المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[خاتمة في مبادئ التصوف المصفي للقلوب] - حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - جـ ٢

[حسن العطار]

فهرس الكتاب

- ‌مَسْأَلَةٌ) فِي صِيَغِ الْعُمُومِ

- ‌(مَسْأَلَةٌ جَوَابُ السَّائِلِ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ دُونَهُ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ إنْ تَأَخَّرَ الْخَاصُّ عَنْ الْعَمَلِ) بِالْعَامِّ الْمُعَارِضِ لَهُ أَيْ عَنْ وَقْتِهِ

- ‌(الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ)

- ‌ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ كَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ)

- ‌(الظَّاهِرُ وَالْمُؤَوَّلُ)

- ‌(الْمُجْمَلُ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ)

- ‌(النَّسْخُ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ النَّسْخُ وَاقِعٌ عِنْدَ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ)

- ‌(خَاتِمَةٌ لِلنَّسْخِ)

- ‌(الْكِتَابُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ)

- ‌[الْكَلَامُ فِي الْأَخْبَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْخَبَرُ إمَّا مَقْطُوعٌ بِكَذِبِهِ أَوْ اسْتِدْلَالًا]

- ‌مَسْأَلَةٌ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إلَّا بِقَرِينَةٍ)

- ‌[مَسْأَلَة الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ]

- ‌(مَسْأَلَةُ الْإِخْبَارِ عَنْ) شَيْءٍ (عَامٍّ) لِلنَّاسِ (لَا تَرَافُعَ فِيهِ) إلَى الْحُكَّامِ

- ‌[مَسْأَلَة الشَّخْصُ الَّذِي يُسَمَّى صَحَابِيًّا]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الْمُرْسَلُ قَوْلَ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ)

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى لِلْعَارِفِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ) : (الصَّحِيحُ يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ)

- ‌(خَاتِمَةٌ) (مُسْتَنَدُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ) فِي الرِّوَايَةِ

- ‌(الْكِتَابُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ) مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌[اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاعِ بِالْمُجْتَهِدِينَ]

- ‌ اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاعِ (بِالْمُسْلِمِينَ)

- ‌[اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاع بِالْعُدُولِ]

- ‌ الْإِجْمَاعُ (لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابَةِ)

- ‌ الْإِجْمَاعَ (الْمَنْقُولَ بِالْآحَادِ)

- ‌[إجْمَاعَ الْأُمَمِ السَّابِقَة]

- ‌ الْإِجْمَاعُ (السُّكُوتِيُّ)

- ‌[التَّمَسُّكَ بِأَقَلَّ مَا قِيلَ فِي الْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الصَّحِيحُ إمْكَانُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌ حُرْمَةِ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ

- ‌(خَاتِمَةٌ: جَاحِدُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ)

- ‌(الْكِتَابُ الرَّابِعُ فِي) (الْقِيَاسِ) مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌ الْقِيَاسُ (حُجَّةٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ)

- ‌ الْقِيَاسَ عَلَى مَنْسُوخٍ)

- ‌[أَرْكَانُ الْقِيَاسِ]

- ‌[الرُّكْن الْأَوَّلُ الْأَصْلُ]

- ‌(الثَّانِي) مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ (حُكْمُ الْأَصْلِ

- ‌(الثَّالِثُ) مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ (الْفَرْعُ

- ‌(الرَّابِعُ) مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ (الْعِلَّةُ)

- ‌ الْعِلَّةُ (الْقَاصِرَةُ)

- ‌ التَّعْلِيلُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ

- ‌(التَّعْلِيلَ) لِلْحُكْمِ الْوَاحِدِ (بِعِلَّتَيْنِ) فَأَكْثَرَ

- ‌(لَا يُشْتَرَطُ) فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ (الْقَطْعُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ)

- ‌[انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ لِلْعِلَّةِ]

- ‌[لِلْمُسْتَدِلِّ دَفْعُ الْمُعَارَضَةِ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌(مَسَالِكُ الْعِلَّةِ)

- ‌(الْأَوَّلُ) مِنْهَا (الْإِجْمَاعُ)

- ‌(الثَّانِي) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (النَّصُّ الصَّرِيحُ)

- ‌[الثَّالِثُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ الْإِيمَاءُ]

- ‌(الرَّابِعُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ

- ‌(الْخَامِسُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (الْمُنَاسَبَةُ وَالْإِخَالَةُ)

- ‌(السَّادِسُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مَا يُسَمَّى بِالشَّبَهِ

- ‌[مَسْأَلَةُ الْمُنَاسَبَةُ تَنْخَرِمُ بِمَفْسَدَةٍ تَلْزَمُ الْحُكْمَ رَاجِحَةٍ عَلَى مَصْلَحَتِهِ أَوْ مُسَاوِيَةٍ لَهَا]

- ‌(السَّابِعُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (الدَّوَرَانُ

- ‌(الثَّامِنُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (الطَّرْدُ

- ‌(التَّاسِعُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ

- ‌(الْعَاشِرُ) مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ (إلْغَاءُ الْفَارِقِ)

- ‌(خَاتِمَةٌ فِي نَفْيِ مَسْلَكَيْنِ ضَعِيفَيْنِ

- ‌(الْقَوَادِحُ)

- ‌[خَاتِمَةٌ] (الْقِيَاسُ مِنْ الدِّينِ)

- ‌(الْكِتَابُ الْخَامِسُ فِي الِاسْتِدْلَالِ

- ‌(مَسْأَلَةُ الِاسْتِقْرَاءِ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ)

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الِاسْتِصْحَابِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ لَا يُطَالَبُ النَّافِيَ) لِلشَّيْءِ (بِالدَّلِيلِ) عَلَى انْتِفَائِهِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ كَانَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم مُتَعَبَّدًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِشَرْعٍ]

- ‌(مَسْأَلَةُ حُكْمِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ قَبْلَ الشَّرْعِ)

- ‌(مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْسَانِ

- ‌(مَسْأَلَةُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ) الْمُجْتَهِدِ

- ‌(مَسْأَلَةُ الْإِلْهَامِ

- ‌[خَاتِمَةٌ مَبْنَى الْفِقْهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ]

- ‌(الْكِتَابُ السَّادِسُ فِي التَّعَادُلِ وَالتَّرَاجِيحِ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ يُرَجَّحُ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ)

- ‌(الْكِتَابُ السَّابِعُ فِي الِاجْتِهَادِ) :

- ‌[مَسْأَلَةُ الْمُصِيبِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَاحِدٌ]

- ‌[الْمَسْأَلَةُ الَّتِي لَا قَاطِعَ فِيهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ)

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيٍّ أَوْ عَالِمٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ اُحْكُمْ بِمَا تَشَاءُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ]

- ‌(مَسْأَلَةُ التَّقْلِيدِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَكَرَّرَتْ الْوَاقِعَةُ لِلْمُجْتَهِدِ وَتَجَدَّدَ لَهُ مَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ عَمَّا ظَنَّهُ فِيهَا أَوَّلًا وَلَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ]

- ‌(مَسْأَلَةُ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ)

- ‌(مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ لِلْقَادِرِ عَلَى التَّفْرِيعِ وَالتَّرْجِيحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا)

- ‌ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ)

- ‌[خَاتِمَةٌ فِي مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ الْمُصَفِّي لِلْقُلُوبِ]

الفصل: ‌[خاتمة في مبادئ التصوف المصفي للقلوب]

وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِدْرَاكَ مَلْزُومُهَا لَا هِيَ (وَيُقَابِلُهَا الْأَلَمُ) فَهُوَ عَلَى الْأَخِيرِ إدْرَاكُ غَيْرِ الْمُلَائِمِ (وَمَا تَصَوَّرَهُ الْعَقْلُ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ أَوْ مُمْكِنٌ لِأَنَّ ذَاتَهُ) أَيْ الْمُتَصَوَّرَةَ (إمَّا أَنْ تَقْتَضِيَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِج أَوْ عَدَمَهُ أَوْ لَا تَقْتَضِيَ شَيْئًا) مِنْ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِهِ وَالْأَوَّلُ الْوَاجِبُ وَالثَّانِي الْمُمْتَنِعُ وَالثَّالِثُ الْمُمْكِنُ

(خَاتِمَةٌ) فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ الْمُصَفِّي لِلْقُلُوبِ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ تَجْرِيدُ الْقَلْبِ لِلَّهِ

ــ

[حاشية العطار]

فَالْإِدْرَاكُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُلَاءَمَةِ لَا يَكُونُ لَذَّةً كَالصَّفْرَاوِيِّ لَا يَلْتَذُّ بِالْحُلْوِ (قَوْلُهُ وَالْحَقُّ إلَخْ) قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَالْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكِ الْوُصُولُ إلَى ذَاتِ الْمُلَائِمِ لَا إلَى مُجَرَّدِ صُورَتِهِ فَإِنَّهُ تَخَيَّلَ اللَّذِيذَ غَيْرَ اللَّذَّةِ وَلِذَا كَانَ الْأَقْرَبُ مَا قَالَ ابْنِ سِينَا أَنَّ اللَّذَّةَ إدْرَاكٌ وَنَيْلٌ لِوُصُولِ مَا هُوَ عِنْدَ الْمُدْرِكِ كَمَالٌ وَخَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ، وَالْأَلَمُ إدْرَاكٌ وَنَيْلٌ لِوُصُولِ مَا هُوَ عِنْدَ الْمُدْرِكِ آفَةٌ وَشَرٌّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ فَذَكَرَ مَعَ الْإِدْرَاكِ النَّيْلَ أَعْنِي الْإِصَابَةَ وَالْوُجْدَانَ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِحُصُولِ صُورَةٍ تُسَاوِيهِ وَنَيْلُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُصُولِ ذَاتِهِ وَاللَّذَّةُ لَا تَتِمُّ بِحُصُولِ مَا يُسَاوِي اللَّذِيذَ إنَّمَا تَتِمُّ بِحُصُولِ ذَاتِهِ وَذَكَرَ الْوُصُولَ؛ لِأَنَّ اللَّذَّةَ لَيْسَتْ هِيَ إدْرَاكُ اللَّذِيذِ فَقَطْ بَلْ هِيَ إدْرَاكُ حُصُولِ اللَّذِيذِ لِلْمُلْتَذِّ وَوُصُولُهُ إلَيْهِ (قَوْلُهُ: إدْرَاكُ غَيْرِ الْمُلَائِمِ) أَيْ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الْمُلَاءَمَةِ وَحَذَفَ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالْمُقَابِلِ.

(قَوْلُهُ: وَمَا تَصَوَّرَهُ الْعَقْلُ) أَيْ حَصَلَتْ صُورَتُهُ فِيهِ فَشَمِلَ ذَلِكَ التَّصْدِيقَ أَيْضًا لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ أَنَّ هَلْ إمَّا بَسِيطَةٌ يُطْلَبُ بِهَا وُجُودُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مُرَكَّبَةٌ يُطْلَبُ بِهَا وُجُودُ شَيْءٍ لِشَيْءٍ فَإِذَا نُسِبَ الْمَفْهُومُ إلَى وُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ وُجُودِهِ لِأَمْرٍ حَصَلَ فِي الْعَقْلِ مَعَانٍ هِيَ الْوُجُوبُ وَالِامْتِنَاعُ وَالْإِمْكَانُ ثُمَّ إنَّ تَصَوُّرَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي ضَرُورِيَّةٌ حَاصِلَةٌ لِمَنْ لَمْ يُمَارِسْ طُرُقَ الِاكْتِسَابِ إلَّا أَنَّهَا قَدْ تُعَرَّفُ تَعْرِيفَاتٍ لَفْظِيَّةً فَيُقَالُ الْوُجُوبُ ضَرُورَةُ الْوُجُودِ أَوْ اقْتِضَاؤُهُ أَوْ اسْتِحَالَةُ الْعَدَمِ وَالِامْتِنَاعُ ضَرُورَةُ الْعَدَمِ أَوْ اقْتِضَاؤُهُ أَوْ اسْتِحَالَةُ الْوُجُودِ، وَالْإِمْكَانُ جَوَازُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَوْ عَدَمُ ضَرُورَتِهِمَا أَوْ عَدَمُ اقْتِضَاءِ شَيْءٍ مِنْهُمَا وَلِهَذَا لَا يَتَحَاشَى عَنْ أَنْ يُقَالَ الْوَاجِبُ مَا يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ أَوْ مَا لَا يُمْكِنُ عَدَمُهُ وَالْمُمْتَنِعُ مَا يَجِبُ عَدَمُهُ أَوْ مَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَالْمُمْكِنُ مَا لَا يَجِبُ وُجُودُهُ وَلَا عَدَمُهُ أَوْ مَا لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ وَلَا عَدَمُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَصْدُ إلَى إفَادَةِ تَصَوُّرَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي لَكَانَ دَوْرًا ظَاهِرًا (قَوْلُهُ: إمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ وُجُودَهُ) أَيْ بِأَنْ لَا يَكُونَ وُجُودُهُ مُتَوَقِّفًا عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ أَنَّ اللَّذَّاتِ عِلَّةٌ فِي نَفْسِهَا.

