَالْمُرَادُ بِالْأَفْضَلِ الْأَكْثَرُ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ فِطْرِيَّةٌ وَلَا مُزَاحِمَ لَهُمْ عَنْهَا بِخِلَافِ عِبَادَةِ الْبَشَرِ فَإِنَّ لَهُمْ مُزَاحِمَاتٌ كَثِيرَةٌ فَتَكُونُ عِبَادَتُهُمْ أَشَقُّ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا قَالَ وَعَلَى هَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ إسَاءَةَ الْأَدَبِ مَعَ الْمَلَكِ كُفْرٌ وَمَعَ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَتْ بِكُفْرٍ فَيَكُونُ الْمَلَكُ أَفْضَلَ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَلَكِ أَشْرَفَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مُنَاسَبَتِهِ مَعَ الْمَبْدَإِ فِي النَّزَاهَةِ وَقِلَّةِ الْوَسَائِطِ لَا عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ بِمَعْنَى كَوْنِهِ أَكْثَرَ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ اهـ.

وَالْمَلَائِكَةُ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ أُعْطُوا قُدْرَةً عَلَى التَّشَكُّلِ وَعَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ مُوَاظِبُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ مَعْصُومُونَ عَنْ الْمُخَالَفَةِ وَالْفِسْقِ لَا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ وَلَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَفِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ أَنَّ طَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ كُلَّهَا مُحَتَّمَةٌ عَلَيْهِمْ فَلَا يَفْرُغُونَ مِنْ تَوْظِيفٍ حَتَّى يُمْكِنَهُمْ التَّطَوُّعُ قَالَ فَمَقَامُ «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ» الْحَدِيثَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْبَشَرِ وَقَالَ أَيْضًا إنَّهُمْ لَا يَتَشَكَّلُونَ فِي صُوَرِ بَعْضِهِمْ فَلَا يَتَشَكَّلُ جِبْرِيلُ بِصُورَةِ مِيكَائِيلَ وَلَا الْعَكْسُ وَهَذَا بِخِلَافِ أَوْلِيَاءِ الْبَشَرِ فَيُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ. اهـ.

ثُمَّ لَا يُشْكِلُ الْقَوْلَ بِعِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ قِصَّةُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُمَا رَجُلَانِ سُمِّيَا مَلَكَيْنِ تَشْبِيهًا بِالْمَلَائِكَةِ وَيَدُلُّ لَهُ قِرَاءَةُ كَسْرِ اللَّامِ وَقِيلَ: إنَّهُمَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَأُرْسِلَا فِتْنَةً وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِمَا عِصْيَانٌ وَعَذَابٌ وَقَوْلُهُمْ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] لَيْسَ غِيبَةً لِمُعَيِّنٍ وَلَا اعْتِرَاضًا بَلْ مُجَرَّدُ اسْتِفْهَامٍ وَفِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ عَدَمُ عِصْمَةِ مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ وَسَمَاءِ الدُّنْيَا اهـ.

وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ اسْتَقَرَّ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي عِصْمَتِهِمْ وَفِي فَضْلِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا قَاطِعَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَالْمُعْجِزَةُ هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَجْزِ الْمُقَابِلِ لِلْقُدْرَةِ وَحَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ إثْبَاتُ الْعَجْزِ اُسْتُعِيرَ لِإِظْهَارِهِ ثُمَّ أُسْنِدَ مَجَازًا إلَى مَا هُوَ سَبَبُ الْعَجْزِ وَجُعِلَ اسْمًا لَهُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلنَّقْلِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلَّامَةٍ (قَوْلُهُ: أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ) هَاهُنَا قَيْدٌ مَطْوِيٌّ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِدَعْوَاهُ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ لِدَلَالَةِ التَّحَدِّي عَلَيْهِ الْتِزَامًا فَإِنَّ التَّحَدِّيَ طَلَبُ الْمُعَارَضَةِ فِي شَاهِدِ دَعْوَاهُ وَلَا شَهَادَةَ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ الْخَارِقُ مُوَافِقًا لِلدَّعْوَى فَيَخْرُجُ بِهَذَا الْقَيْدِ الْمَطْوِيُّ الْخَارِقُ الَّذِي لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لَهَا كَنُطْقِ الْجَمَادِ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ.

فَلَوْ ادَّعَى أَحَدٌ النُّبُوَّةَ وَقَالَ مُعْجِزَتِي أَنْ يَنْطِقَ هَذَا الْجَمَادُ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ صِدْقُهُ بَلْ ازْدَادَ اعْتِقَادُ كَذِبِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مُعْجِزَتِي أَنِّي أُحْيِي هَذَا الْمَيِّتِ فَأَحْيَاهُ ثُمَّ نَطَقَ الْمَيِّتُ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٍ فَإِنَّهُ مُعْجِزَةٌ لِأَنَّ مُعْجِزَتَهُ هِيَ إحْيَاؤُهُ وَهُوَ غَيْرُ مُكَذِّبٍ لِدَعْوَاهُ وَالْحَيُّ بَعْدَ الْمَوْتِ يَتَكَلَّمُ بِاخْتِيَارِ مَا شَاءَ وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَتْ الْمُعْجِزَةُ هِيَ النُّطْقُ مُطْلَقًا لَكِنَّ ذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ضِمْنِ هَذَا الْكَلَامِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ الصَّادِرُ عَنْ الْجَمَادِ مُعْجِزَةً وَهُوَ مُكَذِّبٌ لَهُ فَلَا يَكُونُ مُعْجِزَةً ثُمَّ إنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَارِقِ فَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ مُعْجِزَتِي أَنْ تُخْرَقَ الْعَادَةُ عَلَى الْإِجْمَالِ فَيَحْصُلُ خَارِقٌ مَا وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا ثَمَرَةَ لَهُ الْآنَ لِخَتْمِ الرِّسَالَةِ (قَوْلُهُ: بِالتَّحَدِّي) قَالَ شَيْخِي زَادَهْ فِي حَوَاشِي الْبَيْضَاوِيِّ التَّحَدِّي طَلَبُ الْمُعَارَضَةِ مِنْ صَاحِبِك بِإِتْيَانِهِ مِثْلَ مَا فَعَلْته أَنْتَ يُقَالُ تَحَدَّيْتُ فُلَانًا إذَا بَارَيْتُهُ فِي فِعْلٍ وَنَازَعْتُهُ الْغَلَبَةَ فِيهِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحُدَاءِ فَإِنَّ الْحَادِيَيْنِ يَتَعَارَضَانِ فِيهِ وَيُغَنِّي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ مَا أَتَى بِهِ صَاحِبُهُ وَالْحُدَاءُ وَالْحَدْوُ سَوْقُ الْإِبِلِ وَالْغِنَاءُ لَهَا يُقَالُ حَدَوْتُ الْإِبِلَ حَدْوًا وَحُدَاءً إذَا سُقْتُهَا مَعَ الْغِنَاءِ لَهَا اهـ.

وَلَمَّا كَانَتْ الْمُعَارَضَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَالَ بِالتَّحَدِّي مِنْهُمْ

ص: 474

وَالْخَارِقُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى التَّحَدِّي وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْمُقَارَنَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَخَرَجَ السِّحْرُ وَالشَّعْبَذَةُ مِنْ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ إذْ لَا مُعَارَضَةَ بِذَلِكَ.

(وَالْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ)

ــ

[حاشية العطار]

أَيْ بِطَلَبِهِ الْمُعَارَضَةَ مِنْهُمْ وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالتَّحَدِّي الدَّعْوَى تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَكْتَفِي بِدَعْوَى الرِّسَالَةِ تَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالتَّحَدِّي بِمَعْنَى طَلَبِ الْإِتْيَانِ بِالْمِثْلِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلتَّحَدِّي كَقَوْلِهِ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (قَوْلُهُ: وَالْخَارِقُ الْمُتَقَدِّمُ) وَهُوَ الْإِرْهَاصُ مِنْ الرِّهْصِ بِالْكَسْرِ وَهُوَ أَسَاسُ الْحَائِطِ كَرُؤْيَةِ آمِنَةَ أُمُّهُ صلى الله عليه وسلم النُّورَ وَسُقُوطِ إيوَانِ كِسْرَى وَالنُّورِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي عَبْدِ اللَّهِ وَالِدِهِ صلى الله عليه وسلم (قَوْلُهُ: وَخَرَجَ السِّحْرُ) أَيْ خَرَجَ نَحْوُ السِّحْرِ بِاشْتِرَاطِ عَدَمِ مَا يُعَارَضُ بِهِ الْخَارِقُ فَلَا يُشْتَرَطُ عَدَمُهُ لِأَنَّهُ لَا يُعَارَضُ بِهِ الْخَارِقُ وَهَذَا مَا قَرَّرَ بِهِ الشَّارِحُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ وَقَرَّرَ غَيْرُهُ بِأَنَّ نَحْوَ السِّحْرِ خَرَجَ بِاشْتِرَاطِ عَدَمِ كَوْنِ الْخَارِقِ مُعَارَضًا بِمِثْلِهِ مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ خَارِقٌ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ بِمِثْلِهِ وَكُلٌّ صَحِيحٌ وَالْأَوَّلُ أَدَقُّ وَالثَّانِي أَنْسَبُ بِبَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِالْقُيُودِ قَالَهُ زَكَرِيَّا وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ السِّحْرَ إظْهَارُ أَمْرٍ خَارِقٍ لِعَادَةٍ مِنْ نَفْسٍ شِرِّيرَةٍ خَبِيثَةٍ بِمُبَاشَرَةِ أَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ جَائِزٌ عَقْلًا ثَابِتٌ سَمْعًا وَكَذَلِكَ الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ مُجَرَّدُ إرَادَةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّعْبَذَةِ الَّتِي سَبَبُهَا خِفَّةُ حَرَكَاتِ الْيَدِ وَإِخْفَاءُ وَجْهِ الْحِيلَةِ فِيهِ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَالْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ) قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي حَوَاشِي الْخَيَالِيِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ اللُّغَوِيُّ وَأَنَّ التَّصْدِيقَ الْمَنْطِقِيَّ بِعَيْنِهِ التَّصْدِيقُ اللُّغَوِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَوْرَدَهُ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ أَنَّ الْمَنْطِقِيَّ إنَّمَا بَيَّنَ مَا هُوَ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ وَقَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ إنَّ التَّصْدِيقَ اللُّغَوِيَّ أَخَصُّ مِنْ الْمَنْطِقِيِّ فَإِنَّ الصُّورَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ النِّسْبَةِ التَّامَّةِ الْخَبَرِيَّةِ تَصْدِيقٌ قَطْعًا فَإِنْ كَانَ حَاصِلًا بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ بِحَيْثُ يَسْتَلْزِمُ الْإِذْعَانَ وَالْقَبُولَ فَهُوَ تَصْدِيقٌ لُغَوِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَمَنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى شَيْءٍ فَعَلِمَ أَنَّهُ جِدَارٌ أَوْ فَرَسٌ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ يَقِينِيَّةٌ وَلَيْسَ بِتَصْدِيقٍ لُغَوِيٍّ اهـ. مُلَخَّصًا.

وَأُورِدُ أَنَّ التَّصْدِيقَ الْمَنْطِقِيَّ يَعُمُّ الظَّنَّ فَمُقْتَضَاهُ كِفَايَةُ الظَّنِّ فِي الْإِيمَانِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ السَّيِّدَ صَرَّحَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ بِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ الَّذِي لَا يَخْطُرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَقِينِ فِي كَوْنِهِ إيمَانًا حَقِيقِيًّا فَإِنَّ إيمَانَ أَكْثَرِ الْعَوَامّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اهـ.

وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ الثَّابِتِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ عَدَمُ كِفَايَةِ الظَّنِّ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يَخْطُرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ مَحَلُّ كَلَامٍ هَذَا وَاَلَّذِي يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ مَا اخْتَارَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَلِذَا قَالَ الشَّارِحُ أَيْ الْإِذْعَانُ لِذَلِكَ وَالْقَبُولُ لَهُ فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى التَّصْدِيقِ الْمَنْطِقِيِّ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] وَقَالَ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَقَدْ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ إنَّ كَثْرَةَ الْأَقْوَالِ فِيهِ أَيْ فِي الْإِيمَانِ تَقْتَضِي خَفَاءَ حَقِيقَتِهِ مَا هِيَ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا اسْتِبْعَادٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي الشَّيْءِ الْوَاضِحِ نَعَمْ عُمْدَةُ الْأَمْرِ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ انْتَهَى وَبِمَا قَرَّرْنَاهُ ظَهَرَ لَك أَنَّ الْإِيمَانَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعَبْدِ كَالْكُفْرِ وَمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّشَدُّقُ مِنْ بَعْضِ الْمُتَنَطِّعَةِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ بَعْضَ مَسَائِلَ مِنْ رَسَائِلَ أَلَّفَهَا أَمْثَالُهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ مِنْ قَوْلِهِمْ هَذَا الْإِيمَانُ قَدِيمٌ أَوْ حَادِثٌ وَهَلْ هُوَ فِيك أَمْ أَنْتَ فِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَا يُصْغَى إلَيْهِ وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ قَدِيمٌ بِاعْتِبَارِ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الْهِدَايَةُ خُرُوجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ بِمَعْنَى الْإِيصَالِ أَوْ الدَّلَالَةِ حَادِثَةٌ وَفِي التَّفْتَازَانِيِّ فَإِنْ قِيلَ قَدْ لَا يَبْقَى التَّصْدِيقُ كَمَا فِي حَالِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ قُلْنَا التَّصْدِيقُ بَاقٍ فِي الْقَلْبِ وَالذُّهُولُ إنَّمَا هُوَ عَنْ حُصُولِهِ وَلَوْ سُلِّمَ فَالشَّارِعُ جَعَلَ الْمُحَقَّقَ الَّذِي لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُضَادُّ فِي حُكْمِ الْبَاقِي حَتَّى كَانَ الْمُؤْمِنُ اسْمًا لِمَنْ آمَنَ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَاضِي وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا هُوَ عَلَامَةُ التَّكْذِيبِ اهـ.

وَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَائِمٌ بِالرُّوحِ حَقِيقَةً وَبِالْجَسَدِ حُكْمًا فَإِنَّ الْمَعَارِفَ وَالْعُلُومَ تَبْقَى مَعَ الرُّوحِ فَإِنْ قُلْت حَدِيثُ «لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» إلَخْ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْإِيمَانِ حِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ

ص: 475

أَيْ بِمَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِذْعَانَ وَالْقَبُولَ لَهُ وَالتَّكْلِيفَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ دُونَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِالتَّكْلِيفِ بِأَسْبَابِهِ كَإِلْقَاءِ الذِّهْنِ وَصَرْفِ النَّظَرِ وَتَوْجِيهِ الْحَوَاسِّ وَرَفْعِ الْمَوَانِعِ (وَلَا يُعْتَبَرُ) التَّصْدِيقُ الْمَذْكُورُ فِي الْخُرُوجِ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالْإِيمَانِ (إلَّا مَعَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ الْقَادِرِ) عَلَيْهِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ عَلَامَةً لَنَا عَلَى التَّصْدِيقِ الْخَفِيِّ عَنَّا حَتَّى يَكُونَ الْمُنَافِقُ مُؤْمِنًا فِيمَا بَيْنَنَا كَافِرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145](وَهَلْ التَّلَفُّظُ) الْمَذْكُورُ (شَرْطٌ) لِلْإِيمَانِ (أَوْ شَطْرٌ) مِنْهُ (فِيهِ تَرَدُّدٌ) لِلْعُلَمَاءِ.

(وَالْإِسْلَامُ إعْمَالُ الْجَوَارِحِ) مِنْ الطَّاعَاتِ كَالتَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ

ــ

[حاشية العطار]

أَنَّ الْمَنْفِيَّ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ الْمُصَاحِبُ لِلْمُرَاقَبَةِ إذْ لَوْلَا حِجَابُ الْغَفْلَةِ مَا عَصَى أَوْ أَنَّهُ إنْ اسْتَحَلَّهُ فَإِنَّهُ يَرْتَدُّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَيَرْتَفِعُ إيمَانُهُ وَمَا يُقَالُ إنَّهُ يُرْفَعُ ثُمَّ يَرْجِعُ لَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ مَاتَ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْصِيَةِ يَمُوتُ كَافِرًا وَلَا قَائِلَ بِهِ (قَوْلُهُ: أَيْ بِمَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ) يُشْكِلُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِي لَهَبٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ جَاءَ الْوَحْيُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَإِنَّهُ مُكَلَّفٌ قَطْعًا بِتَصْدِيقِهِ فِي خَبَرِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ خَبَرِهِ عَدَمُ إيمَانِهِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ تَصْدِيقُهُ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُصَدِّقٍ فَإِنَّ إذْعَانَ الشَّخْصِ بِأَمْرٍ عَلِمَ فِي بَاطِنِهِ خِلَافَ ذَلِكَ الْأَمْرِ مُحَالٌ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِالْمُمْتَنِعِ الذَّاتِيِّ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَنْعِهِ وَأَيْضًا إيمَانُهُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ عَيْنُ الْكُفْرِ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِالْكُفْرِ وَهُوَ إشْكَالٌ صَعْبٌ شَهِيرٌ.

وَأَجَابَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِجْمَالِيَّ فِي حَقِّهِ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْمُحَالِ وَإِنَّمَا الْمُحَالُ هُوَ التَّفْصِيلِيُّ وَوُجُوبُهُ مَشْرُوطٌ بِالْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ فَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْمُحَالِ إنَّمَا يُكَلَّفُ بِهِ إذَا عَلِمَهُ وَوَصَلَ إلَيْهِ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِخْبَارُهُ لِلرَّسُولِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنُوحٍ {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] اهـ.

قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ إنَّمَا يَدْفَعُ الشُّبْهَةَ عَنْ الْوُقُوعِ لَا عَنْ الْجَوَازِ لِأَنَّ وُصُولَ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ إلَيْهِ مُمْكِنٌ وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الْمُمْكِنِ مُمْكِنٌ اهـ.

قَالَ الْخَيَالِيُّ وَقَدْ يُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّهُ يَجُوزُ بِأَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ فِي حَقِّهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا عَدَاهُ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ إذْ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِي الْإِيمَانِ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ اهـ. أَيْ وَالْإِيمَانُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَافُهَا بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ بَعْضَ تَكْذِيبِ الْوَحْيِ لَيْسَ بِكُفْرٍ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِدُونِهِ كَيْفَ وَكُلُّ تَكْذِيبٍ لَهُ فَهُوَ كُفْرٌ غَيْرُ مُبَاحٍ وَأَنَّ عُمُومَ تَصْدِيقِهِ وَاجِبٌ قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ وَقَدْ يُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ وَمَعْنَى لَا يُؤْمِنُ بِهِ رَفْعُ الْإِيجَابِ الْكُلِّيِّ فَلَا يُنَافِيهِ التَّصْدِيقُ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ تَأَمَّلْ اهـ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْإِشْكَالُ صَعْبٌ (قَوْلُهُ: وَالتَّكْلِيفُ إلَخْ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ بِالتَّكْلِيفِ بِأَسْبَابِهِ وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ التَّصْدِيقَ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ وَلَا تَكْلِيفَ إلَّا بِمَا هُوَ مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ التَّكْلِيفَ إنَّمَا هُوَ بِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ إلَخْ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعْدَ تَفْسِيرِ التَّصْدِيقِ بِالْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِ الِانْفِعَالُ إنْ فُسِّرَ الْإِذْعَانُ وَالْقَبُولُ بِتَأْثِيرِ النَّفْسِ بِذَلِكَ فَإِنْ فُسِّرَ بِرَبْطِ الْقَلْبِ عَلَى مَا عُلِمَ مَجِيءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَا مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ وَحِينَئِذٍ لَا وُرُودَ لِلسُّؤَالِ وَلَا احْتِيَاجَ لِلْجَوَابِ (قَوْلُهُ: وَلَا يُعْتَبَرُ إلَّا مَعَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ) هَذَا الْكَلَامُ مَحَلُّهُ فِي كَافِرٍ أَصْلِيٍّ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ مُؤْمِنُونَ قَطْعًا وَلَا يَجْرِي فِيهِمْ هَذَا الْخِلَافُ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَلَوْ لَمْ يَنْطِقُوا حَيْثُ: لَا إبَاءَ (قَوْلُهُ: النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ) قَالَ بَعْضُ أَشْيَاخِنَا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إنَّ الْمَدَارَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَيِّ لَفْظٍ وَجَرَى عَلَيْهِ الْأَبِيُّ مُخَالِفًا لِشَيْخِهِ ابْنِ عَرَفَةَ الْمُشْتَرِطِ اللَّفْظَ الْمَخْصُوصَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لَنَا فِي ذَلِكَ (قَوْلُهُ: شَرْطٌ لِلْإِيمَانِ) هُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِيمَانِ هُوَ الْقَلْبُ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ لِلِّسَانِ دَاخِلًا فِيهِ.

(قَوْلُهُ: إعْمَالُ الْجَوَارِحِ) مَصْدَرُ أَعْمَلَ وَالْعَمَلُ هُوَ الْفِعْلُ عَنْ رُؤْيَةٍ فَمِنْ ثَمَّ

ص: 476

ذَلِكَ (وَلَا تُعْتَبَرُ) الْأَعْمَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْخُرُوجِ بِهَا عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالْإِسْلَامِ (إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ) أَيْ التَّصْدِيقِ الْمَذْكُورِ

(وَالْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك) كَذَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى بَيَانِ الْإِيمَانِ «بِأَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَبَيَانِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا» هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَفِيهَا تَقْدِيمُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ عَكْسُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الَّتِي تَبِعَهَا الْمُصَنِّفُ لِأَنَّهَا عَلَى تَرْتِيبِ الْوَاقِعِ وَتَأْخِيرُ الْإِحْسَانِ عَنْهُمَا وَهُوَ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ الشَّامِلَةِ لَهُمَا حَتَّى تَقَعَ عَلَى الْكَمَالِ مِنْ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ كَمَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا

(وَالْفِسْقُ) بِأَنْ تُرْتَكَبَ الْكَبِيرَةُ (لَا يُزِيلُ الْإِيمَانَ) خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ يُزِيلُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ (وَالْمَيِّتُ مُؤْمِنًا فَاسِقًا) بِأَنْ لَمْ يَتُبْ (تَحْتَ الْمَشِيئَةِ إمَّا أَنْ يُعَاقَبَ) بِإِدْخَالِهِ النَّارَ (ثُمَّ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) لِمَوْتِهِ عَلَى الْإِيمَانِ.

(وَإِمَّا أَنْ يُسَامَحَ) بِأَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ (بِمُجَرَّدِ فَضْلِ اللَّهِ أَوْ) بِفَضْلِهِ (مَعَ الشَّفَاعَةِ) مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ أَوْ مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ وَتَرَدَّدَ النَّوَوِيُّ فِي ذَلِكَ قَالَ وَالِدُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ وَلَا بِنَفْيِهِ قَالَ وَهِيَ فِي إجَازَةِ الصِّرَاطِ بَعْدَ وَضْعِهِ وَيَلْزَمُ مِنْهَا النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ وَزَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهُ يَخْلُدُ فِي النَّارِ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا الشَّفَاعَةُ فِيهِ (وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوْلَاهُ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ (حَبِيبُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم) قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَهُوَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ وَلَهُ شَفَاعَاتٌ

ــ

[حاشية العطار]

اخْتَصَّ بِذَوِي الْعِلْمِ وَالْفِعْلُ أَعَمُّ وَفِي الْحَدِيثِ «فِعْلُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» يَعْنِي الدَّابَّةَ وَجُبَارٌ بِالضَّمِّ هَدَرٌ

(قَوْلُهُ: وَهُوَ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ) بِأَنْ يَسْتَشْعِرَ أَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى لِقُوَّةِ الشُّهُودِ وَالْحُضُورِ الدَّائِمِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ يَرَاهُ

(قَوْلُهُ: لَا يُزِيلُ الْإِيمَانَ) لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ حَاصِلٌ عِنْدَهُ أَيْ وَلَا تُدْخِلُهُ فِي الْكُفْرِ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ بَلْ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا كَافِرٌ وَأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَدُلُّ لَنَا الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِإِطْلَاقِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْعَامِّيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ حَتَّى «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ لَمَّا بَالَغَ فِي السُّؤَالِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» .

(قَوْلُهُ: بِمَعْنَى أَنَّهُ وَاسِطَةٌ إلَخْ) أَيْ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ عِنْدَهُمْ (قَوْلُهُ: وَتَرَدَّدَ النَّوَوِيُّ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِيمَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَا فِي شَفَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم (قَوْلُهُ: تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ) أَيْ بِأَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ يَشْفَعُ فِي عَدَمِ دُخُولِ النَّارِ وَإِنْ كَانَ لَهُ شَفَاعَةٌ أُخْرَى (قَوْلُهُ: وَزَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَخْ) وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] وَخَصَّهُ أَهْلُ الْحَقِّ بِالْكُفَّارِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاحْتَجَّتْ الْخَوَارِجُ فِي أَنَّ الْفَاسِقَ كَافِرٌ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وَكَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» .

وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ مَتْرُوكَةُ الظَّوَاهِرِ لِلنُّصُوصِ النَّاطِقَةِ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى ذَلِكَ وَالْخَوَارِجُ خَارِجُونَ عَمَّا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ فَلَا اعْتِدَادَ بِهِمْ (قَوْلُهُ: وَلَهُ شَفَاعَاتٌ) أَيْ خَمْسٌ كَمَا ذَكَرَهَا وَزَادَ بَعْضُهُمْ ثِنْتَيْنِ الْأُولَى فِي تَخْفِيفِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَالثَّانِيَةُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَلَا يَرِدُ شَيْءٌ مِنْهُمَا عَلَى الشَّارِحِ لِأَنَّ كَلَامَهُ تَبَعًا لِلْمُصَنِّفِ فِي الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ فِي الْبَرْزَخِ وَالثَّانِيَةُ خَاصَّةٌ بِأَبِي طَالِبٍ اهـ. زَكَرِيَّا.

قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَضْنُونِ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ الْإِيمَانُ بِالشَّفَاعَةِ وَاجِبٌ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ نُورٍ يُشْرِقُ مِنْ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى جَوْهَرِ النُّبُوَّةِ وَيَنْتَشِرُ مِنْهَا إلَى كُلِّ جَوْهَرٍ اسْتَحْكَمَتْ مُنَاسَبَتُهُ مَعَ

ص: 477

أَعْظَمُهَا فِي تَعْجِيلِ الْحِسَابِ وَالْإِرَاحَةِ مِنْ طُولِ الْوُقُوفِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ الثَّانِيَةُ فِي إدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ أَيْضًا وَتَرَدَّدَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ وَوَافَقَهُ وَالِدُ الْمُصَنِّفِ وَقَالَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ الثَّالِثَةُ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ كَمَا تَقَدَّمَ الرَّابِعَةُ فِي إخْرَاجِ مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ وَيُشَارِكُهُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ الْخَامِسَةُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا وَجَوَّزَ النَّوَوِيُّ اخْتِصَاصَهَا بِهِ.

(وَلَا يَمُوتُ أَحَدٌ إلَّا بِأَجَلِهِ) وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ انْتِهَاءَ حَيَاتِهِ فِيهِ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْقَاتِلَ قَطَعَ بِقَتْلِهِ أَجَلَ الْمَقْتُولِ وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ لَعَاشَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ

(وَالنَّفْسُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ قَتْلِ الْبَدَنِ) مُنَعَّمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ (وَفِي فَنَائِهَا عِنْدَ الْقِيَامَةِ تَرَدُّدٌ) قِيلَ تَفْنَى عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى كَغَيْرِهَا (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ) وَالِدُ الْمُصَنِّفِ (وَالْأَظْهَرُ) أَنَّهَا (لَا تَفْنَى أَبَدًا)

ــ

[حاشية العطار]

جَوْهَرِ النُّبُوَّةِ لِشِدَّةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ وَكَثْرَةِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى السُّنَنِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَمِثَالُهُ نُورُ الشَّمْسِ إذَا وَقَعَ الْمَاءُ فَإِنَّهُ يَنْعَكِسُ مِنْهُ إلَى مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ الْحَائِطِ لَا إلَى جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ فِي الْمَوْضِعِ وَتِلْكَ الْمُنَاسَبَةُ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَائِطِ وَيَدُلُّك عَلَى انْعِكَاسِ النُّورِ بِطَرِيقِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الشَّفَاعَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِهِ وَمِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالدُّعَاءِ لَهُ عَقِيبَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْكِمُ عِلَاقَةَ الْمَحَبَّةِ وَالْمُنَاسَبَةِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم اهـ. بِاخْتِصَارٍ

(قَوْلُهُ: إلَّا بِأَجَلِهِ) أَيْ فِي أَجَلِهِ وَالْأَجَلُ يُطْلَقُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدِهِمَا مُدَّةُ الْعُمُرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَالثَّانِي الْوَقْتُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ مَوْتَهُ فِيهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ لَا عَلَى الْجُزْئِيَّةِ فَالْمَعْنَى لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ لَا يَسْتَقْدِمُونَ عَلَيْهِ.

قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي حَوَاشِي الْخَيَالِيِّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ فَائِدَةَ تَقْيِيدِ قَوْلِهِ لَا يَسْتَأْخِرُونَ فَقَطْ بِالشَّرْطِ حِينَئِذٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَإِنْ صَحَّ مَعَ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ إلَى الْفَهْمِ السَّلِيمِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لَا يَسْتَأْخِرُونَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ إنَّ قَوْلَهُ لَا يَسْتَقْدِمُونَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَسْتَأْخِرُونَ وَأَنَّهُ سبحانه وتعالى نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ مَجِيءِ الْأَجَلِ كَمَا يَمْتَنِعُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ بِأَقْصَرِ مُدَّةٍ هِيَ السَّاعَةُ كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ التَّأْخِيرُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مُمْكِنًا عَقْلًا وَذَلِكَ لِأَنَّ خِلَافَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَعَلِمَهُ مُحَالٌ انْتَهَى وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَوْجُهٍ مِنْهَا أَنَّ الْأَجَلَ الثَّانِيَ أَجَلُ الْمُكْثِ فِي الْقُبُورِ إلَى النُّشُورِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] أَيْ تَشُكُّونَ فِي شَأْنِ الْبَعْثِ (قَوْلُهُ: وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَخْ) وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ مِنْهُمْ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَمَاتَ بَدَلَ الْقَتْلِ وَتَمَسَّكَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمُتْ لَكَانَ الْقَاتِلُ قَاطِعًا لِأَجَلٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ وَهُوَ مُحَالٌ وَقَالَ الْكَعْبِيُّ إنَّهُ مُتَعَدِّدٌ أَحَدُهُمَا الْقَتْلُ وَالثَّانِي الْمَوْتُ وَالْمَقْتُولُ لَمْ يَمُتْ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَالْمَوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى.

(قَوْلُهُ: لَعَاشَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) مَمْنُوعٌ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ بِسَبَبِ بَعْضِ الطَّاعَاتِ فَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ فَلَا تُعَارِضُ الْآيَاتِ الْقَطْعِيَّةَ أَوْ الْمُرَادُ الزِّيَادَةُ بِحَسَبِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ كَمَا يُقَالُ ذِكْرُ الْفَتَى عُمْرُهُ الثَّانِي قَالَ الشَّاعِرُ:

كَمْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَآثِرُهُمْ

وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْوَاتُ

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] فَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إشَارَةٌ لِتَفَاوُتِ الْأَعْمَارِ فَالضَّمِيرُ لِلْمُعَمَّرِ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ الْأَوَّلَ عَلَى حَدِّ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ النَّقْصُ مِنْ الْعُمُرِ بِاعْتِبَارِ مُرُورِ الْأَيَّامِ فَإِنَّ مُرُورَهَا نَقْصٌ فِي الْعُمُرِ.

(قَوْلُهُ: وَالنَّفْسُ) أَيْ الرُّوحُ (قَوْله قِيلَ تَفْنَى) لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26](قَوْلُهُ: قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ إلَخْ) نَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي تَرْشِيحِ التَّوْشِيحِ عَنْ وَالِدِهِ أَنَّهُ

ص: 478

لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَقَائِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ اسْتِمْرَارُهُ (وَفِي عَجْبِ الذَّنَبِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ هَلْ يَبْلَى (قَوْلَانِ) الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَبْلَى لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «لَيْسَ مِنْ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إلَّا يَبْلَى إلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ مِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ» .

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ «قِيلَ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْهُ تُنْشَئُونَ وَهُوَ فِي أَسْفَلِ الصُّلْبِ عِنْدَ رَأْسِ الْعُصْعُصِ يُشْبِهُ فِي الْمَحَلِّ مَحَلَّ أَصْلِ الذَّنَبِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ» (قَالَ الْمُزَنِيّ وَالصَّحِيحُ) أَنَّهُ (يَبْلَى) كَغَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88](وَتَأَوَّلَ الْحَدِيثَ) الْمَذْكُورَ بِأَنَّهُ لَا يَبْلَى بِالتُّرَابِ بَلْ بِلَا تُرَابٍ كَمَا يُمِيتُ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ بِلَا مَلَكِ الْمَوْتِ

(وَحَقِيقَةُ الرُّوحِ) وَهِيَ النَّفْسُ (لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا لِعَدَمِ نُزُولِ الْأَمْرِ بِبَيَانِهَا قَالَ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85](فَنُمْسِكُ) نَحْنُ (عَنْهَا) وَلَا نُعَبِّرُ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَوْجُودٍ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْجُنَيْدُ وَغَيْرُهُ. وَالْخَائِضُونَ فِيهَا اخْتَلَفُوا فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّهَا جِسْمٌ لَطِيفٌ مُشْتَبِكٌ بِالْبَدَنِ اشْتِبَاكَ الْمَاءِ بِالْعُودِ الْأَخْضَرِ وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّهَا عَرَضٌ وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي صَارَ الْبَدَنُ بِوُجُودِهَا حَيًّا قَالَ السُّهْرَوَرْدِيّ وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ وَصْفُهَا فِي الْأَخْبَارِ بِالْهُبُوطِ وَالْعُرُوجِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْبَرْزَخِ وَقَالَ الْفَلَاسِفَةُ

ــ

[حاشية العطار]

تَرَدَّدَ فِي فَنَاءِ الرُّوحِ عِنْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ قَالَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَفْنَى أَبَدًا (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْأَصْلَ إلَخْ) أَيْ وَتَكُونُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا قِيلَ بِهِ فِي الْحُورِ الْعِينِ وَذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّهُ رَاجِعٌ لِلشُّهَدَاءِ فَقَطْ. اهـ. زَكَرِيَّا (قَوْلُهُ: مِنْهُ خُلِقَ) أَيْ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ وُجُودِهِ وَقَوْلُهُ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ أَيْ عِنْدَ الْمَعَادِ

قَوْلُهُ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَضْنُونُ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِسَاحَةٌ وَتَقْدِيرٌ وَهِيَ الْأَجْسَامُ وَعَوَارِضُهَا يُقَالُ إنَّهُ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ وَالْخَلْقُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ لَا بِمَعْنَى الْإِيجَادِ وَالْإِحْدَاثِ يُقَالُ خَلَقَ الشَّيْءَ أَيْ قَدَّرَهُ قَالَ زُهَيْرٌ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ يَفْرِي أَيْ يَقُدُّ الْأَدِيمَ ثُمَّ يَقْطَعُهُ وَمَا لَا كَمِّيَّةَ لَهُ وَلَا تَقْدِيرَ يُقَالُ إنَّهُ أَمْرٌ رَبَّانِيٌّ وَكُلُّ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ أَرْوَاحِ الْبَشَرِ وَأَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ إنَّهُ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ فَعَالَمُ الْأَمْرِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْ الْحِسِّ وَالْخَيَالِ وَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَهُوَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمِسَاحَةِ وَالتَّقْدِيرِ لِانْتِفَاءِ الْكَمِّيَّةِ عَنْهُ اهـ.