[خَاتِمَةٌ فِي مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ الْمُصَفِّي لِلْقُلُوبِ]

(خَاتِمَةٌ فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ)(قَوْلُهُ: مِنْ مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ) ظَاهِرٌ أَنَّ التَّصَوُّفَ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ الَّتِي لَهَا مَبَادِئُ وَمَقَاصِدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ ثَمَرَةُ جَمِيعِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَآلَاتُهَا لَا أَنَّهُ قَوَاعِدُ مَخْصُوصَةٌ وَإِنْ أُفْرِدَ بِالتَّأْلِيفِ ثُمَّ هُوَ قِسْمَانِ قِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّأَدُّبِ بِجَمِيلِ الْآدِبِ كَقُوتِ الْقُلُوبِ وَإِحْيَاءِ الْغَزَالِيِّ وَمُؤَلَّفَاتِ سَيِّدِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِيِّ وَغَيْرِهَا فَهَذَا وَاضِحٌ جَلِيٌّ يُدْرِكُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ لِلْعُلُومِ وَقِسْمٌ مَرْجِعُ أَرْبَابِهِ فِيهِ إلَى الْمُكَاشَفَاتِ وَالْأَذْوَاقِ وَمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ التَّجَلِّيَاتِ وَكَمُؤَلَّفَاتِ سَيِّدِي الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَالْجِيلِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا نَحَا مَنْحَاهُمَا فَهَذَا مِنْ الْغَوَامِضِ الَّتِي لَا يَفْهَمُهَا إلَّا مَنْ ذَاقَ مَذَاقَهُمْ وَقَدْ لَا تَفِي عِبَارَتُهُمْ بِشَرْحِ الْمَعَانِي الَّتِي أَرَادُوهَا بَلْ رُبَّمَا صَادَمَتْ بِحَسَبِ ظَوَاهِرِهَا الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ فَالْأَوْلَى عَدَمُ الْخَوْضِ فِيهِ وَيُسَلَّمُ لَهُمْ حَالُهُمْ:

وَإِذَا كُنْتَ بِالْمَدَارِكِ غِرًّا

ثُمَّ أَبْصَرْتَ حَاذِقًا لَا تُمَارِي

وَإِذَا لَمْ تَرَ الْهِلَالَ فَسَلِّمْ

لِأُنَاسٍ رَأَوْهُ بِالْأَبْصَارِ

(قَوْلُهُ: الْمُصَفِّي لِلْقُلُوبِ) إشَارَةٌ لِوَجْهِ تَسْمِيَتِهِ بِالتَّصَوُّفِ أَنْشَدَ الشَّيْخُ ابْنُ الْحَاجِّ فِي كِتَاب الْمَدْخَلُ:

لَيْسَ التَّصَوُّفُ لُبْسَ الصُّوفِ تُرْقِعُهُ

وَلَا بُكَاؤُكَ إنْ غَنَّى الْمُغَنُّونَا

وَلَا صِيَاحٌ وَلَا رَقْصٌ وَلَا طَرَبٌ

وَلَا اخْتِبَاطٌ كَأَنْ قَدْ صِرْتَ مَجْنُونَا

بَلْ التَّصَوُّفُ أَنْ تَصْفُو بِلَا كَدَرٍ

وَتَتْبَعَ الْحَقَّ وَالْقُرْآنَ وَالدِّينَا

وَأَنْ تُرَى خَاشِعًا لِلَّهِ مُكْتَئِبًا

عَلَى ذُنُوبِكَ طُولَ الدَّهْرِ مَحْزُونَا

ص: 513

وَاحْتِقَارُ مَا سِوَاهُ قَالَ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى عَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَلِذَلِكَ افْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ بَأْسَ الْعَمَلِ فَقَالَ (أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْمَعْرِفَةُ) أَيْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا مَبْنَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ إذْ لَا يَصِحُّ بِدُونِهَا وَاجِبٌ بَلْ وَلَا مَنْدُوبٌ (وَقَالَ الْأُسْتَاذُ) أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ

ــ

[حاشية العطار]

وَقَالَ سَيِّدِي عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ مُوَالِيًا:

يَا وَاصِفِي أَنْتَ فِي التَّحْقِيقِ مَوْصُوفِي

وَعَارِفِي لَا تُغَالِطْ أَنْتَ مَعْرُوفِي

إنَّ الْفَتَى مَنْ بِعَهْدِهِ فِي الْأَزَلِ يُوفِي

صَافَى فَصُوفِيَ لِهَذَا سُمِّيَ الصُّوفِيُّ

وَقِيلَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهِ غَلَبَةُ لُبْسِ الصُّوفِ عَلَى أَهْلِهِ كَالْمُرَقَّعَاتِ؛ وَحِكْمَتُهَا كَمَا ذَكَرَهُ الشَّعْرَانِيُّ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ ثَوْبًا كَامِلًا مِنْ الْحَلَالِ بَلْ قِطَعًا قِطَعًا وَقِيلَ لِشَبَهِهِمْ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ آمِرَةٌ بِالْتِزَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْحَقِيقَةُ مُشَاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَكُلُّ شَرِيعَةٍ غَيْرُ مُؤَيَّدَةٍ بِالْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَكُلُّ حَقِيقَةٍ غَيْرُ مُؤَيَّدَةٍ بِالشَّرِيعَةِ فَغَيْرُ مَحْصُولٍ فَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ وَالْحَقِيقَةُ إنْبَاءٌ عَنْ تَصْرِيفِ الْحَقِّ فَالشَّرِيعَةُ أَنْ تَعْبُدَهُ وَالْحَقِيقَةُ أَنْ تَشْهَدَهُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] حِفْظًا لِلشَّرِيعَةِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] إقْرَارٌ بِالْحَقِيقَةِ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَاحْتِقَارُ مَا سِوَاهُ) أَيْ عَنْ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ وَيَسْتَنِدَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يَحْتَقِرُهُ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيمَا سِوَاهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَتَعْظِيمُهُمْ وَاجِبٌ وَمُحَصِّلُهُ أَنْ يَجْعَلَ قَصْدَهُ حَضْرَةَ الْحَقِّ فَلَا تَحْجُبُهُ الْأَغْيَارُ عَنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ قَالَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ رحمه الله آيَسْتُ مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ لَا أَيْأَسُ مِنْ غَيْرِي اهـ.

وَلَا أَنْ يَطْرَحَ الْأَغْيَارَ عَنْ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ وَإِعْطَاءِ الْمَظَاهِرِ حُكْمَهَا قَالَ فِي لَوَاقِحِ الْأَنْوَارِ مِنْ كَمَالِ الْعِرْفَانِ شُهُودُ عَبْدٍ وَرَبٍّ وَكُلُّ عَارِفٍ نَفَى شُهُودَ الْعَبْدِ فِي وَقْتٍ مَا فَلَيْسَ هُوَ بِعَارِفٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَاحِبُ حَالٍ وَصَاحِبُ الْحَالِ سَكْرَانُ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ وَقَالَ رحمه الله اجْتَمَعَتْ رُوحِي بِهَارُونَ عليه السلام فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ فَقُلْتُ لَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ قُلْتَ {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150] وَمَنْ الْأَعْدَاءُ حَتَّى تَشْهَدَهُمْ وَالْوَاحِدُ مِنَّا يَصِلُ إلَى مَقَامٍ لَا يَشْهَدُ فِيهِ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ السَّيِّدُ هَارُونُ عليه السلام صَحِيحٌ مَا قُلْتَ فِي مَشْهَدِكُمْ وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُشَاهِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا اللَّهَ فَهَلْ زَالَ الْعَالَمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا هُوَ مَشْهَدُكُمْ أَمْ الْعَالَمُ بَاقٍ لَمْ يَزُلْ وَحُجِبْتُمْ أَنْتُمْ عَنْ شُهُودِهِ لِعَظِيمِ مَا تَجَلَّى لِقُلُوبِكُمْ فَقُلْتُ لَهُ الْعَالَمُ بَاقٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَزُلْ وَإِنَّمَا حُجِبْنَا نَحْنُ عَنْ شُهُودِهِ فَقَالَ قَدْ نَقَصَ عِلْمُكُمْ بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ شُهُودِ الْعَالَمِ فَإِنَّهُ كُلُّهُ آيَاتُ اللَّهِ فَأَفَادَنِي عليه السلام عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عِنْدِي انْتَهَى (قَوْلُهُ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ) أَيْ مَعْرِفَةُ وُجُودِهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ لَا إدْرَاكُهُ وَالْإِحَاطَةُ بِكُنْهِ حَقِيقَتِهِ {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] فَالْمُرَادُ الْمَعْرِفَةُ الْإِيمَانِيَّةُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لِأَنَّهَا مَبْنَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَقَوْلُهُ إذْ لَا يَصِحُّ إلَخْ أَيْ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ امْتِثَالًا وَالِانْكِفَافَ عَنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ انْزِجَارًا لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي اهـ. زَكَرِيَّا.

ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ وَاجِبَةٌ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ فَقَوْلُهُ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ أَيْ شَرْعًا وَنَقَلَ عَنْ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِالْعَقْلِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ مُوجِبًا وَعِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لِإِيجَابِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَبْنُونَ كَلَامَهُمْ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ فَيَجْعَلُونَ ذَاتَ الْعَقْلِ تَسْتَقِلُّ بِهِ الْأَحْكَامُ وَإِنَّمَا جَاءَ الشَّرْعُ مُذَكِّرًا وَمُقَوِّيًا لِلْعَقْلِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْعَقْلِ لَا أَنَّهُمْ يَنْفُونَ اسْتِفَادَةَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّرْعِ وَيُضِيفُونَهَا لِلْعَقْلِ وَإِلَّا لَكَفَرُوا وَمَعْنَى مَا نَقَلَ عَنْ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّ إيجَابَ الْمَعْرِفَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِمَحْضِ اخْتِيَارِهِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ أَمْكَنَ الْعَقْلُ أَنْ يَفْهَمَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِوُضُوحِهِ لَا بِنَاءً عَلَى تَحْسِينِ ذَاتِهِ بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَكْسُ مَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ لَمْ تَجِبْ الْمَعْرِفَةُ بِالْعَقْلِ لَزِمَ إفْحَامُ الرُّسُلِ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ إلَيْهِ يَقُولُ لَا أَنْظُرُ إلَّا إذَا ثَبَتَ عِنْدِي وُجُوبُ النَّظَرِ عَلَيَّ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنَّظَرِ فِيمَا تَدْعُونِي إلَيْهِ فَأَنَا لَا أَنْظُرُ أَصْلًا.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الِامْتِثَالِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ بِالْحُكْمِ بَلْ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعِ فَقَوْلُهُ

ص: 514

(النَّظَرُ الْمُؤَدِّي إلَيْهَا) لِأَنَّهُ مُقَدِّمَتُهَا (وَالْقَاضِي) أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ (أَوَّلُ النَّظَرِ) لِتَوَقُّفِ النَّظَرِ عَلَى أَوَّلِ أَجْزَائِهِ (وَابْنُ فُورَكٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ) لِتَوَقُّفِ النَّظَرِ عَلَى قَصْدِهِ (وَذُو النَّفْسِ

ــ

[حاشية العطار]

إلَّا إذَا ثَبَتَ عِنْدِي إلَخْ الْعِنْدِيَّةُ مَمْنُوعَةٌ بَلْ مَتَى تَقَرَّرَ الْحُكْمُ فِي الْوَاقِعِ تَعَلَّقَ بِهِ وَوَجَبَ الِامْتِثَالُ بِمُجَرَّدِ إخْبَارِ الرَّسُولِ.