وَفِي الْفَرَائِدِ لِابْنِ كَمَالٍ بَاشَا أَنَّ رُوحَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ بَاكُورَةٍ أَثْمَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِيجَادِهِ مِنْ شَجَرَةِ الْوُجُودِ وَأَوَّلُ شَيْءٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ شَرَّفَهُ بِتَشْرِيفِ إضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ تَعَالَى ثُمَّ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ عليه السلام سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَهُوَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَبُو الْأَرْوَاحِ كَمَا أَنَّ آدَمَ عليه السلام أَبُو الْأَشْخَاصِ وَهَذَا أَحَدُ أَسْرَارِ قَوْلِهِ عليه السلام «آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» اهـ.

(قَوْلُهُ: وَالْخَائِضُونَ فِيهَا اخْتَلَفُوا) أَيْ فِي حَقِيقَتِهَا وَأَجَابُوا عَنْ الْآيَةِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا تَرَكَ الْجَوَابَ عَنْهَا تَفْصِيلًا لِكَوْنِ عَدَمِ الْجَوَابِ عَنْهَا كَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ الْوَارِدَةِ فِي كِتَابِهِمْ وَالثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ ذَلِكَ لِتَعَنُّتِهِمْ بِالسُّؤَالِ وَقَصْدِهِمْ بِهِ التَّعْجِيزَ فَإِنَّ الرُّوحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمَلَكٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ الرُّوحُ وَصِنْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَرُوحِ الْإِنْسَانِ فَلَوْ أُجِيبَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا لَقَالَتْ الْيَهُودُ لَمْ نُرِدْ هَذَا تَعَنُّتًا مِنْهُمْ فَجَاءَ الْجَوَابُ مُجْمَلًا عَلَى وَجْهٍ يَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْ مَعَانِي الرُّوحِ اهـ. نَجَّارِيٌّ.

(فَائِدَةٌ) :

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» قَالَ فِي الْيَوَاقِيتِ فِي الْإِقْبَالِ بِالْوَجْهِ غَايَةٌ فِي الْمَوَدَّةِ وَعَكْسُهُ الظَّهْرُ وَبِالْجَنْبِ بَيْنَ ذَلِكَ وَذَلِكَ يَوْمَ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] قَالَ وَيُكْشَفُ لِكَثِيرِ عَنْ ذَلِكَ كَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى إنَّهُمْ يَعْرِفُونَ تَلَامِذَتَهُمْ إذْ ذَاكَ قَالَ بَعْضُهُمْ أَعْرِفُ مَنْ كَانَ عَنْ يَمِينِي إذْ ذَاكَ مِمَّنْ كَانَ عَلَى يَسَارِي وَيُلَاحِظُونَهُمْ فِي ظُهُورِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ إلَخْ) قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ الرُّوحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ

ص: 479

وَكَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ إنَّهَا لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ وَإِنَّمَا هِيَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَدَنِ لِلتَّدْبِيرِ وَالتَّحْرِيكِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ وَلَا خَارِجٍ عَنْهُ.

ــ

[حاشية العطار]

يُجْذَبُ وَيَخْرُجُ وَفِي أَكْفَانِهِ يُلَفُّ وَيُدْرَجُ وَبِهِ إلَى السَّمَاءِ يُعْرَجُ لَا يَمُوتُ وَلَا يَفْنَى وَهُوَ بِعَيْنَيْنِ وَيَدَيْنِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَجْسَامِ لَا صِفَةُ الْأَعْرَاضِ هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكُلُّ مَنْ يَقُولُ إنَّ الرُّوحَ يَمُوتُ وَيَفْنَى فَهُوَ مُلْحِدٌ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ) مِنْهُمْ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمَضْنُونُ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ إنَّ الرُّوحَ لَيْسَ بِجِسْمٍ يَحُلُّ فِي الْبَدَنِ حُلُولَ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ وَلَا هُوَ عَرَضٌ يَحُلُّ الْقَلْبَ وَالدِّمَاغَ حُلُولَ السَّوَادِ فِي الْأَسْوَدِ وَالْعِلْمِ فِي الْعَالِمِ بَلْ جَوْهَرٌ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ نَفْسَهُ وَيَعْرِفُ خَالِقَهُ وَيُدْرِكُ الْمَعْقُولَاتِ وَالْعَرَضُ لَا يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا هُوَ جِسْمٌ لِأَنَّ الْجِسْمَ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ وَالرُّوحُ لَا يَنْقَسِمُ لِأَنَّهُ لَوْ انْقَسَمَ لَجَازَ أَنْ يَقُومَ بِجُزْءٍ مِنْهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ وَبِالْجُزْءِ الْآخَرِ جَهْلٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَالِمًا بِشَيْءٍ جَاهِلًا بِهِ فَيَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ فَهُوَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْبَصَائِرِ وَأُولِي الْأَلْبَابِ جَوْهَرٌ لَا يَتَجَزَّأُ.

وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا إذْ كُلُّ مُتَحَيِّزٍ يَنْقَسِمُ بِأَدِلَّةٍ هَنْدَسِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ أُثْبِتَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْجِسْمِ وَلَا خَارِجًا وَلَا مُتَّصِلًا وَلَا مُنْفَصِلًا لِأَنَّ مُصَحِّحَ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ الْجِسْمِيَّةُ وَالتَّحَيُّزُ وَقَدْ انْتَفَتَا فَانْفَكَّ عَنْ الضِّدَّيْنِ كَمَا أَنَّ الْجَمَادَ لَا هُوَ عَالِمٌ وَلَا هُوَ جَاهِلٌ لِأَنَّ مُصَحِّحَ الْعِلْمِ الْحَيَاةُ فَإِذَا انْتَفَتْ انْتَفَى الضِّدَّانِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْبُرْهَانِ جِدًّا بِمَا لَا يَكَادُ يَسْلَمُ لَهُ وَنَصَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا إلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ حَدَثَتْ عِنْدَ اسْتِعْدَادِ النُّطْفَةِ لِلْقَبُولِ كَمَا حَدَثَتْ الصُّورَةُ فِي الْمِرْآةِ بِحُدُوثِ الصِّقَالَةِ وَإِنْ كَانَ ذُو الصُّورَةِ سَابِقَ الْوُجُودِ عَلَى الصِّقَالَةِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ مُطَوَّلٍ لَا يَخْلُو عَنْ الْخَدْشِ إلَى أَنْ قَالَ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَتْ الْأَرْوَاحُ حَادِثَةً مَعَ الْأَجْسَادِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ» وَقَوْلِهِ «أَنَا أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ خَلْقًا وَآخِرُهُمْ بَعْثًا وَكُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ» قُلْنَا هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ الرُّوحِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ وَكَوْنِهِ مَخْلُوقًا نَعَمْ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ وُجُودِهِ عَلَى الْجَسَدِ وَأَمْرُ الظَّوَاهِرِ هَيِّنٌ فَإِنَّ تَأْوِيلَهَا مُمْكِنٌ وَالْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ لَا يُدْرَأُ بِالظَّوَاهِرِ بَلْ يُسَلَّطُ عَلَى تَأْوِيلِ الظَّاهِرِ كَمَا فِي ظَوَاهِرِ التَّشْبِيهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ» فَالْمُرَادُ بِالْأَرْوَاحِ أَرْوَاحُ الْمَلَائِكَةِ وَبِالْأَجْسَادِ الْعَالَمُ مِنْ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَوَاتِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْعَنَاصِرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَا أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ خَلْقًا وَآخِرُهُمْ بَعْثًا» فَالْخَلْقُ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ دُونَ الْإِيجَادِ فَإِنَّهُ قَبْلَ وِلَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مَخْلُوقًا وَلَكِنَّ الْغَايَاتِ وَالْكَمَالَاتِ سَابِقَةٌ فِي التَّقْدِيرِ لَاحِقَةٌ فِي الْوُجُودِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ «كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ» فَإِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فِي التَّقْدِيرِ قَبْلَ تَمَامِ خِلْقَةِ آدَمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.

هَذَا خُلَاصَةُ مَا ذَكَرَهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا سَابِقٌ عَلَى وُجُودِهَا فَلَا خُصُوصِيَّةَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ فَالْأَحْسَنُ مَا أَفَادَهُ وَالِدُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم كُنْت نَبِيًّا إلَى رُوحِهِ الشَّرِيفَةِ وَالْأَرْوَاحُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ وَهِيَ مُتَّصِفَةٌ بِالْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ الْمُفَاضَةِ عَلَيْهَا مِنْ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَمْ يَقَعْ الْوَصْفُ إلَّا لِمَوْصُوفٍ مَوْجُودٍ وَإِنْ تَأَخَّرَ الْجَسَدُ الشَّرِيفُ وَثَبَتَ وَذَلِكَ وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ لَهْوٌ أَمَّا حُكْمُ نُبُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ نُبُوَّةُ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - فَإِنَّهَا لَا تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَلْزَمُ قِيَامُ صِفَةٍ بِغَيْرِ مَوْصُوفٍ أَمَّا أَوَّلًا؛ فَلِأَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَفْنَى وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ وَمَا نُسِبَ إلَى الْإِمَامِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَاقِيَةِ أَيْ وَلَيْسَتْ بَاقِيَةً حَقِيقَةً مُفْتَرًى عَلَيْهِ وَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْقِصَّةِ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّبَقَاتِ بِمَا يَنْبَغِي الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَوَقَعَتْ مُنَاظَرَةٌ بَيْنَ قِسِّيسٍ مِنْ النَّصَارَى وَعَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَمْ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَقَالَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَقَالَ إذًا عِيسَى أَفْضَلُ فَقَالَ الشَّيْخُ مَنْ عِيسَى الَّذِي تَعْنِيهِ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بَشِيرًا بِأَحْمَدَ صلى الله عليه وسلم -

ص: 480

(وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ) وَهُمْ الْعَارِفُونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى حَسْبَمَا يُمْكِنُ الْمُوَاظِبُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنَبُونَ لِلْمَعَاصِي الْمُعْرِضُونَ عَنْ الِانْهِمَاكِ فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ (حَقٌّ) أَيْ جَائِزَةٌ وَوَاقِعَةٌ كَجَرَيَانِ النِّيلِ بِكِتَابِ عُمَرَ وَرُؤْيَتِهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْمَدِينَةِ جَيْشَهُ بِنَهَاوَنْدَ حَتَّى قَالَ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ: يَا سَارِيَةُ، الْجَبَلَ الْجَبَلَ، مُحَذِّرًا لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ لِكَمَنَ الْعَدُوِّ هُنَاكَ، وَسَمَاعِ سَارِيَةَ كَلَامَهُ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ وَكَشُرْبِ خَالِدٍ السُّمَّ مِنْ غَيْرِ تَضَرُّرٍ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ (قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَا يَنْتَهُونَ إلَى نَحْوِ وَلَدٍ دُونَ وَالِدٍ) وَقَلْبِ جَمَادٍ بَهِيمَةً قَالَ الْمُصَنِّفُ وَهَذَا حَقٌّ يُخَصِّصُ قَوْلَ غَيْرِهِ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إلَّا التَّحَدِّي وَمَنَعَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ

ــ

[حاشية العطار]

فَأَيْنَ مَنْزِلَةُ الْبَشِيرِ مِنْ الْمُبَشَّرِ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَلَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَقُولُ بِوُجُودِهِ فَضْلًا عَنْ نُبُوَّتِهِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ

(قَوْلُهُ: وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ) جَمْعُ كَرَامَةٍ وَهِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ مِنْ قِبَلِهِ غَيْرُ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَبِهَذَا تَمْتَازُ عَنْ الْمُعْجِزَةِ وَبِمُقَارَنَةِ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَقَدْ تَظْهَرُ الْخَوَارِقُ مِنْ قِبَلِ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ تَخَلُّصًا لَهُمْ عَنْ الْمِحَنِ وَالْمَكَارِهِ وَتُسَمَّى مَعُونَةً.

(قَوْلُهُ: حَسْبَ مَا يُمْكِنُ) أَيْ بِحَسَبِ طَاقَةِ الْبَشَرِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِمْ وَدَرَجَاتُ الْعَارِفِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ مُتَفَاوِتَةٌ (قَوْلُهُ: الْمُعْرِضُونَ عَنْ الِانْهِمَاكِ) أَيْ بِقُلُوبِهِمْ وَإِنْ تَلَبَّسُوا بِهَا ظَاهِرًا كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ (قَوْلُهُ: أَيْ جَائِزَةٌ وَوَاقِعَةٌ) وَلَوْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبِهِمْ قَالَ النَّوَوِيُّ الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَرَامَاتِ تَقَعُ لِلْأَوْلِيَاءِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَطَلَبِهِمْ اهـ. زَكَرِيَّا.

وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ كَوْنِ الْكَرَامَةِ بِقَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ مِنْ الْوَلِيِّ وَبَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا عَلَى قَضِيَّةِ الدَّعْوَى حَتَّى لَوْ ادَّعَى الْوِلَايَةَ الْوَلِيُّ وَاعْتَضَدَ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَقَعْ بَلْ رُبَّمَا سَقَطَ عَنْ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ اهـ. وَفِي آخِرِ الْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ فِي قَوَاعِدِ الصُّوفِيَّةِ لِلْإِمَامِ الشَّعْرَانِيِّ طَلَبَ بَعْضُ الْفُقَرَاءِ مِنْ سَيِّدِي عَبْدِ الْعَزِيزِ الدِّيرِينِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وُقُوعَ كَرَامَةٍ فَقَالَ لَهُمْ يَا أَوْلَادِي وَهَلْ ثَمَّ كَرَامَةٌ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْظَمُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْسِكُ بِهِ الْأَرْضَ وَلَا يَخْسِفُهَا بِهِ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْخَسْفَ بِهِ مُنْذُ أَزْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ اهـ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَتْ الْكَرَامَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا فَرْقَ فِي وُقُوعِهَا بَيْنَ كَوْنِ الْوَلِيِّ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (قَوْلُهُ: بِنَهَاوَنْدَ) بِضَمِّ النُّونِ بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ مَرْحَلَةً (قَوْلُهُ: مِمَّا وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ) وَقَدْ كَثُرَتْ فِيمَا بَعْدَ زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَثْرَةً لَمْ تَقَعْ فِي زَمَنِهِمْ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ فَضْلُهُمْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْمُعْجِزَاتِ فَتُؤَكَّدُ بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْأَوَائِلُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ كَانُوا مُسْتَغْنِينَ بِنُورِ النُّبُوَّةِ وَقُرْبِهِمْ مِنْ زَمَنِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ ظَهَرَتْ عَلَى أَيْدِيهِمْ الْكَرَامَاتُ تَقْوِيَةً لِقُلُوبِ أَصْحَابِهِمْ وَمُعَاصِرِيهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَتَهُمْ.

(قَوْلُهُ: قَالَ الْقُشَيْرِيُّ) تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ وَقَالَ إنَّهُ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ إنَّ مَا قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ كَانْفِلَاقِ الْعَصَا وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى قَالُوا وَبِهَذِهِ الْجِهَاتِ تَمْتَازُ عَنْ الْمُعْجِزَاتِ وَقَالَ الْإِمَامُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَنَا تَجْوِيزُ جُمْلَةِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي مَعْرِضِ الْكَرَامَاتِ وَإِنَّمَا تَمْتَازُ عَنْ الْمُعْجِزَاتِ بِخُلُوِّهَا عَنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ النُّبُوَّةَ صَارَ عَدُوَّ اللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ بَلْ اللَّعْنَةَ وَالْإِهَانَةَ قَالَ قِيلَ هَذَا الْجَوَازُ مُنَافٍ لِلْإِعْجَازِ إذْ شَرْطُهُ عَدَمُ تَمَكُّنِ الْغَيْرِ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالْمِثْلِ بَلْ يُفْضِي إلَى تَكْذِيبِ النَّبِيِّ حَيْثُ يَدَّعِي عِنْدَ التَّحَدِّي أَنَّهُ مُتَحَدٍّ بِمِثْلِ مَا أَتَيْت بِهِ قُلْنَا الْمُنَافِي هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْمِثْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ وَدَعْوَى النَّبِيِّ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَتَيْت بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَحَدَّيْنِ لَا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِثْلُهُ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ أَوْ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ آخَرَ نَعَمْ قَدْ يَرِدُ فِي بَعْضِ الْمُعْجِزَاتِ نَصٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَأْتِي بِمِثْلِهِ أَصْلًا كَالْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْحُكْمَ بِأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ.

(قَوْلُهُ: وَمَنَعَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَخْ) اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26]{إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27]

ص: 481

الْخَوَارِقَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَكَذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ قَالَ كُلُّ مَا جَازَ تَقْدِيرُهُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ لَا يَجُوزُ ظُهُورُ مِثْلِهِ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ وَإِنَّمَا مَبَالِغُ الْكَرَامَاتِ إجَابَةُ دَعْوَةٍ أَوْ مُوَافَاةُ مَاءٍ فِي بَادِيَةٍ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّعِ الْمِيَاهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَنْحَطُّ عَنْ خَرْقِ الْعَادَاتِ.

(وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) بِبِدْعَتِهِ كَمُنْكِرِي

ــ

[حاشية العطار]

يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُطْلِعُ عَلَى الْغَيْبِ إلَّا الْمُرْتَضَى الَّذِي هُوَ مُصْطَفًى لِلنُّبُوَّةِ خَاصَّةً لَا كُلَّ مُرْتَضًى وَفِي هَذَا إبْطَالُ الْكَرَامَاتِ لِأَنَّ الَّذِينَ تُضَافُ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ مُرْتَضَيْنَ فَلَيْسُوا بِرُسُلٍ وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ الرُّسُلَ مِنْ بَيْنِ الْمُرْتَضَيْنَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ وَإِبْطَالِ الْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ لِأَنَّ أَهْلَهُمَا أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنْ الِارْتِضَاءِ وَأَدْخَلُهُمَا فِي السَّخَطِ اهـ.

قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الِانْتِصَافِ ادَّعَى الزَّمَخْشَرِيُّ عَامًّا وَاسْتَدَلَّ بِخَاصٍّ وَيَجُوزُ إعْطَاؤُهُمْ الْكَرَامَاتِ كُلِّهَا إلَّا الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ اهـ.

وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ الْمَلَكُ وَالْإِظْهَارُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَاطِّلَاعُ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ كَاطِّلَاعِنَا عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ بِتَوَسُّطِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْغَيْبِ عَلَى مَا تُفِيدُهُ الْإِضَافَةُ الَّتِي لِلِاسْتِغْرَاقِ فَإِنْ أُرِيدَ غَيْبٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْأَشْيَاءُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الْآيَةَ وَهِيَ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] لَا حَاجَةَ إلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ تَفْرِيعُ قَوْلِهِ {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] عَلَى قَوْلِهِ {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الجن: 26] فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ حَصْرُ عَالِمِيَّةِ الْغَيْبِ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْغَيْبَ الْمَخْصُوصَ الْمَعْرُوفَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَعْضُهُ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ غَيْبِهِ وَحِينَئِذٍ لَا مَسَاغَ لِلتَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ فِيمَا ادَّعَاهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعْمِيمِ وَإِرَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ يَكُونُ الْمَعْنَى فَلَا يُطْلِعُ عَلَى جَمِيعِهِ فَلَا يُنَافِي جَوَازَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْبَعْضِ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ ظُهُورُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ تَكَادُ تَلْحَقُ بِمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْكَارُهَا لَيْسَ بِعَجِيبٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ بِالْبَصْرَةِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَكَّةَ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ جَوَازَ ذَلِكَ يَكْفُرُ وَالْإِنْصَافُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ حِينَ سُئِلَ عَمَّا يُحْكَى أَنَّ الْكَعْبَةَ كَانَتْ تَزُورُ أَحَدًا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ هَلْ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ فَقَالَ نَقْضُ الْعَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَامَةِ لِأَهْلِ الْوِلَايَةِ جَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.

قَالَ الْجَامِيُّ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الْكَامِلَةُ إذَا تَحَقَّقَتْ بِمَظْهَرِيَّةِ الِاسْمِ الْجَامِعِ تَظْهَرُ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَانْحِصَارٍ فَتَصْدُقُ تِلْكَ الصُّوَرُ عَلَيْهَا وَتَتَصَادَقُ لِاتِّحَادِ عَيْنِهَا كَمَا تَتَعَدَّدُ لِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي إدْرِيسَ عليه السلام إنَّهُ هُوَ إلْيَاسُ الْمُرْسَلُ إلَى بَعْلَبَكَّ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْعَيْنَ خَلَعَ الصُّورَةَ الْإِدْرِيسِيَّةَ وَلَبِسَ لِبَاسَ الصُّورَةِ الْإِلْيَاسِيَّةِ وَإِلَّا لَكَانَ قَوْلًا بِالتَّنَاسُخِ بَلْ إنَّ هُوِيَّةَ إدْرِيسَ عليه السلام مَعَ كَوْنِهَا قَائِمَةً فِي آنِيَةٍ وَصُورَةٍ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ ظَهَرَتْ وَتَعَيَّنَتْ فِي آنِيَةِ إلْيَاسَ الْبَاقِي إلَى الْآنَ فَيَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْعَيْنُ وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدًا وَمِنْ حَيْثُ التَّعَيُّنُ الصُّورِيُّ اثْنَيْنِ كَنَحْوِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَعِزْرَائِيلَ يَظْهَرُونَ فِي الْآنِ الْوَاحِدِ فِي مِائَةِ أَلْفِ مَكَان بِصُوَرٍ شَتَّى كُلُّهَا قَائِمَةٌ بِهِمْ وَكَذَلِكَ أَرْوَاحُ الْكُمَّلِ كَمَا يُرْوَى عَنْ قَضِيبِ الْبَانِ الْمُوصِلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُرَى فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ مُشْتَغِلًا فِي كُلٍّ بِأَمْرٍ يُغَايِرُ مَا فِي الْآخَرِ وَلَمَّا لَمْ يَسَعْ هَذَا الْحَدِيثَ أَوْهَامُ الْمُتَوَغِّلِينَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ تَلَقَّوْهُ بِالرَّدِّ وَالْعِنَادِ وَحَكَمُوا عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ وَأَمَّا الَّذِينَ مُنِحُوا التَّوْفِيقَ لِلنَّجَاةِ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ فَسَلَّمُوا اهـ. مَعَ نَوْعِ تَغْيِيرٍ.

وَقَوْلُ التَّفْتَازَانِيِّ وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ إلَخْ لَعَلَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ لِمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ سُئِلَ الزَّعْفَرَانِيُّ عَمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَأَى ابْنِ أَدْهَمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْكُوفَةِ وَرَآهُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَكَّةَ قَالَ كَانَ مُقَاتَلٌ بِكُفْرِهِ فَيَقُولُ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ لَا مِنْ الْكَرَامَاتِ وَأَمَّا أَنَا فَأَسْتَجْهِلُهُ وَلَا أُطْلِقُ عَلَيْهِ الْكُفْرَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ يَكْفُرُ.

وَعَلَى هَذَا مَا يَحْكِيهِ جَهَلَةُ

ص: 482

صِفَاتِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ أَفْعَالَ عِبَادِهِ وَجَوَازِ رُؤْيَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنَّا مَنْ كَفَّرَهُمْ أَمَّا مَنْ خَرَجَ بِبِدْعَتِهِ عَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَمُنْكِرِي حُدُوثَ الْعَالَمِ وَالْبَعْثَ وَالْحَشْرَ لِلْأَجْسَامِ وَالْعِلْمَ بِالْجُزْئِيَّاتِ فَلَا نِزَاعَ فِي كُفْرِهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ بَعْضَ مَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ ضَرُورَةً

(وَلَا نُجَوِّزُ) نَحْنُ (الْخُرُوجَ عَلَى السُّلْطَانِ) وَجَوَّزَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الْخُرُوجَ عَلَى الْجَائِرِ لِانْعِزَالِهِ بِالْجَوْرِ عِنْدَهُمْ

(وَنَعْتَقِدُ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ) وَهُوَ لِلْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ الْمُرَادُ تَعْذِيبُهُ بِأَنْ تُرَدَّ الرُّوحُ إلَى الْجَسَدِ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهُ.

(وَسُؤَالَ الْمَلَكَيْنِ) مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لِلْمَقْبُورِ بَعْدَ رَدِّ رُوحِهِ إلَيْهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ فَيُجِيبُهُمَا بِمَا يُوَافِقُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ إيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ وَالْحَشْرَ

ــ

[حاشية العطار]

خُوَارِزْمَ أَنَّ فُلَانًا كَانَ يُصَلِّي سُنَّةَ الْفَجْرِ بِخُوَارِزْمَ وَفَرْضَهُ بِمَكَّةَ اهـ. .

(قَوْلُهُ: وَمِنَّا مَنْ كَفَّرَهُمْ) أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا، وَإِنْ أَوْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَدَمَهُ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْأَصَحِّ (قَوْلُهُ: وَلِلْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ) فِي تَكْفِيرِهِمْ بِهِ نِزَاعٌ ذَكَرْنَاهُ سَابِقًا

(قَوْلُهُ: لِانْعِزَالِهِ عِنْدَهُمْ بِالْجَوْرِ) قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ بَعْدَ قَوْلِ الْمَتْنِ وَلَا يَنْعَزِلُ الْإِمَامُ بِالْفِسْقِ وَالْجَوْرِ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ الْفِسْقُ وَانْتَشَرَ الْجَوْرُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفُ كَانُوا يَنْقَادُونَ لَهُمْ وَيُقِيمُونَ الْجُمَعَ وَالْأَعْيَادَ بِإِذْنِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ) أَيْ وَكَذَا نَعِيمُهُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِيهِ أَكْثَرُ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ عَامَّةِ أَهْلِ الْقُبُورِ كُفَّارٌ وَعُصَاةٌ فَكَانَ التَّعْذِيبُ بِالذِّكْرِ أَجْدَرُ وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْقَبْرِ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ فَإِنَّ غَيْرَ الْمَقْبُورِ كَالْغَرِيقِ وَالْمَأْكُولِ فِي بُطُونِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَصْلُوبِ فِي الْهَوَاءِ كَذَلِكَ وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي عَجَائِبِ مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ لَمْ يَسْتَبْعِدْ ذَلِكَ قَالَ السَّعْدُ وَقَدْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَقَالُوا لِأَنَّ الْمَيِّتَ جَمَادٌ لَا حَيَاةَ لَهُ فَتَعْذِيبُهُ مُحَالٌ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ أَوْ بَعْضِهَا نَوْعًا مِنْ الْحَيَاةِ قَدْرَ مَا يُدْرِكُ أَلَمَ الْعَذَابِ أَوْ لَذَّةَ النَّعِيمِ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ إعَادَةَ الرُّوحِ إلَى بَدَنِهِ وَلَا أَنْ يَتَحَرَّك وَيَضْطَرِبَ أَوْ يُرَى أَثَرُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ.

(قَوْلُهُ: بِأَنْ تُرَدَّ الرُّوحُ إلَخْ) فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ لِلرُّوحِ مَعَ الْبَدَنِ وَكَذَا النَّعِيمُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إنَّهُ لِلرُّوحِ وَقَالَ الْكَرَّامِيَّةُ وَالصَّالِحِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يَجُوزُ التَّعْذِيبُ بِدُونِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْإِدْرَاكِ وَقَالَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيُّ إنَّ الْحَيَاةَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ مَيِّتٍ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ ضِدَّ الْحَيَاةِ بَلْ هُوَ آفَةٌ كُلِّيَّةٌ مُعْجِزَةٌ عَنْ الْأَفْعَالِ وَالِاخْتِيَارِيَّة غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لِلْعِلْمِ وَالْكُلُّ لَا يُوَافِقُ أُصُولَ أَهْلِ الْحَقِّ قَالَهُ السَّعْدُ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الرُّوحَ تُرَدُّ لِلْبَدَنِ كُلِّهِ وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الرُّوحُ تَعُودُ لِلنِّصْفِ الْأَعْلَى فَقَطْ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ هِيَ حَيَاةٌ لَا تَنْفِي إطْلَاقَ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ فَهِيَ أَمْرٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ كَتَوَسُّطِ النَّوْمِ بَيْنَهُمَا (قَوْلُهُ: أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهُ) أَيْ بِأَنْ تَلَاشَتْ أَجْزَاؤُهُ

(قَوْلُهُ: مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ) بِفَتْحِ كَافِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ كَافِ الثَّانِي عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ الرُّبَاعِيِّ وَالثَّانِي فَعِيلٌ إمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِمَا قِيلَ إنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَوَّلِ الْكَسْرُ لِإِنْكَارِهِ عَلَى الْعَاصِي وَعِلَّةُ الْفَتْحِ أَنَّ صُورَتَهُمَا لَا تُشْبِهُ خَلْقَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا الْمَلَائِكَةَ وَلَا الطَّيْرَ وَلَا الْبَهَائِمَ وَلَا الْهَوَامَّ بَلْ هُمَا خَلْقٌ بَدِيعٌ لَيْسَ خَلْقُهُمَا أُنْسًا لِلنَّاظِرِينَ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَذْكِرَةً لِلْمُؤْمِنِ وَهَتْكًا لِسَتْرِ الْمُنَافِقِ وَهُمَا لِلْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ وَغَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَقِيلَ: هُمَا لِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُوَفَّقُ فَإِنَّهُمَا مَلَكَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا بَشِيرٌ وَالْآخَرُ مُبَشِّرٌ قِيلَ وَمَعَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ نَاكُورٌ وَيَجِيءُ قَبْلَهُمَا مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ رُومَانُ وَحَدِيثُهُ قِيلَ مَوْضُوعٌ وَقِيلَ: فِيهِ لِينٌ وَلَمْ يَثْبُتْ حُضُورُهُ صلى الله عليه وسلم وَلَا رُؤْيَةُ الْمَيِّتِ لَهُ عِنْدَ السُّؤَالِ نَعَمْ ثَبَتَ حُضُورُ إبْلِيسَ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْقَبْرِ مُشِيرًا إلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْمَلَكِ لِلْمَيِّتِ مَنْ رَبُّك مُسْتَدْعِيًا مِنْهُ جَوَابَهُ بِهَذَا رَبِّي (قَوْلُهُ: مِنْ إيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَافِرَ يُسْأَلُ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَمْهِيدِهِ الْكَافِرُ لَا يُسْأَلُ وَإِنَّمَا يُسْأَلُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ (قَوْلُهُ: وَالْحَشْرُ) هُوَ الْجَمْعُ لِلْعَرْضِ وَقَدَّمَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ بِأَنْ يُحْيِيَهُمْ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ وُجُودًا وَهُوَ مَعْنَى النَّشْرِ قَالَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَيَكْفُرُ مُنْكِرُهُ وَأَمَّا الْمَعَادُ الرُّوحَانِيُّ أَعْنِي الْتِذَاذَ

ص: 483

لِلْخَلْقِ بِأَنْ يُحْيِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ فَنَائِهِمْ وَيَجْمَعَهُمْ لِلْعَرْضِ وَالْحِسَابِ

(وَالصِّرَاطَ) وَهُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ يَمُرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ فَتَجُوزُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَتَزِلُّ بِهِ أَقْدَامُ أَهْلِ النَّارِ

(وَالْمِيزَانَ) وَلَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ يُعْرَفُ بِهِ مَقَادِيرُ الْأَعْمَالِ بِأَنْ تُوزَنَ صُحُفُهَا بِهِ (حَقٌّ) لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ وَمَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَقَالَ إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ

ــ

[حاشية العطار]

النَّفْسِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَتَأَلُّمَهَا بِاللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ الْعَقْلِيَّةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِاعْتِقَادِهِ وَلَا يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ وَلَا مَنْعَ عَقْلِيًّا وَلَا شَرْعِيًّا مِنْ إثْبَاتِهِ.

قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ وَالْجُسْمَانِيِّ مَعًا فَقَدْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالشَّرِيعَةِ فَقَالُوا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ سَعَادَةَ الْأَرْوَاحِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَأَنَّ سَعَادَةَ الْأَجْسَامِ فِي إدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ السَّعَادَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي تَجَلِّي أَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدْسِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى شَيْءٍ مِنْ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَمَعَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي اسْتِيفَاءِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ هَذَا الْجَمْعُ لِكَوْنِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ ضَعِيفَةً فِي هَذَا الْعَالَمِ فَإِذَا فَارَقَتْهُ بِالْمَوْتِ وَاسْتَمَدَّتْ مِنْ عَالَمِ الْقُدْسِ قَوِيَتْ وَكَمُلَتْ فَإِذَا أُعِيدَتْ إلَى الْأَبَدَانِ مَرَّةً ثَانِيَةً كَانَتْ قَوِيَّةً قَادِرَةً عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى مِنْ مَرَاتِبِ السَّعَادَاتِ انْتَهَى

(قَوْلُهُ: وَالصِّرَاطُ) بِالصَّادِ وَبِالسِّينِ، وَفِي وُجُودِهِ الْآنَ أَوْ أَنَّهُ سَيُوجَدُ تَرَدُّدٌ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ) أَفَادَ الشَّعْرَانِيُّ أَنَّهُ لَا يُوَصِّلُ إلَى الْجَنَّةِ حَقِيقَةً بَلْ لِمَرْجِهَا الَّذِي فِيهِ الدَّرَجُ الْمُوَصِّلُ لَهَا حَيْثُ الْحَوْضُ. قَالَ وَيُوضَعُ لَهُمْ هُنَاكَ مَأْدُبَةٌ أَيْ وَلِيمَةٌ وَيَقُومُ أَحَدُهُمْ فَيَتَنَاوَلُ مِمَّا تَدَلَّى هُنَاكَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ (قَوْلُهُ: أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ إلَخْ) نَازَعَ فِيهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ يُؤَوَّلُ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْمَشَقَّةِ

(قَوْلُهُ: وَالْمِيزَانُ) قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ كِفَّةُ الْحَسَنَاتِ نُورٌ وَكِفَّةُ السَّيِّئَاتِ ظُلْمَةٌ وَقِيلَ: الْوَزْنُ فِي الْآخِرَةِ عَكْسُ الْوَزْنِ فِي الدُّنْيَا فَيَصْعَدُ الرَّاجِحُ وَهُوَ غَرِيبٌ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي التَّنْقِيحِ وَهُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَجَمَعَهُ فِي الْآيَةِ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ نَظَرًا لِأَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ قَالَهُ الشَّيْخُ خَالِدٌ وَهَلْ مَوْجُودٌ الْآنَ أَوْ سَيُوجَدُ فِيهِ تَرَدُّدٌ وَنِعْمَ مَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ لَيْسَ عَلَيْنَا الْبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّتِهِ بَلْ نُؤْمِنُ بِهِ وَنُفَوِّضُ كَيْفِيَّتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ الْإِيمَانُ بِالْمِيزَانِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ قِوَامُ النَّفْسِ بِجَوْهَرِهَا وَاسْتِغْنَائِهَا عَنْ الْجَسَدِ فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لَأَنْ تَنْكَشِفَ لَهَا حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَتَعَلُّقُهَا بِالْبَدَنِ كَالْحِجَابِ لَهَا عَنْ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ وَتَنْجَلِي حَقَائِقُ الْأُمُورِ قَالَ تَعَالَى {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] اهـ.

(قَوْلُهُ: يُعْرَفُ بِهِ أَيْ) إلْزَامًا لِلْحُجَّةِ لِلْخَلْقِ وَإِظْهَارًا لِلْعَدْلِ إذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ (قَوْلُهُ بِأَنْ تُوزَنَ) وَقِيلَ: تُصَوَّرُ أَعْمَالُ الْمُطِيعِينَ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَأَعْمَالُ الْعَاصِينَ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ ثُمَّ تُوزَنُ وَفِي مُخْتَصَرِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ لِلْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ أَنَّهُ يُجْعَلُ فِي الْمَوَازِينِ كُتُبُ الْأَعْمَالِ وَآخِرُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ قَوْلُ الْعَبْدِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكِفَّةُ مِيزَانِ كُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَكُلُّ ذِكْرٍ وَعَمَلٍ يَدْخُلُ الْمِيزَانَ إلَّا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَمَلِ خَيْرٍ لَهُ مُقَابِلٌ مِنْ ضِدِّهِ لِيُجْعَلَ هَذَا الْخَيْرُ فِي مُوَازَنَتِهِ وَلَا تُقَابَلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إلَّا الشِّرْكُ وَلَا يَجْتَمِعُ تَوْحِيدٌ وَشِرْكٌ فِي مِيزَانٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُعْتَقِدًا لَهَا فَمَا أَشْرَكَ وَإِنْ أَشْرَكَ فَمَا اعْتَقَدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ لِكَلِمَةِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَا يُعَادِلُهَا فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى وَلَا يَرْجَحُهَا شَيْءٌ فَلِهَذَا لَا تَدْخُلُ الْمِيزَانَ ثُمَّ قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَوَازِينَ إلَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ فَلَا تَدْخُلُ الْمِيزَانَ الْمَحْسُوسَ لَكِنْ يُقَامُ فِيهَا الْعَدْلُ وَهُوَ الْمِيزَانُ الْحُكْمِيُّ الْمَعْنَوِيُّ فَمَحْسُوسٌ لِمَحْسُوسٍ وَمَعْنًى لِمَعْنًى يُقَابَلُ كُلُّ شَيْءٍ بِمِثْلِهِ وَلِهَذَا تُوزَنُ الْأَعْمَالُ

ص: 484

وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إلَى أَنْ قَالَ وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي» إلَخْ رَوَاهُمَا الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ «فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك وَمَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ رَبِّي اللَّهُ وَدِينِي الْإِسْلَامُ وَالرَّجُلُ الْمَبْعُوثُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ الْكَافِرُ فِي الثَّلَاثِ لَا أَدْرِي» .

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَلِلْآخِرِ النَّكِيرُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ فَيَأْتِيهِ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيثُ «تُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً مُشَاةً عُرَاةً غُرْلًا» أَيْ غَيْرُ مُخْتَتَنِينَ وَأَحَادِيثُ «يُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ وَمُرُورُ الْمُؤْمِنِينَ مُتَفَاوِتِينَ وَأَنَّهُ مَزِلَّةٌ أَيْ تَزِلُّ بِهِ أَقْدَامُ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا» وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «بَلَغَنِي أَنَّهُ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ» وَرَوَى الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ «يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيْ الْمِيزَانِ» إلَخْ

(وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ الْيَوْمَ) يَعْنِي قَبْلَ يَوْمِ الْجَزَاءِ لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ نَحْوِ {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] وَقِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي إسْكَانِهِمَا الْجَنَّةَ وَإِخْرَاجِهِمَا مِنْهَا بِالزَّلَّةِ

ــ

[حاشية العطار]

مِنْ حَيْثُ مَا هِيَ مَكْتُوبَةٌ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إلَخْ) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ (قَوْلُهُ: فَيُقْعِدَانِهِ) أَيْ بِإِقْلَاقٍ وَانْتِهَارٍ وَإِزْعَاجٍ فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِ أَمَّا هُوَ فَيَرْفُقَانِ بِهِ وَيَقُولَانِ لَهُ إذَا وُفِّقَ لِلْجَوَابِ نِمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إلَّا أَحَبُّ النَّاسِ إلَيْهِ وَأَمَّا صُورَتُهُمَا فَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ يَرَاهُمَا عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ قِيلَ إنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَالْآخَرَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَاَلَّذِي يُبَاشِرُ السُّؤَالَ هُوَ الْوَاقِفُ مِنْ جِهَةِ رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي قُبَالَةَ وَجْهِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْأَلُ بِلِسَانِهِ وَقِيلَ: يَسْأَلُ بِالسُّرْيَانِيِّ وَأَنَّ السُّؤَالَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ أَنَّهُ يَسْأَلُ ثَلَاثًا وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ إنَّ الْمُؤْمِنَ يُسْأَلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالْكَافِرُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا قَالَ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ وَقْتِ السُّؤَالِ فِي غَيْرِ يَوْمِ الدَّفْنِ (قَوْلُهُ: فِي هَذَا النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ) أُخِذَ مِنْهُ حُضُورُهُ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ السُّؤَالِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَالْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَعْهُودِ ذِهْنًا (قَوْلُهُ: وَمَا هَذَا الرَّجُلُ) قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَإِنَّمَا كَانَ الْمَلَكَانِ يَقُولَانِ لِلْمَيِّتِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ تَعْظِيمٍ وَلَا تَفْخِيمٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الْمَلَكَيْنِ الْفِتْنَةُ لِيَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْمُرْتَابِ إذْ الْمُرْتَابُ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِهَذَا الرَّجُلِ الْقَدْرُ الَّذِي كَانَ يَدَّعِيهِ فِي رِسَالَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَلَكُ يُنْبِئُ عَنْهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِي فَيَشْقَى شَقَاءَ الْأَبَدِ اهـ. مِنْ الْيَوَاقِيتِ وَالْجَوَاهِرِ.

(قَوْلُهُ: يَعْنِي قَبْلَ يَوْمِ الْجَزَاءِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ الدُّنْيَا لَا الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَلَا الْيَوْمُ الْمُقَابِلُ لِلَّيْلَةِ قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْفُتُوحَاتِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا أَهْلِ الْكَشْفِ وَالتَّعْرِيفِ أَنَّهُمَا يَعْنِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ غَيْرُ مَخْلُوقَتَيْنِ فَأَمَّا قَوْلُنَا مَخْلُوقَتَانِ فَكَرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ دَارًا فَأَقَامَ حِيطَانَهَا كُلَّهَا الْمُحْتَوِيَةَ عَلَيْهَا خَاصَّةً فَيُقَالُ قَدْ بَنَى دَارًا فَإِذَا دَخَلَهَا لَمْ يَرَ الْأَسْوَارَ دَائِرًا عَلَى فَضَاءٍ وَسَاحَةٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْنِي بُيُوتَهَا عَلَى أَغْرَاضِ السَّاكِنِينَ فِيهَا مِنْ بُيُوتٍ وَغُرَفٍ إلَخْ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا مِمَّا يُرِيدُهُ السَّاكِنُ اهـ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنْ كَرَمِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ أَهْلَ النَّارِ إلَّا عَلَى أَعْمَالِهِمْ خَاصَّةً وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88] فَذَلِكَ لِطَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهُمْ الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وَأَدْخَلُوا عَلَيْهِمْ الشُّبَهَ الْمُضِلَّةَ فَحَادُوا بِهَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ فَمَا نَزَلُوا مِنْ الْمَنَازِلِ إلَّا مَنَازِلَ اسْتِحْقَاقٍ بِخِلَافِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُمْ أُنْزِلُوا فِيهَا مَنَازِلَ اسْتِحْقَاقٍ بِأَعْمَالِهِمْ مِثْلَ الْكُفَّارِ وَمَنَازِلَ وِرَاثَةٍ وَمَنَازِلَ اخْتِصَاصٍ (قَوْلُهُ: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ إلَخْ) فَإِنَّ صِيغَةَ الْمُضِيِّ فِيهَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمَا مَخْلُوقَتَيْنِ فِيمَا مَضَى وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ الِاسْتِقْبَالِيِّ كَمَا فِي {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] لَا قَرِينَةً عَلَيْهِ بِخِلَافِ وَنَادَى.

(قَوْلُهُ: وَقِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ) قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَحَمْلُهَا عَلَى بُسْتَانٍ مِنْ بَسَاتِينِ الدُّنْيَا يَجْرِي مَجْرَى التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ وَالْمُرَاغَمَةِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا قَائِلَ بِخَلْقِ الْجَنَّةِ

ص: 485

وَزَعَمَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمَا إنَّمَا يُخْلَقَانِ يَوْمَ الْجَزَاءِ.

ــ

[حاشية العطار]

دُونَ النَّارِ فَثُبُوتُهَا ثُبُوتُهَا (قَوْلُهُ: وَزَعَمَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَخْ) تَمَسَّكُوا بِأَدِلَّةٍ رَكِيكَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ عَلَى الْأَفْلَاكِ وَامْتِنَاعِ الْخَلَاءِ مِنْ الْأُصُولِ الْفَلْسَفِيَّةِ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَعْيِينِ مَكَانِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَتَحْتَ الْعَرْشِ تَشَبُّثًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 14]{عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «سَقْفُ الْجَنَّةِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَالنَّارُ تَحْتَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ» وَالْحَقُّ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إلَى عِلْمِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ اهـ.

وَمِنْ الْغَرِيبِ قَوْلُ بَعْضِ حَوَاشِي جَلَالِ الدِّينِ الدَّوَانِيِّ عَلَى الْعَقَائِدِ إذَا كَانَتْ الْجَنَّةُ هُنَاكَ يَعْنِي فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَأَيْنَ النَّارُ وَلَا مَخْلَصَ إلَّا بِأَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ فِيمَا يَلِي سَمْتَ رُءُوسِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالنَّارُ فِيمَا يَلِي سَمْتَ قَدَمِهِمْ وَبِحَمْلِ الْأَرَضِينَ بِمَعْنَى السُّفْلَيَاتِ مِنْ الْأَرْضِ وَسَائِرِ الْعَنَاصِرِ وَالْأَفْلَاكِ السَّبْعَةِ الْكُرِّيَّةِ مِمَّا يَلِي سَمْتَ قَدَمِهِمْ وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ إشْكَالٌ قَوِيٌّ هُوَ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ كُرِّيَّةً وَلَا فِي كَوْنِ الْأَرْضِ فِي الْوَسَطِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَرْصَادُ وَالْخَسُوفَاتُ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ كَالْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ فَلَا تَكُونُ النَّارُ تَحْتَ الْأَرَضِينَ وَإِلَّا لَكَانَتْ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَفَلَكِ الْقَمَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا فِي بَعْضِ الْآثَارِ لَوْ أَنَّ شَرَارَةً مِنْهَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَأَحْرَقَتْ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا اهـ.

وَلَا يَخْفَاك أَنَّ هَذَا كَلَامُ مَنْ تَشَبَّثَ بِقَوَاعِد الْفَلَاسِفَةِ فِي تَقْرِيرِ الشَّرْعِيَّاتِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ التَّفْتَازَانِيُّ نَوَّرَ اللَّهُ ضَرِيحَهُ وَتَحْكِيمُ الْعُقُولِ فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ يُفْضِي إلَى تَوَارُدِ الشُّبَهِ وَيُوقِعُ فِي الزَّلَلِ عَصَمَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَمَا فِي الْيَوَاقِيتِ عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى صُورَةِ الْجَامُوسِ قَالَ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّالِعَ وَقْتَ خَلْقِهَا كَانَ الثَّوْرَ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ فِيهَا الْآلَامُ مِنْ جُوعٍ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ تَجَلِّي قَوْله تَعَالَى «مَرِضْت فَلَمْ تَعْدُنِي وَجُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي وَظَمِئْتُ فَلَمْ تَسْقِنِي» اهـ.

يَعْنِي: مَا يُفْعَلُ لِأَجْلِهِ مِنْ الْمُحْتَاجِينَ مِمَّا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا مَنْ ذَاقَ مَذَاقَهُمْ نَعَمْ قَوْلُهُ لَيْسَ بِنَفْسِ جَهَنَّمَ وَلَا خَزَنَتِهَا أَلَمٌ بَلْ حُكْمُهُمْ كَغَيْرِهِمْ {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] وَقَوْلُهُ إنَّ مَثَلَ الْجَنَّةِ الْآنَ كَمَدِينَةٍ بُنِيَ سُورُهَا وَلَمْ تَكْمُلْ بُيُوتُهَا مِنْ دَاخِلٍ وَلِذَلِكَ وَرَدَ مَنْ فَعَلَ كَذَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ اهـ.

مِمَّا نَعْقِلُهُ وَنَفْهَمُهُ وَفِي الْفُتُوحَاتِ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ كَانَ زُحَلُ فِي الثَّوْرِ وَكَانَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي الْقَوْسِ وَكَانَتْ سَائِرُ الدَّرَارِيِّ فِي الْجَدْيِ اهـ.

وَلَا يَخْفَاك أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ صَرِيحٌ فِي تَقَدُّمِ خَلْقِ الْأَفْلَاكِ عَلَيْهَا وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ وَلَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ مَجَالٌ وَقَالَ أَيْضًا إنَّ عَذَابَ أَهْلِ جَهَنَّمَ مَا هُوَ مِنْهَا وَإِنَّمَا هِيَ دَارُ سُكْنَاهُمْ وَسِجْنُهُمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِمْ أَنْوَاعَ الْعَذَابِ مَتَى شَاءَ فَعَذَابُهُمْ مِنْ اللَّهِ وَهِيَ مَحَلٌّ لَهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ دُخُولِ الْخَلْقِ فِيهَا وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا فِيهَا فَلَا أَلَمَ فِيهَا فِي نَفْسِهَا وَلَا فِي نَفْسِ مَلَائِكَتِهَا بَلْ هِيَ وَمَنْ فِيهَا مِنْ زَبَانِيَتِهَا فِي رَحْمَةِ اللَّهِ مُتَنَعِّمُونَ مُتَلَذِّذُونَ وَحَدُّهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحِسَابِ مِنْ مُقَعَّرِ فَلَكِ الثَّوَابِتِ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ قَالَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إذَا رَأَى الْبَحْرَ يَا بَحْرُ مَتَى تَعُودُ نَارًا وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] أَيْ أُجِّجَتْ نَارًا مِنْ سَجَرْت التَّنُّورَ إذَا أَوْقَدْته وَمِنْ هُنَا كَرِهَ ابْنُ عُمَرَ الْوُضُوءَ بِمَاءِ الْبَحْرِ وَقَالَ التَّيَمُّمُ أَعْجَبُ إلَيَّ مِنْهُ وَلَوْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْ أَبْصَارِ الْخَلْقِ الْيَوْمَ لَرَأَوْهُ نَارًا يَتَأَجَّجُ. اهـ. مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ بِنَوْعِ تَصَرُّفٍ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ الْجَنَّةُ نَوْعَانِ جَنَّةٌ مَحْسُوسَةٌ وَجَنَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَالْعَقْلُ يَعْقِلُهُمَا مَعًا وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ الْمَحْسُوسَةَ بِطَالِعِ الْأَسَدِ وَخَلَقَ الْجَنَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ رُوحُ هَذِهِ الْجَنَّةِ الْمَحْسُوسَةِ مِنْ الْفَرَحِ الْأَكْبَرِ مِنْ صِفَةِ الْكَمَالِ وَالِابْتِهَاجِ وَالسُّرُورِ فَكَانَتْ الْجَنَّةُ الْمَحْسُوسَةُ كَالْجِسْمِ وَالْجَنَّةُ الْمَعْقُولَةُ كَالرُّوحِ وَقُوَاهُ وَلِهَذَا سَمَّاهَا الْحَقُّ تَعَالَى الدَّارَ الْحَيَوَانَ لِحَيَاتِهَا. وَأَهْلُهَا يَتَنَعَّمُونَ بِهَا

ص: 486

(وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ نَصْبُ إمَامٍ) يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ وَقَهْرِ الْمُتَغَلِّبَةِ وَالْمُتَلَصِّصَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَصْبِهِ حَتَّى جَعَلُوهُ أَهَمَّ الْوَاجِبَاتِ وَقَدَّمُوهُ عَلَى دَفْنِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى ذَلِكَ (وَلَوْ) كَانَ مَنْ يُنْصَبُ (مَفْضُولًا) فَإِنَّ نَصْبَهُ يَكْفِي فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ النَّصْبِ وَقِيلَ: لَا بَلْ يَتَعَيَّنُ نَصْبُ الْفَاضِلِ وَذَهَبَتْ الْخَوَارِجُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ نَصْبُ إمَامٍ وَالْإِمَامِيَّةُ إلَى وُجُوبِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى

ــ

[حاشية العطار]

حِسًّا وَمَعْنًى اهـ.

(قَوْلُهُ: وَيَجِبُ) أَيْ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمَّا عَامَّتُهُمْ فَمُوَافِقُونَ لَنَا وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْخَوَارِجِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجِبُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ وَيَجِبُ عِنْدَ ظُهُورِ الظُّلْمِ وَبَعْضٌ مِنْهُمْ يَجِبُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَدْلِ لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الشَّرْعِ لَا عِنْدَ ظُهُورِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّ الظَّلَمَةَ رُبَّمَا لَمْ يُطِيعُوهُ وَيَصِيرُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْفِتَنِ (قَوْلُهُ: عَلَى النَّاسِ) أَيْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. وَالْآحَادُ تَبَعٌ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَدَدٍ وَلَا اتِّفَاقٍ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ بَلْ لَوْ تَعَلَّقَ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ بِوَاحِدٍ يُطَاعُ كَفَتْ بَيْعَتُهُ (قَوْلُهُ: نَصْبُ إمَامٍ) مِنْ الْإِمَامَةِ وَهِيَ رِيَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا خِلَافَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَتْ النُّبُوَّةُ وَبِقَيْدِ الْعُمُومِ خَرَجَ مِثْلُ الْقَضَاءِ وَالرِّيَاسَةِ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي وَكَذَا رِيَاسَةُ مَنْ جَعَلَهُ الْإِمَامُ نَائِبًا عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَنَصْبُهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعِلْمِيَّةِ دُونَ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَكِنْ لَمَّا شَاعَتْ بَيْنَ النَّاسِ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ اعْتِقَادَاتٌ فَاسِدَةٌ وَاخْتِلَافَاتٌ لَا سِيَّمَا مِنْ فِرَقِ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَمَالَتْ كُلُّ فِئَةٍ إلَى تَعَصُّبَاتٍ تَكَادُ تُفْضِي إلَى رَفْضِ كَثِيرٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَبَعْضِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَدْحِ فِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ وَأَفْضَلِيَّتِهِمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ أَلْحَقَ الْمُتَكَلِّمُونَ مَبْحَثَ الْإِمَامَةِ بِمَبَاحِثِ عِلْمِ الْكَلَامِ.

(قَوْلُهُ: وَقَدَّمُوهُ عَلَى دَفْنِهِ) تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ رَبَّ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ لَا بُدَّ لِهَذَا الْأَمْرِ مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ فَانْظُرُوا وَهَاتُوا آرَاءَكُمْ رَحِمَكُمْ اللَّهُ فَتَبَادَرَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَقَالُوا صَدَقْت وَلَكِنَّا نَنْظُرُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْإِمَامِ (قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا أَوْ مَفْضُولًا وَتَقْدِيمُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ قَبِيحٌ عَقْلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} [يونس: 35] الْآيَةَ وَالْمَسَاوِئُ لَا تَرْجِيحَ لَهُ فَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَهُوَ دَلِيلٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لَا يَحْتَاجُ لِبَيَانٍ (قَوْلُهُ: وَالْإِمَامِيَّةُ) فِرْقَةٌ مِنْ الشِّيعَةِ فَإِنَّهُمْ تَفَرَّقُوا فَرِقًّا كَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ تَكَفَّلَ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي كِتَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ بِبَيَانِ مَذَاهِبِهِمْ وَذُكِرَتْ آخِرَ الْمَوَاقِفِ بِاخْتِصَارٍ وَكَانَ نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ إمَامِيًّا وَلِذَلِكَ لَوَّثَ كِتَابَهُ مَتْنَ التَّجْرِيدِ بِمَا خَتَمَهُ بِهِ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ وَالتَّكَلُّمِ فِي حَقِّ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِمَنَاصِبِهِمْ الْعَالِيَةِ وَكُنْت رَأَيْت فِي حَاشِيَةٍ لِبَعْضِ فُضَلَاءِ الرُّومِ مُكْتَتَبَةً عَلَى خُطْبَتِهِ أَنَّ بَعْضَ شُرَّاحِ ذَلِكَ الْمَتْنِ نَقَلَ عَنْ وَلَدِ النَّصِيرِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّ وَالِدَهُ وَصَلَ فِيهِ إلَى مَبْحَثِ الْإِمَامَةِ وَمَاتَ فَأَكْمَلَهُ ابْنُ الْمُطَهَّرِ الْحِلِّيِّ وَقَدْ كَانَ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْمَطَاعِنَ وَيَخْدِشُ هَذَا النَّقْلَ مَا رَأَيْته فِي كَثِيرٍ مِنْ التَّوَارِيخِ أَنَّ النَّصِيرَ أَلَّفَ التَّجْرِيدَ أَهْدَاهُ لِلْمُعْتَصِمِ الْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ فَلَمْ يَحْتَفِلْ بِهِ وَأَلْقَاهُ فِي الدِّجْلَةِ فَلَمَّا قَدِمَ هُولَاكُو إلَى بَغْدَادَ لِحَرْبِ الْخَلِيفَةِ صَحِبَهُ النَّصِيرُ وَأَغْرَاهُ عَلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَبَقِيَ النَّصِيرُ مَعَ هُولَاكُو إلَى بَعْدِ ذَلِكَ مُدَّةً مَعَ مَزِيدِ الرِّفْعَةِ وَعُلُوِّ الشَّأْنِ حَتَّى مَاتَ.

(قَوْلُهُ: إلَى وُجُوبِهِ عَلَى اللَّهِ) قَالُوا إنَّ الْإِمَامَ لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ عِبَادِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُمْ

ص: 487

(وَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ خَالِقُ الْخَلْقِ فَكَيْفَ يَجِبُ لَهُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ يَتَرَتَّبُ الذَّمُّ بِتَرْكِهَا مِنْهَا الْجَزَاءُ أَيْ الثَّوَابُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَمِنْهَا اللُّطْفُ بِأَنْ يَفْعَلَ بِعِبَادِهِ مَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى الطَّاعَةِ وَيُبْعِدُهُمْ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِحَيْثُ لَا يَنْتَهُونَ إلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ وَمِنْهَا الْأَصْلَحُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا

ــ

[حاشية العطار]

رَئِيسٌ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْوَاجِبَاتِ كَانُوا مَعَهُ أَقْرَبَ إلَى الطَّاعَاتِ وَأَبْعَدَ عَنْ الْمَعَاصِي مِنْهُمْ بِدُونِهِ وَاللُّطْفُ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ إنَّمَا يَكُونُ لُطْفًا دَاخِلًا عَنْ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ وَتَرْكَ الْحَرَامِ مَعَ عَدَمِ الْإِمَامِ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِكَوْنِهِمَا أَقْرَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ لِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ كَوْنِهِمَا مِنْ خَوْفِ الْإِمَامِ وَلَوْ سُلِّمَ فَإِنَّمَا يَجِبُ لَوْ لَمْ يَقُمْ لُطْفٌ آخَرُ مَقَامَهُ كَالْعِصْمَةِ مَثَلًا. لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَمَانٌ تَكُونُ النَّاسُ فِيهِ مَعْصُومِينَ مُسْتَغْنِينَ عَنْ الْإِمَامِ وَأَيْضًا إنَّمَا يَكُونُ لُطْفًا إذَا كَانَ الْإِمَامُ ظَاهِرًا قَاهِرًا زَاجِرًا عَنْ الْقَبَائِحِ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ وَإِعْلَاءِ لِوَاءِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ عِنْدَكُمْ فَالْإِمَامُ الَّذِي ادَّعَيْتُمْ وُجُودَهُ لَيْسَ بِلُطْفٍ وَاَلَّذِي هُوَ لُطْفٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَذَا فِي الشَّرْحِ الْجَدِيدِ لِلتَّجْرِيدِ.

(قَوْلُهُ: وَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّبِّ إلَخْ) وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] وَقَوْلُهُ {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. إذْ ذَاكَ إحْسَانٌ وَتَفْضِيلٌ لَا إيجَابٌ وَإِلْزَامٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ وَعْدِهِ بِذَلِكَ {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9] قَالَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ الْوَاجِبُ إمَّا عِبَارَةٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ الذَّمَّ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْ مَا تَرْكُهُ مُخِلٌّ بِالْحِكْمَةِ كَمَا قَالَهُ بَعْضٌ آخَرُ أَوْ مَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَا يَتْرُكَهُ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ جَائِزًا كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26]«وَقَوْلِهِ عليه السلام حَاكِيًا عَنْ اللَّهِ يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» .

وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ فَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الذَّمُّ أَصْلًا عَلَى فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ بَلْ هُوَ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَكَذَا الثَّانِي لَا نُسَلِّمُ إجْمَالًا بِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ تَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ وَالْمَصَالِحَ وَلَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِحِكْمَتِهِ وَالْمَصْلَحَةُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وَكَذَا الثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُ إنْ قِيلَ بِامْتِنَاعِ صُدُورِ خِلَافٍ عَنْهُ تَعَالَى فَهُوَ يُنَافِي مَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَعْرِيفِهِ مِنْ جَوَازِ التَّرْكِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَاتَ مَعْنَى الْوُجُوبِ إذْ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُحَصِّلُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتْرُكُهُ عَلَى طَرِيقِ جَرْيِ الْعَادَةِ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْوُجُوبِ فِي شَيْءٍ بَلْ يَكُونُ إطْلَاقُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ مُجَرَّدَ اصْطِلَاحٍ.

(قَوْلُهُ: وَمِنْهَا اللُّطْفُ إلَخْ) اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ تَرْكَ اللُّطْفِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ غَرَضِ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ اللُّطْفُ وَاجِبًا وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ الْغَرَضِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلِّفَ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُطِيعُ إلَّا بِاللُّطْفِ فَلَوْ كَلَّفَهُ بِدُونِهِ يَكُونُ نَاقِضًا لِغَرَضِهِ وَكَمَنْ دَعَا غَيْرَهُ إلَى طَعَامِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ إلَّا بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ نَوْعًا مِنْ التَّأَدُّبِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الدَّاعِي ذَلِكَ التَّأَدُّبَ كَانَ نَاقِضًا لِغَرَضِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَبْنَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ أَفْعَالِهِ تَعَالَى مُعَلَّلَةً بِالْأَغْرَاضِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ وَهُوَ بَاطِلٌ وَبَعْدَ التَّنَزُّلِ يُقَالُ إنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الطَّاعَةُ وَتَرْكُ الْمَعْصِيَةِ وَمَا يُقَرِّبُ إلَى الطَّاعَةِ وَيُبْعِدُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الْأَصْلَحُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إلَخْ) ذَهَبَ مُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ إلَى وُجُوبِ الْأَصْلَحِ فِي الدِّينِ فَقَطْ وَذَهَبَ مُعْتَزِلَةُ بَغْدَادَ إلَى وُجُوبِ الْأَصْلَحِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَلَيْهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ الْأَصْلَحُ فِي الْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَكَلَامُ الشَّارِحِ

ص: 488

مِنْ حَيْثُ: الْحِكْمَةُ وَالتَّدْبِيرُ.

(وَالْمَعَادُ الْجُسْمَانِيُّ) أَيْ عَوْدُ الْجِسْمِ (بَعْدَ الْإِعْدَامِ) بِأَجْزَائِهِ وَعَوَارِضِهِ

ــ

[حاشية العطار]

يُوَافِقُ هَذَا مَعَ مُلَاحَظَةِ مَعْطُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَالدِّينِ إلَّا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا يُوَافِقُ الْأَوَّلَ بِحَالٍ تَدَبَّرْ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَلَعَمْرِي إنَّ مَفَاسِدَ هَذَا الْأَصْلِ أَعْنِي وُجُوبَ الْأَصْلَحِ بَلْ مَفَاسِدَ أَكْثَرِ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تَخْفَى وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَذَلِكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ فِي الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَرُسُوخِ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ فِي طِبَاعِهِمْ.

وَغَايَةُ مُتَشَبَّثِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ الْأَصْلَحِ يَكُونُ بُخْلًا وَسَفَهًا وَجَوَابُهُ أَنَّ مَنْعَ مَا يَكُونَ حَقُّ الْمَانِعِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ كَرْمُهُ وَحِكْمَتُهُ وَعِلْمُهُ بِالْعَوَاقِبِ يَكُونُ مَحْضَ عَدْلٍ وَحِكْمَةٍ اهـ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ إذَا طُولِبُوا بِتَحْقِيقِ وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ لَمْ يَرْجِعُوا إلَى شَيْءٍ إلَّا أَنَّهُ رَأْيٌ اسْتَحْسَنُوهُ مِنْ مُقَايَسَةِ الْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ وَمُشَابَهَةِ حِكْمَتِهِ بِحِكْمَتِهِمْ وَمُسْتَحْسَنَاتُ الْعُقُولِ آرَاءٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تُنْتِجُ نَتَائِجَ يَشْهَدُ الْقُرْآنُ بِفَسَادِهَا كَهَذِهِ الْمُقَابَلَةِ فَإِنِّي إذَا وَزَنْتُهَا بِمِيزَانِ التَّلَازُمِ قُلْت لَوْ كَانَ الْأَصْلَحُ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ لَفَعَلَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ فَلِمَ يَكُونُ وَاجِبًا فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ قُلْنَا الْأَصْلَحُ بِالْخَلْقِ أَنْ يَكُونُوا فِي الْجَنَّةِ وَتَرَكَهُمْ فِيهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ الْأَصَحَّ بِزَعْمِكُمْ وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ بِمَا هَذَا خُلَاصَتُهُ.

(قَوْلُهُ: أَيْ عَوْدُ الْجِسْمِ إلَخْ) بِأَنْ يُعَادَ الْجِسْمُ الْمَعْدُومُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ بِجَمْعِ أَجْزَائِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ إعَادَةَ الْمَعْدُومِ نَفْسِهِ مُوَافَقَةً لِلْفَلَاسِفَةِ (قَوْلُهُ: بِأَجْزَائِهِ) أَيْ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا تَرِدُ شُبْهَةُ مُنْكِرِيهِ بِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ إنْسَانٌ إنْسَانًا وَصَارَ غِذَاءً لَهُ وَمِنْ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ فَالْأَجْزَاءُ الْمَأْكُولَةُ إمَّا أَنْ تُعَادَ فِي بَدَنِ الْآكِلِ أَوْ بِدُونِ الْمَأْكُولِ وَأَيَّا مَا كَانَ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ مُعَادًا بِتَمَامِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا أَوْلَوِيَّةَ لِجَعْلِهَا جُزْءًا مِنْ بَدَنِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَا سَبِيلَ إلَى جَعْلِهَا جُزْءًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَأَيْضًا إذَا كَانَ الْآكِلُ كَافِرًا وَالْمَأْكُولُ مُؤْمِنًا يَلْزَمُ تَنْعِيمُ الْأَجْزَاءِ الْعَاصِيَةِ أَوْ تَعْذِيبُ الْأَجْزَاءِ الْمُطِيعَةِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِعَادَةَ لِلْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ لَا الْحَاصِلَةِ بِالتَّغْذِيَةِ فَالْمُعَادُ مِنْ الْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ الْحَاصِلَةُ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ فَسَادٍ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الْغِذَائِيَّةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الْمَأْكُولِ نُطْفَةً وَأَجْزَاءً أَصْلِيَّةً لِبَدَنٍ آخَرَ وَيَعُودُ الْمَحْذُورُ قُلْنَا الْمَحْذُورُ إنَّمَا هُوَ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ لَا فِي إمْكَانِهِ قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَهَا مِنْ أَنْ تَصِيرَ جُزْءًا لِبَدَنٍ آخَرَ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَصِيرَ جُزْءًا أَصْلِيًّا اهـ. مِنْ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ.

وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا قَوْلٌ بِالتَّنَاسُخِ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ الثَّانِيَ لَيْسَ هُوَ الْأَوَّلَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ وَأَنَّ الْجَهَنَّمِيَّ ضِرْسُهُ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مَا مِنْ مَذْهَبٍ إلَّا وَلِلتَّنَاسُخِ فِيهِ قَدَمٌ رَاسِخٌ قُلْنَا إنَّمَا يَلْزَمُ التَّنَاسُخُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَدَنُ الثَّانِي مَخْلُوقًا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْبَدَنِ الْأَوَّلِ وَإِنْ سُمِّيَ مِثْلُ ذَلِكَ تَنَاسُخًا كَانَ نِزَاعًا فِي مُجَرَّدِ الِاسْمِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى اسْتِحَالَةِ إعَادَةِ الرُّوحِ إلَى مِثْلِ هَذَا الْبَدَنِ بَلْ الْأَدِلَّةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ تَنَاسُخًا أَوْ لَا اهـ.

(قَوْلُهُ: وَعَوَارِضِهِ) أَيْ الْمُشَخِّصَةِ لَهُ مِنْ الْكَمِّ وَالْكَيْفِ وَغَيْرِهِمَا وَفِيهِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَلَوْ أُعِيدَ وَقْتُ الْحُدُوثِ لَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْدُومُ مَبْدَأ لَا مُعَادًا إلَّا أَنَّ الْمُعَادَ هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي مِنْ وَقْتِ الْحُدُوثِ وَهَذَا قَدْ وُجِدَ فِي وَقْتِ الْحُدُوثِ فَيَكُونُ مَبْدَأ فَإِنْ لَمْ يَعُدْ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ لَمْ تَكُنْ الْإِعَادَةُ لِلْمَعْدُومِ بِعَيْنِهِ لِمَا قَالُوا إنَّ الْوَقْتَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَوَارِضِ الْمُشَخِّصَةِ لِلشَّيْءِ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَوْجُودَ مَعَ قَيْدِ كَوْنِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَيْرُ الْمَوْجُودِ مَعَ قَيْدِ كَوْنِهِ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ.

وَالْجَوَابُ أَنْ نَخْتَارَ أَنَّ الْوَقْتَ الْأَوَّلَ لَمْ يَعُدْ وَقَوْلُكُمْ إنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى عَدَمِ إعَادَةِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْدُومُ مُعَادًا بِعَيْنِهِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى إعَادَةِ الْمَعْدُومِ بِعَيْنِهِ إعَادَةُ الْعَيْنِ بِالْمُشَخِّصَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَقْتَ مِنْ الْمُشَخِّصَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ فَإِنَّ زَيْدًا الْمَوْجُودَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَوْجُودُ قَبْلَهَا وَقَوْلُكُمْ إنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَوْجُودَ مَعَ قَيْدِ كَوْنِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَخْ أَمْرٌ وَهْمِيٌّ وَالتَّغَايُرُ الَّذِي تُحْكَمُ بِهِ الضَّرُورَةُ إنَّمَا

ص: 489

كَمَا كَانَ (حَقٌّ) قَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27]{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] وَأَنْكَرَتْ الْفَلَاسِفَةُ إعَادَةَ الْأَجْسَامِ وَقَالُوا إنَّمَا تُعَادُ الْأَرْوَاحُ بِمَعْنَى أَنَّهَا بَعْدَ مَوْتِ الْبَدَنِ تُعَادُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ التَّجَرُّدِ مُتَلَذِّذَةً بِالْكَمَالِ أَوْ مُتَأَلِّمَةً بِالنُّقْصَانِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ الْإِعْدَامِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ: لَا يُعْدَمُ الْجِسْمُ وَإِنَّمَا تُفَرَّقُ أَجْزَاؤُهُ

(وَنَعْتَقِدُ أَنَّ خَيْرَ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَتُهُ فَعُمَرُ فَعُثْمَانُ فَعَلِيٌّ أُمَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ) لِإِطْبَاقِ السَّلَفِ عَلَى خَيْرِيَّتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ

ــ

[حاشية العطار]

هُوَ بِحَسَبِ الذِّهْنِ وَالِاعْتِبَارِ دُونَ الْخَارِجِ.

وَلَوْ كَانَ الْوَقْتُ مِنْ الْمُشَخِّصَاتِ لَزِمَ تَبَدُّلُ الْأَشْخَاصِ بِتَبَدُّلِهِ وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ الْمَعْدُومَ مُعَادٌ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ إعَادَةِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَالشَّخْصُ الْحَاصِلُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي هُوَ الْحَاصِلُ فِي الْأَوَّلِ تَأَمَّلْ فَقَوْلُ الشَّارِحِ وَعَوَارِضِهِ أَيْ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّخْصِ الْخَارِجِيِّ لَا جَمِيعِ الْعَوَارِضِ فَإِنَّ مِنْهَا الْوَقْتُ وَالْوَضْعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ وَفِي الشَّرْحِ الْجَدِيدِ عَلَى التَّجْرِيدِ أَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ مِنْ الْمُشَخِّصَاتِ وَمَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ نُسِبَ إلَى السَّفْسَطَةِ وَيُحْكَى أَنَّهُ وَقَعَ هَذَا الْبَحْثُ لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ سِينَا مَعَ أَحَدِ تَلَامِذَتِهِ وَكَانَ مُصِرًّا عَلَى التَّغَايُرِ بِحَسَبِ الْخَارِجِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُشَخِّصَةِ فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ إنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَزْعُمُ فَلَا يَلْزَمُنِي الْجَوَابُ؛ لِأَنِّي غَيْرُ مَنْ كَانَ يُبَاحِثُك وَأَنْتَ أَيْضًا غَيْرُ مَنْ كَانَ يُبَاحِثُنِي فَبُهِتَ التِّلْمِيذُ وَعَادَ إلَى الْحَقِّ وَاعْتَرَفَ بِعَدَمِ التَّغَايُرِ فِي الْوَاقِعِ وَأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ مِنْ الْمُشَخِّصَاتِ قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27] تَمَامُ الْآيَةِ {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى كَوْنِ الْإِعَادَةِ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتُهُ قَدِيمَةٌ لَا تَتَفَاوَتُ الْمَقْدُورَاتُ بِالنِّسْبَةِ لَهَا قُلْنَا كَوْنُ الْفِعْلِ أَهْوَنَ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ بِزِيَادَةِ شَرَائِطِ الْفَاعِلِيَّةِ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ الْقَائِلِ بِزِيَادَةِ اسْتِعْدَادَاتِ الْقَبُولِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا.