فَإِنْ قَالَ مِنْ أَيْنَ صَحَّتْ رِسَالَتُهُ؟ قُلْنَا دَلِيلُهُ مُعْجِزَةٌ مُقَارِنَةٌ لِدَعْوَاهُ لَا يُقْبَلُ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا عِنْدَ الْعَاقِلِ تَمَسُّكًا بِهَذَا الْهَذَيَانِ فَإِنَّ مِثَالَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ مِثَالُ مَنْ أَتَاهُ شَخْصٌ وَقَالَ اُنْجُ بِنَفْسِكَ فَهَذَا أَسَدٌ خَلْفَكَ وَإِنْ الْتَفَتَّ رَأَيْتَهُ، فَهَلْ يَلِيقُ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْتَنِي بِكَلَامِكَ وَأَلْتَفِتُ إلَّا إذَا عَلِمْتُ صِدْقَكَ وَلَا أَعْلَمُ صِدْقَك إلَّا إذَا الْتَفَتُّ وَيَسْتَمِرُّ وَاقِفًا حَتَّى يَأْكُلَهُ السَّبُعُ؟ ، فَكَذَلِكَ الرَّسُولُ يَقُولُ اتَّبِعُونِي فِي كُلِّ مَا أَقُولُ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَإِنْ نَظَرْتُمْ فِي مُعْجِزَتِي عَلِمْتُمْ صِدْقِي وَهَا هِيَ الْمُعْجِزَةُ فَيَصِحُّ الْإِعْرَاضُ حِينَئِذٍ بَلْ هُوَ عَيْنُ الْحُمْقِ وَالْعِنَادِ الَّذِي لَا يُعْذَرُ فَاعِلُهُ وَلَا يُفْحِمُ الْمُرْشِدَ النَّاصِحَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ لَوْ سَلِمَ وَرَدَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ وُجُوبَ الْمَعْرِفَةِ نَظَرِيٌّ وَادِّعَاءُ بَدَاهَتِهِ مُكَابَرَةٌ فَيُقَالُ لَهُمْ لَا يَنْظُرُ النَّظَرَ الْمُوَصِّلَ لِوُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ إلَّا إذَا عَلِمَ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ وَلَا يَعْلَمُ إلَّا بِالنَّظَرِ وَهُوَ لَا يَنْظُرُ وَذَهَبَتْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة إلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحْصُلُ بِدُونِ الْمُعَلِّمِ الَّذِي هُوَ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ وَلَهُمْ أَدِلَّةٌ وَاهِيَةٌ وَالظَّنُّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْآنَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَقَدْ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي زَمَنِ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ وَتَعَرَّضَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ وَهُمْ أَضْعَفُ الْفِرَقِ عِلْمًا وَأَشَدُّهَا جَهْلًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ وُجُوبِ النَّظَرِ مِنْ مَبَادِئِ عِلْمِ الْكَلَامِ حَتَّى إنَّ أَكْثَرَ الْقَوْمِ يُقَدِّمُونَ الْبَحْثَ عَنْهُ قَبْلَ مَبَاحِثِ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْمُصَنِّفُ أَدْرَجَهُ فِي خَاتِمَةِ التَّصَوُّفِ لَا لِأَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِهِ بَلْ لِمُنَاسَبَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهَا الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ وَلِذَلِكَ افْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ بَأْسَ الْعَمَلِ وَمَسْأَلَةُ الْكُتُبِ الْآتِيَةُ مِنْ مَقَاصِدِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَعَدَمُ صَلَاحِ الْقُدْرَةِ لِلضِّدَّيْنِ كَذَلِكَ وَأَنَّ الْعَجْزَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ رَاعَى فِي ذِكْرِهَا هَذَا أَدْنَى مُنَاسَبَةً فَلَمْ يُبَالِ بِاخْتِلَاطِ مَسَائِلِ الْعُلُومِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ سَهْلٌ.

(قَوْلُهُ: لِلنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَيْهَا) فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ أَنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ الْمُسْتَجْمِعَ لِلشَّرَائِطِ يُفِيدُ الْعِلْمَ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ لُزُومَ شَيْءٍ كَالضَّاحِكِ لِشَيْءٍ كَالْإِنْسَانِ وَعَلِمَ مَعَ الْعِلْمِ بِاللُّزُومِ وُجُودَ الْمَلْزُومِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ أَوْ عَدَمُ اللَّازِمِ وَهُوَ عَدَمُ الضَّاحِكِ عُلِمَ مِنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِاللُّزُومِ مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْمَلْزُومِ وُجُودُ اللَّازِمِ وَهُوَ وُجُودُ الضَّاحِكِ وَعُلِمَ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ الْعِلْمُ بِاللُّزُومِ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ اللَّازِمِ عَدَمُ الْمَلْزُومِ وَهُوَ عَدَمُ الْإِنْسَانِ وَأَيْضًا مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْعَالَمَ مُمْكِنٌ وَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ لَهُ مُؤَثِّرٌ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ لِلْعَالَمِ مُؤَثِّرًا وَالسُّمَنِيَّةُ أَنْكَرُوا وُجُودَهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ دُونَ الْهَنْدَسِيَّاتِ لِعَدَمِ تَطَرُّقِ الْغَلَطِ إلَيْهَا دُونَ الْإِلَهِيَّاتِ (قَوْلُهُ: وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ النَّظَرَ) الَّذِي فِي شَرْحِ الْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ عَلَى الْعَقَائِدِ حِكَايَةَ هَذَا الْقَوْلِ بِقِيلَ وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ بِمَقَالَةِ ابْنِ فُورَكٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي أَنَّهُ الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ.

(قَوْلُهُ: فِي تَوَقُّفِ النَّظَرِ عَلَى قَصْدِهِ) لِأَنَّ النَّظَرَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ وَكُلُّ فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقَصْدِ وَلَيْسَ وُجُوبُ النَّظَرِ مُتَوَقِّفًا عَلَى وُجُودِ الْقَصْدِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَصْدُ أَمْ لَمْ يُوجَدْ فَيَكُونُ الْقَصْدُ مُقَدِّمَةَ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ النَّظَرُ.

وَأَوْرَدَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا مَسْبُوقًا بِقَصْدٍ آخَرَ وَيُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَيْهِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ صَادِرًا مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ بِلَا قَصْدٍ آخَرَ سَابِقٍ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْقَصْدِ عَيْنَ الْقَصْدِ ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْأَقْوَالِ أَرْبَعَةٌ وَقَدْ أَنْهَاهَا الْيُوسِيُّ فِي حَوَاشِي الْكُبْرَى لِأَحَدَ عَشَرَ.

الْخَامِسُ: اعْتِقَادُ وُجُوبِ النَّظَرِ أَيْ لِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى قَدْرِ النَّظَرِ.

السَّادِسُ: الْإِيمَانُ.

السَّابِعُ: الْإِسْلَامُ.

الثَّامِنُ: النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ.

وَالثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ مَرْدُودَةٌ بِاحْتِيَاجِهَا لِلْمَعْرِفَةِ.

التَّاسِعُ: التَّقْلِيدُ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ التَّقْلِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ.

الْعَاشِرُ:

ص: 515

الْأَبِيَّةِ) أَيْ الَّتِي تَأْبَى إلَّا الْعُلُوَّ الْأُخْرَوِيَّ (يَرْبَأُ بِهَا) أَيْ يَرْفَعُهَا بِالْمُجَاهَدَةِ (عَنْ سَفْسَافِ الْأُمُورِ) أَيْ دَنِيئِهَا مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ كَالْكِبْرِ وَالْغَضَبِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَقِلَّةِ الِاحْتِمَالِ (وَيَجْنَحُ) بِهَا (إلَى مَعَالِيهَا) مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ كَالتَّوَاضُعِ وَالصَّبْرِ وَسَلَامَةِ الْبَاطِنِ وَالزُّهْدِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَثْرَةِ الِاحْتِمَالِ فَهُوَ عَلَى الْهِمَّةِ وَسَيَأْتِي دَنِيئُهَا وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ (وَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ) بِمَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ (تَصَوَّرَ تَبْعِيدَهُ) لِعَبْدِهِ بِإِضْلَالِهِ (وَتَقْرِيبَهُ)

ــ

[حاشية العطار]

وَظِيفَةُ الْوَقْتِ كَصَلَاةٍ ضَاقَ وَقْتُهَا فَتَقَدَّمَ الْحَادِيَ عَشَرَ.

قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ الشَّكُّ وَرَدَ بِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ زَوَالُهُ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَرْدِيدَ الْفِكْرِ فَيُؤَوَّلُ لِلنَّظَرِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ عَنْ مَعْنَى الشَّكِّ فَتَأَمَّلْهُ قَالَ الدَّوَانِيُّ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ كَانَ النِّزَاعُ فِي أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَيَحْتَمِلُ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ فِي أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمُكَلَّفِ مُطْلَقًا فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَافِرَ مُكَلَّفٌ أَوَّلًا بِالْإِقْرَارِ فَأَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ هُوَ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ. اهـ. وَفِي حَاشِيَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الرَّازِيّ إنْ أُرِيدَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَهُوَ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً وَإِنْ أُرِيدَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ كَيْفَ كَانَتْ فَهُوَ الْقَصْدُ اهـ.

وَتَعَقَّبَ هَذَا الْقَوْلَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ مُقَدِّمَةِ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ وَوُجُوبُهَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي السَّبَبِ الْمُسْتَلْزِمِ دُونَ غَيْرِهِ. اهـ.

وَرَدَّهُ الدَّوَانِيُّ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّبَبِ الْمُسْتَلْزِمِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ بَدِيهَةً اهـ.

(قَوْلُهُ: الْأَبِيَّةِ) أَيْ الْآبِيَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِأَنَّ أَصْلَهُ أَبِيئَةٌ (قَوْلُهُ: الَّتِي تَأْبَى) أَيْ لَا تُرِيدُ فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ (قَوْلُهُ: أَيْ يَرْفَعُهَا) أَشَارَ إلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْمَعْنَى يَرْبَؤُهَا أَيْ يَجْعَلُهَا مُرْتَفِعَةً فَلَيْسَتْ لِلسَّبَبِيَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِسَبَبِهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُهَا.

(قَوْلُهُ: عَنْ سَفْسَافِ الْأُمُورِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُضَاعَفَ وَهُوَ مَا كَانَتْ فَاؤُهُ وَلَامُهُ الْأُولَى مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَيْنُهُ وَلَامُهُ الثَّانِيَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَزِلْزَالٍ وَقَعْقَاعٍ يَجُوزُ فَتْحُ أَوَّلِهِ وَكَسْرُهُ وَالْكَسْرُ هُوَ الْأَصْلُ.

(قَوْلُهُ: كَالْكِبْرِ) وَهُوَ دَاءٌ عَظِيمٌ مَوْقِعٌ فِي تَعَبٍ شَدِيدٍ وَمُوجِبٌ لِنُفْرَةِ الْقُلُوبِ عَنْ صَاحِبِهِ وَلِذَلِكَ قِيلَ لَيْسَ الْمُتَكَبِّرُ صَدِيقًا لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ عَلَى الْخَلْقِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَيُسْتَثْقَلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيُمَجُّ وَيُبْغَضُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ.

وَالْكِبْرُ إظْهَارُ الشَّخْصِ عِظَمَ نَفْسِهِ وَشَأْنِهِ. وَالْغَضَبُ ثَوَرَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِإِرَادَةِ الِانْتِقَامِ. وَالْحِقْدُ كِتْمَانُ الْعَدَوَاةِ بَاطِنًا مَعَ انْتِظَارِ الْفُرْصَةِ فِي الْإِهْلَاكِ وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ حَقُودًا إلَّا وَهُوَ مُصَغَّرُ الْوَجْهِ وَعِلَّتُهُ الطَّبِيعِيَّةِ أَنَّ دَمَ الْقَلْبِ الثَّائِرِ عِنْدَ الْغَضَبِ لَمْ يَبْرُزْ إلَى سَطْحِ الْجِلْدِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْبَطْشِ فَيَنْحَبِسُ فِي الْقَلْبِ وَلَا يَبْرُزُ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَحْقِدُ الضَّعِيفُ لِأَنَّ الْقَوِيَّ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِقَامِ فَوْرًا وَالْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ غَيْرِهِ وَفِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ فِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ مَا لَا يَخْفَى كَأَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ لِلَّهِ حُكْمَهُ مَعَ دَوَامِ غَضَبِهِ وَقَهْرِهِ بِمَا يَرَى مِنْ آثَارِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْمَحْسُودِ (قَوْلُهُ: وَسُوءِ الْخُلُقِ) هُوَ وَصْفٌ جَامِعٌ لِمَذَامَّ كَثِيرَةٍ (قَوْلُهُ: وَقِلَّةُ الِاحْتِمَالِ) هُوَ عَدَمُ الصَّبْرِ (قَوْلُهُ: بِمَا يُعْرَفُ بِهِ) أَيْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَزَّهَهُ سُبْحَانَهُ عَنْ شَوَائِبِ النَّقْصِ لَا مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ سُبْحَانَكَ مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ (قَوْلُهُ: تَبْعِيدُهُ وَتَقْرِيبُهُ) كِلَاهُمَا مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ لِفَاعِلِهِ وَلَامُ لِعَبْدِهِ لِلتَّقْوِيَةِ وَبِإِضْلَالِهِ مُتَعَلِّقٌ بِتَبْعِيدٍ وَبِهِدَايَتِهِ بِتَقْرِيبٍ فَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ وَقَوْلُهُ فَأَصْغَى تَفْرِيعٌ عَلَى خَافَ وَرَجَا وَقَوْلُهُ فَارْتَكَبَ تَفْرِيعٌ عَلَى فَأَصْغَى وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ قَرُبَ الْعَبْدُ أَوَّلًا قَرُبَ بِإِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِهِ ثُمَّ قَرُبَ بِإِحْسَانِهِ وَتَحْقِيقِهِ وَقَرُبَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مِنْ الْعَبْدِ مَا يَخُصُّهُ الْيَوْمَ بِهِ مِنْ الْعِرْفَانِ وَفِي الْآخِرَةِ