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قُدْرَةِ الْفَاعِلِ فَالْكُلُّ عَلَى السَّوَاءِ اهـ. (قَوْلُهُ: وَأَنْكَرَتْ الْفَلَاسِفَةُ إلَخْ) وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الَّتِي كُفِّرُوا بِهَا وَاشْتُهِرَ أَنَّ ابْنَ سِينَا يُوَافِقُهُمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَثْبَتَ الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ وَصَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ وَكِتَابِ النَّجَاةِ أَيْضًا قَالَ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَعَادَ مِنْهُ مَا هُوَ مَقْبُولٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ وَتَصْدِيقِ خَبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي لِلْبَدَنِ عِنْدَ الْبَعْثِ وَخَيْرَاتُهُ وَشُرُورُهُ مَعْلُومَةٌ وَقَدْ بَسَطَتْ الشَّرِيعَةُ الْحَقَّةُ الَّتِي أَتَانَا بِهَا سَيِّدُنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم حَالَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ الَّتِي بِحَسَبِ الْبَدَنِ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُدْرَكٌ بِالْعَقْلِ إلَخْ وَذَكَرَ الْحَشْرَ الرُّوحَانِيَّ (قَوْلُهُ: هُوَ الصَّحِيحُ) أَيْ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَالتَّصْحِيحُ مِنْ عِنْدِيَّاتِهِ فِيمَا يَظْهَرُ وَالْحَقُّ التَّوَقُّفُ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَوَاقِفِ وَأَقَرَّهُ شَارِحُهُ وَصَرَّحَ بِهِ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَدُلَّ قَاطِعٌ سَمْعِيٌّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا اهـ. زَكَرِيَّا (قَوْلُهُ: وَقِيلَ: لَا يُعْدَمُ الْجِسْمُ إلَخْ) أَيْ فَيَكُونُ الْمُعَادُ التَّأْلِيفُ لَا الْمُؤَلَّفُ.

(قَوْلُهُ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ خَيْرَ الْأُمَّةِ إلَخْ) اُخْتُلِفَ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ وَبِالْأَوَّلِ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِإِطْبَاقِ السَّلَفِ إلَخْ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَبِالثَّانِي قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَفَضْلُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ مَعْلُومٌ مَا مَرَّ مِنْ تَرْتِيبِ الْفَضْلِ بَيْنَ نَبِيِّنَا وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأَمَّا فَضْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأُمَمِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهُوَ خَيْرُ سَائِرِ الْأُمَمِ وَفِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَمْشِي أَمَامَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك إنَّ أَبَا بَكْرٍ خَيْرُ مَنْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» اهـ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ الْأَشْرَفِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ وَلِتَأَخُّرِهِ حَدِيثُ كَانَ يَسُوقُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ كَالرَّاعِي. وَجَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَيْضًا فِي بَعْضٍ كَالْأُمَرَاءِ (قَوْلُهُ: خَلِيفَتُهُ) لَمْ يَنُصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِلَافَةِ أَحَدٍ. خِلَافًا لِلْبَكْرِيَّةِ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا النَّصَّ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَلِلشِّيعَةِ فِي زَعْمِهِمْ

ص: 490

عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَقَالَتْ الشِّيعَةُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْأَفْضَلُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلِيٌّ وَمَيَّزَهُمْ الْمُصَنِّفُ عَنْ مُشَارِكِيهِمْ فِي أَسْمَائِهِمْ بِمَا كَانُوا يُدْعَوْنَ بِهِ فَكَانَ يُدْعَى أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ خَلَفَهُ فِي أَمْرِ الرَّعِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَيُدْعَى كُلٌّ مِنْ الثَّلَاثَةِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

(وَ) نَعْتَقِدُ (بَرَاءَةَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (مِنْ كُلِّ مَا قُذِفَتْ بِهِ) لِنُزُولِ الْقُرْآنِ بِبَرَاءَتِهَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور: 11] الْآيَاتِ

(وَنُمْسِكُ عَمَّا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ) مِنْ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي قُتِلَ بِسَبَبِهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَتِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا أَيْدِيَنَا فَلَا نُلَوِّثُ بِهَا أَلْسِنَتَنَا (وَنَرَى الْكُلَّ مَأْجُورِينَ) فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةٍ ظَنِّيَّةٍ لِلْمُصِيبِ فِيهَا أَجْرَانِ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَإِصَابَتِهِ وَلِلْمُخْطِئِ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «إنَّ الْحَاكِمَ إذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»

(وَ) نَرَى (أَنَّ الشَّافِعِيَّ) إمَامَنَا (وَمَالِكًا) شَيْخَهُ (وَأَبَا حَنِيفَةَ وَالسُّفْيَانَيْنِ) الثَّوْرِيَّ وَابْنَ عُيَيْنَةَ (وَأَحْمَدَ) بْنَ حَنْبَلٍ (وَالْأَوْزَاعِيَّ وَإِسْحَاقَ) بْنَ رَاهْوَيْهِ (وَدَاوُد) الظَّاهِرِيَّ (وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ بَاقِيَهُمْ (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) فِي الْعَقَائِدِ وَغَيْرِهَا وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ بِمَا هُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَقَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إنَّ الْمُحَقِّقِينَ لَا يُقِيمُونَ لِلظَّاهِرِيَّةِ وَزْنًا وَإِنَّ خِلَافَهُمْ لَا يُعْتَبَرُ مَحْمَلُهُ عِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ وَأَمْثَالِهِ.

وَأَمَّا دَاوُد فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّ خِلَافَهُ لَا يُعْتَبَرُ فَلَقَدْ كَانَ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَهُ مِنْ سَدَادِ النَّظَرِ وَسَعَةِ الْعِلْمِ وَنُورِ الْبَصِيرَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ مَا يَعْظُمُ وَقْعُهُ وَقَدْ دُوِّنَتْ كُتُبُهُ وَكَثُرَتْ أَتْبَاعُهُ وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي طَبَقَاتِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ فِي الْفُرُوعِ وَقَدْ كَانَ مَشْهُورًا فِي زَمَنِ الشَّيْخِ وَبَعْدَهُ بِكَثِيرٍ لَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ فَارِسَ شِيرَازَ وَمَا وَالَاهَا إلَى نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ (وَ) نَرَى (أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ) عَلِيَّ بْنَ إسْمَاعِيلَ (الْأَشْعَرِيَّ) وَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الصَّحَابِيِّ (إمَامٌ فِي السُّنَّةِ) أَيْ الطَّرِيقَةِ الْمُعْتَقَدَةِ (مُقَدَّمٌ) فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ كَأَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ.

(وَ) نَرَى (أَنَّ طَرِيقَ الشَّيْخِ) أَبِي الْقَاسِمِ (الْجُنَيْدِ) سَيِّدِ الصُّوفِيَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا (وَصَحْبِهِ طَرِيقٌ مُقَوَّمٌ) فَإِنَّهُ خَالٍ عَنْ الْبِدَعِ دَائِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّبَرِّي مِنْ النَّفْسِ وَمِنْ كَلَامِهِ الطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَسْدُودٌ عَلَى خَلْقِهِ إلَّا عَلَى الْمُقْتَفِينَ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ

ــ

[حاشية العطار]

النَّصَّ عَلَى خِلَافِهِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ.

وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يَوْمَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالَ الْأَنْصَارُ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مِنَّا الْأُمَرَاءُ وَمِنْكُمْ الْوُزَرَاءُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» فَاسْتَقَرَّ رَأْيُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَبَايَعُوهُ وَبَايَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَلُقِّبَ بِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ تَوَقُّفٍ مِنْهُ فَصَارَتْ إمَامَتُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا (قَوْلُهُ: عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ) أَيْ تَرْتِيبِ الْخِلَافَةِ أَوْ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ مِنَّا وَهُوَ عَلَى نَمَطِ تَرْتِيبِ الْخِلَافَةِ قَالَ الْجَلَالُ الدَّوَانِيُّ وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ التَّوَقُّفُ بَيْنَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَتَعَارَضُ الظُّنُونُ بَيْنَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ

(قَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ مَا قُذِفَتْ بِهِ الصَّوَابُ حَذْفُ كُلِّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُقْذَفْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.

(قَوْلُهُ: مَحْمَلُهُ عِنْدِي ابْنُ حَزْمٍ شَنَّعَ عَلَيْهِ السَّنُوسِيُّ فِي كُتُبِهِ وَوَصَفَهُ بِالِابْتِدَاعِ وَفِي حَاشِيَةِ الشَّاوِيِّ عَلَى شَرْحِ الصُّغْرَى قَالَ ابْنُ عَاتٍ مِنْ النَّاسِ مَنْ تَوَلَّعَ بِمَدْحِهِ حِفْظًا وَمَعْرِفَةً وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَلَّعَ بِذَمِّهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ طَرِيقَةِ الْمَالِكِيِّينَ وَرُكُوبِهِ رَأْسَهُ فِي نَوْعٍ آخَرَ وَرَدَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ بِتَأْلِيفٍ وَعَبْدُ الْحَقِّ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ وَلِابْنِ حَزْمٍ تَأْلِيفٌ كَبِيرٌ يَنْتَصِرُ فِيهِ لِلظَّاهِرِيَّةِ وَيُشَنِّعُ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ وَقَدْ رَأَيْت كِتَابًا لِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ فِي رَدِّ هَذَا الْكِتَابِ وَنَقْضِهِ عُرْوَةً عُرْوَةً اهـ.

وَقَدْ ذَكَرْت فِي صَدْرِ هَذِهِ الْحَاشِيَةِ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِابْنِ حَزْمٍ (قَوْلُهُ: وَنَرَى أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ) وَمِثْلُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ

ص: 491

- صلى الله عليه وسلم وَقَالَ رَأَيْت فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فَوَقَفَ عَلَيَّ مَلَكٌ فَقَالَ مَا أَقْرَبُ مَا تَقَرَّبَ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى فَقُلْت عَمَلٌ خَفِيٌّ بِمِيزَانٍ وَفِيٍّ فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ كَلَامٌ مُوَفَّقٌ وَاَللَّهِ، وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ رَمَاهُمْ فِي جُمْلَةِ الصُّوفِيَّةِ بِالزَّنْدَقَةِ عِنْدَ خَلِيفَةِ السُّلْطَانِ حَتَّى أَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ فَأَمْسَكُوا إلَّا الْجُنَيْدَ فَإِنَّهُ تَسَتَّرَ بِالْفِقْهِ وَكَانَ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ شَيْخِهِ، وَبُسِطَ لَهُمْ النَّطْعُ فَتَقَدَّمَ مِنْ آخِرِهِمْ أَبُو الْحَسَنِ النُّورِيُّ لِلسَّيَّافِ فَقَالَ لَهُ لِمَ تَقَدَّمَتْ فَقَالَ: أُوثِرُ أَصْحَابِي بِحَيَاةِ سَاعَةٍ فَبُهِتَ وَأُنْهِيَ الْخَبَرُ لِلْخَلِيفَةِ فَرَدَّهُمْ إلَى الْقَاضِي فَسَأَلَ النُّورِيَّ عَنْ مَسَائِلَ فِقْهِيَّةٍ فَأَجَابَهُ عَنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَبَعْدُ فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا إذَا قَامُوا قَامُوا بِاَللَّهِ وَإِذَا نَطَقُوا نَطَقُوا بِاَللَّهِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فَبَكَى الْقَاضِي وَأَرْسَلَ يَقُولُ لِلْخَلِيفَةِ إنْ كَانَ هَؤُلَاءِ زَنَادِقَةً فَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُسْلِمٌ فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ رحمهم الله وَنَفَعَنَا بِهِمْ، ثُمَّ قُتِلَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْحُسَيْنُ الْحَلَّاجُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَثِمِائَةٍ مِنْ سِنِي الْخَلِيفَةِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرٌ الْمُقْتَدِرُ.

(وَمِمَّا لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ) فِي الْعَقِيدَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ فِي الْجُمْلَةِ (وَتَنْفَعُ مَعْرِفَتُهُ) فِيهَا مَا يُذْكَرُ إلَى الْخَاتِمَةِ وَهُوَ (الْأَصَحُّ) الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ (إنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ) فِي

ــ

[حاشية العطار]

كِلَاهُمَا إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي مَسَائِلَ نَظَمَهَا الْمُصَنِّفُ فِي قَصِيدَةٍ نُونِيَّةٍ وَذَكَرَهَا فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ.

(قَوْلُهُ: لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ أَيْ وَيَنْفَعُ عِلْمُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَقَوْلُهُ فِي الْعَقِيدَةِ قَيْدٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ قَدْ يَكُونُ مُضِرًّا فِي غَيْرِهَا (قَوْلُهُ: فِي الْجُمْلَةِ) أَيْ لَا فِي جَمِيعِهِ فَإِنَّ مِنْهُ الْمُفَاضَلَةَ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَقَوْلَهُمْ الْمَاهِيَّاتُ مَجْعُولَةٌ وَنَحْوَهُمَا (قَوْلُهُ: وَتَنْفَعُ مَعْرِفَتُهُ إلَخْ) فِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَضُرُّ جَهْلُهُ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَنْفَعُ مَعْرِفَتُهُ بِاعْتِبَارِ مَعْرِفَةِ اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ الَّذِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعَقَائِدُ وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ مَبَادِئِ عِلْمِ الْكَلَامِ لَا مِنْ مَسَائِلِهِ وَالْمُصَنِّفُ رحمه الله ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ جَعْلَ الْمَاهِيَّةِ سَابِقًا وَحَقُّهَا أَنْ تُذْكَرَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبَادِئِ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِمَبَاحِثِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَيَذْكُرُونَهُ فِي صُدُورِ الْمُؤَلَّفَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ يَذْكُرُونَ مَبَاحِثَ الذَّاتِ الْجَلِيلَةِ وَصِفَاتِهَا وَمَبَاحِثَ النُّبُوَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْمُصَنِّفُ بِصَدَدِ ذَلِكَ لَمْ يَسْلُكْ تَرْتِيبَهُمْ وَلَمْ يَسْتَوْفِ مَبَاحِثَهُمْ (قَوْلُهُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ إلَخْ) يُعْرَبُ هُوَ مُبْتَدَأً وَقَوْلُهُ الْأَصَحُّ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَإِ الْأَوَّلِ هَذِهِ الْجُمَلُ كُلُّهَا إلَى الْخَاتِمَةِ.

(قَوْلُهُ: أَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ عَيْنُهُ) قَالَ الْمَوْلَى جَامِيٌّ فِي الدُّرَّةِ الْفَاخِرَةِ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ وُجُودَ الْوَاجِبِ بَلْ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُهُ ذِهْنًا وَخَارِجًا وَلَمَّا اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ اشْتِرَاكَ الْوُجُودِ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ الْخَاصَّةِ لَفْظًا لَا مَعْنًى. وَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ. قِيلَ: إنَّ مُرَادَهُمَا بِالْعَيْنِيَّةِ عَدَمُ التَّمَايُزِ الْخَارِجِيِّ أَيْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ هُوَ الْمَاهِيَّةُ وَآخَرُ قَائِمًا بِهَا قِيَامًا خَارِجِيًّا هُوَ الْوُجُودُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَتَبُّعِ دَلَائِلِهِمْ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ لِلْوُجُودِ مَفْهُومًا وَاحِدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوُجُودَاتِ وَذَلِكَ الْمَفْهُومُ الْوَاحِدُ يَتَكَثَّرُ وَيَصِيرُ حِصَّةً حِصَّةً بِإِضَافَتِهِ إلَى الْأَشْيَاءِ كَبَيَاضِ هَذَا الثَّلْجِ وَذَاكَ الْقُطْنِ، وَوُجُودَاتُ الْأَشْيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْحِصَصِ، وَهَذِهِ الْحِصَصُ مَعَ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ الدَّاخِلِ فِيهَا خَارِجَةٌ عَنْ ذَوَاتِ الْأَشْيَاءِ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا ذِهْنًا فَقَطْ عِنْدَ مُحَقِّقِيهِمْ وَذِهْنًا وَخَارِجًا عِنْدَ آخَرِينَ وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ لِلْوُجُودِ مَفْهُومًا وَاحِدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوُجُودَاتِ وَالْوُجُودَاتُ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ مُتَكَثِّرَةٌ بِأَنْفُسِهَا لَا بِمُجَرَّدِ عَارِضِ الْإِضَافَةِ لِتَكُونَ مُتَمَاثِلَةً مُتَّفِقَةَ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِالْفُصُولِ حَتَّى يَكُونَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ جِنْسًا لَهَا بَلْ هُوَ مَفْهُومٌ عَارِضٌ لَازِمٌ لَهَا كَنُورِ الشَّمْسِ وَنُورِ السِّرَاجِ فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِالْحَقِيقَةِ وَاللَّوَازِمِ، مُشْتَرِكَانِ فِي عَارِضِ النُّورِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وُجُودٍ اسْمٌ خَاصٌّ كَمَا فِي أَقْسَامِ الْمُمْكِنِ تُوُهِّمَ أَنَّ تَكَثُّرَ الْوُجُودَاتِ وَكَوْنَهَا حِصَّةً حِصَّةً إنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّدِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَاهِيَّاتِ الْمَعْرُوضَةِ لَهَا كَبَيَاضِ هَذَا الثَّلْجِ وَذَلِكَ، وَنُورِ هَذَا السِّرَاجِ وَذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ مُتَغَايِرَةٌ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذَا الْمَفْهُومِ الْعَارِضِ الْخَارِجِ عَنْهَا وَإِذَا اُعْتُبِرَ تَكَثُّرُ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ وَصَيْرُورَتِهِ حِصَّةً حِصَّةً بِإِضَافَتِهِ إلَى الْمَاهِيَّاتِ فَهَذِهِ الْحِصَصُ أَيْضًا خَارِجَةٌ عَنْ تِلْكَ الْوُجُودَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْحَقَائِقِ

ص: 492

الْخَارِجِ وَاجِبًا كَانَ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ مُمْكِنًا وَهُوَ الْخَلْقُ (عَيْنُهُ) أَيْ لَيْسَ زَائِدًا عَلَيْهِ (وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ)

ــ

[حاشية العطار]

فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: مَفْهُومُ الْوُجُودِ وَحِصَصُهُ الْمُتَعَيِّنَةُ بِإِضَافَتِهِ إلَى الْمَاهِيَّاتِ. وَالْوُجُودَاتُ الْخَاصَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ الْحَقَائِقِ فَمَفْهُومُ الْوُجُودِ ذَاتِيٌّ دَاخِلٌ فِي حِصَصِهِ وَهُمَا خَارِجَانِ عَنْ الْمَوْجُودَاتِ الْخَاصَّةِ وَالْوُجُودُ الْخَاصُّ عَيْنُ الذَّاتِ فِي الْوَاجِبِ وَزَائِدٌ خَارِجٌ فِيمَا سِوَاهُ. اهـ. فَظَهَرَ أَنَّ الْوُجُودَ بِاعْتِبَارِ مَقُولِيَّتِهِ عَلَى أَفْرَادِهِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَمِنْ الْمُتَوَاطِئِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمِنْ الْمُشَكِّكِ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ فَإِنْ قُلْت حَيْثُ كَانَ مَفْهُومُ الْوُجُودِ ذَاتِيًّا لِحِصَصِهِ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَكِّكِ لِاقْتِضَائِهِ التَّفَاوُتَ فِي الذَّاتِيَّاتِ قُلْت صَرَّحَ الْمَوْلَى الْجَامِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ الِاخْتِلَافِ بِالْمَاهِيَّاتِ وَالذَّاتِيَّاتِ بِالتَّشْكِيكِ.

(قَوْلُهُ: أَيْ لَيْسَ زَائِدًا عَلَيْهِ) أَيْ فِي الْخَارِجِ بَلْ لَيْسَ إلَّا ذَاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِالْوُجُودِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْأَشْعَرِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوُجُودُ زَائِدًا عَلَى الْمَاهِيَّةِ عَارِضًا لَهَا لَكَانَتْ الْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ أَيْ كَانَتْ فِي مَرْتَبَةِ مَعْرُوضِيَّةِ الْوُجُودِ خَالِيَةً عَنْ الْوُجُودِ فَكَانَتْ مَعْدُومَةً أَيْ كَانَتْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْمَذْكُورَةِ مَوْصُوفَةً بِالْعَدَمِ لِاسْتِحَالَةِ ارْتِفَاعِ النَّقِيضَيْنِ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ اتِّصَافُ الْمَعْدُومِ بِالْوُجُودِ وَأَنَّهُ تَنَاقُضٌ.

وَأَجَابَ ابْنُ كَمَالٍ بَاشَا بِأَنَّ الْمُمْكِنَ وَهُوَ مَا لَا تُقْتَضَى ذَاتُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا لَمَّا كَانَ صَالِحًا؛ لَأَنْ يَتَوَارَدَ عَلَيْهِ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَانَ فِي حَدِّ نَفْسِهِ عَارِيًّا عَنْهُمَا لَا بِمَعْنَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَيْسَ عَيْنَهُ وَلَا جُزْأَهُ إذْ يَكْفِي هَذَا الْمَعْنَى فِي تَصْحِيحِ تِلْكَ الصَّلَاحِيَّةِ كَيْفَ وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لَازِمًا لِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَمَّا كَانَ قَابِلًا لِلْآخَرِ صَالِحًا لَأَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْمُمْكِنِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَهِيَ مَرْتَبَةُ مَعْرُوضِيَّتِهَا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ خَالِيَةٌ عَنْهُمَا غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي خُلُوِّ مَرْتَبَةٍ عَقْلِيَّةٍ عَنْ النَّقِيضَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ إنَّمَا الِاسْتِحَالَةُ فِي خُلُوِّ وَقْتٍ خَارِجِيٍّ عَنْهُمَا اهـ.

وَقَدْ أُورِدَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَيْنِيَّةِ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْإِنْسَانِ لَوْ كَانَتْ عَيْنَ وُجُودِهِ لَكَانَ الْعِلْمُ بِالْإِنْسَانِ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ كَثِيرًا مَا يُتَصَوَّرُ الْإِنْسَانُ وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِنَا مَعْنَى الْوُجُودِ وَحَيْثِيَّتُهُ أَمَّا الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْوُجُودُ الْعَقْلِيُّ؛ فَلِأَنَّ تَعَقُّلَ الْإِنْسَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَقُّلَ تَعَقُّلِهِ فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعَقُّلَ الْمَاهِيَّةِ يَنْفَكُّ عَنْ وُجُودِهَا فَإِنَّ تَعَقُّلَ الْمَاهِيَّةِ هُوَ بِعَيْنِهِ تَعَقُّلُ الْوُجُودِ قُلْنَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكُنَّا لَا نَشُكُّ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً عِنْدَ حُصُولِهَا فِي الْعَقْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَتَعَقَّلُ كَثِيرًا مِنْ الْمَاهِيَّاتِ وَنَشُكُّ فِي وُجُودَاتِهَا.

وَأَقُولُ سُبْحَانَ مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي هُوَ الْمُظْهِرُ لِغَيْرِهِ خَفِيَتْ عَلَيْنَا حَقِيقَتُهُ وَاضْطَرَبَتْ الْفُضَلَاءُ فِي الْبَحْثِ عَنْهَا وَطَالَ نِزَاعُهُمْ فِي ذَلِكَ وَانْتَشَرَ كَلَامُهُمْ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ مِنْ دَقَائِقِ عِلْمِ الْكَلَامِ فَمَا لَنَا إلَّا الِاعْتِرَافُ بِالْقُصُورِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حَدِّنَا مِنْ الْعَجْزِ، وَالِاسْتِمْدَادُ مِنْ مَوَاهِبِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ أَنْوَارَ الْمَعْرِفَةِ وَتَجَنُّبَ ظُلَمِ الشُّبَهِ وَقَدْ ذَكَرْت كَلَامًا يَتَعَلَّقُ بِالْوُجُودِ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ وَحَاشِيَةِ الْمَقُولَاتِ الْكُبْرَى وَقَدْ نَحَا الصُّوفِيَّةُ مَنْحًى آخَرَ فِي الْوُجُودِ ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحُكَمَاءِ وَمَنْ أَلَّفَ الْبُرْهَانَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَنَسَبَهُمْ إلَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ.

لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا كَشْفَ هَذَا الْمَعْنَى الذَّوْقِيِّ الدَّقِيقِ بِالْعِبَارَةِ فَضَاقَتْ عَنْ إفَادَتِهِ كَمَا قِيلَ:

وَإِنَّ قَمِيصًا حِيكَ مِنْ نَسْجِ تِسْعَةٍ

وَعِشْرِينَ حَرْفًا عَنْ جَمَالِك قَاصِرُ

قَالَ الصَّدْرُ الْقُونَوِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْهَادِيَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ حَقِيقَةٌ بِكَوْنِهَا فِي شَيْءٍ أَقْوَى أَوْ أَقْدَمَ أَوْ أَشَدَّ أَوْ أَوْلَى فَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِ رَاجِعٌ إلَى الظُّهُورِ دُونَ تَعَدُّدٍ وَاقِعٍ فِي الْحَقِيقَةِ الظَّاهِرَةِ أَيِّ حَقِيقَةٍ كَانَتْ مِنْ عِلْمٍ وَوُجُودٍ وَغَيْرِهِمَا فَقَابِلٌ مُسْتَعِدٌّ لِظُهُورِ الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَتَمُّ مِنْهَا مِنْ حَيْثُ ظُهُورُهَا فِي قَابِلٍ آخَرَ مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَاحِدَةٌ فِي الْكُلِّ وَالْمُفَاضَلَةُ وَالتَّفَاوُتُ وَاقِعٌ بَيْنَ ظُهُورِ أَنَّهَا بِحَسَبِ الْأَمْرِ الْمُظْهِرِ الْمُقْتَضِي تَعَيُّنَ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ تَعَيُّنًا مُخَالِفًا لِتَعَيُّنِهِ فِي أَمْرٍ آخَرَ فَلَا تَعَدُّدَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَلَا تَجْزِئَةَ وَلَا

ص: 493

أَيْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ (غَيْرُهُ) أَيْ زَائِدٌ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُومَ الْوُجُودُ بِالشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ: هُوَ أَيْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْهُمَا وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مِنَّا إلَى قَوْلِ الْحُكَمَاءِ إنَّهُ عَيْنُهُ فِي الْوَاجِبِ وَغَيْرُهُ فِي الْمُمْكِنِ

ــ

[حاشية العطار]

تَبْعِيضَ ثُمَّ إنَّ مُسْتَنَدَ الصُّوفِيَّةِ فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ هُوَ الْكَشْفُ وَالْعِيَانُ لَا النَّظَرُ وَالْبُرْهَانُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَوَجَّهُوا إلَى جَنَابِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِنُورٍ يُرِيهِمْ الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ وَنِسْبَةُ الْعَقْلِ إلَى ذَلِكَ النُّورِ كَنِسْبَةِ الْوَهْمِ إلَى الْعَقْلِ فَكَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ الْعَقْلُ بِصِحَّةِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْوَهْمُ كَوُجُودِ مَوْجُودٍ مَثَلًا لَا يَكُونُ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ كَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ ذَلِكَ النُّورُ الْكَاشِفُ بِصِحَّةِ بَعْضِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ كَوُجُودِ حَقِيقَةٍ مُطْلَقَةٍ مُحِيطَةٍ لَا يَحْصُرُهَا التَّقْيِيدُ وَلَا يُقَيِّدُهَا التَّعَيُّنُ اهـ.

وَأَوْضَحَهُ الْمَوْلَى جَامِيٌّ بِأَنَّهُ إذَا انْطَبَعَتْ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ جُزْئِيَّةٌ فِي مَرَايَا مُتَكَثِّرَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالتَّحْدِيبِ وَالتَّقْعِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا تَكَثَّرَتْ بِحَسَبِ تَكَثُّرِ الْمَرَايَا وَاخْتَلَفَتْ انْطِبَاعَاتُهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافَاتِهَا وَأَنَّ هَذَا التَّكْثِيرَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي وَحْدَتِهَا وَالظُّهُورُ بِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَايَا غَيْرُ مَانِعٍ لَهَا أَنْ تَظْهَرَ بِحَسَبِ سَائِرِهَا فَالْوَاحِدُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى بِمَنْزِلَةِ الصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَاهِيَّاتُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَايَا الْمُتَكَثِّرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ بِاسْتِعْدَادَاتِهِ افَهُوَ سُبْحَانَهُ يَظْهَرُ فِي كُلِّ عَيْنٍ بِحَسَبِهَا مِنْ غَيْرِ تَكَثُّرٍ وَتَغَيُّرٍ فِي ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ الظُّهُورُ بِأَحْكَامِ بَعْضِهَا عَنْ الظُّهُورِ بِأَحْكَامِ سَائِرِهَا اهـ.

وَقَالَ السَّيِّدُ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ التَّجْرِيدِ قِيلَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوَاقِعِ إلَّا ذَاتٌ وَاحِدَةٌ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا أَصْلًا بَلْ لَهَا صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ هِيَ عَيْنُهَا وَهِيَ حَقِيقَةُ الْوُجُودِ الْمُنَزَّهَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا عَنْ شَوَائِبِ الْعَدَمِ وَسِمَاتِ نُقْصَانِ الْإِمْكَانِ وَلَهَا تَقَيُّدَاتٌ بِقُيُودٍ اعْتِبَارِيَّةٍ وَبِحَسَبِ ذَلِكَ تَتَرَاءَى مَوْجُودَاتٌ مُتَمَايِزَةٌ فَيُتَوَهَّمُ مِنْ ذَلِكَ تَعَدُّدٌ حَقِيقِيٌّ فَمَا لَمْ يَقُمْ بُرْهَانٌ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَمِ اتِّحَادِ الْمَاهِيَّاتِ وَلَا يَتِمُّ أَيْضًا اشْتِرَاكُ الْوُجُودِ بَلْ لَا يَثْبُتُ وُجُودٌ مُمْكِنٌ أَصْلًا قَالَ وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ طَوْرِ الْعَقْلِ فَإِنَّ بَدِيهَتَهُ شَاهِدَةٌ بِتَعَدُّدِ الْمَوْجُودَاتِ تَعَدُّدًا حَقِيقِيًّا وَأَنَّهَا ذَوَاتٌ وَحَقَائِقُ مُتَخَالِفَةٌ بِالْحَقِيقَةِ دُونَ الِاعْتِبَارِ فَقَطْ وَالذَّاهِبُونَ إلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ يَدَّعُونَ اسْتِنَادَهَا إلَى مُكَاشَفَاتِهِمْ وَمُشَاهَدَاتِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِمَبَاحِثِ الْعَقْلِ وَدَلَالَتِهِ بَلْ هُوَ مَعْزُولٌ هُنَاكَ كَالْحِسِّ فِي إدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ وَأَمَّا الْمُتَقَيِّدُونَ بِدَرَجَاتِ الْعَقْلِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَا شَهِدَ لَهُ الْعَقْلُ فَمَقْبُولٌ وَمَا شَهِدَ عَلَيْهِ فَمَرْدُودٌ وَأَنَّهُ لَا طَوْرَ وَرَاءَهُ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ تِلْكَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا مُتَأَوَّلَةٌ بِمَا يُوَافِقُ الْعَقْلَ فَهُمْ بِشَهَادَةِ بَدَاهَتِهِ مُسْتَغْنُونَ عَنْ إقَامَةِ بُرْهَانٍ عَلَى بُطْلَانِ أَمْثَالِ ذَلِكَ وَيَعُدُّونَ تَجْوِيزَهَا مُكَابَرَةً لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا. اهـ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الْحَاشِيَةِ فَإِنْ قُلْت مَاذَا تَقُولُ فِيمَنْ يَرَى أَنَّ الْوُجُودَ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ الْوَاجِبِ وَغَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّجَزِّي وَالِانْقِسَامِ قَدْ انْبَسَطَ عَلَى هَيَاكِلِ الْمَوْجُودَاتِ فَظَهَرَ فِيهَا فَلَا يَخْلُو عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ بَلْ هُوَ حَقِيقَتُهَا وَعَيْنُهَا وَإِنَّمَا امْتَازَتْ وَتَقَيَّدَتْ بِتَقَيُّدَاتٍ وَتَعَيُّنَاتٍ اعْتِبَارِيَّةٍ وَيُمَثَّلُ ذَلِكَ بِالْبَحْرِ وَظُهُورِهِ فِي صُوَرِ الْأَمْوَاجِ الْمُتَكَثِّرَةِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إلَّا حَقِيقَةُ الْبَحْرِ فَقَطْ قُلْت قَدْ سَلَفَ مِنَّا كَلَامٌ فِي أَنَّ هَذَا طَوْرٌ وَرَاءَ طَوْرِ الْعَقْلِ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْمُشَاهَدَاتِ الْكَشْفِيَّةِ دُونَ الْمُنَاظَرَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ اهـ.

(قَوْلُهُ: أَيْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ) يُفَسَّرُ الضَّمِيرُ بِالْأَشْعَرِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ بَلْ بِالْمُتَكَلِّمِينَ الْمُقَابِلِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ لِقَوْلِهِ وَكَذَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ؛ لِأَنَّ مُقَابِلِ الْأَكْثَرِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَوْ فُسِّرَ الضَّمِيرُ بِالْأَشْعَرِيَّةِ لَأَفْهَمَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ (قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ هُوَ) دَفَعَ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مَا يَرُدُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوُجُودَ غَيْرُ الْمَوْجُودِ مِنْ لُزُومِ التَّسَلْسُلِ إنْ قِيلَ قَامَ بِهِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهِ أَيْ إنَّهُ مَوْجُودٌ إذْ نَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى هَذَا الْوُجُودِ وَهَلُمَّ جَرًّا أَوْ يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ إنْ قِيلَ بِقِيَامِهِ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَعْدُومٌ.