ص: 516

لَهُ بِهِدَايَتِهِ (فَخَافَ) عِقَابَهُ (وَرَجَا) ثَوَابَهُ (فَأَصْغَى إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) عَنْهُ (فَارْتَكَبَ) مَأْمُورَهُ (وَاجْتَنَبَ) مَنْهِيَّهُ (فَأَحَبَّهُ مَوْلَاهُ فَكَانَ) مَوْلَاهُ (سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا) وَاتَّخَذَهُ وَلِيًّا إنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ وَإِنْ اسْتَعَاذَ بِهِ أَعَاذَهُ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ وَإِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَوَلَّى مَحْبُوبَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فَحَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ بِهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ أَبَوَيْ الطِّفْلِ لِمَحَبَّتِهِمَا لَهُ الَّتِي أَسْكَنَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمَا يَتَوَلَّيَانِ جَمِيعَ أَحْوَالِهِ فَلَا يَأْكُلُ إلَّا بِيَدِ أَحَدِهِمَا وَلَا يَمْشِي إلَّا بِرِجْلِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَفِي الْحَدِيثِ اللَّهُمَّ كِلَاءَةً كَكِلَاءَةِ الْوَلِيدِ (وَدَنِيءُ الْهِمَّةِ) بِأَنْ لَا يَرْفَعَ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهَدَةِ عَنْ سَفْسَافِ الْأُمُورِ (لَا يُبَالِي) بِمَا تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَيْهِ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ (فَيَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ وَيَدْخُلُ تَحْتَ رِبْقَةِ الْمَارِقِينَ) مِنْ الدِّينِ أَيْ عُرْوَتِهِمْ الْمُنْقَطِعَةِ وَهِيَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ (فَدُونَكَ)

ــ

[حاشية العطار]

مَا يُكَرِّمُهُ بِهِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْعِيَانِ وَفِيمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِوُجُودِ اللُّطْفِ وَالِامْتِنَانِ وَلَا يَكُونُ قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ إلَّا بِبَعْدِهِ عَنْ الْخَلْقِ فَهَذَا مِنْ صِفَاتِ الْقُلُوبِ دُونَ أَحْكَامِ الظَّوَاهِرِ وَالْكَوْنُ وَقُرْبُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَامٌّ لِلْكَافِرِ وَبِاللُّطْفِ وَالتَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ بِخَصَائِصِ التَّأْنِيثِ مُخْتَصٌّ بِالْأَوْلِيَاءِ اهـ.

(قَوْلُهُ: يَبْطِشُ) أَيْ يَسْطُو وَهُوَ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَضَمِّهَا بَابُهُ ضَرَبَ وَنَصَرَ (قَوْلُهُ: مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ) أَيْ فِي الْجُمْلَةِ وَإِلَّا فَالْمَأْخُوذُ الْأَخِيرُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا تَرْتِيبُهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ (قَوْلُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ إلَخْ) فِي يَوَاقِيتِ الشَّعْرَانِيِّ أَنَّ مَعْنَى كُنْتُ سَمْعَهُ إلَخْ أَنَّ ذَلِكَ الْكَوْنَ الشُّهُودِيَّ مُرَتَّبٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ حُصُولُ الْمَحَبَّةِ فَمِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبُ الشُّهُودِيُّ جَاءَ الْحُدُوثُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ كُنْتُ سَمْعَهُ لَا مِنْ حَيْثُ التَّقَرُّرُ الْوُجُودِيُّ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ سَيِّدِي عَلِيُّ بْنُ وَفَا رضي الله عنه وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ الْمُرَادُ بِكُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ إلَخْ انْكِشَافُ الْأَمْرِ لِمَنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ تَعَالَى بِالنَّوَافِلِ لَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ تَعَالَى سَمْعَهُ قَبْلَ التَّقْرِيبِ ثُمَّ كَانَ الْآنَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ.

(قَوْلُهُ: يَتَوَلَّى مَحْبُوبَهُ) أَيْ بِالْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ بِأَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَرْضَاتِهِ، قَالَ الشَّيْخُ فِي بَابِ الْوَصَايَا مِنْ الْفُتُوحَاتِ: إيَّاكُمْ وَمُعَادَاةِ أَهْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ الْوَلَايَةُ الْعَامَّةُ فَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَلَوْ أَتَوْا بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَلَقَّى جَمِيعَهُمْ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً وَمَنْ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ حَرُمَتْ مُحَارَبَتُهُ وَإِنَّمَا جَازَ لَنَا هَجْرُ أَحَدٍ مِنْ الذَّاكِرِينَ لِلَّهِ لِظَاهِرِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُؤْذِيَهُ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ وَإِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا فَوَعَدَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ فَلْيَخْتِمْهُ بِالتَّوْحِيدِ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ يَأْخُذُ بِيَدِ صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ.

(قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ كِلَاءَةً كَكِلَاءَةِ الْوَلِيدِ) الْكِلَاءَةُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَالْمَدِّ كَمَا فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ الْحِرَاسَةُ وَالْحِفْظُ وَالْوَلِيدُ بِفَتْحِ الْوَاوِ الطِّفْلُ الصَّغِيرُ أَيْ اُحْرُسْنِي وَاحْفَظْنِي كَمَا يَحْفَظُ الْوَلَدَ أَبَوَاهُ مِنْ الْمَهَالِكِ، وَالْكَلَامُ عَلَى التَّنَزُّلِ تَقْرِيبًا لِلْعُقُولِ وَإِلَّا فَحِفْظُ اللَّهِ يَقْصُرُ دُونَهُ حِفْظُ الْأَبَوَيْنِ وَغَيْرِهِمَا (قَوْلُهُ: فَيَجْهَلُ فَوْقَ إلَخْ) هُوَ عَجُزُ بَيْتٍ مِنْ الْمُعَلَّقَاتِ وَصَدْرُهُ:

أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا

فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلَيْنَا

وَالرِّوَايَةُ بِالْمُضَارِعِ الْمَبْدُوءِ بِالنُّونِ فَغَيْرُهُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ أَيْ يَجْهَلُ جَهْلًا أَشَدَّ مِنْ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ وَتَفَاوُتُ الْجَهْلِ بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ إمَّا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ فَإِنَّ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ تَتَفَاوَتُ أَوْ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهِ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ أَشَدُّ مِنْهُ بِمَا هُوَ نَظَرِيٌّ وَالْكَلَامُ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ (قَوْلُهُ: رِبْقَةِ الْمَارِقِينَ) الرِّبْقَةُ جِلْدٌ ذُو عُرًى (قَوْلُهُ: أَيْ عُرْوَتِهِمْ الْمُنْقَطِعَةِ) أَخَذَ الِانْقِطَاعَ مِنْ إضَاقَةِ الرِّبْقَةِ إلَى الْمَارِقِينَ أَيْ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ الْخَبَرِ (قَوْلُهُ: فَدُونَكَ إلَخْ) مُفَرَّعٌ عَلَى الْهِمَّةِ وَدَنِيِّهَا وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ دُونَكَ فِي الْإِغْرَاءِ

ص: 517

أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتَ حَالَ عَلِيِّ الْهِمَّةِ وَدَنِيئِهَا (صَلَاحًا) مِنْكَ (أَوْ فَسَادًا وَرِضًا) عَنْكَ (أَوْ سَخَطًا وَقُرْبًا) مِنْ اللَّهِ (أَوْ بُعْدًا وَسَعَادَةً) مِنْهُ (أَوْ شَقَاوَةً وَنَعِيمًا) مِنْهُ (أَوْ جَحِيمًا) فَأَفَادَ بِدُونِكَ الْإِغْرَاءَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاحِ وَمَا يُنَاسِبُهُ وَالتَّحْذِيرَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَسَادِ وَمَا يُنَاسِبُهُ (وَإِذَا خَطَرَ لَكَ أَمْرٌ) أَيْ أَلْقَى فِي قَلْبِكَ (فَزِنْهُ بِالشَّرْعِ) وَلَا يَخْلُو حَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْكَ مِنْ حَيْثُ الطَّلَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ.

(فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا) بِهِ (فَبَادِرْ) إلَى فِعْلِهِ (فَإِنَّهُ مِنْ الرَّحْمَنِ) رَحِمَكَ حَيْثُ أَخْطَرَهُ بِبَالِكَ أَيْ أَرَادَ لَكَ الْخَيْرَ (فَإِنْ خَشِيتَ وُقُوعَهُ لَا إيقَاعَهُ عَلَى صِفَةٍ مَنْهِيَّةٍ) كَعُجْبٍ أَوْ رِيَاءٍ (فَلَا) بِأَمْرٍ (عَلَيْكَ) فِي وُقُوعِهِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعْتَهُ عَلَيْهَا قَاصِدًا لَهَا فَعَلَيْكَ ثُمَّ ذَلِكَ فَتَسْتَغْفِرُ مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي

(وَاحْتِيَاجُ اسْتِغْفَارِنَا إلَى اسْتِغْفَارٍ) لِنَقْصِهِ بِغَفْلَةِ قُلُوبِنَا مَعَهُ بِخِلَافِ اسْتِغْفَارِ الْخُلَّصِ وَرَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رضي الله عنها مِنْهُمْ وَقَدْ قَالَتْ اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِغْفَارٍ هَضْمًا لِنَفْسِهَا (لَا يُوجِبُ تَرْكَ الِاسْتِغْفَارِ) مِنَّا الْمَأْمُورَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ الصَّمْتُ خَيْرًا مِنْهُ بَلَى نَأْتِي بِهِ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ اللِّسَانَ إذَا أَلِفَ ذِكْرًا يُوشِكُ أَنْ يَأْلَفَهُ الْقَلْبُ فَيُوَافِقَهُ (وَمِنْ ثَمَّ) أَيْ مِنْ هُنَا وَهُوَ أَنَّ احْتِيَاجَ الِاسْتِغْفَارِ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ أَيْ مِنْ أَجْلِ

ــ

[حاشية العطار]

وَالتَّحْذِيرِ مَعًا قَالَ النَّجَّارِيُّ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ مَعًا.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا خَطَرَ لَكَ أَمْرٌ) الْخَاطِرُ خِطَابٌ يَرِدُ عَلَى الضَّمَائِرِ فَقَدْ يَكُونُ بِإِلْقَاءِ مَلَكٍ وَقَدْ يَكُونُ بِإِلْقَاءِ شَيْطَانٍ وَيَكُونُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّفْسِ وَيَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ مَلَكٍ فَهُوَ الْإِلْهَامُ وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ قِيلَ لَهُ الْهَاجِسُ وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ قِيلَ لَهُ الْوَسْوَاسُ فَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَهُوَ خَاطِرُ حَقٍّ وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَلَكِ وَيَعْلَمُ صِدْقَهُ بِمُوَافَقَةِ الْعِلْمِ وَلِهَذَا قَالُوا كُلُّ خَاطِرٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ ظَاهِرٌ مِنْ الشَّرْعِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَكْثَرُهُ يَدْعُوهُ إلَى الْمَعَاصِي وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّفْسِ فَأَكْثَرُهُ يَدْعُوهُ إلَى اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَاسْتِشْعَارِ كِبْرٍ أَوْ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ أَوْصَافِ النَّفْسِ. وَاتَّفَقَ الْمَشَايِخُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَكْلُهُ مِنْ الْحَرَامِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْإِلْهَامِ وَالْوَسْوَاسِ.

وَأَمَّا الْوَارِدُ فَهُوَ مَا يَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ الْخَوَاطِرِ الْمَحْمُودَةِ مِمَّا لَا يَكُونُ بِتَعَمُّدِ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ مَا لَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْخَوَاطِرِ فَهُوَ أَيْضًا وَارِدٌ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ وَارِدًا مِنْ الْحَقِّ وَوَارِدًا مِنْ الْعِلْمِ فَالْوَارِدَاتُ أَعَمُّ مِنْ الْخَوَاطِرِ لِأَنَّ الْخَوَاطِرَ تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ الْخِطَابِ وَمَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَاهُ وَالْوَارِدَاتُ تَكُونُ وَارِدَ سُرُورٍ وَوَارِدَ حُزْنٍ وَوَارِدَ قَبْضٍ وَوَارِدَ بَسْطٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ الطَّلَبُ) أَيْ طَلَبُ الْفِعْلِ أَوْ طَلَبُ التَّرْكِ (قَوْلُهُ: أَيْ أَرَادَ لَكَ الْخَيْرَ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ رَحِمَكَ لَا لِأَخْطَرَهُ؛ إذْ الْإِرَادَةُ صِفَةُ ذَاتٍ وَالْأَخْطَارُ صِفَةُ فِعْلٍ (قَوْلُهُ: لَا إيقَاعُهُ) أَيْ لَا إنْ خَشِيْتَ إيقَاعَهُ وَأَوْقَعْتُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّارِحِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعْتُهُ وَلَمْ يَقُلْ بِخِلَافِ مَا إذَا خَشِيتُ إيقَاعَهُ أَيْ مِنْ غَيْرِ إيقَاعٍ (قَوْلُهُ: فَتَسْتَغْفِرُ مِنْهُ) تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ وَاحْتِيَاجُ اسْتِغْفَارِنَا إلَخْ

(قَوْلُهُ: هَضْمًا لِنَفْسِهَا) أَيْ رُؤْيَتِهَا نَفْسَهَا كَذَلِكَ وَقَدْ قَالَ سَيِّدِي عَلِيٌّ وَفَا إنْ دَخَلْتَ فِي طَاعَةٍ فَاخْرُجْ شَاكِرًا بِنِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ مَعْصِيَةٍ فَاخْرُجْ تَائِبًا رَاضِيًا بِالْقَضَاءِ اهـ.

(قَوْلُهُ: الْمَأْمُورِ بِهِ) أَيْ فِي الْكِتَابِ الْعُزَيْرِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَكَانَ «مِنْ سُنَنِهِ صلى الله عليه وسلم دَوَامُ الِاسْتِغْفَارِ قَالَ صلى الله عليه وسلم إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» سَأَلَ شُعْبَةُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ لَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ قَلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَّرْتُ لَكَ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَلَا أَدْرِي فَكَانَ شُعْبَةُ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ. وَعَنْ الْجُنَيْدِ لَوْلَا أَنَّهُ حَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَتَكَلَّمْتُ فِيهِ وَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَى حَالٍ إلَّا مَنْ كَانَ مُشْرِفًا عَلَيْهَا وَجَلَّتْ حَالَتُهُ أَنْ يُشْرِفَ عَلَى نِهَايَتِهَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ تَمَنَّى الصِّدِّيقُ رضي الله عنه مَعَ عُلُوِّ رُتْبَتِهِ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ فَعَنْهُ لَيْتَنِي شَاهَدْتُ مَا اسْتَغْفَرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ الرَّافِعِيُّ وَاَلَّذِي اسْتَحْسَنَهُ وَالِدِي أَنَّهُ لِلتَّرَقِّي فِي الدَّرَجَاتِ فَكُلَّمَا رَقِيَ دَرَجَةً رَأَى الَّتِي تَحْتَهَا قَاصِرَةً بِالْإِضَافَةِ لَهَا فَيَسْتَغْفِرُ اهـ.

فَالْأَنْبِيَاءُ

ص: 518

ذَلِكَ (قَالَ السُّهْرَوَرْدِيّ) بِضَمِّ السِّينِ صَاحِبُ عَوَارِفُ الْمَعَارِفِ لِمَنْ سَأَلَهُ أَنَعْمَلُ مَعَ خَوْفِ الْعُجْبِ وَلَا نَعْمَلُ حَذَرًا مِنْهُ (اعْمَلْ وَإِنْ خِفْتَ الْعُجْبَ مُسْتَغْفِرًا) مِنْهُ أَيْ إذَا وَقَعَ قَصْدًا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ تَرَكَ الْعَمَلِ لِلْخَوْفِ مِنْهُ مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ (وَإِنْ كَانَ) الْخَاطِرُ (مَنْهِيًّا) عَنْهُ (فَإِيَّاكَ) أَنْ تَفْعَلَهُ (فَإِنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ مِلْتَ) إلَى فِعْلِهِ (فَاسْتَغْفِرْ) اللَّهَ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْمَيْلِ (وَحَدِيثُ النَّفْسِ) أَيْ تَرَدُّدُهَا بَيْنَ فِعْلِ الْخَاطِرِ الْمَذْكُورِ وَتَرْكِهِ (مَا لَمْ يَتَكَلَّم أَوْ يَعْمَلُ) بِهِ (وَالْهَمُّ) مِنْهَا بِفِعْلِهِ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ (مَغْفُورَانِ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ عز وجل تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَعْمَلْ أَوْ يَتَكَلَّمْ بِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ أَيْ عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ «كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً»

ــ

[حاشية العطار]

- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - دَائِمًا فِي مَقَامِ التَّرَقِّي وَيُشِيرُ لِذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى: 4](قَوْلُهُ: صَاحِبُ عَوَارِفُ الْمَعَارِفِ) احْتِرَازٌ عَنْ السُّهْرَوَرْدِيّ الْحَكِيمِ صَاحِبِ حِكْمَةُ الْإِشْرَاقِ وَالْهَيَاكِلِ وَغَيْرِهِمَا فَذَاكَ صُوفِيٌّ وَهَذَا حَكِيمٌ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.

(قَوْلُهُ: اعْمَلْ وَإِنْ خِفْتَ الْعُجْبَ) وَلِذَلِكَ قِيلَ إنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ رِيَاءٌ وَاشْتَهَرَ أَنَّ رِيَاءَ الْعَارِفِينَ أَفْضَلُ مِنْ إخْلَاصِ الْمُرِيدِينَ فَقِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ إنَّ لِلرِّيَاءِ مَرَاتِبَ فَإِنَّهُ الْعَمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ أَيًّا كَانَ فَالْمُرِيدُ يَتَخَلَّصُ مِنْ أَوَّلِ مَرَاتِبِهِ وَالْعَارِفُ يَعُدُّ آخِرَ مَرَاتِبِهِ رِيَاءً وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ (قَوْلُهُ: مُسْتَغْفِرًا مِنْهُ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ اعْمَلْ مُنْتَظِرَةً أَوْ مُقَارَنَةً بِحَسَبِ اعْتِبَارِ وَقْتِ الِاسْتِغْفَارِ (قَوْلُهُ: فَإِنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِلْخَوْفِ مِنْهُ) قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَك مِنْهُمَا (قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ) فَرَّقَ الْجُنَيْدُ رضي الله عنه بَيْنَ هَوَاجِسِ النَّفْسِ وَوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ بِأَنَّ النَّفْسَ إنْ طَلَبَتْكَ بِشَيْءِ أَلَحَّتْ فَلَا تَزَالُ تُعَاوِدُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ حَتَّى تَصِلَ مُرَادَهَا وَتَفْعَلَ مَقْصُودَهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَدُومَ صِدْقُ الْمُجَاهَدَةِ ثُمَّ إنَّهَا تُعَاوِدُ وَتُعَاوِدُ أَمَّا الشَّيْطَانُ إذَا دَعَاهُ إلَى زَلَّةٍ وَخَالَفْتَهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ وَيُوَسْوِسُ بِزَلَّةٍ أُخْرَى لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُخَالَفَاتِ لَهُ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا أَبَدًا إلَى زَلَّةٍ مَا وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي تَخْصِيصِ وَاحِدَةٍ دُونَ وَاحِدَةٍ وَقِيلَ كُلُّ خَاطِرٍ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْمَلَكِ فَرُبَّمَا يُوَفِّقُهُ صَاحِبُهُ وَرُبَّمَا يُخَالِفُهُ وَأَمَّا الْخَاطِرُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ قَبْلِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَلَا يَحْصُلُ خِلَافٌ مِنْ الْعَبْدِ لَهُ وَفِي الْمَتْنِ لِسَيِّدِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِيِّ وَسَمِعْتُهُ يَعْنِي سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ أَيْضًا يَقُولُ لَمْ يَعْصِمْ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكَابِرَ مِنْ وَسْوَسَةِ إبْلِيسَ لَهُمْ وَإِنَّمَا عَصَمَهُمْ عَنْ الْعَمَلِ بِمَا يُوَسْوِسُ لَهُمْ فَقَطْ فَهُوَ يُلْقِي إلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِذَلِكَ لِعِصْمَتِهِمْ أَوْ حِفْظِهِمْ قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] اهـ.

وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السَّهْوِ وَالْوَسْوَسَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مَعْنَى «إنِّي لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي» الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

(قَوْلُهُ: مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمَبْدُوءِ بِبَاءِ الْغَائِبِ أَيْ الشَّخْصُ ذُو النَّفْسِ أَوْ الْمَبْدُوءِ بِتَاءِ الْغَائِبَةِ أَيْ النَّفْسُ وَالْمُرَادُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ الْخَاطِرِ إنْ كَانَ مَعْصِيَةً قَوْلِيَّةً أَوْ يَعْمَلُ ذَلِكَ الْخَاطِرِ إنْ كَانَ مَعْصِيَةً فِعْلِيَّةً (قَوْلُهُ وَالْهَمُّ مِنْهَا بِفِعْلِهِ) أَرَادَ بِالْفِعْلِ أَيْضًا مَا يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَقَوْلُهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ أَيْ فَقَدْ حَذَفَ مِنْ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ فَهَلَّا أَخَّرَ الْقَيْدَ لِأَنَّ رُجُوعَهُ إلَيْهَا مَعَ التَّأَخُّرِ أَظْهَرُ مِنْهُ مَعَ التَّوَسُّطِ.

(قَوْلُهُ: مَغْفُورَانِ) خَبَرُ قَوْلِهِ وَحَدِيثُ النَّفْسِ وَالْهَمُّ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِمَا إذْ لَا إثْمَ فِيهِمَا حَتَّى يَغْفِرَ، وَيُعْلَمُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْهَاجِسِ وَالْخَاطِرِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى (قَوْلُهُ وَكَمَا أَنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ لَا ثَوَابَ) وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً» الْمُرَادُ مِنْهُ أَمَّا الْعَزْمُ أَوْ كَتَبَهَا حَسَنَةً إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ التَّرْكُ لَا مِنْ حَيْثُ الْهَمُّ

ص: 519

زَادَ فِي أُخْرَى «إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ أَيْ مِنْ أَجْلِي» وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ كَالْغِيبَةِ أَوْ عَمِلَ كَشُرْبِ الْمُسْكِرِ انْضَمَّ إلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ مُؤَاخَذَةُ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْهَمِّ بِهِ.

(وَإِنْ لَمْ تُطِعْكَ) النَّفْسُ (الْأَمَّارَةُ) بِالسُّوءِ عَلَى اجْتِنَابِ فِعْلِ الْخَاطِرِ الْمَذْكُورِ لِحُبِّهَا بِالطَّبْعِ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الشَّهَوَاتِ فَلَا تَبْدُو لَهَا شَهْوَةٌ إلَّا اتَّبَعَتْهَا (فَجَاهِدْهَا) وُجُوبًا لِتُطِيعَك فِي الِاجْتِنَابِ كَمَا تُجَاهِدُ مَنْ يَقْصِدُ اغْتِيَالَكَ بَلْ أَعْظَمُ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِكَ الْهَلَاكَ الْأَبَدِيَّ بِاسْتِدْرَاجِهَا لَكَ مِنْ مَعْصِيَةٍ إلَى أُخْرَى حَتَّى تُوقِعَكَ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ (فَإِنْ فَعَلْتَ) الْخَاطِرَ الْمَذْكُورَ لِغَلَبَةِ الْأَمَّارَةِ عَلَيْكَ (فَتُبْ) عَلَى الْفَوْرِ وُجُوبًا لِيَرْتَفِعَ عَنْكَ إثْمُ فِعْلِهِ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِقَبُولِهَا فَضْلًا مِنْهُ وَمِمَّا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْإِقْلَاعُ كَمَا سَيَأْتِي

ــ

[حاشية العطار]

فَعُلِمَ أَنَّ مَا يَجْرِي فِي النَّفْسِ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ الْأُولَى الْهَاجِسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُلْقَى فِيهَا الثَّانِيَةُ الْخَاطِرُ وَهُوَ مَا يَتَرَدَّدُ فِيهَا وَيَجُولُ الثَّالِثَةُ حَدِيثُ النَّفْسِ وَهُوَ التَّرَدُّدُ أَيْ يَفْعَلُ أَوْ لَا يَفْعَلُ الرَّابِعَةُ الْهَمُّ وَهُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ لَا مُؤَاخَذَةَ فِيهَا.