(قَوْلُهُ: إلَى قَوْلِ الْحُكَمَاءِ إلَخْ) قَالُوا إنَّ وُجُودَهُ تَعَالَى لَوْ زَادَ عَلَى مَاهِيَّتِهِ لَكَانَ عَارِضًا لَهَا فَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرُوضِهِ الَّذِي

ص: 494

(فَعَلَى الْأَصَحِّ الْمَعْدُومُ) الْمُمْكِنُ الْوُجُودِ (لَيْسَ) فِي الْخَارِجِ (بِشَيْءٍ وَلَا ذَاتٍ وَلَا ثَابِتٍ) أَيْ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِهِ فِيهِ (وَكَذَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ) أَيْ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِهِ وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ شَيْءٌ أَيْ حَقِيقَةٌ مُتَقَرِّرَةٌ (وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ الِاسْمَ) عَيْنُ (الْمُسَمَّى)

ــ

[حاشية العطار]

هُوَ الْمَاهِيَّةُ ضَرُورَةً فَيَكُونُ مُمْكِنًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مُحْتَاجٍ مُمْكِنٌ وَلَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَاحْتَاجَ إلَى سَبَبٍ وَذَلِكَ السَّبَبُ إنْ كَانَ مُقَارِنًا وَهُوَ ذَاتُهُ تَعَالَى يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى وُجُودِهِ بِالْوُجُودِ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ الْمُوجِدَةِ عَلَى الْمَعْلُولِ بِالْوُجُودِ فَيَكُونُ لِذَاتِهِ وُجُودٌ قَبْلَ وُجُودِهِ وَنَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى ذَلِكَ الْوُجُودِ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا مُبَايِنًا أَعْنِي ذَاتَهُ تَعَالَى يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مُحْتَاجَةً فِي وُجُودِهِ إلَى الْغَيْرِ فَتَكُونُ مُمْكِنَةً وَهُوَ بَاطِلٌ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَبَبَ وُجُودِهِ هُوَ الْعِلَّةُ الْمُقَارِنَةُ أَعْنِي ذَاتَهُ تَعَالَى وَلَا يَجِبُ تَقَدُّمُ ذَاتِهِ عَلَى وُجُودِهِ بِالْوُجُودِ فَإِنَّ مَاهِيَّةَ الْمُمْكِنَاتِ عِلَّةٌ قَابِلَةٌ لِوُجُودَاتِهَا مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَدِّمَةٍ عَلَى وُجُودَاتِهَا بِالْوُجُودِ وَأَجْزَاءُ الْمَاهِيَّةِ عِلَّةٌ لِقَوَامِهَا مَعَ أَنَّ تَقَدُّمَ أَجْزَاءِ الْمَاهِيَّةِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ لَيْسَ بِالْوُجُودِ فَإِنَّ وُجُودَ الْجُزْءِ وَالْكُلِّ وَاحِدٌ عَلَى مَذْهَبِ الْحُكَمَاءِ.

(قَوْلُهُ: فَعَلَى الْأَصَحِّ إلَخْ) أَيْ أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَيْ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ الْمُمْكِنَةَ لَا تَقَرُّرَ لَهَا فِي الْعَدَمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَثَرَ الْفَاعِلِ هُوَ الْمَاهِيَّةُ وَمَنْ يَجْعَلُ الْوُجُودَ غَيْرَ الْمَوْجُودِ يَقُولُ إنَّ أَثَرَهُ وُجُودُهَا وَأَمَّا هِيَ مُتَقَرِّرَةٌ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِهَا وَفِي شَرْحِ الْأَصْفَهَانِيِّ عَلَى التَّجْرِيدِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الْمَاهِيَّةِ لَا يُمْكِنُهُ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمَاهِيَّةَ يَجُوزُ تَقَرُّرُهَا فِي الْخَارِجِ مُنْفَكَّةً عَلَى الْوُجُودِ وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ مَعًا وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ الْوُجُودَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ يَجُوزُ تَقَرُّرُهَا فِي الْخَارِجِ مُنْفَكَّةً عَنْ الْوُجُودِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالثَّانِي مَذْهَبُ سَائِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحُكَمَاءِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ لَيْسَ بِشَيْءٍ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَأَرَادَ بِالْمَنْفِيِّ الْمَاهِيَّاتِ الْمُمْتَنِعَةَ الْوُجُودِ فِي الْخَارِجِ، فَعَلَى هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ الْمَاهِيَّاتُ الْمَعْدُومَةُ الْمُمْكِنَةُ الْوُجُودِ اهـ.

فَظَهَرَ لَك سِرُّ تَقْيِيدِ الشَّارِحِ بِقَوْلِهِ الْمُمْكِنَةِ الْوُجُودِ ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَنْ نَقُولَ إنَّ الْمَعْدُومَ إنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْمَنْفِيِّ أَوْ أَخَصَّ مِنْهُ يَصْدُقُ الْمَعْدُومُ مَنْفِيٌّ وَكُلُّ مَنْفِيٍّ لَيْسَ بِثَابِتٍ يَنْتُجُ الْمَعْدُومُ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ وَهُوَ الْمُدَّعَى وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ فَالْمَعْدُومُ لَمْ يَكُنْ نَفْيًا صِرْفًا وَلَا عَدَمًا مَحْضًا وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ فَرْقٌ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ أَعْنِي بَيْنَ الْمَعْدُومِ وَالْمَنْفِيِّ وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَعْدُومُ نَفْيًا صِرْفًا كَانَ ثَابِتًا وَالْمَعْدُومُ مَقُولٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ إذْ الْغَرَضُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ فَيَصْدُقُ الْمَنْفِيُّ مَعْدُومٌ وَالْمَعْدُومُ ثَابِتٌ يَنْتُجُ الْمَنْفِيُّ ثَابِتٌ هَذَا خُلْفٌ وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُ الْمَعْدُومِ أَعَمَّ مِنْ الْمَنْفِيِّ تَحَقَّقَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَيَلْزَمُ الْمَطْلُوبُ (قَوْلُهُ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَخْ) احْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَعْدُومَ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مَقْدُورًا بَعْضُهُ كَالْحَرَكَةِ الَّتِي نَقْدِرُ عَلَيْهَا دُونَ بَعْضٍ كَالطَّيَرَانِ إلَى السَّمَاءِ وَلِكَوْنِهِ مُرَادًا بَعْضُهُ كَالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ الْحَبِيبِ دُونَ بَعْضٍ كَالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ الرَّقِيبِ مُتَمَيِّزٌ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا اسْتَحَالَ الْحُكْمُ عَلَى بَعْضِهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَعَلَى الْبَعْضِ بِمُقَابِلِهَا وَكُلُّ مُتَمَيِّزٍ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُتَمَيِّزٍ ثَبَتَ لَهُ التَّمَيُّزُ وَثُبُوتُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ فَرْعُ ثُبُوتِهِ فِي الْخَارِجِ فَكُلُّ مَعْدُومٍ ثَابِتٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَنُقِضَ هَذَا الدَّلِيلُ بِجَرَيَانِهِ فِي الْمُمْتَنِعَاتِ وَالْخَيَالِيَّاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ كَشَرِيكِ الْبَارِئِ وَإِنْسَانٍ ذِي رَأْسَيْنِ فَإِنَّا نَتَصَوَّرُهَا وَنَتَعَقَّلُ امْتِيَازَ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ إذْ تَعَقُّلُ الِامْتِيَازِ بَيْنَ شَرِيكِ الْبَارِئِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَإِنْسَانٍ ذِي رَأْسَيْنِ وَإِنْسَانٍ عَدِيمِ الرَّأْسِ وَكَذَلِكَ الْمُرَكَّبَاتُ نَتَعَقَّلُهَا وَلَا تَقَرُّرَ لَهَا فِي الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْأَجْزَاءِ مُتَلَاقِيَةً مُتَمَاسَّةً عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَذَلِكَ لَا يَتَقَرَّرُ فِي الْعَدَمِ.

(قَوْلُهُ: أَيْ حَقِيقَةٌ مُتَقَرِّرَةٌ) أَيْ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ أَثَرَ الْفَاعِلِ فِي الْمَاهِيَّاتِ الْوُجُودُ كَمَا عَلِمْت (قَوْلُهُ: وَأَنَّ الِاسْمَ الْمُسَمَّى) قَالَ فِي الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى

ص: 495

وَقِيلَ: غَيْرُهُ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ فَلَفْظُ النَّارِ مَثَلًا غَيْرُهَا بِلَا شَكٍّ وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْمَنْقُولُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ فِي اسْمِ اللَّهِ أَنَّ مَدْلُولَهُ الذَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ كَالْعَالِمِ فَمَدْلُولُهُ الذَّاتُ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ كَمَا قَالَ لَا يُفْهَمُ مِنْ اسْمِ اللَّهِ سِوَاهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ فَيُفْهَمُ مِنْهَا زِيَادَةٌ عَلَى الذَّاتِ مِنْ عِلْمٍ وَغَيْرِهِ

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ) أَيْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمٌ إلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْ الشَّرْعِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ يَجُوزُ أَنْ تُطْلَقَ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ اللَّائِقُ مَعْنَاهَا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ وَمَالَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ.

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ الْمَرْءَ يَقُولُ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ) أَيْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّعْلِيقِ

ــ

[حاشية العطار]

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} [الشورى: 10] كَمَا قَالَ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] وَلَمْ يَقُلْ اُدْعُوا بِاَللَّهِ وَلَا بِالرَّحْمَنِ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ: غَيْرُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وَلَا بُدَّ مِنْ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ مَا هُوَ لَهُ وَلِتَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى وَعَلَى الْمُغَايَرَةِ ظَاهِرُ قَوْلِ صَاحِبِ الْهَمْزِيَّةِ:

لَك ذَاتُ الْعُلُومِ مِنْ عَالِمِ الْغَ

يْبِ وَمِنْهَا لِآدَمَ الْأَسْمَاءُ

هَذَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالِاسْمِ اللَّفْظُ فَهُوَ غَيْرُ مُسَمَّاهُ قَطْعًا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ فَهُوَ عَيْنُهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ جَامِدٍ وَمُشْتَقٍّ وَنِعْمَ مَا قَالَ الْكَمَالُ لَمْ يَظْهَرْ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِنِزَاعِ الْعُلَمَاءِ وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ إنَّ الْخِلَافَ فِيمَا صَدَقَاتِ الِاسْمِ وَلَفْظُ اسْمٍ مِنْهَا فَإِنَّهُ اسْمٌ مِنْ الْأَسْمَاءِ.

(قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ إلَخْ) يُشِيرُ إلَى تَأْوِيلِهِ لِمَا قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ النِّزَاعُ فِي لَفْظِ فَرَسٍ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْحَيَوَانِ الْمَخْصُوصِ أَوْ غَيْرُهُ بَلْ فِي مَدْلُولِ الِاسْمِ أَهِيَ الذَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ أَمْ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ صَادِقٍ عَلَيْهِ عَارِضٍ لَهُ اهـ.

(قَوْلُهُ: أَنَّ مَدْلُولَهُ الذَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ) قَالَ سَيِّدِي مُحْيِي الدِّينِ مَا ثَمَّ اسْمُ عَلَمٍ لِلَّهِ أَبَدًا فِيمَا وَصَلَ إلَيْنَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَظْهَرَ أَسْمَاءَهُ لَنَا لِنُثْنِيَ عَلَيْهِ بِهَا، وَالْأَعْلَامُ لَا يُثْنَى بِهَا لِتَمَحُّضِهَا لِلذَّاتِ دُونَ مَعْنًى زَائِدٍ اهـ.

وَفِيهِ مَيْلٌ لِمَا قِيلَ أَنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ أَصْلُهَا صِفَةٌ وَاشْتُهِرَ أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الدَّاعِي فَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى دَعَا الْعَبْدُ بِهِ رَبَّهُ مُسْتَغْرِقًا فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي فِكْرِهِ حَالَتَئِذٍ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَقَدْ سُئِلَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَقَالَ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ إنَّمَا هُوَ فَرَاغُ قَلْبِك لِوَحْدَانِيِّتِهِ فَإِذَا كُنْت كَذَلِكَ فَادْعُ بِأَيِّ اسْمٍ شِئْت فَإِنَّكَ تَسِيرُ بِهِ إلَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اهـ.

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ إنَّمَا خَصَّ الْأَمْرَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ بِاسْمِ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ؛ لِأَنَّ الطُّرُقَ الَّتِي يَأْتِينَا الشَّيْطَانُ مِنْهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِعَاذَةِ بِالِاسْمِ الْجَامِعِ فَكُلُّ طَرِيقٍ جَاءَ مِنْهَا يَجِدُ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى مَانِعًا لَهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْنَا بِخِلَافِ الْأَسْمَاءِ الْفُرُوعِ وَقَالَ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] إنَّمَا جَاءَنَا بِالِاسْمِ الْجَامِعِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ فِي عُرْفِ الطَّبْعِ الِاسْتِنَادُ إلَى الْكَثْرَةِ قَالَ صلى الله عليه وسلم «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» فَالنَّفْسُ يَحْصُلُ لَهَا الْأَمَانُ بِاسْتِنَادِهَا إلَى الْكَثْرَةِ فَاَللَّهُ تَعَالَى مَجْمُوعُ أَسْمَاءِ الْخَيْرِ وَمَنْ تَحَقَّقَ مَعْرِفَةَ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ وَجَدَ أَسْمَاءَ الْأَخْذِ وَالِانْتِقَامِ قَلِيلَةً وَأَسْمَاءَ الرَّحْمَةِ كَثِيرَةً فِي سِيَاقِ الِاسْمِ اللَّهِ اهـ

(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ غَيْرِهِ إلَخْ) أَيْ فَلَيْسَ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ بَلْ هُوَ غَيْرُهُ إنْ كَانَ صِفَةَ فِعْلٍ كَالْخَالِقِ وَلَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ إنْ كَانَ صِفَةَ ذَاتٍ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَيْسَتْ عَيْنًا وَلَا غَيْرًا أَيْ مُنْفَكَّةً وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ إنَّمَا يَجْرِي فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ خَاصَّةً وَبِالْجُمْلَةِ فَكَلَامُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُضْطَرِبٌ مَعَ قِلَّةِ جَدْوَاهَا.

(قَوْلُهُ: وَأَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ) هُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ وَمُتَابِعُوهُ (قَوْلُهُ: وَمَالَ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ) فَقَالَ كُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنًى ثَابِتٍ لِلَّهِ جَازَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِلَا تَوْقِيفٍ إذَا لَمْ يَكُنْ إطْلَاقُهُ مُوهِمًا فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظُ عَارِفٍ وَفَقِيهٍ وَنَحْوِهِمَا ثُمَّ لَا بُدَّ مَعَ نَفْيِ ذَلِكَ الْإِيهَامِ مِنْ الْإِشْعَارِ بِالتَّعْظِيمِ وَذَهَبَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ إلَى جَوَازِ إطْلَاقِ مَا عُلِمَ اتِّصَافُهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّوَصُّفِ دُونَ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ إجْزَاءَ الصِّفَةِ إخْبَارٌ بِثُبُوتِ مَدْلُولِهَا فَيَجُوزُ عِنْدَ ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ إلَّا لِمَانِعٍ بِخِلَافِ

ص: 496

بَلْ يُؤْثِرُهُ عَلَى الْجَزْمِ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ) الْمَجْهُولَةِ وَهُوَ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ (وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ) تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْمُحِيطِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْإِيمَانِ (لَا شَكًّا فِي الْحَالِ) فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ فِي الْحَالِ مُتَحَقِّقٌ لَهُ جَازِمٌ بِاسْتِمْرَارِهِ عَلَيْهِ إلَى الْخَاتِمَةِ الَّتِي يَرْجُو أَحْسَنَهَا وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِإِيهَامِهِ الشَّكَّ فِي الْحَالِ فِي الْإِيمَانِ

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ مَلَاذَّ الْكَافِرِ) أَيْ مَا أَلَذَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا (اسْتِدْرَاجٌ) مِنْ اللَّهِ لَهُ حَيْثُ: يُلِذُّهُ مَعَ عِلْمِهِ بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ إلَى الْمَوْتِ فَهِيَ نِقْمَةٌ عَلَيْهِ يَزْدَادُ بِهَا عَذَابُهُ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ نِعْمَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الشُّكْرُ.

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِأَنَّهُ الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ) الْمُشْتَمِلُ عَلَى النَّفْسِ وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ هُوَ النَّفْسُ لِأَنَّهَا الْمُدَبِّرَةُ (وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ الْجَوْهَرَ هُوَ الْفَرْدُ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ ثَابِتٌ) فِي الْخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يُرَ عَادَةً إلَّا بِانْضِمَامِهِ إلَى غَيْرِهِ وَنَفَى الْحُكَمَاءُ ذَلِكَ

ــ

[حاشية العطار]

التَّسْمِيَةِ فَإِنَّهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمُسَمَّى وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَمَّنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ اهـ.

وَفِي الْمَوَاقِفِ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ الْمَوْضُوعَةِ فِي اللُّغَاتِ بَلْ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ

(قَوْلُهُ: بَلْ يُؤْثِرُهُ عَلَى الْجَزْمِ الْأَوْلَى كَمَا قَالَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ كَغَيْرِهِ الْجَزْمُ لِإِيهَامِ التَّعْلِيقِ بِالشَّكِّ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّمَا يُفِيدُ الْجَوَازَ لَا الْأَوْلَوِيَّةَ.

(قَوْلُهُ: خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ الْمَجْهُولَةِ) أَيْ أَوْ نَحْوِهِ كَدَفْعِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالتَّبَرُّكِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لَا شَكًّا فِي الْحَالِ (قَوْلُهُ: وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ إلَخْ) قَالَ السَّعْدُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْإِيمَانِ مُجَرَّدُ حُصُولِ الْمَعْنَى فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ وَإِنْ أُرِيدَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ النَّجَاةُ وَالثَّمَرَاتُ فَهُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا قَطْعَ بِحُصُولِهِ فِي الْحَالِ فَمَنْ قَطَعَ بِالْحُصُولِ أَرَادَ الْأَوَّلَ وَمَنْ فَوَّضَ إلَى الْمَشِيئَةِ أَرَادَ الثَّانِيَ وَنُقِلَ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْإِيمَانَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِيهِ لَكِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ إيمَانُ الْمُوَافَاةِ فَاعْتَنَى السَّلَفُ بِهِ وَقَرَنُوهُ بِالْمَشِيئَةِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ النَّاجِزِ وَمَعْنَى الْمُوَافَاةِ الْإِتْيَانُ وَالْوُصُولُ آخِرَ الْحَيَاةِ وَأَوَّلَ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُنْجِيَ وَالْكُفْرَ الْمُهْلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِالضِّدِّ لَا مَا ثَبَتَ أَوَّلًا وَتَغَيَّرَ إلَى الضِّدِّ فَلِذَلِكَ تَرَى الْكَثِيرَ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ يَبُتُّونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِيمَانِ الْمُوَافَاةِ وَسَعَادَتِهَا بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُنْجِي لَا بِمَعْنَى أَنَّ إيمَانَ الْحَالِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ وَكُفْرَهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَكَذَا السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ اهـ. .

(قَوْلُهُ: مَلَاذَّ الْكَافِرِ) أَيْ مَا أَلَذَّهُ اللَّهُ بِهِ إلَخْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ اسْتِدْرَاجًا وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الِاسْتِدْرَاجِ الَّذِي هُوَ الْإِلْذَاذُ إذْ نَفْيُ إطْلَاقِ الِاسْتِدْرَاجِ عَلَى الْمَلَاذِّ تَجَوُّزٌ اهـ زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: اسْتِدْرَاجٌ) مَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ طَلَبُ التَّدَرُّجِ وَهُوَ التَّنَقُّلُ فِي الدَّرَجَاتِ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي مُطْلَقِ التَّنَقُّلِ وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا تَنَقُّلُ الْكَافِرِ فِيمَا يَتَأَكَّدُ بِهِ اسْتِحْقَاقُهُ الْعَذَابَ حَيْثُ تَمَادَى فِي كُفْرِهِ مَعَ وُصُولِ النِّعَمِ إلَيْهِ فَهِيَ نِقَمٌ فِي صُورَةِ نِعَمٍ فَسَمَّاهَا الْأَشَاعِرَةُ نِقَمًا نَظَرًا إلَى حَقِيقَتِهَا وَالْمُعْتَزِلَةُ نِعَمًا نَظَرًا إلَى صُورَتِهَا اهـ. زَكَرِيَّا.

وَأَقُولُ بِهَذَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ خِلَافٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ نِزَاعًا بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فَتَدَبَّرْهُ

(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِأَنَّهُ) أَيْ مَثَلًا، وَمِثْلُهُ بَقِيَّةُ الضَّمَائِرِ وَالْخِلَافُ هُنَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ نَاحِيَةِ الْخِلَافِ فِيمَا قَبْلَهُ.

(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْجَوْهَرَ هُوَ الْفَرْدُ إلَخْ) الْخِلَافُ فِي إثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ عِنْدَهُمْ يَنْبَنِي عَلَى نَفْيِهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْ عَقَائِدِهِمْ فَبِإِبْطَالِهِ يَبْطُلُ مَا أَسَّسُوهُ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ كَثُرَ الِاسْتِدْلَال مِنْ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى إبْطَالِهِ وَثُبُوتِهِ حَتَّى إنَّ إثْبَاتَ الْهُيُولِيِّ فِي الْأَجْسَامِ الْمُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَامْتِنَاعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ فِي الْأَفْلَاكِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَقَائِدِهِمْ الْفَاسِدَةِ مُعْظَمُ أَدِلَّتِهَا تَدُورُ عَلَى نَفْيِهِ وَمِنْ أَدِلَّةِ الْإِثْبَاتِ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا كُرَةً حَقِيقَةً أَيْ لَا خَطَّ فِيهَا مُسْتَقِيمٌ وَوَضَعْنَاهَا عَلَى سَطْحٍ مُسْتَقِيمٍ لَمْ تُلَاقِهِ إلَّا بِجُزْءٍ

ص: 497

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّهُ لَا حَالَّ أَيْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ خِلَافًا لِلْقَاضِي) أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ (إمَامِ الْحَرَمَيْنِ) فِي قَوْلِهِمَا كَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ بِثُبُوتِ ذَلِكَ كَالْعَالَمِيَّةِ وَاللَّوْنِيَّةِ لِلسَّوَادِ مَثَلًا وَعَلَى الْأَوَّلِ ذَلِكَ وَنَحْوُهُ مِنْ الْمَعْدُومِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ.

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ النَّسَبَ وَالْإِضَافَاتِ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ) يَعْتَبِرُهَا الْعَقْلُ (لَا وُجُودِيَّةٌ) بِالْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَقَالَ الْحُكَمَاءُ الْأَعْرَاضُ النِّسْبِيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ وَهِيَ سَبْعَةٌ الْأَيْنَ

ــ

[حاشية العطار]

لَا يَتَجَزَّأُ أَوْ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِبْطَالِ لَوْ فَرَضْنَا جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ بَيْنَ جُزْأَيْنِ وَتَلَاصَقَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَسَطُ مَانِعًا مِنْ التَّلَاقِي أَوْ لَا، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ وَإِلَّا لَزِمَ تَدَاخُلُ الْأَجْسَامِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي فَمَا بِهِ يُلَاقِي أَحَدَ الْجُزْأَيْنِ غَيْرُ مَا بِهِ يُلَاقِي الْآخَرَ فَيَلْزَمُ انْقِسَامُهُ وَالْغَرَضُ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَسِمٍ هَذَا خُلْفٌ وَلِلْفَرِيقَيْنِ أَدِلَّةٌ غَيْرُ هَذَيْنِ ذَكَرْنَا مِنْهَا بَعْضَهَا فِي حَوَاشِي الْمَقُولَاتِ الْكُبْرَى.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَأَدِلَّةُ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لَا تَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ وَلِهَذَا مَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى التَّوَقُّفِ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ إنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ أَيْ مُتَّحِدَةٌ بِالْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بِالْعَوَارِضِ وَهَذَا أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ كَإِثْبَاتِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَحْوَالِ النُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ فَإِنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ جِسْمٍ بِصِفَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمُرَجِّحٍ مُخْتَارٍ إذْ نِسْبَةُ الْمُوجَبِ إلَى الْكُلِّ عَلَى السَّوَاءِ وَلَمَّا صَارَ عَلَى كُلِّ جِسْمٍ مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ كَالْبَرْدِ عَلَى النَّارِ وَالْحَرْقِ عَلَى الْمَاءِ ثَبَتَ جَوَازُ مَا نُقِلَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَمَبْنَى هَذَا الْأَصْلِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ أَجْزَاءَ الْجِسْمِ لَيْسَتْ إلَّا الْجَوَاهِرُ الْفَرْدَةُ وَإِنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا اخْتِلَافُ حَقِيقَةٍ وَلَا مَحِيصَ لِمَنْ اعْتَرَفَ بِتَمَاثُلِ الْجَوَاهِرِ وَاخْتِلَافِ الْأَجْسَامِ بِالْحَقِيقَةِ مِنْ جَعْلِ بَعْضِ الْأَعْرَاضِ دَاخِلَةً فِيهَا اهـ. .

(قَوْلُهُ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا حَالَ) هِيَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِمَوْجُودٍ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً وَلَا مَعْدُومَةً وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى نَفْيِهَا (قَوْلُهُ: وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ) أَيْ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ ثَانِيًا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الطَّوَالِعِ وَشَرْحِ التَّجْرِيدِ أَيْضًا وَفِي حَاشِيَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الشَّامِلِ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْمَدَارِكِ كَمَا نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا الْوُجُودُ وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوُجُودَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ إذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَسَاوَى غَيْرَهُ مِنْ الْمَاهِيَّاتِ فِي الْوُجُودِ فَيَزِيدُ وُجُودُ الْوُجُودِ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَاهِيَّتَهُ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الْمَاهِيَّاتِ وَمَا بِهِ الْمُسَاوَاةُ زَائِدٌ عَلَى مَا بِهِ الْمُخَالَفَةُ فَلِلْوُجُودِ وُجُودٌ آخَرُ زَائِدٌ عَلَيْهِ وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَأَنَّهُ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُودَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ الْوُجُودُ بِمُنَافِيهِ وَهُوَ الْعَدَمُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا كَانَ صِفَةً غَيْرَ مَوْجُودَةٍ وَلَا مَعْدُومَةٍ قَائِمَةً بِمَوْجُودٍ وَهُوَ الْحَالُ.

وَأُجِيبَ مِنْ ظَرْفِ النَّافِي بِمَنْعِ قَوْلِهِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَسَاوَى غَيْرَهُ إلَخْ بِأَنَّ وُجُودَهُ عَيْنُ ذَاتِهِ وَيَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْوُجُودَاتِ بِقَيْدٍ سَلْبِيٍّ وَهُوَ أَنَّ وُجُودَهُ غَيْرُ عَارِضٍ لِلْمَاهِيَّةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْوُجُودَاتِ فَلَا يَتَسَلْسَلُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّ وُجُودَ الْمَاهِيَّاتِ عِنْدَهُ غَيْرُ عَارِضٍ لَهَا وَلَا عَلَى مَذْهَبِ الْحُكَمَاءِ فَإِنَّ وُجُودَهُ تَعَالَى عِنْدَهُمْ غَيْرُ ذَاتِهِ فَهَذَا الْقَيْدُ السَّلْبِيُّ لَا يَصْلُحُ لِلتَّمْيِيزِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ اهـ. مِنْ شَرْحِ الْأَصْفَهَانِيِّ عَلَى الطَّوَالِعِ.

(قَوْلُهُ: وَأَنَّ النِّسَبَ وَالْإِضَافَاتِ هَذَا شُرُوعٌ فِي مَبْحَثِ الْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ وَقَدْ أَسْقَطَ مِنْهَا الْجَوْهَرَ وَالْكَمَّ وَالْكَيْفَ وَقَدْ أَفْرَدَهَا الْعُلَمَاءُ بِالتَّأْلِيفِ وَأَشْبَعَ الْقَوْلَ فِيهَا السَّيِّدُ الْبُلَيْدِيُّ وَوَضَعْنَا عَلَيْهِ حَاشِيَةً أَشْبَعْنَا فِيهَا الْقَوْلَ جِدًّا وَأَتَيْنَا فِيهَا بِغَرَائِبِ النُّقُولِ وَلَخَصَّ مِنْهَا الشَّيْخُ أَحْمَدُ السِّجَاعِيُّ رِسَالَةً زَادَ فِيهَا بَعْضَ أَشْيَاءَ وَوَضَعْنَا عَلَيْهَا حَاشِيَتَيْنِ فَمَنْ أَرَادَ تَحْقِيقَ مَبْحَثِهَا فَلْيَرْجِعْ لَهَا ثُمَّ إنَّ عَطْفَ الْإِضَافَاتِ عَلَى النِّسَبِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَإِنَّ النِّسَبَ مَا يَتَوَقَّفُ تَعَقُّلُهَا عَلَى تَعَقُّلِ غَيْرِهَا وَتَخْتَصُّ الْإِضَافَةُ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ طَرَفَيْهَا نِسْبَةٌ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ (قَوْلُهُ: بِالْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ) بَلْ بِالْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ فَإِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْأُمُورَ الِاعْتِبَارِيَّةَ لَا وُجُودَ لَهَا إلَّا فِي الذِّهْنِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ صَادِقَهَا لَهُ تَحَقُّقٌ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ كَاذِبِهَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ أَتَمَّ الْبَيَانِ فِي حَاشِيَةِ مَقُولَاتِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ السِّجَاعِيِّ وَقَدْ

ص: 498

وَهُوَ حُصُولُ الْجِسْمِ فِي الْمَكَانِ وَالْمَتَى وَهُوَ حُصُولُ الْجِسْمِ فِي الزَّمَانِ وَالْوَضْعُ وَهُوَ هَيْئَةٌ تَعْرِضُ لِلْجِسْمِ بِاعْتِبَارِ نِسْبَةِ أَجْزَائِهِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَنِسْبَتِهَا إلَى الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ كَالْقِيَامِ وَالِانْتِكَاسِ وَالْمُلْكِ وَهُوَ هَيْئَةٌ تَعْرِضُ لِلْجِسْمِ بِاعْتِبَارِ مَا يُحِيطُ بِهِ وَتَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ كَالتَّقَمُّصِ وَالتَّعَمُّمِ وَإِنْ يُفْعَلُ وَهُوَ تَأْثِيرُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِهِ مَا دَامَ يُؤَثِّرُ وَإِنْ يَنْفَعِلْ وَهُوَ تَأْثِيرُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ مَا دَامَ يَتَأَثَّرُ كَحَالِ الْمُسَخَّنِ مَا دَامَ يُسَخَّنُ وَالْمُتَسَخِّنِ مَا دَامَ يَتَسَخَّنُ وَالْإِضَافَةُ وَهِيَ نِسْبَةٌ تَعْرِضُ لِلشَّيْءِ بِالْقِيَاسِ إلَى نِسْبَةٍ أُخْرَى كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ.

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ الْعَرَضَ لَا يَقُومُ بِالْعَرَضِ) وَإِنَّمَا يَقُومُ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَوْ الْمُرَكَّبِ أَيْ الْجِسْمِ كَمَا تَقَدَّمَ وَجَوَّزَ الْحُكَمَاءُ قِيَامَ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ إلَّا أَنَّهُ بِالْآخِرَةِ تَنْتَهِي سِلْسَةُ الْأَعْرَاضِ إلَى جَوْهَرٍ أَيْ جَوَّزُوا اخْتِصَاصَ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ اخْتِصَاصَ النَّعْتِ بِالْمَنْعُوتِ كَالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ لِلْحَرَكَةِ وَعَلَى الْأَمْوَالِ وَهُمَا عَارِضَانِ لِلْجِسْمِ أَيْ إنَّهُ يَعْرِضُ لَهُ لَا تَخَلُّلُ الْحَرَكَةِ فِيهِ بِسَكَنَاتٍ أَوْ تَخَلُّلُهَا بِذَلِكَ

(وَ) الْأَصَحُّ أَنَّ الْعَرَضَ (لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ)

ــ

[حاشية العطار]

اسْتَثْنَى طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهَا الْأَيْنَ وَقَالُوا بِوُجُودِهِ خَارِجًا وَسَمَّوْهُ الْأَكْوَانَ الْأَرْبَعَةَ وَهِيَ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَقَالَ الْحُكَمَاءُ الْأَعْرَاضُ النَّسَبِيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ.

وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنَّهَا لَوْ وُجِدَتْ فِي الْخَارِجِ لَكَانَتْ حَاصِلَةً فِي مُحَالِهَا ضَرُورَةً وَلَوْ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي مُحَالِهَا لَوُجِدَ حُصُولُهَا فِي مُحَالِهَا لِكَوْنِ حُصُولِهَا مِنْ الْأُمُورِ النَّسَبِيَّةِ فَيَكُونُ لِحُصُولِهَا فِي مُحَالِهَا مُحَالٌ آخَرُ وَنَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى حُصُولِ ذَلِكَ الْحُصُولِ فِي الْمُحَالِ وَيَتَسَلْسَلُ. فِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ الْحُصُولِ نَفْسُ الْحُصُولِ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوا وَأَيْضًا مَنْقُوضٌ بِالْأَيْنِ اهـ. قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الطَّوَالِعِ

(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَقُومُ بِالْعَرَضِ) هَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالُوا إنَّ مَعْنَى قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْمَحَلِّ أَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ فِي التَّحَيُّزِ فِيمَا يَقُومُ بِهِ الْعَرَضُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا بِالذَّاتِ لِيَصِحَّ كَوْنُ الشَّيْءِ تَابِعًا لَهُ وَالْمُتَحَيِّزُ بِالذَّاتِ لَيْسَ إلَّا الْجَوْهَرُ وَالْمُجَوِّزُونَ يَمْنَعُونَ تَفْسِيرَ الْقِيَامِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَيُفَسِّرُونَهُ بِاخْتِصَاصِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نَعْتًا لَهُ وَهُوَ مَنْعُوتًا بِهِ كَاخْتِصَاصِ الْبَيَاضِ بِالْجِسْمِ لَا الْجِسْمِ بِالْمَكَانِ وَالْقِيَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالْمُتَحَيِّزِ كَمَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ مَعَ اسْتِحَالَةِ التَّحَيُّزِ عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ.

(قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا يَقُومُ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ) أَيْ بَعْضِ الْأَعْرَاضِ لَا كُلِّهَا فَقَدْ قَالَ السَّعْدُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ الْأَظْهَرُ أَنَّ مَا عَدَا الْأَكْوَانَ لَا يَعْرِضُ إلَّا لِلْأَجْسَامِ اهـ.

وَهُوَ وَجِيهٌ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ هَلْ يَقْبَلُ الْحَيَاةَ وَالْأَعْرَاضَ الْمَشْرُوطَ بِهَا كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَيُجَوِّزُهُ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنْكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ وَأَنْكَرَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَكْلٌ اهـ.

(قَوْلُهُ: تَنْتَهِي سِلْسِلَةُ الْأَعْرَاضِ إلَى جَوْهَرٍ) يَرِدُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ قِيَامَ بَعْضِ الْأَعْرَاضِ بِالْبَعْضِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ قِيَامِ الْكُلِّ بِذَلِكَ الْجَوْهَرِ بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا مُقَوِّمًا لِلْحَالِّ وَلِأَنَّ الْكُلَّ فِي حَيِّزِ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ تَبَعًا وَهُوَ مَعْنَى الْقِيَامِ (قَوْلُهُ: لَا تَخَلُّلُ إلَخْ) فَاعِلُ يَعْرِضُ أَيْ عَدَمُ تَخَلُّلِ الْحَرَكَةِ، وَخَفَاءُ عِبَارَتِهِ غَيْرُ خَفِيٍّ وَأَوْضَحُ مِنْهُ قَوْلُ السَّعْدِ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ إنَّ السُّرْعَةَ أَوْ الْبُطْءَ لَيْسَ عَرَضًا قَائِمًا بِالْحَرَكَةِ زَائِدًا عَلَيْهَا بَلْ الْحَرَكَةُ أَمْرٌ مُمْتَدٌّ يَتَخَلَّلُهُ سَكَنَاتٌ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ بِاعْتِبَارِهَا تُسَمَّى سَرِيعَةً أَوْ بَطِيئَةً وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْبُطْءَ لَيْسَ لِتَخَلُّلِ السَّكَنَاتِ فَالْحَرَكَةُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَالسُّرْعَةُ وَالْبُطْءُ عَائِدَانِ إلَى الذَّاتِيَّاتِ دُونَ الْعَرَضِيَّاتِ أَوْ هُمَا مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ اللَّاحِقَةِ لِلْحَرَكَةِ بِحَسَبِ الْإِضَافَةِ إلَى حَرَكَةٍ أُخْرَى تَقْطَعُ الْمَسَافَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي زَمَانٍ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَلِهَذَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ فَتَكُونُ السُّرْعَةُ بُطْئًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْرَاعِ انْتَهَى وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِكَلَامِ شَارِحِنَا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَرَكَاتِ السَّرِيعَةَ لَا سَكَنَاتِ فِيهَا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ إلَخْ) فِي كَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَصَحِّ نَظَرٌ فَإِنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ الْأَشْعَرِيِّ وَبَعْضٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ تَبِعُوهُ فِيهَا وَهِيَ

ص: 499

بَلْ يَنْقَضِي وَيَتَجَدَّدُ مِثْلُهُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّمَانِ الثَّانِي وَهَكَذَا عَلَى التَّوَالِي حَتَّى يُتَوَهَّمَ أَيْ يَقَعُ فِي الْوَهْمِ أَيْ الذِّهْنِ مِنْ حَيْثُ الْمُشَاهَدَةُ أَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَمِرٌّ بَاقٍ وَقَالَ الْحُكَمَاءُ إنَّهُ يَبْقَى إلَّا الْحَرَكَةَ وَالزَّمَانَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَرَضٌ وَسَيَأْتِي.

(وَ) الْأَصَحُّ أَنَّ الْعَرَضَ (لَا يَحِلُّ مَحَلَّيْنِ) فَسَوَادُ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ مَثَلًا غَيْرُ سَوَادِ الْآخَرِ وَإِنْ تَشَارَكَا فِي الْحَقِيقَةِ وَقَالَ قُدَمَاءُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْقُرْبُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ يَحِلُّ مَحَلَّيْنِ وَعَلَى الْأَوَّلِ أَقْرَبُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مُخَالِفٌ لِقُرْبِ الْآخَرِ بِالشَّخْصِ وَإِنْ تَشَارَكَا فِي الْحَقِيقَةِ وَكَذَا نَحْوُ الْقُرْبِ كَالْجِوَارِ

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ) الْعَرَضَيْنِ (الْمِثْلَيْنِ) بِأَنْ يَكُونَا مِنْ نَوْعٍ (لَا يَجْتَمِعَانِ) فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَجَوَّزَتْ الْمُعْتَزِلَةُ اجْتِمَاعَهُمَا مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ الْجِسْمَ الْمَغْمُوسَ فِي الصِّبْغِ لِيَسْوَدَّ يَعْتَرِضُ لَهُ سَوَادٌ ثُمَّ آخَرُ وَآخَرُ إلَى أَنْ يَبْلُغَ غَايَةَ السَّوَادِ بِالْمُكْثِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ عُرُوضَ السَّوَادِ لَهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ بَلْ الْبَدَلِ فَيَزُولُ الْأَوَّلُ

ــ

[حاشية العطار]

ضَعِيفَةٌ حَتَّى قِيلَ إنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ سَفْسَطَةٌ وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى ذَلِكَ جَعْلُهُمْ عِلَّةَ احْتِيَاجِ الْمُمْكِنِ إلَى الْفَاعِلِ هِيَ الْحُدُوثُ فَأَلْزَمُوا انْتِفَاءَ الِاحْتِيَاجِ بَعْدَ حُدُوثِهِ فَقَالُوا إنَّ بَقَاءَ الْجَوْهَرِ مَشْرُوطٌ بِالْعَرَضِ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَالْحَاجَةُ بَاقِيَةٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ عِلَّةَ الِاحْتِيَاجِ الْإِمْكَانُ لَمْ يَحْتَجْ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْإِمْكَانِ بَاقٍ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى بِوَجْهَيْنِ.

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَضَ اسْمٌ لِمَا يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهُ بِدَلَالَةِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ يُقَالُ عَرَضَ لِفُلَانٍ أَمْرٌ أَيْ مَعْنًى لَا قَرَارَ لَهُ وَهَذَا أَمْرٌ عَارِضٌ وَهَذِهِ الْحَالَةُ لَيْسَتْ بِأَصْلِيَّةٍ بَلْ عَارِضَةٌ وَلِهَذَا سُمِّيَ السَّحَابُ عَارِضًا وَلَيْسَ اسْمًا لِمَا يَعْرِضُ بِذَاتِهِ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مَحَلٍّ يُقَوِّمُهُ إذْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ مَا يُنْبِئُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ فَإِمَّا بِبَقَاءِ مَحَلِّهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَدُومَ بِدَوَامِهِ؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ هُوَ الْبَقَاءُ وَأَنْ يَتَّصِفَ بِسَائِرِ صِفَاتِهِ مِنْ التَّخْيِيرِ وَالتَّقَوُّمِ بِالذَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا مِنْ تَوَابِعِ الْبَقَاءِ وَإِمَّا بِبَقَاءٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ أَنْ يُمْكِنَ بَقَاؤُهُ مَعَ فَنَاءِ الْمَحَلِّ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِبَقَائِهِ بِبَقَائِهِ.

قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ فِي اللُّغَةِ إنَّمَا يُنْبِئُ عَنْ عَدَمِ الدَّوَامِ لَا عَنْ عَدَمِ الْبَقَاءِ زَمَانَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا يَلْزَمُ فِي الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى بِالْكُلِّيَّةِ فِيهِ وَلِأَنَّ بَقَاءَهُ بِبَقَاءٍ آخَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ بَقَائِهِ مَعَ فَنَاءِ الْمَحَلِّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُ مَشْرُوطًا بِبَقَاءِ الْمَحَلِّ كَوُجُودِهِ بِوُجُودِهِ هُوَ. أَيْضًا الْبَقَاءُ عَرَضٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الْبَاقِي وَلَا يَقُومُ الْعَرَضُ بِالْعَرَضِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَقَاءَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الْبَاقِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ فَإِنَّ الْحُجَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى امْتِنَاعِهِ ضَعِيفَةٌ (قَوْلُهُ: إلَّا الْحَرَكَةَ وَالزَّمَانَ) وَكَذَا الْأَصْوَاتُ وَمِنْ ثَمَّ اُشْتُهِرَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ أَعْرَاضٌ سَيَّالَةٌ تَنْقَضِي بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهَا وَاللَّفْظُ نَوْعٌ مِنْ الصَّوْتِ

(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَحِلُّ مَحَلَّيْنِ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِمَحَلَّيْنِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْعِلَّتَيْنِ الْمُسْتَقِلَّتَيْنِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ هُوَ تَشَخُّصُ ذَلِكَ الْعَرَضِ وَهَذَا الْمَطْلَبُ ضَرُورِيٌّ وَالضَّرُورَاتُ قَدْ يُنَبَّهُ عَلَيْهَا وَأَجْلَى مِنْهُ بَدَاهَةً امْتِنَاعُ قِيَامِ الْعَرَضِ بِنَفْسِهِ فَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ عَرَضِيَّةٍ حَادِثَةٍ لَا فِي مَحَلٍّ، مُكَابَرَةٌ مَحْضَةٌ (قَوْلُهُ: وَقَدْ قَالَ قُدَمَاءُ الْمُتَكَلِّمِينَ) الْمُرَادُ بِهِمْ - كَمَا قِيلَ - الشَّيْخُ الْأَشْعَرِيُّ وَلَفْظُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَعُمُّ سَائِرَ الْفِرَقِ مَا عَدَا الْفَلَاسِفَةَ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الشَّيْخِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ تَكَلَّمُوا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورُ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ قَوْلُ قُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَعَزَاهُ فِي الْمَوَاقِفِ لِقُدَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ. اهـ.

أَقُولُ وَهُوَ مُعَرَّفٌ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ لِقُدَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَيْضًا (قَوْلُهُ: وَكَذَا نَحْوُ الْقُرْبِ) أَيْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ فَتَدْخُلُ مَقُولَةُ الْإِضَافَةِ

(قَوْلُهُ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَرَضَيْنِ الْمِثْلَيْنِ) قَيَّدَ الشَّارِحُ بِالْعَرَضَيْنِ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمِثْلَيْنِ أَعَمُّ إذْ الْمِثْلَانِ مَوْجُودَانِ يَتَشَارَكَانِ فِي حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ كَانَا عَرَضَيْنِ أَوْ جِسْمَيْنِ أَوْ جَوْهَرَيْنِ وَالْقَرِينَةُ عَلَى هَذَا الْقَيْدِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَعْرَاضِ (قَوْلُهُ: بِأَنْ يَكُونَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ) أَيْ كَالسَّوَادَيْنِ أَمَّا إنْ كَانَا مِنْ نَوْعَيْنِ فَهُمَا ضِدَّانِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا قَطْعًا (قَوْلُهُ: فَيَزُولُ الْأَوَّلُ إلَخْ) عَلَيْهِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَالَ الْأَوَّلُ

ص: 500

وَيَخْلُفُهُ الثَّانِي وَهَكَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ (كَالضِّدَّيْنِ) فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ (بِخِلَافِ الْخِلَافَيْنِ) وَهُمَا أَعَمُّ مِنْ الضِّدَّيْنِ فَإِنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ مِنْ حَيْثُ الْأَعَمِّيَّةُ كَالسَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ وَفِي كُلٍّ مِنْ الْأَقْسَامِ يَجُوزُ ارْتِفَاعُ الشَّيْئَيْنِ (أَمَّا النَّقِيضَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ) كَالْقِيَامِ وَعَدَمِهِ.

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ أَحَدَ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ) وَهُمَا الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ (لَيْسَ أَوْلَى بِهِ) مِنْ الْآخَرِ بَلْ هُمَا بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ جَوْهَرًا كَانَ أَوْ عَرَضًا عَلَى السَّوَاءِ وَقِيلَ: الْعَدَمُ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ: وُقُوعًا فِي الْوُجُودِ

ــ

[حاشية العطار]

وَخَلَفَهُ الثَّانِي وَهَكَذَا لَمَا قَوِيَ اللَّوْنُ وَكَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ طُولِ الْمُكْثِ وَعَدَمِهِ فِي اللَّوْنِ الْوَاحِدِ. وَالْمُشَاهَدَةُ حَاكِمَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَمَنْعُ ازْدِيَادِ اللَّوْنِ بِالْمُكْثِ مُكَابَرَةٌ فِي الْمَحْسُوسِ، وَالْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ قَدْ بَيَّنَ ضَعْفَهُ وَأَنَّهُ سَفْسَطَةٌ.

(قَوْلُهُ: وَهُمَا أَعَمُّ مِنْ الضِّدَّيْنِ) أَيْ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِمَا بِأَنَّهُمَا مَوْجُودَانِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ أَيْ سَوَاءٌ امْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمَا الضِّدَّانِ أَمْ لَا وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِهِمَا بِأَنَّهُمَا لَا يَشْتَرِكَانِ فِي ذَلِكَ وَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ لِخُرُوجِ الضِّدَّيْنِ كَالْمِثْلَيْنِ بِذَلِكَ فَالثَّلَاثَةُ مُتَبَايِنَةٌ وَالصِّفَاتُ النَّفْسِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ فِي وَصْفٍ لِشَيْءٍ بَعْدَهَا إلَى تَعَلُّقِ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ كَالْحَقِيقَةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ وَالْوُجُودِ لِلْإِنْسَانِ وَيُقَابِلُهَا الصِّفَاتُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تَحْتَاجُ فِيمَا ذُكِرَ إلَى ذَلِكَ كَالتَّحَيُّزِ وَالْحُدُوثِ وَيُعَبَّرُ عَنْ الْأُولَى بِأَنَّهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ دُونَ مَعْنًى زَائِدٍ عَلَيْهَا وَعَنْ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: كَالسَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ) فَإِنَّ بَيْنَهُمَا تَبَايُنًا جُزْئِيًّا (قَوْلُهُ: وَفِي كُلٍّ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ) أَيْ الْمِثْلِيَّةِ وَالضِّدِّيَةِ وَالْخِلَافِيَّةِ يَجُوزُ ارْتِفَاعُ الشَّيْئَيْنِ فَيَجُوزُ ارْتِفَاعُ كُلٍّ مِنْ الْمِثْلَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ وَالْخِلَافَيْنِ عَنْ الْمَحَلِّ اهـ. .

(قَوْلُهُ: وَقِيلَ: الْعَدَمُ أَوْلَى بِهِ بِهَذَا يُشْعِرُ كَلَامُ الْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا قَالَ الْأَوَّلُ فِي كِتَابِ الْفُصُوصِ الْمَاهِيَّةُ الْمَعْلُولَةُ لَهَا عَنْ ذَاتِهَا أَنْ لَيْسَتْ وَلَهَا عَنْ غَيْرِهَا أَنْ يُوجَدَ وَالْأَمْرُ الَّذِي عَنْ الذَّاتِ قَبْلَ الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ عَنْ الذَّاتِ اهـ.

قَالَ الثَّانِي فِي الْهَيْئَاتِ الشِّفَاءُ لِلْمَعْلُولِ فِي نَفْسِهِ وَأَنْ يَكُونَ لَيْسَ وَلَهُ عَنْ عِلَّتِهِ أَنْ يَكُونَ آيِسًا وَاَلَّذِي يَكُونُ لِلشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ أَقْدَمُ عِنْدَ الذِّهْنِ بِالذَّاتِ لَا بِالزَّمَانِ عَنْ الَّذِي يَكُونُ غَيْرَهُ فَيَكُونُ كُلُّ مَعْلُولٍ آيِسًا بَعْدَ لَيْسَ، بَعْدِيَّةٌ بِالذَّاتِ اهـ.

فَهَذَا الْكَلَامُ يُوهِمُ أَنَّ الْعَدَمَ مُقْتَضَى ذَاتِ الْمُمْكِنِ لَهُ تَقَدَّمَ بِالذَّاتِ عَلَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُمْكِنَ مُتَسَاوِي النِّسْبَةِ إلَى الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَكَمَا أَنَّ وُجُودَهُ يَكُونُ مِنْ الْغَيْرِ كَذَلِكَ عَدَمُهُ أَيْضًا يَكُونُ مِنْ الْغَيْرِ فَلَا يَكُونُ مِنْ ذَاتِهِ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ عَدَمُهُ مُقْتَضَى ذَاتِهِ لَكَانَ مُمْتَنِعًا بِالذَّاتِ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مُمْكِنًا بِالذَّاتِ هَذَا خُلْفٌ.

وَأَجَابَ شَارِحُ الْفُصُوصِ أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمَوْجُودَ لَمَّا كَانَ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِذَا قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ الْغَيْرِ وَاعْتُبِرَتْ ذَاتُهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ قَطْعًا وَهَذَا السَّلْبُ لِلْمَعْلُولِ ثَابِتٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ لَازِمٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالَةِ الْوُجُودِ أَوْ فِي حَالَةِ الْعَدَمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْعَدَمِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ إنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ حَاكِمٌ بِأَنَّ وُجُودَهُ مِنْ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي حَدِّ ذَاتِهِ إذْ لَوْ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي ذَاتِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُوجَدَ مِنْ الْغَيْرِ وَإِلَّا يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ اتِّصَافَهُ بِالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ رَفْعُ الْوُجُودِ وَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ مَعَهُ مِنْ مُقْتَضَى ذَاتِهِ لِيَلْزَمَ الْمُحَالُ فَإِنَّ ذَلِكَ بَيِّنُ الْبُطْلَانِ لَا يَتَفَوَّهُ بِهِ عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ عُظَمَاءِ الْحُكَمَاءِ أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ لِلْمَعْلُولِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ عَدَمُ اقْتِضَاءِ الْوُجُودِ وَلَا استحقاقيته لَا عَدَمُ الْوُجُودِ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى ذَاتِ الْمَعْلُولِ مُقَدَّمٌ عَلَى وُجُودِ الْمَعْلُولِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ عَدَمُ الِاقْتِضَاءِ فِي ذَاتِ الْمَعْلُولِ لَمْ يُتَصَوَّرْ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ أَمَّا اقْتِضَاءُ الْوُجُودِ فَيَكُونُ الْوُجُودُ وُجُودَ الْوَاجِبِ لَا وُجُودَ الْمُمْكِنِ الْمَعْلُولِ أَوْ اقْتِضَاءَ الْعَدَمِ فَيَصِيرُ مُمْتَنِعًا بِالذَّاتِ لَا مَوْجُودًا وَعَلَى أَيِّهِمَا كَانَ صَحَّ قَوْلُهُمْ الْحُدُوثُ مُسْتَوْفِيهِ الْوُجُودُ بِالْعَدَمِ فَإِنْ كَانَ السَّبْقُ بِالزَّمَانِ فَحُدُوثٌ زَمَانِيٌّ.

وَإِنْ كَانَ بِالذَّاتِ فَحُدُوثٌ ذَاتِيٌّ غَايَتُهُ أَنْ

ص: 501

لِتَحَقُّقِهِ بِانْتِفَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ لِلْوُجُودِ الْمُفْتَقِرِ فِي تَحَقُّقِهِ إلَى تَحَقُّقِ جَمِيعِهَا وَقِيلَ: الْوُجُودُ أَوْلَى بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَانْتِفَاءِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ هُوَ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ

(وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ) الْمُمْكِنَ (الْبَاقِيَ مُحْتَاجٌ) فِي بَقَائِهِ (إلَى السَّبَبِ) أَيْ الْمُؤَثِّرِ وَقِيلَ: لَا (وَيَنْبَنِي) هَذَا الْخِلَافُ (عَلَى أَنَّ عِلَّةَ احْتِيَاجِ الْأَثَرِ) أَيْ الْمُمْكِنِ فِي وُجُودِهِ (إلَى الْمُؤَثِّرِ) أَيْ الْعِلَّةِ الَّتِي يُلَاحِظُهَا الْعَقْلُ فِي ذَلِكَ (الْإِمْكَانُ) أَيْ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ بِالنَّظَرِ إلَى الذَّاتِ (أَوْ الْحُدُوثُ) أَيْ الْخُرُوجُ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ (أَوْ هُمَا) عَلَى أَنَّهُمَا (جُزْءَا عِلَّةٍ أَوْ الْإِمْكَانُ بِشَرْطِ الْحُدُوثِ

ــ

[حاشية العطار]

يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَدَمِ أَعَمَّ مِنْ مَعْنَاهُ الْمُتَبَادَرِ اهـ. (قَوْلُهُ: لِتَحَقُّقِهِ إلَخْ) فِيهِ أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ هُنَا لِسَبَبٍ خَارِجٍ وَالْكَلَامُ فِي النَّظَرِ إلَيْهِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ (قَوْلُهُ: عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ) مِنْ نَاحِيَةِ مَا قَبْلَهُ وَقَوْلُهُ وَانْتِفَاءِ الشَّرْطِ إلَخْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ السَّيِّدُ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ التَّجْرِيدِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ مُؤَثِّرًا فِي الْوُجُودِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ التَّأْثِيرُ فِيهِ كَمَا يَجُوزُ تَوَقُّفُهُ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدْخَلِيَّةُ الشَّيْءِ فِي وُجُودٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ وُجُودُهُ فَقَطْ كَالْفَاعِلِ وَالشَّرْطِ وَالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ إلَخْ فَقَدْ أَدْخَلَ الشَّرْطَ فِي أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الْحَاشِيَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَدَمِ الْأَجْزَاءِ يَعْنِي فِي الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِعَدَمِ الْمُرَكَّبِ بِشَرْطِ تَقَدُّمِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْدَامِ الْأُخَرِ فَإِذَا عُدِمَ جُزْءٌ مِنْ الْمُرَكَّبِ فِي زَمَانٍ وَلَمْ يُعْدَمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَا قَبْلَهُ جُزْءٌ آخَرُ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ الْعَدَمُ مَعَ ذَلِكَ الشَّرْطِ عِلَّةً تَامَّةً لِعَدَمِ الْمُرَكَّبِ اهـ.

وَقَدْ يُقَالُ إنَّ كَلَامَ السَّيِّدِ فِي الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَكَلَامَ الشَّارِحِ مَفْرُوضٌ فِي الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ وَقَدْ يُمْنَعُ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إذْ الْعِلَّةُ حَيْثُ أُطْلِقَتْ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا التَّامَّةُ فَتَأَمَّلْهُ.

(قَوْلُهُ: هَذَا الْخِلَافُ جَعَلَ ضَمِيرَ يَنْبَنِي رَاجِعًا إلَيْهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَاقْتَضَى بِنَاءَ الْأَصَحِّ عَلَى أَوَّلِ الْأَقْوَالِ الْآتِيَةِ فَقَطْ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّارِحُ وَالْأَوْلَى رُجُوعُهُ إلَى الْأَصَحِّ لِيَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى كُلٍّ مِنْهَا كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ دَفْعُ الْمُخَالَفَةِ الْآتِي اهـ. شَيْخُ الْإِسْلَامِ.

(قَوْلُهُ: الْإِمْكَانُ) أَيْ وَهُوَ حَالَ الْبَقَاءِ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ لِلْمُمْكِنِ ضَرُورِيٌّ وَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُتَحَقِّقَةً كَانَ الْمَعْلُومُ مُتَحَقِّقًا فَيَكُونُ حَالَ الْبَقَاءِ مُفْتَقِرًا إلَى الْمُؤَثِّرِ لِوُجُودِ عِلَّةِ الِافْتِقَارِ وَهُوَ الْإِمْكَانُ وَهَاهُنَا شُبْهَةٌ هِيَ أَنَّهُ لَوْ افْتَقَرَ الْبَاقِي فِي حَالِ بَقَائِهِ إلَى الْمُؤَثِّرِ فَالْمُؤَثِّرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ أَوْ لَا وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ:

أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ التَّأْثِيرَ يَسْتَدْعِي حُصُولَ الْأَثَرِ الْحَاصِلِ مِنْهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوُجُودُ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا جَدِيدًا وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ.

وَالثَّانِي أَيْضًا مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَأْثِيرَ الْمُؤَثِّرِ فِي أَمْرٍ جَدِيدٍ لَا فِي الْبَاقِي وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهُ أَثَّرَ فِي الْبَاقِي هَذَا خُلْفٌ وَالثَّانِي وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هُنَاكَ أَثَرٌ لِامْتِنَاعِ تَحْصِيلِ حُصُولِ الْأَثَرِ بِدُونِ التَّأْثِيرِ وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ فِيهِ أَثَرٌ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الْمُؤَثِّرِ وَقَدْ فَرَضْنَا افْتِقَارَهُ إلَيْهِ هَذَا خُلْفٌ.

وَأَجَابَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ حَالَ الْبَقَاءِ يُفِيدُ أَثَرًا لَيْسَ هُوَ الْوُجُودُ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ أَمْرًا جَدِيدًا هُوَ بَقَاءُ الْوُجُودِ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ وَبِهِ صَارَ بَاقِيًا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ تَأْثِيرُهُ فِي الْبَاقِي حَتَّى يَلْزَمَ خِلَافُ الْمَفْرُوضِ فَإِنَّ الْبَاقِيَ هُوَ الْوُجُودُ الْأَوَّلُ الْمُتَّصِفُ بِصِفَةِ الْبَقَاءِ أَيْ الِاسْتِمْرَارِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي أَمْرٍ جَدِيدٍ غَيْرِ الْوُجُودِ الْأَوَّلِ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْوُجُودِ الْأَوَّلِ الْمُتَّصِفِ بِصِفَةِ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ فِي الْمُطْلَقِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ تَأْثِيرِهِ فِي الْمُقَيَّدِ انْتَهَى قَالَ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ فِي حَوَاشِيهِ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ هُوَ الْوُجُودُ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْبَقَاءِ مَعَهُ وَالْمُقَيَّدُ هُوَ الْوُجُودُ الْأَوَّلُ مَأْخُوذًا مَعَ صِفَةِ الْبَقَاءِ وَحَاصِلُهُ أَنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى اتِّصَافِهِ بِالْوُجُودِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ لَمْ يُتَصَوَّرْ تَأْثِيرُهُ فِيهِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى دَوَامِ اتِّصَافِهِ بِهِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي وَهُوَ بَقَاؤُهُ فِيهِ وَاسْتِمْرَارُهُ فِيهِ كَانَ هُنَاكَ تَأْثِيرٌ بِأَنْ يَجْعَلَهُ بَاقِيًا مُسْتَمِرًّا إلَّا بِأَنْ يُوجَدَ بَقَاؤُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ لِمَا مَرَّ فَالتَّأْثِيرُ فِي الْمُتَّصِفِ بِصِفَةِ الْبَقَاءِ بِاعْتِبَارِ جَعْلِهِ مُتَّصِفًا لَا بِإِيجَادِ صِفَتِهِ وَإِنَّمَا أَطْنَبْنَا فِي تَوْضِيحِ هَذَا الْمَقْصِدِ لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهِ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الْحَالُ عَلَى

ص: 502

وَهِيَ أَقْوَالٌ) فَعَلَى أَوَّلِهَا يَحْتَاجُ الْمُمْكِنُ فِي بَقَائِهِ إلَى الْمُؤَثِّرِ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَعَلَى جَمِيعِ بَاقِيهَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ.

لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ لَا فِي الْبَقَاءِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذِكْرِ هَذَا الْبِنَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الصَّحَائِفِ مَعَ إطْلَاقِ الْأَقْوَالِ وَتَقْدِيمِ الْإِمْكَانِ مِنْهَا إلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي تَرْجِيحُ الْإِمْكَانِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُهُمْ عَلَى الْحُدُوثِ حَتَّى لَا يُخَالِفَ التَّصْحِيحُ فِي الْمَبْنَى التَّصْحِيحَ فِي الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ لَكِنْ دُفِعَتْ الْمُخَالَفَةُ بِمَا قَالُوا مِنْ أَنَّ شَرْطَ بَقَاءِ الْجَوْهَرِ الْعَرَضُ وَالْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَيَحْتَاجُ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَى الْمُؤَثِّرِ

(وَالْمَكَانُ) الَّذِي لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْجِسْمَ يَنْتَقِلُ عَنْهُ وَإِلَيْهِ وَيَسْكُنُ فِيهِ فَيُلَاقِيهِ وَلَا بُدَّ بِالْمُمَاسَّةِ أَوْ النُّفُوذِ كَمَا سَيَأْتِي اُخْتُلِفَ فِي مَاهِيَّتِهِ (قِيلَ) هُوَ السَّطْحُ الْبَاطِنُ لِلْحَاوِي الْمُمَاسُّ (لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنْ الْمَحْوِيِّ)

ــ

[حاشية العطار]

الْقَاصِرِينَ بِتَغَيُّرِ الْعِبَارَاتِ اهـ. كَلَامُهُ. وَهَذَا مَطْلَبٌ نَفِيسٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.

(قَوْلُهُ: وَهِيَ أَقْوَالٌ) أَيْ أَرْبَعَةٌ وَبَقِيَ احْتِمَالٌ خَامِسٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ الْحُدُوثُ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا فَهَذَا الشَّرْطُ لَاغٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ (قَوْلُهُ: الْمَأْخُوذِ مِنْ الصَّحَائِفِ) اسْمُ كِتَابٍ لِلسَّمَرْقَنْدِيِّ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ عَلَى نَمَطِ الْمَوَاقِفِ وَالْمَقَاصِدِ وَهُوَ جَلِيلُ الْقَدْرِ (قَوْلُهُ: مَعَ إطْلَاقِ الْأَقْوَالِ) أَيْ عَنْ التَّرْجِيحِ (قَوْلُهُ: لَكِنْ دُفِعَتْ الْمُخَالَفَةُ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ لَمَّا اشْتَرَطُوا فِي بَقَاءِ الْجَوْهَرِ الْعَرَضَ وَالْعَرَضُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ لَزِمَ الِاحْتِيَاجُ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَى الْمُؤَثِّرِ سَوَاءٌ جَعَلْنَا الْعِلَّةَ الْحُدُوثَ أَوْ هُوَ مَعَ الْإِمْكَانِ شَرْطًا أَوْ شَطْرًا قَالَ السَّيِّدُ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ التَّجْرِيدِ مَنْ قَالَ عِلَّةُ حَاجَةِ الْمُمْكِنِ إلَى الْمُؤَثِّرِ هِيَ الْحُدُوثُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْإِمْكَانِ قَالَ الْعِلَّةُ الْإِمْكَانُ بِشَرْطِ الْحُدُوثِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُمْكِنُ حَالَ بَقَائِهِ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الْمُؤَثِّرِ إذْ لَا حُدُوثَ حَالَ الْبَقَاءِ فَلَا حَاجَةَ وَقَدْ الْتَزَمَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِبَقَاءِ الْبِنَاءِ حَالَ فَنَاءِ الْبِنَاءِ وَقَالُوا إنَّ الْعَالَمَ مُحْتَاجٌ إلَى الصَّانِعِ فِي أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ وَبَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَاجَةٌ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ جَازَ الْعَدَمُ عَلَى الصَّانِعِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا لَمَا ضَرَّ الْعَالَمَ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا شَنِيعًا قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْأَعْرَاضَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ بَلْ هِيَ مُتَّحِدَةٌ دَائِمًا إمَّا بِتَعَاقُبِ الْأَمْثَالِ وَإِمَّا بِتَوَارُدِ الْوُجُودِ عَلَى عَدَمٍ بِعَيْنِهِ فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى الصَّانِعِ احْتِيَاجًا مُسْتَمِرًّا وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ أَعْنِي الْأَجْسَامَ وَمَا تَتَرَكَّبُ هِيَ مِنْهَا أَعْنِي الْجَوَاهِرَ الْفَرْدَةَ فَيَسْتَحِيلُ خُلُوُّهَا عَنْ الْأَكْوَانِ الْمُتَجَدِّدَةِ الْمُحْتَاجَةِ إلَى الصَّانِعِ فَهِيَ أَيْضًا مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ دَائِمًا وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْإِمْكَانُ وَحْدَهُ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْمُمْكِنَ الْبَاقِيَ مُحْتَاجٌ إلَى الْمُؤَثِّرِ حَالَ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ حَاجَتِهِ إلَى الْمُؤَثِّرِ هُوَ الْإِمْكَانُ.

(قَوْلُهُ: وَالْمَكَانُ إلَخْ) هُوَ لُغَةً مَا وُجِدَ فِيهِ سُكُونٌ أَوْ حَرَكَةٌ نَقَلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ ابْنِ جِنِّي (قَوْلُهُ: بِالْمُمَاسَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يُلَاقِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ السَّطْحُ وَقَوْلُهُ أَوْ النُّفُوذِ أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ بُعْدٌ مَوْجُودٌ أَوْ مَوْهُومٌ وَقَدْ أَشَارَ الشَّارِحُ بِهَذَا إلَى دَلِيلِ وُجُودِ الْمَكَانِ وَحَاصِلُهُ أَنْ تَقُولَ الْمَكَانُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ وَمَقْصِدٌ لِلْمُتَحَرِّكِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَوْجُودٌ وَهُوَ لَا يَكُونُ جُزْءًا لِلْجِسْمِ وَلَا حَالًّا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْكُنُ فِيهِ الْجِسْمُ وَيَنْتَقِلُ بِالْحَرَكَةِ عَنْهُ وَإِلَيْهِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ جُزْءًا لِلْجِسْمِ وَلَا حَالًّا فِيهِ فَهُوَ إمَّا السَّطْحُ أَوْ الْبُعْدُ إلَخْ.

(قَوْلُهُ: قِيلَ هُوَ السَّطْحُ إلَخْ) إلَيْهِ ذَهَبَ أرسطاطاليس وَمَنْ تَبِعَهُ وَالْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا وَهُوَ التَّحْقِيقُ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بَعْدَهُ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ لُزُومُ التَّسَلْسُلِ فِي الْأَجْسَامِ كُلِّهَا لَاحْتَاجَ الْجِسْمُ الْحَاوِي إلَى مَكَان آخَرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَكَانٌ وَهَكَذَا.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِمَنْعِ لُزُومِ التَّسَلْسُلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ لَمْ يَنْتَهِ الْجِسْمُ إلَى جِسْمٍ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ وَهُوَ مُحَالٌ فَإِنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ بَلْ لَهُ وَضْعٌ فَقَطْ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمَكَانُ هُوَ السَّطْحُ الْمَذْكُورُ لَمَا كَانَ الْحَجَرُ الْوَاقِفُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي سَاكِنًا وَالتَّالِي بَاطِلٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَالْمُقَدَّمُ مِثْلُهُ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الْمَكَانَ لَوْ كَانَ هُوَ السَّطْحُ الْمَذْكُورُ لَكَانَتْ الْحَرَكَةُ عِبَارَةً عَنْ مُفَارَقَةِ سَطْحٍ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ سَطْحٍ آخَرَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ سَاكِنًا فَثَبَتَتْ الْمُلَازَمَةُ.

وَأُجِيبَ عَنْهُ بِمَنْعِ أَنَّ الْحَرَكَةَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ مُفَارَقَةِ السَّطْحِ الْمَذْكُورِ بَلْ عَنْ ذَلِكَ مَعَ تَوَجُّهِ الْمُتَحَرِّكِ نَحْوَ السَّطْحِ الْآخَرِ وَالتَّوَجُّهُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، وَالْحَجَرُ الْوَاقِفُ فِي الْمَاءِ فَإِنَّ التَّوَجُّهَ فِي الْمَاءِ لَا لِلْحَجَرِ (قَوْلُهُ: كَالسَّطْحِ

ص: 503

كَالسَّطْحِ الْبَاطِنِ لِلْكُوزِ الْمُمَاسِّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنْ الْمَاءِ الْكَائِنِ.

(فِيهِ وَقِيلَ:) هُوَ (بُعْدٌ مَوْجُودٌ يَنْفُذُ فِيهِ الْجِسْمُ) بِنُفُوذِ بُعْدِهِ الْقَائِمِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ بِحَيْثُ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ وَخَرَجَ بِقَيْدِ النُّفُوذِ فِيهِ بُعْدُ الْجِسْمِ (وَقِيلَ:) هُوَ (بُعْدٌ مَفْرُوضٌ) أَيْ يُفْرَضُ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ نُفُوذِ بُعْدِ الْجِسْمِ فِيهِ (وَهُوَ) أَيْ الْبُعْدُ الْمَفْرُوضُ (الْخَلَاءُ)

ــ

[حاشية العطار]

الْبَاطِنِيِّ لِلْكُوزِ) قَدْ يَفْهَمُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ وَالْأَخْذُ مِنْ الظَّوَاهِرِ أَنَّ الْمَكَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِالْمُتَمَكِّنِ لِمَا أَنَّ السَّطْحَ الْمُلَاقِيَ لِلْمَاءِ مِنْ الْكُوزِ مُحِيطٌ بِهِ فَيُشْكِلُ عَلَيْهِ الْحَالُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ فِيهِ وَكَذَلِكَ حَالُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَمَا إذَا عَلَّقْنَا جِسْمًا فِي الْجَوِّ بِنَاءً عَلَى وُقُوفِ فَهْمِهِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ الْمِثَالُ وَالْحَالُ أَنَّ الْجِسْمَ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَتْ يُحِيطُ بِهِ مَكَانُهُ أَمَّا الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الْحَجَرُ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْأَرْضِ مَثَلًا أَوْ الشَّخْصُ الْجَالِسُ فَإِنَّهُ يُحِيطُ بِهِ سَطْحٌ مِنْ الْأَرْضِ وَسُطُوحٌ مِنْ الْهَوَاءِ فَإِنَّ الْهَوَاءَ شَاغِلٌ لِلْفَرَاغَاتِ.