وَالْخَامِسَةُ: الْعَزْمُ وَهُوَ الْجَزْمُ بِقَصْدِ الْفِعْلِ وَيَقَعُ بِهِ الْمُؤَاخَذَةُ وَالثَّوَابُ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» (قَوْلُهُ: حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا) بِالرَّفْعِ أَوْ النَّصْبِ فَاعِلٌ أَوْ مَفْعُولٌ.

(قَوْلُهُ: وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ إلَخْ) سُكُوتُهُ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ يُشْعِرُ بِاعْتِمَادِهِ لَهَا وَقَدْ يُقَالُ: الْمُعْتَمَدُ خِلَافُهَا لِخَبَرِ «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ فَإِذَا هَمَّ وَفَعَلَ كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» وَهِيَ الْعَمَلُ الْمَهْمُومُ بِهِ وَيُجَابُ بِأَنَّ كَتْبَ الْمَهْمُومِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً لَا يَنْفِي كَتْبَ الْهَمِّ أَوْ نَحْوِهِ سَيِّئَةً أُخْرَى فَيُؤْخَذُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُصَنِّفَ رَجَّحَهُ فِي مَنْعِ الْمَوَانِعِ مُخَالِفًا لِوَالِدِهِ فِيهِ قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ تُطِعْكَ) ضَمَّنَهُ مَعْنَى تُوَافِقُكَ فَعَدَّاهُ بِعَلَى حَيْثُ قَالَ عَلَى اجْتِنَابِ (قَوْلُهُ: فَجَاهِدْهَا وُجُوبًا) قَدْ يُقَالُ هَلَّا قَالَ أَوْ نَدْبًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَاطِرَ الْمَذْكُورَ قَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى وَكَانَ وَجْهُ التَّقْيِيدِ بِالْوُجُوبِ أَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ مَغْفُورَانِ لِأَنَّ الْغُفْرَانَ إنَّمَا يُنَاسِبُ الْوَاجِبَاتِ إذْ لَا مُؤَاخَذَةَ بِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ التَّعْمِيمُ فِي الْغُفْرَانِ وَالْمُؤَاخَذَاتِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. سم.

ثُمَّ إنَّ أَصْلَ الْمُجَاهَدَةِ وَمِلَاكَهَا وَظُلْمَ النَّفْسِ عَلَى الْمَأْلُوفَاتِ وَحَمْلَهَا عَلَى خِلَافِ هَوَاهَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَلِلنَّفْسِ صِفَتَانِ انْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ وَامْتِنَاعٌ عَنْ الطَّاعَاتِ فَإِذَا جَمَحَتْ عِنْدَ رُكُوبِ الْهَوَى يَجِبُ أَنْ يُلْجِمَهَا بِلِجَامِ التَّقْوَى وَإِنْ حَرَنَتْ عِنْدَ الْقِيَامِ بِالْمُوَافَقَاتِ يَجِبُ سَوْقُهَا عَلَى خِلَافِ الْهَوَى وَمِنْ غَوَامِضِ آفَاتِهَا رُكُونُهَا إلَى اسْتِحْلَاءِ الْمَدْحِ وَأَشَدُّ إحْكَامِهَا وَأَصْعَبُهَا تَوَهُّمُهَا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا حَسَنٌ وَأَنَّ لَهَا اسْتِحْقَاقَ قَدْرٍ قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْخَيْرِيُّ لَا يَرَى أَحَدٌ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَهُوَ يَسْتَحْسِنُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ مَنْ يَتَّهِمُهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ قَالَ رَأَيْتُ رَبِّي فِي الْمَنَامِ فَقُلْت كَيْفَ أُحِبُّكَ فَقَالَ فَارِقْ نَفْسَكَ وَتَعَالَ وَفِي مُخْتَصَرِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْخٌ أَنْ يَعْمَلَ بِهَذِهِ التِّسْعَةِ أُمُورٍ حَتَّى يَجِدَ الشَّيْخَ وَهِيَ الْجُوعُ وَالسَّهَرُ وَالصَّمْتُ وَالْعُزْلَةُ وَالصِّدْقُ وَالصَّبْرُ وَالتَّوَكُّلُ وَالْعَزِيمَةُ وَالْيَقِينُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تِسْعَةً لِأَنَّ بَسَائِطَ الْأَعْدَادِ وَالْأَفْلَاكِ أَيْضًا تِسْعَةٌ وَلَهَا حِكْمَةٌ إلَهِيَّةٌ يَعْرِفُهَا أَهْلُ اللَّهِ.

(قَوْلُهُ: فَتُبْ عَلَى الْفَوْرِ) فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَفِي الْحَدِيثِ «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إنَّ الْعَبْدَ إذَا تَفَكَّرَ فِي قَلْبِهِ سُوءَ مَا يَصْنَعُهُ وَأَبْصَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيحِ الْأَفْعَالِ سَنَحَ فِي قَلْبِهِ إرَادَةُ التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ قَبِيحِ الْمُعَامَلَةِ فَيَمُدُّهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِتَصْحِيحِ الْعَزِيمَةِ وَالتَّأَهُّبِ لِأَسْبَابِ التَّوْبَةِ قَالَ الْجُنَيْدُ دَخَلَ عَلَيَّ السَّرِيُّ يَوْمًا فَرَأَيْتُهُ مُتَغَيِّرًا فَقُلْت لَهُ مَا لَك فَقَالَ دَخَلْتُ عَلَى شَابٍّ فَسَأَلَنِي عَنْ التَّوْبَةِ فَقُلْتُ لَهُ أَنْ لَا تَنْسَى ذَنْبَكَ فَعَارَضَنِي وَقَالَ بَلْ التَّوْبَةُ أَنْ تَنْسَى ذَنْبَكَ، فَقُلْتُ لَهُ إنَّ الْأَمْرَ عِنْدِي مَا قَالَهُ الشَّابُّ فَقَالَ لِمَ؟ فَقُلْتُ إذَا كُنْتُ فِي حَالِ الْجَفَا فَنَقَلَنِي إلَى حَالِ الْوَفَا فَذِكْرُ الْجَافِي حَالَ الصَّفَا جَفَا

ص: 520

(فَإِنْ لَمْ تُقْلِعْ) عَنْ فِعْلِ الْخَاطِرِ الْمَذْكُورِ (لِاسْتِلْذَاذٍ) بِهِ (أَوْ كَسَلٍ) عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ (فَتَذَكَّرْ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ وَفَجْأَةَ الْفَوَاتِ) أَيْ تَذَكَّرْ الْمَوْتَ وَفَجْأَتَهُ الْمُفَوِّتَةَ لِلتَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ فَإِنَّ تَذَكُّرَ ذَلِكَ بَاعِثٌ شَدِيدٌ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا تَسْتَلِذُّ بِهِ أَوْ الْكَسَلِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ زَادَ ابْنُ حِبَّانَ «فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ إلَّا وَسَّعَهُ وَلَا ذَكَرَهُ فِي سَعَةٍ إلَّا ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ» وَهَاذِمٌ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قَاطِعٌ (أَوْ) لَمْ تُقْلِعْ (لِقُنُوطٍ) مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَفْوِهِ عَمَّا فَعَلَتْ لِشِدَّتِهِ أَوْ لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى (فَخَفْ مَقْتَ رَبِّكَ) أَيْ شِدَّةَ عِقَابِ مَالِكِكَ الَّذِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي عَبْدِهِ مَا يَشَاءُ حَيْثُ أَضَفْتَ إلَى الذَّنْبِ الْيَأْسَ مِنْ الْعَفْوِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] أَيْ رَحْمَتِهِ {إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87](وَاذْكُرْ سَعَةَ رَحْمَتِهِ) الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إلَّا هُوَ أَيْ اسْتَحْضِرْهَا لِتَرْجِعَ عَنْ قُنُوطِكَ وَكَيْفَ تَقْنَطُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] أَيْ غَيْرَ الشِّرْكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»

ــ

[حاشية العطار]

فَسَكَتَ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ تُقْلِعْ عَنْ فِعْلِ الْخَاطِرِ) وَمِنْهُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِأَنَّهُ كَفُّ النَّفْسِ وَهُوَ فِعْلٌ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: فَتَذَكَّرْ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ) ذَكَرَهُ فِي عَدَمِ الْإِقْلَاعِ لِلِاسْتِلْذَاذِ وَالْكَسَلِ وَذَكَرَ فِي عَدَمِ الْإِقْلَاعِ لِلْقُنُوطِ خَوْفَ الْمَقْتِ لِنَوْعِ مُنَاسَبَةٍ وَإِلَّا فَيَصِحُّ الْعَكْسُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا (قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ إلَخْ) يُفَسَّرُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ مَا ذُكِرَ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا كَثَّرَهُ وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَلِ إلَّا قَلَّلَهُ.

(قَوْلُهُ: أَيْ شِدَّةَ عِقَابِ مَالِكَ) فِي التَّعْبِيرِ بِالْمَالِكِ وَالْعَبْدِ بَدَلُ الضَّمِيرِ فِيهِمَا مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ لَهُ مِنْ حُسْنِ الصَّنِيعِ مَا لَا يَخْفَى فَإِنَّ فِيهِ مَعَ صِنَاعَةِ الطِّبَاقِ الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّ الْعَاصِيَ لَا تُخْرِجُهُ مَعْصِيَتُهُ الَّتِي سَوَّلَتْهَا رُعُونَةُ النَّفْسِ عَنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إنْ أَبَقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى سَيِّدِهِ وَرُجُوعُ الْعَاصِي بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّهَا رُجُوعُ وَلِيِّ اللَّهِ فَالتَّوْبَةُ مِنْ اللَّهِ إلَى اللَّهِ بِاَللَّهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا رَوَى الْقُشَيْرِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ أَنَّهُ قَالَ تَابَ بَعْضُ الْمُرِيدِينَ ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ فَتْرَةٌ وَكَانَ يُفَكِّرُ وَقْتًا لَوْ عَادَ إلَى التَّوْبَةِ كَيْفَ حُكْمُهُ فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ يَا أَبَا فُلَانٍ أَطَعْتَنَا فَشَكَرْنَاكَ ثُمَّ تَرَكْتَنَا فَأَهْمَلْنَاكَ فَإِنْ عُدْتَ إلَيْنَا قَبِلْنَاكَ اهـ.

وَمِنْ لَطَائِفِ التَّنْزِيلِ {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] فَإِنَّ فِيهِ إيمَاءً إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ كَرَّمَهُ وَلَوْ أَنَّهُ ذَكَرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ الْجَلَالِ كَالْقَهَّارِ لَذَابَ الْعَبْدُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَتَلَاشَى فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَمَاسَكَ إلَى الْجَوَابِ وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] إشَارَةٌ إلَى سَبْقِ الْغُفْرَانِ وَغَلَبَةِ الرَّحْمَةِ قَدْ يُشِيرُ كَلَامُ الشَّارِحِ إلَى مَعْنًى آخَرَ أَيْضًا وَهُوَ تَوْبِيخُ الْعَاصِي بِأَنَّ ارْتِكَابَهُ إلَى الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ لَائِقٍ بِهِ فَإِنَّ شَأْنَ الْعَبْدِ عَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الْمَالِكِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَمَالِ بَاشَا فِي شَرْحِ فَوَائِدِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْله تَعَالَى {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الْآيَةَ ظَاهِرُهُ تَعْلِيلٌ وَبَيَانٌ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ الْعَذَابَ حَيْثُ كَانُوا عِبَادًا لِلَّهِ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ وَبَاطِنُهُ اسْتِعْطَافٌ لَهُمْ وَطَلَبُ رَأْفَةٍ بِهِمْ وقَوْله تَعَالَى {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] يَعْنِي لَا شَيْنَ لِشَأْنِكَ فِي عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِالْعَذَابِ لِأَنَّكَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَظِنَّةِ الْعَجْزِ وَالْقُصُورِ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَفِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّ مَغْفِرَةَ الْكَافِرِينَ لَا تُنَافِي الْحِكْمَةَ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ نَفْيَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّينَ اهـ.

(قَوْلُهُ: أَيْ غَيْرَ الشِّرْكِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48](قَوْلُهُ: فَيَغْفِرُ لَهُمْ) أَيْ لِيَتَحَقَّقَ كَوْنُهُ غَفُورًا وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يُذْنِبُوا لَتَعَطَّلَ كَوْنُهُ غَفُورًا وَهُوَ مِنْ بَابِ تَقْوِيَةِ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فِي الْعَفْوِ لَا الْحَمْلِ عَلَى إيقَاعِ الذُّنُوبِ يُحْكَى عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ كُنْتُ أَنْتَظِرُ

ص: 521

رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(وَاعْرِضْ) عَلَى نَفْسِكَ (التَّوْبَةَ وَمَحَاسِنَهَا) أَيْ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ مِنْ الْمَحَاسِنِ حَيْثُ ذَكَرْتَ سَعَةَ الرَّحْمَةِ لِتَتُوبَ عَمَّا فَعَلْتَ فَتَقْبَلُ وَيُعْفِي عَنْكَ فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى (وَهِيَ) أَيْ التَّوْبَةُ (النَّدَمُ) عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَعْصِيَةٌ فَالنَّدَمُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِإِضْرَارِهِ بِالْبَدَنِ لَيْسَ بِتَوْبَةٍ (وَتَتَحَقَّقُ بِالْإِقْلَاعِ) عَنْ الْمَعْصِيَةِ (وَعَزْمٍ أَنْ لَا يَعُودَ) إلَيْهَا (وَتَدَارُكِ مُمْكِنَ التَّدَارُكِ) مِنْ الْحَقِّ النَّاشِئِ عَنْهَا

ــ

[حاشية العطار]

مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ خُلُوَّ الْمَطَافِ فَكَانَتْ لَيْلَةٌ ظَلْمَاءُ بِهَا مَطَرٌ شَدِيدٌ فَخَلَا الطَّوَافُ فَدَخَلْتُ الطَّوَافَ وَكُنْت أَقُولُ اللَّهُمَّ أَعْصِمْنِي فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَقُولُ يَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ أَنْتَ سَأَلْتَنِي الْعِصْمَةَ وَكُلُّ النَّاسِ يَسْأَلُونِي الْعِصْمَةَ فَإِذَا عَصَمْتُهُمْ فَمَنْ أَرْحَمُ وَعَلَى مَنْ أَتَكَرَّمُ؟ .

وَرَأَى أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سُرَيْجٍ فِي مَنَامِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَإِذَا الْجَبَّارُ سبحانه وتعالى يَقُولُ أَيْنَ الْعُلَمَاءُ قَالَ فَجَاءُوا ثُمَّ قَالَ مَاذَا عَمِلْتُمْ فِيمَا عَلِمْتُمْ قَالَ فَقُلْنَا يَا رَبِّ قَصَّرْنَا وَأَسَأْنَا قَالَ فَأَعَادَ السُّؤَالَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَأَرَادَ جَوَابًا آخَرَ فَقُلْتُ أَمَّا أَنَا فَلَيْسَ فِي صَحِيفَتِي الشِّرْكُ وَقَدْ وَعَدْتُ أَنْ تَغْفِرَ مَا دُونَهُ فَقَالَ اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ كَذَا رَوَى الْقُشَيْرِيُّ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى هَذِهِ الْحِكَايَةَ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ ابْنِ سُرَيْجٍ قَالَ لَنَا يَوْمًا أَحْسَبُ أَنَّ الْمَنِيَّةَ قَدْ قَرُبَتْ فَقُلْنَا وَكَيْفَ قَالَ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَالنَّاسُ قَدْ حُشِرُوا وَكَانَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِمَ أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ فَقُلْتُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَالَ مَا سُئِلْتُمْ عَنْ الْأَقْوَالِ بَلْ سُئِلْتُمْ عَنْ الْأَعْمَالِ فَقُلْتُ أَمَّا الْكَبَائِرُ فَقَدْ اجْتَنَبْنَاهَا وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَعَوَّلْنَا فِيهَا عَلَى عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ اهـ.

وَيُعْجِبُنِي قَوْلُ أَبِي نُوَاسٍ:

يَا رَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً

فَلَقَدْ عَلِمْتَ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ

إنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إلَّا مُحْسِنٌ

فَبِمَنْ يَلُوذُ وَيَسْتَجِيرُ الْمُجْرِمُ

مَالِي إلَيْكَ وَسِيلَةٌ إلَّا الرَّجَا

وَعَظِيمُ عَفْوِكَ ثُمَّ إنِّي مُسْلِمُ

ثُمَّ إنَّ الرَّجَا عَلَى ثَلَاثَةٍ رَجُلٌ عَمِلَ حَسَنَةً فَهُوَ يَرْجُو قَبُولَهَا وَرَجُلٌ عَمِلَ سَيِّئَةً ثُمَّ تَابَ فَهُوَ يَرْجُو الْمَغْفِرَةَ وَالثَّالِثُ الرَّجَا الْكَاذِبُ وَصَاحِبُهُ يَتَمَادَى فِي الذُّنُوبِ وَيَقُولُ أَرْجُو الْمَغْفِرَةَ وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْإِسَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ غَالِبًا فَالْعَبْدُ يَكُونُ دَائِمًا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَقَدْ يَغْلِبُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَفِي الطَّبَقَاتِ لِلْمُصَنَّفِ مِنْ كَلَامِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَخَافُكَ مِنْ قِبَلِي وَلَا أَخَافُك مِنْ قِبَلِك أَوْ أَرْجُوكَ مِنْ قِبَلِكَ وَلَا أَرْجُوك مِنْ قِبَلِي قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالنَّاسُ يَسْتَحْسِنُونَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ قِبَلِي لِمَا اقْتَرَفْتُهُ مِنْ الذُّنُوبِ لَا مِنْ قِبَلِكَ فَإِنَّكَ عَادِلٌ لَا تَظْلِمُ فَلَوْلَا الذُّنُوبُ لَمَا كَانَ لِلْخَوْفِ مَعْنًى وَأَمَّا الرَّجَاءُ فَمِنْ قِبَلِكَ لِأَنَّكَ مُتَفَضِّلٌ لَا مِنْ قِبَلِي لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمَحَاسِنِ مَا أَرْتَجِيكَ بِهَا وَالشِّقُّ الثَّانِي عِنْدَنَا صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّا نَقُولُ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يُخَافُ مِنْ قِبَلِهِ كَمَا يُخَافُ مِنْ قِبَلِنَا لِأَنَّهُ الْمَلِكُ الْقَهَّارُ يَخَافُهُ الطَّائِعُونَ وَالْعُصَاةُ وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَاعْرِضْ) بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ مِنْ عَرَضَ لِأَنَّهُ الْمُتَعَدِّي لَا مِنْ أَعْرَضَ اللَّازِمِ وَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْفِعْلُ وَمِثْلُهُ كَيْفِيَّةُ الْأَفْعَالِ فِي أَنَّ الْمَبْدُوءَ بِالْهَمْزَةِ لَازِمٌ وَبِدُونِهَا مُتَعَدٍّ (قَوْلُهُ: التَّوْبَةُ) وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ فَهِيَ رُجُوعٌ عَنْ الْمَذْمُومِ شَرْعًا قِيلَ وَهِيَ أَوَّلُ مَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ وَأَوَّلُ مَقَامٍ مِنْ مَقَامِ الطَّالِبِينَ (قَوْلُهُ: وَهِيَ النَّدَمُ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» أَيْ مُعْظَمُ أَرْكَانِهَا كَمَا يُقَالُ «الْحَجُّ عَرَفَةَ» وَإِنَّمَا كَانَ مُعْظَمُ أَرْكَانِهَا النَّدَمَ لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ الْبَقِيَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَادِمًا عَلَى مَا هُوَ مُصِرٌّ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ عَازِمٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (قَوْلُهُ: وَتَتَحَقَّقُ) أَيْ التَّوْبَةُ وَتَحَقُّقُهَا بِمَا ذَكَرَهُ مَحَلُّهُ فِي التَّوْبَةِ بَاطِنًا أَمَّا فِي الظَّاهِرِ لِتُقْبَلَ شَهَادَتُهُ وَتَعُودُ وَلَايَتُهُ فَلَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِهَا مَعَ ذَلِكَ فِي الْمَعْصِيَةِ الْقَوْلِيَّةِ مِنْ الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ فِي الْقَذْفِ قَذْفٌ بَاطِلٌ وَأَنَا نَادِمٌ عَلَيْهِ وَلَا أَعُودُ إلَيْهِ وَفِي الْفِعْلِيَّةِ كَالزِّنَا وَفِي شَهَادَةِ الزُّورِ وَقَذْفِ الْإِيذَاءِ مِنْ اسْتِبْرَاءِ سَنَةٍ. اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: وَتَدَارُكِ مُمْكِنَ التَّدَارُكِ) أَفَادَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي التَّوْبَةِ وَهُوَ

ص: 522

كَحَقِّ الْقَذْفِ فَتَدَارُكُهُ بِتَمْكِينِ مُسْتَحِقِّهِ مِنْ الْمَقْذُوفِ أَوْ وَارِثَهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يُبْرِئَ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُ الْحَقِّ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقُّهُ مَوْجُودًا سَقَطَ هَذَا الشَّرْطُ كَمَا يَسْقُطُ فِي تَوْبَةِ مَعْصِيَةٍ لَا يَنْشَأُ عَنْهَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَكَذَا يَسْقُطُ شَرْطُ الْإِقْلَاعِ فِي تَوْبَةِ مَعْصِيَةٍ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا كَشُرْبِ الْخَمْرِ فَالْمُرَادُ بِتَحَقُّقِ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ فِيمَا تَتَحَقَّقُ بِهِ عَنْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ تَوْبَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ وَالِاسْتِغْفَارُ عَقِبَ قَوْلِهِ بِالْإِقْلَاعِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ مَعَ مَا ذَكَرَ (وَتَصِحُّ) التَّوْبَةُ (وَلَوْ بَعْدَ نَقْضِهَا عَنْ ذَنْبٍ وَلَوْ) كَانَ (صَغِيرًا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى) ذَنْبٍ (آخَرَ وَلَوْ) كَانَ (كَبِيرًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ) وَقِيلَ لَا تَصِحُّ بَعْدَ نَقْضِهَا بِأَنْ عَادَ إلَى الْمَتُوبِ عَنْهُ وَقِيلَ لَا تَصِحُّ عَنْ صَغِيرٍ لِتَكْفِيرِهِ بِاجْتِنَابِ الْكَبِيرِ وَقِيلَ لَا تَصِحُّ عَنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى كَبِيرٍ.

(وَإِنْ شَكَكْت) فِي الْخَاطِرِ (أَمَأْمُورٌ) بِهِ (أَمْ مَنْهِيٌّ) عَنْهُ (فَأَمْسِكْ) عَنْهُ حَذَرًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيِّ (وَمِنْ ثَمَّ) أَيْ مِنْ هُنَا وَهُوَ الْإِمْسَاكُ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ (قَالَ) الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ (الْجُوَيْنِيُّ فِي الْمُتَوَضِّئِ يَشُكُّ أَيَغْسِلُ) غَسْلَةً (ثَالِثَةً) فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا (أَمْ رَابِعَةً) فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا (لَا يَغْسِلُ) خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَغَيْرُهُ قَالَ يَغْسِلُ لِأَنَّ التَّثْلِيثَ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ قَبْلَ هَذِهِ الْغَسْلَةِ فَيَأْتِي بِهَا (وَكُلٌّ وَاقِعٌ) فِي الْوُجُودِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ الْخَاطِرُ وَفِعْلُهُ وَتَرْكُهُ (بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتُهُ هُوَ خَالِقُ كَسْبِ الْعَبْدِ) أَيْ فِعْلُهُ الَّذِي هُوَ كَاسِبُهُ لَا خَالِقُهُ كَمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ

ــ

[حاشية العطار]

الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا وَخَالَفَ فِيهِ جَمْعٌ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ وَالْآمِدِيُّ فَقَالُوا لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِيهَا بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِرَأْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاتَانِ فَأَتَى بِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ فِيمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ) مَا وَاقِعَةٌ عَلَى أَرْكَانِ التَّوْبَةِ أَيْ وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ الْكُلِّ صَادِقٌ بِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْبَعْضِ (قَوْلُهُ: عَنْ ذَنْبٍ) فِي التَّنْكِيرِ إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ التَّوْبَةِ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ فَالتَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ مَعَ الْإِصْرَارِ لِلتَّوْضِيحِ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ لَا تَصِحُّ عَنْ صَغِيرٍ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَعْبِيرُهُ بِلَا يَصِحُّ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ جَعَلَ الْخِلَافَ فِي التَّوْبَةِ عَنْ الصَّغِيرِ فِي الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا وَهُوَ صَحِيحٌ تَغْلِيبًا لَكِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ عِنْدَ غَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ فِي وُجُوبِهَا وَعَدَمِهِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَعْلِيلِهِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ لِتَكْفِيرِهِ بِاجْتِنَابِ الْكَبِيرِ. وَتَوَقَّفَ السُّبْكِيُّ فِي وُجُوبِهَا مِنْ الصَّغِيرَةِ عَيْنًا لِتَكْفِيرِهَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْوَاجِبَ لَهَا التَّوْبَةُ وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَخَالَفَهُ ابْنُهُ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ: الَّذِي أَرَاهُ وُجُوبُ التَّوْبَةِ لَهَا عَيْنًا عَلَى الْفَوْرِ نَعَمْ إنْ فُرِضَ عَدَمُ التَّوْبَةِ عَنْهَا حَتَّى اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ كُفِّرَتْ وَمَا أَرَاهُ يَرْجِعُ إلَى مَا رَجَّحَهُ الْجُمْهُورُ اهـ. زَكَرِيَّا (قَوْلُهُ: لِتَكْفِيرِهِ) فَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ عَلَى هَذَا عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ.