وَأَمَّا الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ وَالْجِسْمُ الْمُعَلَّقُ فِي الْجَوِّ فَقَدْ أَحَاطَ بِهِمَا سُطُوحٌ مِنْ الْهَوَاءِ وَاعْتُبِرَ حَالُ الْحَجَرِ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُحِيطُ بِهِ سَطْحٌ مِنْ الْأَرْضِ وَآخَرُ مِنْ الْمَاءِ قَدْ يَكُونُ مَكْشُوفًا فَيُحِيطُ بِهِ سَطْحٌ آخَرُ مِنْ الْهَوَاءِ وَالسَّمَكُ السَّطْحُ الْمُحِيطُ بِهِ مِنْ الْمَاءِ فَإِذَا كُنْت ذَا تَخَيُّلٍ صَحِيحٍ سَهُلَ عَلَيْك مَعْرِفَةُ مَكَانِ كُلِّ جِسْمٍ ثُمَّ رَأَيْت فِي شَرْحِ حِكْمَةِ الْعَيْنِ مَا يُوَضِّحُ هَذَا قَالَ إنَّ الْمَكَانَ قَدْ يَكُونُ سَطْحًا وَاحِدًا كَمَكَانِ الْفَلَكِ وَقَدْ يَكُونُ سُطُوحًا يَتَرَكَّبُ مِنْهَا مَكَانٌ كَالْمَاءِ فِي النَّهْرِ فَإِنَّ مَكَانَهُ مُرَكَّبٌ مِنْ سَطْحَيْنِ أَعْنِي سَطْحَ الْأَرْضِ تَحْتَهُ وَسَطْحَ الْهَوَاءِ فَوْقَهُ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ هَذِهِ السُّطُوحِ مُتَحَرِّكًا وَبَعْضُهَا سَاكِنًا كَالْحَجَرِ الْمَوْضُوعِ عَلَى الْأَرْضِ الْجَارِي عَلَيْهِ الْمَاءُ وَقَدْ يَكُونُ الْحَاوِي أَيْ الْمَكَانُ مُتَحَرِّكًا وَالْمَحْوِيُّ أَيْ الْمُتَمَكِّنُ سَاكِنًا كَحَالِ الْعَنَاصِرِ السَّاكِنَةِ مَعَ الْفَلَكِ وَقَدْ يَكُونَانِ مُتَحَرِّكَيْنِ كَالْأَفْلَاكِ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ: هُوَ بُعْدٌ مَوْجُودٌ) هَذَا رَأْيُ الْحُكَمَاءِ الْإِشْرَاقِيِّينَ وَمِنْهُمْ أَفْلَاطُونُ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ رَأْيُ الْمَشَّائِينَ وَهَذَا الْبُعْدُ مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ أَيْ الْهُيُولِيِّ وَيُسَمَّى بُعْدًا مَفْطُورًا بَالِغًا لِبَدَاهَةِ مَعْرِفَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهَا فِطْرِيَّةٌ وَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِالْقَافِ وَلَهُ وَجْهٌ أَيْ بُعْدٌ لَهُ أَقْطَارٌ أَيْ أَطْرَافٌ فَهُوَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَقَدْ اخْتَارَ هَذَا الْمَذْهَبَ النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ قَائِلًا إنَّ الْأَمَارَاتِ تُسَاعِدُ أَنَّ الْمَكَانَ هُوَ الْبُعْدُ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِأَنَّ الْمَاءَ فِيمَا بَيْنَ أَطْرَافِ الْإِنَاءِ يَزُولُ وَيُفَارِقُ وَيَحْصُلُ الْهَوَاءُ فِي ذَلِكَ الْبُعْدِ بِعَيْنِهِ وَأَيْضًا إذَا تَوَهَّمْنَا الْمَاءَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَجْسَامِ مَرْفُوعًا غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْإِنَاءِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْبُعْدُ الثَّابِتُ بَيْنَ أَطْرَافِهِ مَوْجُودًا وَذَلِكَ أَيْضًا مَوْجُودٌ عِنْدَمَا يَكُونُ هَذَا مَوْجُودًا مَعَهُ وَأَيْضًا كَوْنُ الْجِسْمِ فِي مَكَان لَيْسَ بِسَطْحِهِ بَلْ بِحَجْمِهِ وَكَمِّيَّتِهِ.

فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ الْجِسْمُ مُسَاوِيًا لَهُ فَيَكُونُ بُعْدًا وَلِأَنَّ الْمَكَانَ مُسَاوٍ لِلتَّمَكُّنِ وَالْمُتَمَكِّنُ ذُو ثَلَاثَةِ أَقْطَارٍ فَالْمَكَانُ ذُو ثَلَاثَةِ أَقْطَارٍ (قَوْلُهُ: بِحَيْثُ يَنْطَبِقُ) أَيْ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ (قَوْلُهُ: وَخَرَجَ إلَخْ) ؛ لِأَنَّ بُعْدَ الْجِسْمِ نَافِذٌ لَا مَنْفُوذٌ فِيهِ (قَوْلُهُ: أَيْ يُفْرَضُ فِيهِ مَا ذُكِرَ) لَوْ قَالَ هُوَ بُعْدٌ مَوْهُومٌ لَكَانَ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ تَعْبِيرِ غَيْرِهِ بِذَلِكَ وَلِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ مَوْجُودٌ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ يُفْرَضُ فِيهِ إلَخْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَوْهُومًا (قَوْلُهُ: وَهُوَ الْخَلَاءُ) قَالَ السَّيِّدُ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ التَّجْرِيدِ الْخَلَاءُ الْمَكَانُ الْخَالِي عَمَّا يَشْغَلُهُ فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ بُعْدًا مُجَرَّدًا مَوْجُودًا فَخُلُوُّهُ أَنْ لَا يَنْطَبِقَ عَلَيْهِ بُعْدٌ مُتَمَكِّنٌ فِيهِ وَإِذَا انْطَبَقَ عَلَيْهِ كَانَ مَلَاءً لَا خَلَاءً وَكَذَا الْحَالُ إنْ كَانَ الْمَكَانُ بُعْدًا مَوْهُومًا إلَّا أَنَّ الِانْطِبَاقَ هَاهُنَا يَكُونُ وَهْمِيًّا وَإِنْ كَانَ سَطْحًا فَخُلُوُّهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي دَاخِلِ تِلْكَ السَّطْحِ مُتَمَكِّنٌ فَإِنْ كَانَ فِي دَاخِلِهِ مَا يَمْلَؤُهُ كَانَ مَلَاءً لَا خَلَاءً وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ الْخَلَاءَ هُوَ الْمَكَانُ الْخَالِي عَنْ الْمُمْكِنِ فَالْقَائِلُونَ بِالسَّطْحِ لَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يَكُونَ دَاخِلَهُ خَالِيًا عَمَّا يَتَمَكَّنُ فِيهِ وَإِلَّا لَكَانَ الْمَعْدُومُ مَحْصُورًا فِيمَا بَيْنَ أَطْرَافِهِ قَابِلًا لِلِانْقِسَامِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ بَلْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ سُطُوحَ الْأَجْسَامِ مُتَلَاقِيَةٌ مُتَلَازِمَةٌ وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْبُعْدِ الْمَوْجُودِ فَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ خُلُوَّهُ عَنْ الشَّاغِلِ وَكَذَا جَوَّزَهُ الْقَائِلُونَ بِالْبُعْدِ الْمَوْهُومِ وَعُرِّفَ الْخَلَاءُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِكَوْنِ الْجِسْمَيْنِ بِحَيْثُ يَتَلَاقَيَانِ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَا يُلَاقِيهِمَا أَصْلًا فَالْخَلَاءُ عِنْدَهُمْ نَفْيٌ مَحْضٌ مَحْصُورٌ فِيمَا بَيْنَ الْأَجْسَامِ فَيَكُونُ بَاطِلًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ لُزُومِ

ص: 504

وَالْخَلَاءُ جَائِزٌ (وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُ الْجِسْمَيْنِ لَا يَتَمَاسَّانِ وَلَا) يَكُونُ (بَيْنَهُمَا مَا يُمَاسُّهُمَا) فَهَذَا الْكَوْنُ الْجَائِزُ هُوَ الْخَلَاءُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْبُعْدِ الْمَفْرُوضِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْمَكَانِ فَيَكُونُ خَالِيًا عَنْ الشَّاغِلِ هَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْقَوْلَانِ قَبْلَهُ لِلْحُكَمَاءِ وَمَنَعُوا الْخَلَاءَ أَيْ خُلُوَّ الْمَكَانِ بِمَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ عَنْ الشَّاغِلِ إلَّا بَعْضَ قَائِلِي الثَّانِي فَجَوَّزُوهُ.

ــ

[حاشية العطار]

كَوْنِ الْمَعْدُومِ مَحْصُورًا مُنْقَسِمًا وَأَمَّا الْخَلَاءُ بِمَعْنَى النَّفْيِ الْمَحْضِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَجْسَامِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا انْحِصَارَ هُنَاكَ وَلَا امْتِيَازَ أَصْلًا إلَّا بِحَسَبِ الْوَهْمِ فِي غَيْرِ الْمَحْسُوسِ وَحُكْمُهُ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ هُنَاكَ حَرَكَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى اسْتِمَالَتِهِ اهـ.

وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْقَائِلَ بِالْخَلَاءِ جَمِيعُ مَنْ يَقُولُ بِالْبُعْدِ الْمَوْهُومِ وَهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ وَبَعْضٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْبُعْدِ الْمَوْجُودِ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الطَّوَالِعِ أَيْضًا قَالَ فَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ يَعْنِي مَذْهَبَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَذْهَبَ أَفْلَاطُونَ الْمَكَانُ عِبَارَةٌ عَنْ الْخَلَاءِ لَكِنَّ الْخَلَاءَ عَلَى مَذْهَبِ أَفْلَاطُونَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ اهـ.

وَقَدْ نَبَّهَ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَعْدُ إلَّا بَعْضَ قَائِلٍ بِالثَّانِي فَجَوَّزَهُ (قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُ الْجِسْمَيْنِ) هَذِهِ عِبَارَةُ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَلَا يَخْلُو مَا فِيهَا مِنْ الْمُسَامَحَةِ فَإِنَّ الْخَلَاءَ هُوَ مَا بَيْنَ الْجِسْمَيْنِ لَا الْكَوْنُ الْمَذْكُورُ وَيَدُلُّ لَهُ عِبَارَةُ السَّيِّدِ السَّابِقَةُ وَقَدْ تَبِعَ الشَّارِحُ الْمُصَنِّفَ فِي ارْتِكَابِ التَّسَامُحِ بِقَوْلِهِ فَهَذَا الْكَوْنُ الْجَائِزُ إلَخْ؛ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ شَرْحِ كَلَامِهِ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ لِسُهُولَةِ مِثْلِهِ.

(قَوْلُهُ: وَمَنَعُوا الْخَلَاءَ) وَضَمِيرُهُ يَعُودُ لِلْحُكَمَاءِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُجَوِّزَ لِلْخَلَاءِ جَمِيعُ مَنْ قَالَ بِالْفَرَاغِ الْمَوْهُومِ وَبَعْضٌ مِمَّنْ قَالَ بِالْبُعْدِ الْمَوْجُودِ الْقَائِلُ بِالِامْتِنَاعِ أَرْبَابُ السَّطْحِ وَبَعْضٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِالْبُعْدِ الْمُجَرَّدِ وَلِكُلٍّ مِنْ الْمُجَوِّزِينَ وَالْحَاكِمِينَ بِالِامْتِنَاعِ أَدِلَّةٌ فَمِنْ الْمُجَوِّزِ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا صَفْحَةً مَلْسَاءَ فَوْقَ أُخْرَى مِثْلِهَا بِحَيْثُ يَتَمَاسُّ سَطْحَاهُمَا الْمُسْتَوِيَانِ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا جِسْمٌ أَصْلًا وَرَفَعْنَا إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى رَفْعَةً فَفِي أَوَّلِ زَمَانِ الِارْتِفَاعِ يَلْزَمُ خُلُوُّ الْوَسَطِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَلِئُ بِالْهَوَاءِ الْوَاصِلِ إلَيْهِ مِنْ الْخَارِجِ بَعْدَ الْمُرُورِ بِالْأَطْرَافِ وَمِنْهَا أَنَّ الْقَارُورَةَ إذَا مَضَتْ جِدًّا بِحَيْثُ خَرَجَ مَا فِيهَا مِنْ الْهَوَاءِ ثُمَّ كُبَّتْ عَلَى الْمَاءِ تَصَاعَدَ عَلَيْهَا الْمَاءُ وَلَوْ لَمْ تَصِرْ خَالِيَةً بَلْ فِيهَا مَلَاءٌ لَمَا دَخَلَهَا مَاءٌ كَحَالِهَا قَبْلَ الْمَصِّ وَمِنْ أَدِلَّةِ الْمَانِعِ أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ الْخَلَاءُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ الْحَرَكَةِ مَعَ الْمُعَاوِقِ مُسَاوِيًا لِزَمَانِ تِلْكَ الْحَرَكَةِ بِدُونِ الْمُعَاوِقِ.

وَاللَّازِمُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، بَيَانُ اللُّزُومِ أَنَّا نَفْرِضُ حَرَكَةَ جِسْمٍ فِي فَرْسَخٍ مِنْ الْخَلَاءِ وَلَا مَحَالَةَ تَكُونُ فِي زَمَانٍ وَلْنَفْرِضْهُ سَاعَةً ثُمَّ نَفْرِضْ حَرَكَةَ ذَلِكَ الْجِسْمِ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ بِعَيْنِهَا فِي فَرْسَخٍ مِنْ الْمَلَاءِ وَلَا مَحَالَةَ يَكُونُ فِي زَمَانٍ أَكْثَرَ لِوُجُودِ الْعَائِقِ وَلْنَفْرِضْهُ سَاعَتَيْنِ ثُمَّ نَفْرِضْ حَرَكَتَهُ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ فِي مَلَاءٍ أَرَقَّ مِنْ الْمَلَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى نِسْبَةِ زَمَانِ الْحَرَكَةِ فِي الْخَلَاءِ إلَى زَمَانِ حَرَكَةِ الْمَلَاءِ الْأَوَّلِ أَيْ يَكُونُ قِوَامُهُ نِصْفُ قِوَامِ الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ الْحَرَكَةِ فِي الْمَلَاءِ الْأَرَقِّ سَاعَةً ضَرُورَةَ أَنَّهُ إذَا اتَّحَدَتْ الْمَسَافَةُ وَالْمُتَحَرِّكُ وَالْقُوَّةُ الْمُحَرِّكَةُ لَمْ تَكُنْ السُّرْعَةُ وَالْبُطْءُ أَعْنِي قِلَّةَ الزَّمَانِ وَكَثْرَتِهِ إلَّا بِحَسَبِ قِلَّةِ الْمُعَاوِقِ وَكَثْرَتِهِ فَيَلْزَمُ تَسَاوِي حَرَكَةِ ذِي الْمُعَاوِقِ أَعْنِي الَّتِي فِي الْمَلَاءِ الْأَرَقِّ وَزَمَانِ حَرَكَةِ عَدِيمِ الْمُعَاوِقِ أَعْنِي الَّتِي فِي الْخَلَاءِ مِنْهَا لَوْ وُجِدَ الْخَلَاءُ لَزِمَ انْتِفَاءُ أُمُورٍ نُشَاهِدُهَا وَنَحْكُمُ بِوُجُودِهَا قَطْعًا كَارْتِفَاعِ اللَّحْمِ فِي الْمِحْجَمَةِ عِنْدَ الْمَصِّ فَإِنَّهُ لَمَّا انْجَذَبَ الْهَوَاءُ بِالْمَصِّ تَبِعَهُ اللَّحْمُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْخَلَاءُ وَمِنْهَا ارْتِفَاعُ الْمَاءِ فِي الْأُنْبُوبَةِ إذَا أُدْخِلَ أَحَدُ طَرَفَيْهَا فِي الْمَاءِ وَمُصَّ الطَّرَفُ الْآخَرُ وَمِنْهَا أَنَّ الْإِنَاءَ الضَّيِّقَ الرَّأْسِ الَّذِي فِي أَسْفَلِهِ ثُقْبٌ صَغِيرَةٌ إذَا مُلِئَ مَاءً فَانْفَتَحَ رَأْسُهُ نَزَلَ الْمَاءُ وَإِنْ سُدَّ لَمْ يَنْزِلْ لِئَلَّا يَقَعَ الْمَلَاءُ وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الثُّقْبَ بِالصِّغَرِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ وَاسِعَةً أَمْكَنَ نُزُولُ الْمَاءِ مِنْ نَاحِيَةٍ وَيَصْعَدُ الْهَوَاءُ مِنْ نَاحِيَةٍ كَمَا يُشَاهَدُ فِي الْقَارُورَةِ الضَّيِّقَةِ الرَّأْسِ الْمَكْبُوبَةِ عَلَى الْمَاءِ فَإِنَّ نُزُولَ الْهَوَاءِ يَضْطَرِبُ فِي رَأْسِهَا بِمُزَاحَمَةِ صُعُودِ الْمَاءِ وَلِذَلِكَ يُسْمَعُ فِيهَا أَصْوَاتُ مُزَاحَمَتِهَا وَلِأَنَّا لَوْ وَضَعْنَا خَشَبَةً مُسْتَوِيَةً أَوْ أُنْبُوبَةً مَسْدُودَةَ الرَّأْسِ فِي قَارُورَةٍ بِحَيْثُ يَكُونُ بَعْضُ الْأُنْبُوبَةِ دَاخِلَ الْقَارُورَةِ وَبَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْهَا وَسَدَدْنَا رَأْسَ الْقَارُورَةِ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُهَا هَوَاءٌ وَلَا يَخْرُجُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُسَدَّ الْخَلَلُ بَيْنَ عُنُقِ الْقَارُورَةِ وَالْأُنْبُوبَةِ سَدًّا مُحْكَمًا لَا يُمْكِنُ نُفُوذُ الْهَوَاءِ فِيهَا فَإِذَا أَدْخَلْنَا الْأُنْبُوبَةَ فِيهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ

ص: 505

(وَالزَّمَانُ

ــ

[حاشية العطار]

بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ الْهَوَاءِ عَنْهَا انْكَسَرَتْ الْقَارُورَةُ إلَى خَارِجٍ وَإِذَا أَخْرَجْنَاهَا عَنْهَا بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْهَوَاءِ انْكَسَرَتْ إلَى دَاخِلٍ وَلَوْلَا أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ بِالْهَوَاءِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأُنْبُوبَةِ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ شَيْئًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى امْتِنَاعِ الْخَلَاءِ وَقَدْ قَالَ شَارِحُ حِكْمَةِ الْعَيْنِ أَنَّ هَذِهِ إقْنَاعِيَّاتٌ لَا بُرْهَانِيَّاتٌ.

وَأَقُولُ مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ وَمَسْأَلَةُ إثْبَاتِ الْمَيْلِ فِي الْأَجْسَامِ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ وَبِتَحْقِيقِهِمَا مَا يَنْكَشِفُ لِلْفَطِنِ أَسْرَارٌ غَرِيبَةٌ وَعَلَيْهِمَا يَنْبَنِي كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ عِلْمِ جَرِّ الْأَثْقَالِ وَعِلْمِ الْحِيَلِ وَاسْتِحْدَاثِ الْآلَاتِ الْعَجِيبَةِ وَوَقَعَ فِي زَمَانِنَا أَنْ جُلِبَتْ كُتُبٌ مِنْ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ وَتُرْجِمَتْ بِاللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَفِيهَا أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ وَأَفْعَالٌ دَقِيقَةٌ اطَّلَعْنَا عَلَى بَعْضِهَا وَقَدْ اُسْتُخْرِجَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ بِوَاسِطَةِ الْأُصُولِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَالْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ وَتَكَلَّمُوا فِي الصِّنَاعَاتِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْآلَاتِ النَّارِيَّةِ وَمَهَّدُوا فِيهَا قَوَاعِدَ وَأُصُولًا حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا مُدَوَّنًا فِي الْكُتُبِ وَفَرَّعُوهُ إلَى فُرُوعٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ سَمَتْ بِهِ هِمَّتُهُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى غَرَائِبِ الْمُؤَلَّفَاتِ وَعَجَائِبِ الْمُصَنَّفَاتِ انْكَشَفَ لَهُ حَقَائِقُ كَثِيرَةٌ مِنْ دَقَائِقِ الْعُلُومِ وَتَنَزَّهَتْ فِكْرَتُهُ إنْ كَانَتْ سَلِيمَةً فِي رِيَاضِ الْفُهُومِ:

فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى

وَهَامَةُ هِمَّتِهِ الثُّرَيَّا

فَالنَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقَائِقِ الْمَعَارِفِ تَتَكَمَّلُ وَالْفَاضِلُ الْكَامِلُ بِمَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ يَتَفَوَّقُ وَيَتَفَضَّلُ لَا بِتَحْسِينِ هَيْئَةِ اللِّبَاسِ وَالْمُزَاحَمَةِ عَلَى التَّصَدُّرِ فِي مَجَالِسِ النَّاسِ.

قَالَ الْحَكِيمُ الْفَارَابِيُّ:

أَخِي خَلِّ بَاطِلَ ذِي حَيِّزٍ

وَكُنْ وَالْحَقَائِقَ فِي حَيِّزِ

فَمَا الدَّارُ دَارُ مُقَامٍ لَنَا

وَمَا الْمَرْءُ فِي الْأَرْضِ بِالْمُعْجِزِ

يُنَافَسُ هَذَا لِذَاكَ عَلَى

أَقَلَّ مِنْ الْكَلِمِ الْمُوجَزِ

مُحِيطُ الْعَوَالِمِ أَوْلَى بِنَا

فَمَاذَا التَّنَافُسُ فِي الْمَرْكَزِ

فَلَا تَجْعَلْ سَعْيَك لِغَيْرِ تَحْصِيلِ الْكَمَالَاتِ الْعِرْفَانِيَّةِ مَصْرُوفًا وَلَا تَتَّخِذْ غَيْرَ نَفَائِسِ الْكُتُبِ أَلِيفًا أَلُوفًا:

وَلَا تَكُ مِنْ قَوْمٍ يُدِيمُونَ سَعْيَهُمْ

لِتَحْصِيلِ أَنْوَاعِ الْمَآكِلِ وَالشُّرْبِ

فَهَذِي إذَا عُدَّتْ طِبَاعَ بَهَائِمَ

وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْبَهِيمِ وَذِي اللُّبِّ

وَهَذِهِ نَفْثَةُ مَصْدُورٍ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.

لَعَمْرِي لَقَدْ تَسَاوَى الْفَطِنُ وَالْأَبْلَهُ الْأَفِنُ وَاسْتَنْسَرَ الْبُغَاثُ وَسُدَّ طَرِيقُ النَّظَرِ عَلَى الْمُنَاظِرِ الْبَحَّاثِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

(قَوْلُهُ: وَالزَّمَانُ) أَنْكَرَ وُجُودَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَجَعَلُوهُ أَمْرًا اعْتِبَارِيًّا وَسَيَأْتِي كَلَامُهُمْ وَأَثْبَتَهُ الْحُكَمَاءُ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ جَعَلَهُ مِنْ مَقُولَةِ الْكَمِّ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ وَحُجَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَارَّ الذَّاتِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْحَادِثُ فِي هَذَا الْوَقْتِ هُوَ الْحَادِثُ فِي زَمَنِ الطُّوفَانِ مَثَلًا وَبُطْلَانُهُ بَدِيهِيٌّ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ تَقَدُّمُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَلَى بَعْضٍ تَقَدُّمًا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مَعَ الزَّمَانِ إذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ حَدَثَ هَذَا فِي آنٍ مُعَيَّنٍ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَأَنْ يُقَالَ: أَمْسِ قَبْلَ الْيَوْمِ وَالْغَدُ بَعْدَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآنَ وَالْقَبْلِيَّةَ وَالْبَعْدِيَّةَ أُمُورٌ تَلْحَقُ الزَّمَانَ فَلِلزَّمَانِ زَمَانٌ آخَرُ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى تَقَدُّمِ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ السَّابِقُ فِي زَمَانٍ وَاللَّاحِقُ فِي زَمَانٍ آخَرَ فَيَكُونُ الْأَمْسُ فِي زَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ وَالْيَوْمُ فِي زَمَانٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ وَيُنْقَلُ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَتَقَدُّمُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَلَى بَعْضٍ وَهَكَذَا.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى بَعْضٍ كَتَقَدُّمِ الْمَاضِي عَلَى الْحَاضِرِ إنَّمَا هُوَ بِذَاتِهِ وَنَفْسِهِ لَا بِزَمَانٍ آخَرَ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذُكِرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ الْمُجَرَّدَةَ الْمُنْصَرِمَةَ تَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ لِلْأَجْزَاءِ الْمَفْرُوضَةِ لِعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ بِخِلَافِ مَا حَقِيقَتُهُ غَيْرُ عَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ وَحُجَّةُ الْحُكَمَاءِ أَنَّ كَوْنَ الْأَبِ قَبْلَ الِابْنِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فَتِلْكَ الْقَبْلِيَّةُ لَيْسَتْ بِنَفْسِ وُجُودِ الْأَبِ وَلَا بِنَفْسِ

ص: 506

قِيلَ) هُوَ (جَوْهَرٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ) أَيْ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ (وَلَا جُسْمَانِيٍّ) أَيْ وَلَا دَاخِلٍ فِي الْجِسْمِ فَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ (وَقِيلَ: فَلَكُ مَعْدِلِ النَّهَارِ) وَهُوَ جِسْمٌ سُمِّيَتْ دَائِرَتُهُ أَيْ مِنْطَقَةُ الْبُرُوجِ مِنْهُ بِمَعْدِلِ النَّهَارِ لِتَعَادُلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي جَمِيعِ الْبِقَاعِ عِنْدَ كَوْنِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا (وَقِيلَ: عَرَضٌ

ــ

[حاشية العطار]

عَدَمِ الِابْنِ؛ لِأَنَّا نَعْقِلُ وُجُودَ الْأَبِ مَعَ عَدَمِ الِابْنِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ هَذِهِ الْقَبْلِيَّةِ فَتَكُونُ زَائِدَةً عَلَى وُجُودِ الْأَبِ وَعَدَمِ الِابْنِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَبْلِيَّةُ أَيْضًا عَدَمِيَّةً؛ لِأَنَّهَا نَقِيضُ اللَّاقَبْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَدَمِيَّةٌ لِكَوْنِهَا مَحْمُولَةً عَلَى الْعَدَمِ فَتَكُونُ ثُبُوتِيَّةً فَالْقَبْلِيَّةُ إذَنْ أَمْرٌ زَائِدٌ ثُبُوتِيٌّ فَتَكُونُ عَارِضَةً لِأَمْرٍ مَوْجُودٍ وَذَلِكَ هُوَ الزَّمَانُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

أَقُولُ هَاهُنَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ الْوُجُودُ وَالْمَكَانُ وَالزَّمَانُ هِيَ ظَاهِرَةُ الْآنِيَةِ خَفِيفَةُ الْمَاهِيَّةِ طَالَ نِزَاعُ الْعُلَمَاءِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَحَارَتْ أَفْكَارُهُمْ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي الْبَحْثِ عَنْ الْإِلَهِيَّاتِ وَكَيْفَ الْوُصُولُ إلَى هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ مَعَ عَجْزِ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ سَيِّدُ الْعَارِفِينَ وَمُرْشِدُهُمْ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَفْضَلُ الْخَلِيقَةِ أَجْمَعِينَ بِقَوْلِهِ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ بِنَاءً عَلَى بَعْضِ تَأْوِيلَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ فَكَيْفَ يَعْرِفُ حَضْرَةَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَسُبْحَانَ مَنْ ظُهُورُهُ لِأَوْلِيَائِهِ عَيْنُ خَفَائِهِ:

قُلْ لِمَنْ يَفْهَمُ عَنِّي مَا أَقُولُ

قَصِّرْ الْقَوْلَ فَذَا شَرْحٌ يَطُولْ

ثَمَّ سِرٌّ غَامِضٌ مِنْ دُونِهِ

ضُرِبَتْ وَاَللَّهِ أَعْنَاقُ الْفُحُولْ

أَنْتَ لَا تَعْرِفُ إيَّاكَ وَلَا

تَدْرِ مَنْ أَنْتَ وَلَا كَيْفَ الْوُصُولْ

لَا وَلَا تَدْرِي صِفَاتٍ رُكِّبَتْ

فِيك حَارَتْ فِي خَفَايَاهَا الْعُقُولْ

أَيْنَ مِنْك الرُّوحُ فِي جَوْهَرِهَا

هَلْ تَرَاهَا فَتَرَى كَيْفَ تَجُولْ

هَذِهِ الْأَنْفَاسُ هَلْ تَحْصُرُهَا

لَا وَلَا تَدْرِي مَتَى عَنْك تَزُولْ

أَيْنَ مِنْك الْعَقْلُ وَالْفَهْمُ إذَا

غَلَبَ النَّوْمُ فَقُلْ لِي يَا جَهُولْ

أَنْتَ أَكْلُ الْخُبْزِ لَا تَعْرِفُهُ

كَيْفَ يَجْرِي مِنْك أَمْ كَيْفَ تَبُولْ

فَإِذَا كَانَتْ طَوَايَاك الَّتِي

بَيْنَ جَنْبَيْك كَذَا فِيهَا ضَلُولْ

(قَوْلُهُ: قِيلَ هُوَ جَوْهَرٌ إلَخْ) نُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِقُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ قَالُوا هُوَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ جِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ وَلَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ؛ لِأَنَّ فَرْضَ عَدَمِهِ يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْعَدَمَ لَكَانَ عَدَمُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ بَعْدِيَّةٌ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا مَعَ الزَّمَانِ إذْ مَعْنَى كَوْنِ عَدَمِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ هُوَ أَنَّ عَدَمَهُ وَقَعَ فِي زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانِ وُجُودِهِ وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ يَلْزَمُ وُجُودُ الزَّمَانِ حَالَ عَدَمِهِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُحَالَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ عَدَمِهِ مُقَيَّدًا بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا مِنْ فَرْضِ عَدَمِهِ مُطْلَقًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْعَدَمَ لِذَاتِهِ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ: فَلَكُ مَعْدِلِ النَّهَارِ) فِي شَرْحِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَلَى طَوَالِعِ الْبَيْضَاوِيِّ وَقِيلَ: الزَّمَانُ هُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ الْفَلَكُ التَّاسِعُ؛ لِأَنَّ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ كَمَا أَنَّ الزَّمَانَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الزَّمَانِ فَالزَّمَانُ هُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ وَخَلَلُ هَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ غَيْرُ مُكَرَّرٍ إذْ إحَاطَةُ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ بِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ حَاوِيًا لِجَمِيعِهَا وَلَا كَذَلِكَ الزَّمَانُ فَإِنَّ مَعْنَى إحَاطَتِهِ بِهَا مُقَارَنَتُهُ إيَّاهَا وَلَوْ سَلِمَ فَإِنَّهُ لَا يُنْتِجُ

ص: 507

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[حاشية العطار]

أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ مِنْ الشَّكْلِ الثَّانِي مُرَكَّبٌ مِنْ مُوجَبَتَيْنِ وَهُوَ عَقِيمٌ اهـ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّوَائِرَ الْعِظَامَ الْمَشْهُورَةَ عِنْدَ أَهْلِ الْهَيْئَةِ الْمَبْحُوثَ عَنْ أَحْوَالِهَا فِي كُتُبِهِمْ عَشْرَةٌ أَعْظَمُهَا دَائِرَةُ مَعْدِلِ النَّهَارِ وَتُسَمَّى فَلَكَ مَعْدِلِ النَّهَارِ تَجَوُّزًا بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ فَإِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ الْفَلَكِ عَلَى مِنْطَقَتِهِ الَّتِي وُجِدَتْ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْحَرَكَةِ لَا عَلَى كُلِّ دَائِرَةٍ حَالَّةٍ فِيهِ إذْ لَا يُقَالُ فَلَكُ الْأُفُقِ أَوْ الِارْتِفَاعِ؛ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي مَفْهُومِ الْفَلَكِ كَذَا حَقَّقَ شَارِحُ الْفَتْحِيَّةِ سُمِّيَتْ بِدَائِرَةِ مَعْدِلِ النَّهَارِ لِتَعَادُلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَبَدًا عِنْدَ مَنْ يَسْكُنُ تَحْتَهَا وَهُمْ سُكَّانُ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَأَيْضًا قَدْ يَتَسَاوَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فِي جَمِيعِ الْبِقَاعِ سِوَى عَرْضِ تِسْعِينَ إذَا وَصَلَتْ الشَّمْسُ إلَيْهَا وَيُسَمَّى قُطْبَاهَا قُطْبَيْ الْعَالَمِ أَحَدُهُمَا شَمَالِيٌّ وَالْآخَرُ جَنُوبِيٌّ.

وَمِنْ تِلْكَ الدَّوَائِرِ الْعِظَامِ مِنْطَقَةُ الْبُرُوجِ وَتُسَمَّى فَلَكَ الْبُرُوجِ أَيْضًا مَجَازًا عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ وَيُسَمَّى قُطْبَاهَا قُطْبَيْ الْبُرُوجِ أَحَدُهُمَا شَمَالِيٌّ وَالْآخَرُ جَنُوبِيٌّ وَتَقَاطُعُ دَائِرَةِ مَعْدِلِ النَّهَارِ عَلَى نُقْطَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ يُسَمَّيَانِ نُقْطَتَيْ الِاعْتِدَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ إذَا وَصَلَتْ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا اعْتَدَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فِي مُعْظَمِ الْمَعْمُورِ ثُمَّ الْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْهَنْدَسَةِ أَنَّ الدَّائِرَةَ الْعَظِيمَةَ هِيَ الَّتِي تُنَصِّفُ الْكُرَةَ فَهَاتَانِ الدَّائِرَتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُنَصِّفٌ لِلْفَلَكِ فَالْأُولَى لِلْفَلَكِ التَّاسِعِ الْمُسَمَّى بِالْأَطْلَسِ وَبِالْمُحَدَّدِ أَيْضًا وَالثَّانِيَةُ لِلْفَلَكِ الثَّامِنِ الْمُسَمَّى بِفَلَكِ الثَّوَابِتِ وَلِذَلِكَ تُسَمَّى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْطَقَةً لِوُقُوعِهَا فِي وَسَطِ الْفَلَكِ وَهَذِهِ الدَّوَائِرُ أُمُورٌ وَهْمِيَّةٌ تُتَخَيَّلُ مِنْ دَوَرَانِ الْفَلَكِ وَلَا وُجُودَ لَهَا خَارِجًا وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ دَائِرَةِ مَعْدِلِ النَّهَارِ أَعْظَمَ لِكَوْنِ فَلَكِهَا أَعْظَمَ الْأَفْلَاكِ وَإِلَّا فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنَصِّفَةٌ لِفَلَكِهَا إذَا عَلِمْت هَذَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَلَكُ مَعْدِلِ النَّهَارِ مُرَادُهُ بِهِ الْفَلَكُ التَّاسِعُ وَأَضَافَهُ لِمَعْدِلِ النَّهَارِ الَّذِي هُوَ مِنْطَقَتُهُ لِلتَّعْيِينِ إذْ لَفْظُ الْفَلَكِ شَامِلٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَلَوْ عَبَّرَ كَمَا عَبَّرَ غَيْرُهُ بِالْفَلَكِ التَّاسِعِ لَكَانَ أَظْهَرَ.

وَقَوْلُ الشَّارِحِ وَهُوَ جِسْمٌ إلَخْ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ هُوَ جِسْمٌ كُرِّيٌّ يُحِيطُ بِهِ سَطْحٌ وَاحِدٌ مُسْتَدِيرٌ فِي دَاخِلِهِ نُقْطَةٌ تَكُونُ الْخُطُوطُ الْخَارِجَةُ مِنْهَا إلَيْهِ مُتَسَاوِيَةً وَتِلْكَ النُّقْطَةُ تُسَمَّى مَرْكَزًا لَهُ وَإِلَّا فَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْجِسْمِ لَا يُفِيدُ إذْ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ الْفَلَكَ جِسْمٌ وَقَوْلُهُ سُمِّيَتْ دَائِرَتُهُ أَيْ مِنْطَقَةُ الْبُرُوجِ مِنْهُ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ مِنْطَقَةً هِيَ دَائِرَةُ مَعْدِلِ النَّهَارِ وَمِنْطَقَةُ الْبُرُوجِ هِيَ الدَّائِرَةُ الْمَفْرُوضَةُ فِي مُنْتَصَفِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ فَقَدْ فَسَّرَ الشَّيْءَ بِمُبَايِنِهِ وَقَوْلُهُ لِتَعَادُلِ إلَخْ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ التَّفْصِيلِ هَذَا مَا وَقَعَ لِلشَّارِحِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَحَلِّ وَاَلَّذِي وَقَعَ لِلشَّيْخِ النَّجَّارِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ هُنَا مِمَّا يَقْضِي مِنْهُ عَجَبًا مَنْ وُفِّقَ لِلنَّظَرِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْحِكْمَةِ.

وَأَعْرَضْت عَنْ بَيَانِ خَلَلِ كَلَامِهِ كَمَا أَنِّي أَعْرَضْت عَنْ إيفَاءِ الْمَقَامِ حَقَّهُ مِنْ الْبَسْطِ وَالْإِيضَاحِ لِمَا أَنَّ مَبْحَثَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ذُكِرَا هُنَا اسْتِطْرَادًا وَهُمَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَبْحُوثِ عَنْهُمَا فِيهِ مُبَيَّنَانِ أَتَمَّ الْبَيَانِ فَلْيُرَاجَعَا ثَمَّةَ وَأَيْضًا الْوَاقِفُ عَلَى هَذَا الْمَحَلِّ مِنْ هَذِهِ الْحَاشِيَةِ أَحَدُ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ عَارِفٌ بِفَنَّيْ الْهَيْئَةِ وَالْحِكْمَةِ فَهَذَا غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ لِانْكِشَافِ الْحَالِ لَهُ انْكِشَافًا يَكَادُ يُفْضِي إلَى الْعِيَانِ وَرَجُلٌ لَا مَسِيسَ لَهُ بِهِمَا فَإِيصَالُ الْمَعْنَى إلَى ذِهْنِهِ يُفْضِي لِذِكْرِ مُقَدِّمَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْفَنَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بَلْ إلَى مُقَدِّمَاتٍ هَنْدَسِيَّةٍ لِابْتِنَاءِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ عَلَيْهَا وَالْوَقْتُ لَا يَسَعُ ذَلِكَ مَعَ فُتُورِ هِمَّةِ الطَّالِبِينَ وَقِلَّةِ الرَّاغِبِينَ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

لَنَقْلُ حِجَارَةٍ فِي يَوْمِ حَرٍّ

وَنَقْشٌ بِالْأَظَافِرِ فِي الْحَدِيدِ

أَخَفُّ عَلَيَّ مِنْ إيصَالِ مَعْنًى

دَقِيقٍ عِنْدَ ذِي ذِهْنٍ بَلِيدِ

ص: 508

فَقِيلَ حَرَكَةُ مَعْدِلِ النَّهَارِ وَقِيلَ: مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ) الْمَذْكُورَةِ وَمِنْهُمْ مِنْ عَبَّرَ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ وَمِقْدَارِهَا (وَالْمُخْتَارُ) أَنَّهُ (مُقَارَنَةُ مُتَجَدِّدٍ مَوْهُومٍ لِمُتَجَدِّدٍ مَعْلُومٍ إزَالَةً لِلْإِيهَامِ) مِنْ الْأَوَّلِ بِمُقَارَنَتِهِ لِلثَّانِي كَمَا فِي آتِيك عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَهَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأَقْوَالُ قَبْلَهُ لِلْحُكَمَاءِ

(وَيَمْتَنِعُ تَدَاخُلُ الْأَجْسَامِ) أَيْ دُخُولُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ النُّفُوذِ فِيهِ وَالْمُلَاقَاةِ لَهُ بِأَسْرِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الْحَجْمِ وَامْتِنَاعُ ذَلِكَ

ــ

[حاشية العطار]

وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ الْحَوَاشِي مِنْ أَوَّلِ الْمَبَاحِثِ الْكَلَامِيَّةِ إلَى آخِرِ الْكِتَابِ سِوَى حَاشِيَةِ الشَّيْخِ النَّجَّارِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ فَلَسْت أَدْرِي مَاذَا صَنَعَ بَقِيَّةُ الْحَوَاشِي هُنَا وَأَمَّا حَاشِيَةُ الشَّيْخِ الْبُنَانِيِّ فَإِنِّي نَظَرْت بَعْضَ مَوَاضِعَ مِنْهَا أَوَّلُ تَحْشِيَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ أَعْرَضْت عَنْهَا لِعَدَمِ خُرُوجِهَا عَنْ الْحَوَاشِي السَّابِقَةِ عَلَيْهَا فَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَلْ رُبَّمَا أَحَبَّ تَلْخِيصَ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ قَاسِمٍ فَأَخَلَّ بِهِ إخْلَالًا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَيُشَوِّشُ الْمَبْنَى فَتَرَكْت النَّظَرَ فِيهَا رَأْسًا رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ وَرَحِمَنَا إذَا صِرْنَا إلَيْهِمْ رَحْمَةً وَاسِعَةً وَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ نَظَرَ فِي هَذِهِ الْحَاشِيَةِ فَدَعَا لِي بِخَيْرٍ:

فَإِنِّيَ عَبْدٌ ذُو ذُنُوبٍ خَفِيَّةٍ

إذَا لَمْ يُسَامِحْنِي الْإِلَهُ بِفَضْلِهِ

(قَوْلُهُ: فَقِيلَ حَرَكَةُ مَعْدِلِ النَّهَارِ) أَيْ فَلَكُ مَعْدِلِ النَّهَارِ وَعِبَارَةُ الْأَصْبَهَانِيِّ فِي شَرْحِ الطَّوَالِعِ وَقِيلَ: الزَّمَانُ هُوَ حَرَكَةُ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ غَيْرُ قَارِّ الذَّاتِ وَالْحَرَكَةُ كَذَلِكَ فَالزَّمَانُ هُوَ حَرَكَتُهُ وَمُنِعَ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ أَنَّهُ قِيَاسٌ مِنْ الشَّكْلِ الثَّانِي مِنْ مُوجَبَتَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْتِجٍ بِأَنَّ الْحَرَكَةَ تُوصَفُ بِالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ إذْ يُقَالُ الْحَرَكَةُ إمَّا سَرِيعَةٌ وَإِمَّا بَطِيئَةٌ وَالزَّمَانُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إذْ لَا يُقَالُ الزَّمَانُ إمَّا سَرِيعٌ وَإِمَّا بَطِيءٌ فَالْحَرَكَةُ غَيْرُ الزَّمَانِ.

(قَوْلُهُ: وَقِيلَ: مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ) أَيْ حَرَكَةُ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ قَوْلُ أَرِسْطُو وَمُتَابِعِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ يَقْبَلُ الْمُسَاوَاةَ وَالْمُفَارَقَةَ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ قَابِلًا لَهُمَا فَهُوَ كَمٌّ فَالزَّمَانُ كَمٌّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَمًّا مُنْفَصِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمًّا مُنْفَصِلًا لَانْقَسَمَ إلَى مَا لَا يَنْقَسِمُ؛ لِأَنَّ الْكَمَّ الْمُنْفَصِلَ لَا بُدَّ مِنْ انْتِهَائِهِ إلَى الْوَحَدَاتِ وَهِيَ غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ لَكِنَّ الزَّمَانَ مُنْقَسِمٌ أَبَدًا بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ فَالزَّمَانُ كَمٌّ مُتَّصِلٌ غَيْرُ قَارِّ الذَّاتِ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الزَّمَانِ لَا تَجْتَمِعُ فِي الْوُجُودِ فَتَكُونُ أَجْزَاؤُهُ مَوْجُودَةً عَلَى سَبِيلِ التَّصَرُّمِ وَالتَّجَدُّدِ (قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ إلَخْ) هَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا (قَوْلُهُ: مُقَارَنَةُ مُتَجَدِّدٍ إلَخْ) فِيهِ أَنَّ الِاقْتِرَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعِيَّةِ فَذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي فِيهِ الْمَعِيَّةُ هُوَ الْوَقْتُ يَجْمَعُهُمَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَالًّا عَلَيْهِ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُدَلَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِمَا مِنْ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ فَلَيْسَتْ الْمَعِيَّةُ نَفْسَ مَا يَقَعُ فِيهِ الْحَوَادِثُ بَلْ هِيَ مُعَارِضَةٌ لِذَاتِهِ مَقِيسَةٌ إلَى مَا يَقَعُ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْقَبْلِيَّةُ وَالْبَعْدِيَّةُ فَأَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ جَعَلُوا أَعْلَامَ الْأَوْقَاتِ أَوْقَاتًا أَفَادَهُ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ.

وَقَدْ يُفَسَّرُ الزَّمَانُ بِأَنَّهُ مُتَجَدِّدٌ مَعْلُومٌ يُقَارِنُهُ مُتَجَدِّدٌ مَوْهُومٌ إزَالَةً لِلْإِيهَامِ وَقَدْ يَتَعَاكَسُ التَّقْدِيرُ بَيْنَ الْمُتَجَدِّدَاتِ بِحَسَبِ مَا هُوَ مُتَصَوَّرٌ وَمَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِ فَإِذَا قِيلَ مَثَلًا مَتَى جَاءَ زَيْدٌ يُقَالُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إنْ كَانَ السَّائِلُ مُسْتَحْضِرًا لِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَحْضِرًا لِمَجِيءِ زَيْدٍ بِدَلِيلِ سُؤَالِهِ ثُمَّ إذَا قَالَ غَيْرُهُ مَتَى طَلَعَتْ الشَّمْسُ يُقَالُ حِينَ جَاءَ زَيْدٌ لِمَنْ كَانَ مُسْتَحْضِرًا لِمَجِيءِ زَيْدٍ دُونَ طُلُوعِهَا وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَقْوَامِ فَيُقَدِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْمُبْهَمَ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ فَيَقُولُ الْقَارِئُ مَكَثْت عِنْدَ زَيْدٍ مَثَلًا مِقْدَارَ مَا قَرَأْت سُورَةَ الْفَاتِحَةِ وَالْكَاتِبُ يَقُولُ مِقْدَارَ مَا كَتَبْت عَشْرَةَ أَسْطُرٍ وَهَكَذَا فَهُوَ مُجَرَّدُ اعْتِبَارٍ وَوَصْفُهُ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ إنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّخَيُّلِ أَوْ عَلَى فَرْضِ وُجُودِهِ وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ «يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ» أَيْ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُقَالُ لَهُ الدَّهْرُ وَإِنَّمَا أَنَا خَالِقُ الْأَشْيَاءِ وَعَلَى هَذَا فَوَصْفُهُ بِالْحُدُوثِ تَسَمُّحٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَادِثِ الْمَوْجُودُ بَعْدَ عَدَمٍ فَهُوَ بِمَعْنَى التَّجَدُّدِ.

(قَوْلُهُ: عَلَى وَجْهِ النُّفُوذِ فِيهِ بِأَنْ تَصِيرَ شَيْئًا وَاحِدًا مُتَّحِدَةً فِي الْحَيِّزِ وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهَا تَتَّحِدُ مَكَانًا وَمِقْدَارًا وَوَضْعًا فَلَا اتِّجَاهَ لِقَوْلِ الشَّيْخِ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ إرْسَالِ الْمَلَكِ إلَى الرَّحِمِ لِيَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الْجَوْهَرَ لَا يَدْخُلُ فِي الْجَوْهَرِ؛ لِأَنَّ الْمَلَكَ جَوْهَرٌ وَيَدْخُلُ فِي الرَّحِمِ لِتَصْوِيرِ النُّطْفَةِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهَا وَالرَّحِمُ جَوْهَرٌ وَلَا يَشْعُرُ صَاحِبُهُ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا دُخُولُ مَظْرُوفٍ فِي

ص: 509

لِمَا فِيهِ مِنْ مُسَاوَاةِ الْكُلِّ لِلْجُزْءِ فِي الْعِظَمِ.

(وَ) يَمْتَنِعُ (خُلُوُّ الْجَوْهَرِ) مُفْرَدًا كَانَ أَوْ مُرَكَّبًا (عَنْ جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ) بِأَنْ لَا يَقُومَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهَا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ شَيْءٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ التَّشَخُّصِ وَالتَّشَخُّصُ إنَّمَا هُوَ بِالْأَعْرَاضِ (وَالْجَوْهَرُ) الْمُرَكَّبُ وَهُوَ الْجِسْمُ (غَيْرُ مُرَكَّبٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ) لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِهَا

ــ

[حاشية العطار]

ظَرْفٍ وَلَيْسَ مِنْ تَدَاخُلِ الْأَجْسَامِ فِي شَيْءٍ وَعِبَارَةُ الْمَوَاقِفِ يَمْتَنِعُ تَدَاخُلُ الْجَوَاهِرِ وَهِيَ أَعَمُّ لِتَنَاوُلِهَا الْجَوْهَرَ وَالْفَرْدَ (قَوْلُهُ: لِمَا فِيهِ مِنْ مُسَاوَاةِ الْكُلِّ إلَخْ) وَجْهُهُ أَنَّ مَجْمُوعَ الْجِسْمَيْنِ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ كُلٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءٌ وَقَدْ صَارَا شَيْئًا وَاحِدًا فَلَزِمَ مَا ذُكِرَ وَلَا يَخْفَى مَا فِي التَّعْلِيلِ مِنْ الْخَفَاءِ وَالْأَوْلَى الِاسْتِدْلَال عَلَى بُطْلَانِهِ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّدَاخُلُ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجِسْمُ الْمُعَيَّنُ أَجْسَامًا كَثِيرَةً مُتَدَاخِلَةً وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الذِّرَاعُ الْوَاحِدُ مِنْ الْكِرْبَاسِ أَلْفَ ذِرَاعٍ مَثَلًا بَلْ جَازَ تَدَاخُلُ الْعَالَمِ كُلِّهِ فِي حَيِّزِ خَرْدَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهَا عَوَالِمُ مُتَعَدِّدَةٌ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى هَيْئَتِهَا وَالْبَدِيهَةُ تُكَذِّبُهُ وَقَدْ عَلَّلَ الْمُعْتَزِلَةُ الِامْتِنَاعَ بِأَنَّ الْحَيِّزَ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْجَوْهَرَيْنِ فِيهِ كَوْنٌ مُضَادٌّ لِكَوْنِهِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْآخَرِ فِيهِ.

قِيلَ إنَّ النَّظَّامَ جَوَّزَهُ وَاعْتَذَرَ عَنْهُ السَّيِّدُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ لِمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْجِسْمَ الْمُتَنَاهِيَ الْمِقْدَارِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةِ الْعَدَدِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ التَّدَاخُلِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَأَمَّا أَنَّهُ الْتَزَمَهُ وَقَالَ بِهِ صَرِيحًا فَلَمْ يُعْلَمْ فَإِنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُ كَانَ مُكَابَرَةً لِمُقْتَضَى عَقْلِهِ

(قَوْلُهُ: مُفْرَدًا كَانَ) مُرَادُهُ بِهِ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَقَوْلُهُ أَوْ مُرَكَّبًا أَيْ مِنْ جَوْهَرَيْنِ فَرْدَيْنِ فَأَكْثَرَ وَهُوَ الْجِسْمُ لَا مِنْ الْهُيُولِيِّ وَالصُّورَةِ كَمَا تَقُولُ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْجِسْمَ مُؤَلَّفٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هَاهُنَا بِاصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ فَالْأَشَاعِرَةُ قَالُوا كُلُّ عَرَضٍ مَعَ ضِدِّهِ يَجِبُ أَنْ يُوجَدَ أَحَدُهُمَا فِي الْجِسْمِ لِامْتِنَاعِ خُلُوِّهِ عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهُمَا عَرَضَانِ وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى إذْ رُبَّ عَرَضٍ غَيْرِهِمَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ الْجِسْمُ فَإِنَّ الْهَوَاءَ خَالٍ عَنْ اللَّوْنِ وَالطُّعُومِ وَأَضْدَادِهَا فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْهُ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَخْ وَالصَّالِحِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ جَوَّزُوا الْخُلُوَّ، وَالْبَصْرِيَّةُ مِنْهُمْ يُجَوِّزُونَهُ فِي غَيْرِ الْأَلْوَانِ (قَوْلُهُ: غَيْرُ مُرَكَّبٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ) أَيْ خِلَافًا لِلنَّجَّادِ وَالنَّظَّامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَنَّ الْجِسْمَ مُؤَلَّفٌ مِنْ مَحْضِ الْأَعْرَاضِ مِنْ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ وَاَلَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الْمَذَاهِبِ فِي حَقِيقَةِ الْجِسْمِ ثَلَاثَةٌ:

الْأَوَّلُ: لِلْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ الْمُتَنَاهِيَةِ الْعَدَدِ الثَّانِي لِلْمَشَّائِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْهُيُولِيِّ وَالصُّورَةِ الثَّالِثُ لِلْإِشْرَاقِيَّيْنِ مِنْهُمْ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بَسِيطٌ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَسَنِ لَيْسَ فِيهِ تَعَدُّدُ أَجْزَاءٍ أَصْلًا وَإِنَّمَا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ بِذَاتِهِ وَلَا يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ لَا يَبْقَى لَهُ قَبُولُ انْقِسَامٍ قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ وَشَرْحِهِ وَلَا مَحِيصَ لِمَنْ اعْتَرَفَ بِتَجَانُسِ الْجَوَاهِرِ الْأَفْرَادِ وَتَمَاثُلِهَا فِي الْحَقِيقَةِ كَالْأَشَاعِرَةِ قَاطِبَةً وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ عَنْ جَعْلِ الْأَعْرَاضِ دَاخِلَةً فِي حَقِيقَةِ الْجِسْمِ فَيَكُونُ الْجِسْمُ حِينَئِذٍ جَوْهَرًا مَعَ جُمْلَةٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ مُنْضَمَّةً إلَى ذَلِكَ الْجَوْهَرِ إذْ لَوْ كَانَتْ مُؤَلَّفَةً مِنْ الْجَوَاهِرِ مُتَجَانِسَةً وَحْدَهَا لَكَانَتْ الْأَجْسَامُ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةً فِي الْحَقِيقَةِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ.

وَأَمَّا النَّظَّامُ وَالنَّجَّارُ فَقَالَا إنَّ الْجَوَاهِرَ إذَا تَرَكَّبَتْ مِنْ أَعْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ فَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ وَإِذَا تَرَكَّبَتْ مِنْ أَعْرَاضٍ مُتَجَانِسَةٍ فَمُجَانِسَةٌ قَالَا وَلِذَلِكَ اتَّصَفَتْ الْأَجْسَامُ الْمُؤَلَّفَةُ تَارَةً بِالتَّخَالُفِ وَأُخْرَى بِالتَّمَاثُلِ اهـ.

أَقُولُ النَّظَّامُ بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ اسْمُهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَيَّارٍ بِتَقْدِيمِ السِّينِ عَلَى الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ تِلْمِيذُ الْجَاحِظِ وَكِلَاهُمَا مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ الْمَقَالَاتِ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ افْتَرَقُوا عِشْرِينَ فِرْقَةً وَقَدْ كَانَ النَّظَّامُ فِي غَايَةِ الذَّكَاءِ كَمَا أَنَّ شَيْخَهُ الْجَاحِظَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَيْهِ وَفِي غَايَةٍ مِنْ قُبْحِ الْوَجْهِ أَيْضًا حَتَّى قِيلَ فِيهِ:

لَوْ يُمْسَخُ الْخِنْزِيرُ مَسْخًا ثَانِيًا

مَا كَانَ إلَّا دُونَ مَسْخِ الْجَاحِظِ

رَجُلٌ يَنُوبُ عَنْ الْجَحِيمِ بِوَجْهِهِ

وَهُوَ الْقَذَى فِي عَيْنِ كُلِّ مُلَاحِظِ

ص: 510

(وَالْأَبْعَادُ) لِلْجَوْهَرِ مِنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ (مُتَنَاهِيَةٌ) أَيْ لَهَا حُدُودٌ تَنْتَهِي إلَيْهَا

(وَالْمَعْلُولُ قَالَ الْأَكْثَرُ يُقَارِنُ عِلَّتَهُ زَمَانًا) عَقْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ وَضْعِيَّةً (وَالْمُخْتَارُ وِفَاقًا لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ) وَالِدِ الْمُصَنِّفِ (يَعْقُبُهَا مُطْلَقًا وَثَالِثُهَا) يَعْقُبُهَا (إنْ كَانَتْ وَضْعِيَّةً لَا عَقْلِيَّةً) فَيُقَارِنُهَا (أَمَّا التَّرْتِيبُ) أَيْ تَرْتِيبُ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ (رُتْبَةً فَوِفَاقٌ وَاللَّذَّةُ) الدُّنْيَوِيَّةُ وَهِيَ بَدِيهِيَّةٌ (حَصَرَهَا الْإِمَامُ) الرَّازِيّ (وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ) وَالِدُ الْمُصَنِّفِ (فِي الْمَعَارِفِ) أَيْ مَا يُعْرَفُ أَيْ يُدْرَكُ، قَالَا: وَمَا يُتَوَهَّمُ

ــ

[حاشية العطار]

وَلِلْجَاحِظِ تَأْلِيفَاتٌ أَوْدَعَ فِيهَا مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ وَالْفُنُونِ الْمُتَنَوِّعَةِ مَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَمَنْ نَظَرَ فِي تَصَانِيفِهِ عَلِمَ صِدْقَ هَذَا الْمُدَّعَى لَا سِيَّمَا كِتَابَ الْحَيَوَانِ وَكِتَابَ الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ وَقَدْ رَأَيْتهمَا وَلَا يَكَادَانِ يُوجَدَانِ بِدِيَارِنَا وَإِنَّمَا رَأَيْتهمَا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَلَهُ تَآلِيفُ أُخَرُ لَيْسَتْ عَلَى أُسْلُوبِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمُؤَلَّفَاتِ وَأَمَّا النَّظَّامُ فَلَمْ نَرَ لَهُ تَأْلِيفًا وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ مَذْهَبٌ اعْتِزَالِيٌّ وَطَائِفَةٌ تَتْبَعُهُ وَقَدْ نَقَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْهُمَا فِي تَآلِيفِهِمْ بَعْضَ مَقَالَاتِهِمْ وَهَذَا النَّظَّامُ مَعَ شِدَّةِ ذَكَائِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلُومِ الْحُكْمِيَّةِ صَدَرَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْمَقَالَاتُ الَّتِي لَا تَكَادُ تَصْدُرُ عَنْ عَاقِلٍ مِنْهَا مَا نَقَلْنَاهُ هُنَا وَمِنْهَا الطَّفْرَةُ الَّتِي اُشْتُهِرَتْ إضَافَتُهَا إلَيْهِ فَقِيلَ طَفْرَةُ النَّظَّامِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ بِعَدَمِ بَقَاءِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّهَا مُتَجَدِّدَةٌ آنًا فَآنًا كَالْأَعْرَاضِ وَكَمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَقَاوِيلَ كُلِّهَا هَذَيَانٌ وَتَضْلِيلٌ فَسُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنْ شَوَائِبِ النَّقْصِ (قَوْلُهُ: وَالْأَبْعَادُ لِلْجَوْهَرِ) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ لِلْجِسْمِ؛ لِأَنَّ الْجَوَاهِرَ شَامِلَةٌ لِلْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَلَا بُعْدَ فِيهِ وَإِلَّا انْقَسَمَ وَهُوَ خِلَافُ الْمَفْرُوضِ ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحُكْمَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ إلَّا الْهُنُودَ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَقَدْ بَرْهَنَ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بَرَاهِينُ أَلْطَفُهَا الْبُرْهَانُ السُّلَّمِيُّ وَهُوَ أَنْ نَفْرِضَ مِنْ نُقْطَةٍ مَا خَطَّيْنِ يَنْفَرِجَانِ كَسَاقَيْ مُثَلَّثٍ بِحَيْثُ يَكُونُ الْبُعْدُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ ذَهَابِهِمَا ذِرَاعًا ذِرَاعًا وَبَعْدَ ذَهَابِهِمَا ذِرَاعَيْنِ ذِرَاعَيْنِ وَعَلَى هَذَا يَتَزَايَدُ الْبُعْدُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ ازْدِيَادِهِمَا يَكُونُ الِانْفِرَاجُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ امْتِدَادِهِمَا فَإِذَا ذَهَبَا إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ كَانَ الْبُعْدُ بَيْنَهُمَا غَيْرَ مُتَنَاهٍ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ وَإِلَّا لَزِمَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْصُورٌ بَيْنَ حَاصِرَيْنِ وَالْمَحْصُورُ بَيْنَ حَاصِرَيْنِ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نِهَايَةٌ ضَرُورَةً وَفِي الْبُرْهَانِ التُّرْسِيِّ تَطْوِيلٌ وَابْتِنَاءٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ هَنْدَسِيَّةٍ تَرَكْنَاهُ لِذَلِكَ وَلَهُمْ بَرَاهِينُ أُخَرُ.

(قَوْلُهُ: وَالْمَعْلُولُ إلَخْ) الْعِلَّةُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ أَمْرٌ مَا بِالِاسْتِقْلَالِ إنْ كَانَتْ تَامَّةً أَوْ بِانْضِمَامِ غَيْرِهِ إلَيْهِ إنْ كَانَتْ نَاقِصَةً وَالْمَعْلُولُ الْأَمْرُ الَّذِي صَدَرَ فَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ جَمِيعُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَالْعِلَّةُ النَّاقِصَةُ بَعْضُهُ فَيَدْخُلُ فِي الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الشَّرَائِطُ وَزَوَالُ الْمَانِعِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ دُخُولِ عَدَمِ الْمَانِعِ فِي الْعِلَّةِ التَّامَّةِ أَنَّ الْعَدَمَ يَفْعَلُ شَيْئًا بَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ إذَا لَاحَظَ وُجُوبَ الْمَعْلُولِ لَمْ يَجِدْهُ حَاصِلًا دُونَ عَدَمِ الْمَانِعِ قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ التَّجْرِيدِ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْعِلَلِ التَّامَّةِ إذْ لَا خَفَاءَ فِي تَأَخُّرِ الْمَعْلُولِ عَنْ عِلَّتِهِ النَّاقِصَةِ لِفُقْدَانِ شَرْطِهِ مَثَلًا أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ (قَوْلُهُ: عَقْلِيَّةً) كَانَتْ كَحَرَكَةِ الْأُصْبُعِ لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ أَوْ وَضْعِيَّةً كَالْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي بَابِ الْقِيَاسِ (قَوْلُهُ: الدُّنْيَوِيَّةُ) احْتِرَازٌ عَنْ الْأُخْرَوِيَّةِ فَإِنَّهَا لَذَّاتٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا تَفْتَقِرُ إلَى أَلَمٍ يَتَقَدَّمُهَا أَوْ يُقَارِنُهَا فَيَجِدُ أَهْلُهَا لَذَّةَ الشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ وَلَذَّةَ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ.

(قَوْلُهُ: حَصَرَهَا الْإِمَامُ إلَخْ) قَالَ الْحَكِيمُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَرْخَانَ بْنِ أُوزَلْغَ التُّرْكِيُّ الْفَارَابِيُّ نِسْبَةً إلَى فَارَابَ مَدِينَةٌ فَوْقَ الشَّاسِ قَرِيبَةٌ مِنْ مَدِينَةِ بَلَاسَاغُونَ جَمِيعُ أَهْلِهَا شَافِعِيَّةٌ وَهِيَ قَاعِدَةُ بِلَاد التُّرْكِ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ بِدِمَشْقِ الشَّامِ وَقَدْ نَاهَزَ ثَمَانِينَ سَنَةً وَمِنْ مَدِينَةِ فَارَابَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ الْعَلَّامَةُ الْجَوْهَرِيُّ - فِي كِتَابِ الْفُصُوصِ أَنَّ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ الْمُطَمْئِنَةَ كَمَا لَهَا عِرْفَانُ الْحَقِّ الْأَوَّلِ بِإِدْرَاكِهَا فَعِرْفَانُهَا الْحَقَّ الْأَوَّلَ عَلَى مَا يَتَجَلَّى لَهَا هُوَ اللَّذَّةُ الْقُصْوَى وَبَيَّنَهُ شَارِحُ الْفُصُوصِ بِأَنَّ اللَّذَّةَ إدْرَاكُ مَا هُوَ كَمَالٌ وَخَيْرٌ عِنْدَ الْمُدْرِكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ الْإِدْرَاكِ فِي حَدِّ نَفْسِهِ بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ وَبِالْقِيَاسِ إلَى مُتَعَلَّقِهِ فَتَتَفَاوَتُ اللَّذَّةُ أَيْضًا وَذَلِكَ إمَّا بِتَفَاوُتِ الْإِدْرَاكِ أَوْ الْمُدْرِكِ أَوْ الْمُدْرَكِ أَمَّا بِتَفَاوُتِ الْإِدْرَاكِ؛ فَلِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ أَتَمَّ كَانَتْ اللَّذَّةُ

ص: 511

أَيْ يَقَعُ فِي الْوَهْمِ أَيْ الذِّهْنِ مِنْ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ كَقَضَاءِ شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ أَوْ خَيَالِيَّةٍ كَحُبِّ الِاسْتِعْلَاءِ وَالرِّيَاسَةِ فَهُوَ دَفْعُ الْأَلَمِ فَلَذَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ دَفْعُ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَدَغْدَغَةِ الْمَنِيِّ لِأَوْعِيَتِهِ وَلَذَّةُ الِاسْتِعْلَاءِ وَالرِّيَاسَةِ دَفْعُ أَلَمِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.

(وَقَالَ ابْنُ زَكَرِيَّا) الطَّبِيبُ (هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ الْأَلَمِ) بِدَفْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَرُدَّ بِأَنَّهُ قَدْ يُلْتَذُّ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ أَلَمٍ بِضِدِّهِ كَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَسْأَلَةِ عِلْمٍ أَوْ كَنْزِ مَالٍ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ خُطُورِهِمَا بِالْبَالِ وَأَلَمِ التَّشَوُّقِ إلَيْهِمَا (وَقِيلَ:) هِيَ (إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ) مِنْ حَيْثُ الْمُلَاءَمَةُ

ــ

[حاشية العطار]

أَكْثَرَ كَمَا أَنَّ الْعَاشِقَ إذَا رَأَى مَعْشُوقَهُ مِنْ مَسَافَةٍ أَقْرَبَ تَكُونُ لَذَّتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا رَآهُ مِنْ مَسَافَةٍ أَبْعَدَ وَأَمَّا بِتَفَاوُتِ الْمُدْرِكِ فَإِنَّ لَذَّةَ السَّمْعِ الصَّحِيحِ مِنْ الصَّوْتِ الْحَسَنِ أَشَدُّ مِنْ لَذَّةِ السَّمْعِ الْمَرِيضِ مِنْهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ هَذَا إلَى تَفَاوُتِ الْإِدْرَاكِ، وَأَمَّا بِتَفَاوُتِ الْمُدْرَكِ؛ فَلِأَنَّ الْمَعْشُوقَ الْمَنْظُورَ كُلَّمَا كَانَ أَحْسَنَ تَكُونُ اللَّذَّةُ فِي رُؤْيَتِهِ أَكْثَرَ وَلَا شَكَّ أَنَّ إدْرَاكَ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ أَقْوَى مِنْ الْإِدْرَاكَاتِ الْحِسِّيَّةِ.

لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ الْعَقْلِيَّ وَاصِلٌ إلَى كُنْهِ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ أَصْعُبُ الْمُدْرَكَاتِ حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ وَأَجْزَائِهَا ثُمَّ يُمَيِّزَ بَيْنَ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَجِنْسِ الْجِنْسِ وَفَصْلِ الْجِنْسِ وَيُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَارِجِ اللَّازِمِ وَالْمُفَارِقِ وَبَيْنَ اللَّازِمِ بِوَسَطٍ وَبِغَيْرِ وَسَطٍ وَالْإِدْرَاكُ الْحِسِّيُّ لَا يَصِلُ إلَّا إلَى الْمَحْسُوسِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ الْمُدْرَكَاتِ لِمُشَارَكَةِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ مَعَ الْإِنْسَانِ فِي ذَلِكَ الْإِدْرَاكِ فَالْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ أَقْوَى وَمُدْرَكَاتُهُ أَشْرَفُ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ الْحَقِّ وَصِفَاتُهُ وَتَرْتِيبُ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَمُدْرَكَاتُ الْحِسِّ لَيْسَتْ إلَّا أَعْرَاضًا مَخْصُوصَةً هِيَ الْأَلْوَانُ وَالطُّعُومُ أَوْ بَاقِي الْمَحْسُوسَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْمَعَانِي الْجُزْئِيَّةِ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنْ لَا نِسْبَةَ لِأَحَدِهِمَا فِي الشَّرَفِ مَعَ الْآخَرِ فَتَكُونُ اللَّذَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَشَدُّ مِنْ اللَّذَّةِ الْحِسِّيَّةِ وَأَقْوَى مِنْهَا ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الشَّارِحُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.

وَأَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ اللَّذَّةَ الْعَقْلِيَّةَ هِيَ اللَّذَّةُ الْقُصْوَى شُبْهَةً وَتَقْرِيرُهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمَعْقُولَاتُ كَمَالَاتٍ لِلنَّفْسِ مُلْتَذَّةً بِإِدْرَاكِهَا لَوَجَبَ أَنْ يُشْتَاقَ إلَيْهَا وَيُتَأَلَّمَ بِحُضُورِ أَضْدَادِهَا كَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ فَإِنَّهَا تَشْتَاقُ إلَى الْأَصْوَاتِ الرَّخِيمَةِ الَّتِي هِيَ كَمَالٌ لَهَا وَتَتَأَلَّمُ بِوُصُولِ الْأَصْوَاتِ الْمُسْتَنْكَرَةِ إلَيْهَا وَدَفَعَهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِيَاقِ النَّفْسِ إلَى الْمَعْقُولَاتِ الصِّرْفَةِ وَالْمَيْلِ إلَيْهَا عَدَمُ كَوْنِهَا مُلْتَذَّةً بِهَا لِجَوَازِ أَنْ لَا تَكُونَ النَّفْسُ مُتَوَجِّهَةً إلَيْهَا بِسَبَبِ غِطَاءٍ مَانِعٍ هُوَ انْهِمَاكُهَا فِي اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ وَاشْتِغَالُهَا بِالْمَحْسُوسَاتِ الصِّرْفَةِ وَمَا لَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهَا لَمْ تَجِدْ ذَوْقًا مِنْهَا فَلَمْ يَحْصُلْ شَوْقٌ إلَيْهَا فَإِذَا أُزِيلَ ذَلِكَ الْغِطَاءُ الَّذِي هُوَ الْمَرَضُ عَنْ بَصِيرَتِهَا وَصَلَتْ إلَيْهَا وَالْتَذَّتْ بِهَا.

(قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ زَكَرِيَّا) اسْمُهُ مُحَمَّدٌ الطَّبِيبُ الرَّازِيّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ابْنِ سِينَا ذَكَرَ لَهُ تَرْجَمَةً وَاسِعَةً صَاحِبُ طَبَقَاتِ الْأَطِبَّاءِ وَعَدَّدَ لَهُ تَآلِيفَ كَثِيرَةً وَالْآنَ مَوْجُودٌ مِنْهَا بَعْضٌ بِدِيَارِنَا اطَّلَعْت عَلَيْهَا وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طَائِلَةٌ فِي الْعِلَاجِ بِخِلَافِ الشَّيْخِ ابْنِ سِينَا فَإِنَّمَا كَانَتْ مَهَارَتُهُ فِي الْعِلْمِ دُونَ الْعَمَلِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يُبَاشِرْ الْعَمَلَ كَثِيرًا كَبَاقِي الْأَطِبَّاءِ فَإِنَّهُ كَانَ مُخَالِطًا لِلدُّوَلِ وَمُتَقَلِّبًا فِي الْمَنَاصِبِ وَوَقَعَتْ لَهُ مِحَنٌ كَثِيرَةٌ وَلَاقَى شَدَائِدَ عَظِيمَةً حَتَّى إنَّ جُلَّ مُؤَلَّفَاتِهِ أَلَّفَهَا فِي الِاخْتِفَاءِ وَالتَّسَتُّرِ وَالتَّنَقُّلِ فِي الْأَسْفَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ الْأَلَمِ) عِبَارَةُ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ هَكَذَا وَزَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا أَنَّ اللَّذَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّبَدُّلِ وَالْخُرُوجِ عَنْ حَالَةٍ غَيْرِ طَبِيعِيَّةٍ إلَى حَالَةٍ طَبِيعِيَّةٍ وَبِهِ صَرَّحَ جَالِينُوسُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَلَامِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْخَلَاصِ عَنْ الْأَلَمِ وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ لِلْجُوعِ وَالْجِمَاعِ لِدَغْدَغَةِ الْمَنِيِّ أَوْعِيَتَهُ وَأَبْطَلَهُ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ قَدْ تَحْصُلُ اللَّذَّةُ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ أَلَمٍ أَوْ حَالَةٍ غَيْرِ طَبِيعِيَّةٍ كَمَا فِي مُصَادَفَةِ مَالٍ وَمُطَالَعَةِ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَشَوْقٍ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ وَلَا عَلَى الْإِجْمَالِ بِأَنْ لَمْ يَخْطِرْ ذَلِكَ بِبَالِهِ قَطُّ لَا جُزْئِيًّا وَلَا كُلِّيًّا وَكَذَا فِي إدْرَاكِ الذَّائِقَةِ الْحَلَاوَةَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ التَّبَدُّلُ مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ كَمَا فِي حُصُولِ الصِّحَّةِ عَلَى التَّدْرِيجِ وَفِي وُرُودِ الْمُسْتَلَذَّاتِ مِنْ الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَصْوَاتِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى مَنْ لَهُ غَايَةُ الشَّوْقِ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ عَرَضَ لَهُ شَاغِلٌ عَنْ الشُّعُورِ وَالْإِدْرَاكِ اهـ.

(قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ الْمُلَاءَمَةُ) قَيَّدَ بِالْحَيْثِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ مُلَائِمًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ

ص: 512