(قَوْلُهُ: وَغَيْرُهُ قَالَ يَغْسِلُ) هُوَ الْأَصَحُّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الشَّكِّ مِنْ الْإِمْسَاكِ مَحَلُّهُ فِيمَا لَمْ يُغَيِّ الشَّارِعُ الْحُكْمَ فِيهِ بِغَايَةٍ كَأَنْ شَكَّ فِي مَائِعٍ أَهُوَ بَوْلٌ أَوْ مَاءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا غَيَّاهُ بِغَايَةٍ كَشَكَّ وَهُوَ يُصَلِّي الظُّهْرَ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ أَوْ وَهُوَ يَغْسِلُ مَا تَنَجَّسَ بِنَجَاسَةٍ مُغَلَّظَةٍ أَغَسَلَ سِتًّا أَوْ سَبْعًا؟ اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: وَكُلُّ وَاقِعٍ) أَيْ وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ وَمِنْ جُمْلَتِهِ إلَخْ إشَارَةٌ لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهُ وَإِلَّا فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا إلَى قَوْلِهِ وَرَجَّحَ قَوْمٌ إلَخْ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ بَلْ مَسْأَلَةُ الْكَسْبِ مِنْ غَوَامِضِهَا (قَوْلُهُ: بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ) اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَاذَا؟ فَقَالَ الْجَبْرِيَّةُ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْ الْعَبْدِ أَصْلًا وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ قُدْرَةُ الْعَبْدِ فَقَطْ بِلَا إيجَابٍ وَقَالَ الْفَلَاسِفَةُ قُدْرَةُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَابِ فَيَمْتَنِعُ التَّخَلُّفُ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَتَيْنِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ قُدْرَةُ اللَّهِ مُؤَثِّرَةٌ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ وَقُدْرَةُ الْعَبْدِ فِي وَصْفِهِ بِأَنْ تَجْعَلَهُ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً. وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ قُدْرَةُ اللَّهِ وَلِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ لَكِنْ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، فَقِيلَ الْقُدْرَةُ بِلَا تَأْثِيرٍ كَلَا قُدْرَةَ. وَطَالَ نِزَاعُ الْخُصُومِ مَعَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكُنْتُ وَأَنَا بِبِلَادِ رُومِ أَيْلَى أَطْلَعَنِي بَعْضُ الْأَفَاضِلِ عَلَى كَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذَكَرَهُ الْخَادِمِيُّ فِي شَرْحِ الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَأَلَّفْتُ هُنَاكَ رِسَالَةً سَمَّيْتُهَا تُحْفَةُ

ص: 523

(قَدَّرَ لَهُ قُدْرَةً هِيَ اسْتِطَاعَتُهُ تَصْلُحُ لِلْكَسْبِ لَا لِلْإِبْدَاعِ) بِخِلَافِ قُدْرَةِ اللَّهِ فَإِنَّهَا لِلْإِبْدَاعِ لَا لِلْكَسْبِ (فَاَللَّهُ خَالِقٌ غَيْرُ مُكْتَسِبٍ وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ غَيْرُ خَالِقٍ) فَيُثَابُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مُكْتَسَبِهِ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللَّهُ عَقِبَ قَصْدِهِ لَهُ. وَهَذَا - أَيْ كَوْنُ فِعْلِ الْعَبْدِ مُكْتَسَبًا لَهُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ - تَوَسُّطٌ بَيْنَ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ لِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ يُثَابُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْجَبْرِيَّةِ أَنَّهُ لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا وَهُوَ آلَةٌ مَحْضَةٌ كَالسِّكِّينِ فِي يَدِ الْقَاطِعِ (وَمِنْ ثَمَّ) أَيْ مِنْ هُنَا وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ مُكْتَسِبٌ لَا خَالِقٌ لِكَوْنِ قُدْرَتِهِ لِلْكَسْبِ لَا لِلْإِبْدَاعِ فَلَا تُوجَدُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَقُولُ (الصَّحِيحُ أَنَّ الْقُدْرَةَ) مِنْ الْعَبْدِ (لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ) أَيْ لِلتَّعَلُّقِ بِهِمَا وَإِنَّمَا تَصْلُحُ لِلتَّعَلُّقِ بِأَحَدِهِمَا الَّذِي يُقْصَدُ وَقِيلَ تَصْلُحُ لِمُتَعَلِّقٍ بِهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ أَيْ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا بَدَلًا عَنْ تَعَلُّقِهَا بِالْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ لِفِعْلِهِ فَقُدْرَتُهُ كَقُدْرَةِ اللَّهِ

ــ

[حاشية العطار]

غَرِيبِ الْوَطَنِ فِي تَحْقِيقِ نُصْرَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ ثُمَّ تَوَجَّهْت إلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ إذْ ذَاكَ وَهُوَ الْعَلَّامَةُ عَرَبْ زَادَهْ فَكَتَبَ عَلَيْهَا تَقْرِيظًا ثُمَّ صَحِبْتُهَا مَعِي عِنْدَ تَوَجُّهِي لِدِمَشْقَ الشَّامِ وَاجْتَمَعْتُ فِيهَا بِالْعَلَّامَةِ الْعَارِفِ بِاَللَّهِ الشَّيْخِ عُمَرَ الْيَافِيِّ شَيْخِ طَرِيقَةِ الْخَلْوَتِيَّةِ وَكَانَ ذَا بَاعٍ فِي فَهْمِ كَلَامِ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ سَيِّدِي مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَلَهُ بَرَاعَةٌ تَامَّةٌ فِي الْإِنْشَاءِ وَالشِّعْرِ فَقَرَّظَهَا أَيْضًا وَهِيَ بَاقِيَةٌ عِنْدِي الْآنَ.

(قَوْلُهُ: قُدْرَةٌ هِيَ اسْتِطَاعَتُهُ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا تُسَمَّى اسْتِطَاعَةً أَيْضًا فَالِاسْتِطَاعَةُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ عَرْضٌ مُقَارِنٌ لِلْفِعْلِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ فَلَا يَصِحُّ سَبْقُهَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدَ مِنْ أَنَّ الْعَرْضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَمَنْ قَالَ بِبَقَائِهِ جَوَّزَ سَبْقَهَا عَلَى الْفِعْلِ وَلَا يُنَاسِبُ هَذَا جَعْلَهَا عِلَّةً لِأَنَّ الْعِلَّةَ تُقَارِنُ الْمَعْلُولَ فَتَكُونُ شَرْطًا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ الْمُقَارَنَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَقُدْرَةُ الْعَبْدِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ثُمَّ مَنْ قَالَ بِسَبْقِهَا عَلَى الْفِعْلِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا أُورِدَ عَلَى الْقَائِلِ بِالْمُقَارَنَةِ مِنْ لُزُومِ تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إلَى الْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ حِينَئِذٍ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْقُدْرَةِ بِمَعْنَى الْعَرْضِ الْمُقَارَنِ تُطْلَقُ عَلَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ تَعَمُّدُ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ.

(قَوْلُهُ: وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ إلَخْ) فَمَعْنَى الْكَسْبِ عِنْدَنَا هُوَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ قُدْرَةً مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ إيقَاعَهُ مِنْهُ وَإِرَادَةً لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقُدْرَةُ مُؤَثِّرَةً فِي فِعْلِهِ وَمَا شَنَّعَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ إذَا لَمْ تَكُنْ فَتَسْمِيَتُهَا قُدْرَةً مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ إذْ الْقُدْرَةُ صِفَةٌ مُؤَثِّرَةٌ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ وَبِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارٌ لَا يَسْتَحِقُّ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا أَجَابَ عَنْهُ أَئِمَّتُنَا بِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ التَّأْثِيرَ بَلْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ الْكَسْبِ فَلَيْسَ التَّأْثِيرُ بِالْفِعْلِ مُعْتَبَرًا فِي مَفْهُومِهَا بَلْ هِيَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا التَّأْثِيرُ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ سَوَاءٌ أَثَّرَتْ بِالْفِعْلِ أَوْ لَمْ تُؤَثِّرْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ فِي الْأَزَلِ عَلَى إيجَادِ الْعَالَمِ وَلَا تَأْثِيرَ بِالْفِعْلِ فِيهِ وَإِلَّا كَانَ قَدِيمًا وَبِأَنَّ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَقْدَحُ فِي أُصُولِ الْأَشْعَرِيِّ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِطَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ إنْ أَثَابَ فَبِفَضْلِهِ وَإِنْ عَذَّبَ فَبِعَدْلِهِ وَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِي أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ.

(قَوْلُهُ: تَوَسُّطٌ) أَيْ اقْتِصَادٌ فِي الِاعْتِقَادِ بَيْنَ طَرَفَيْ الْإِفْرَاطِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالتَّفْرِيطِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ آلَةٌ مَحْضَةٌ) الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَحَلٌّ لِصُدُورِ الْفِعْلِ عَنْهُ وَقِيَامِهِ بِهِ وَلَيْسَ آلَةً حَقِيقِيَّةً كَالسِّكِّينِ لِلْقَطْعِ وَيَكُونُ الْفِعْلُ وَصْفًا قَائِمًا بِالْعَبْدِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ كَانَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لَهُ تَعَالَى لَصَحَّ إسْنَادُ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَنَحْوِهِمَا إلَيْهِ تَعَالَى وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ وَجَوَابُهُ مَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ الْمُشْتَقَّاتِ إنَّمَا تُسْنَدُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَامَتْ بِهِ لَا إلَى مَنْ أَوْجَدَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْصَافَ الْجَمَادَاتِ كَالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وِفَاقًا وَيُمْنَعُ إسْنَادُ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ إلَيْهِ (قَوْلُهُ: فَلَا تُوجَدُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ) يَقْتَضِي أَنَّ

ص: 524

فِي وُجُودِهَا قَبْلَ الْفِعْلِ وَصَلَاحِيَّتُهَا لِلتَّعَلُّقِ بِالضِّدَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ (وَ) الصَّحِيحُ أَيْضًا (أَنَّ الْعَجْزَ) مِنْ الْعَبْدِ (صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ تُقَابِلُ الْقُدْرَةَ تَقَابُلَ الضِّدَّيْنِ لَا) تَقَابَلَ (الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ) وَقِيلَ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ فَيَكُونُ هُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ الْقُدْرَةُ

ــ

[حاشية العطار]

كَوْنَ الْقُدْرَةِ مَعَ الْفِعْلِ لَازِمٌ لِلْقَوْلِ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُكْتَسِبًا لَا خَالِقًا وَفِيهِ وَقْفَةٌ إذْ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُكْتَسِبًا لَا خَالِقًا قَائِلٌ بِهَا قَبْلَ الْفِعْلِ لِدَعْوَاهُ أَنَّهَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ اهـ. زَكَرِيَّا

أَقُولُ مَنْ قَالَ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْعَرَضِ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمُقَارَنَةِ وَمَنْ جَوَّزَهُ جَوَّزَ التَّقَدُّمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

(قَوْلُهُ: عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ) يُقَالُ عَلَيْهِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ لَا تُوجَدُ إلَّا مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَلَا بَدَلِيَّةَ بَلْ لِكُلِّ فِعْلٍ قُدْرَةٌ مَعَهُ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ الْفِعْلَ فَلَمْ تَظْهَرْ مُقَابَلَةُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَا قَبْلَهُ وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْقُدْرَةِ مَعَ الْفِعْلِ أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ فِعْلٍ يَصِحُّ صُدُورُهُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ حَالَ الْمَنْعِ كَالزَّمِنِ الَّذِي هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْفِعْلِ وَأَنَّ الْقُدْرَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَقْدُورَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا ضِدَّيْنِ أَوْ مِثْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنَّ مَا نَجِدُهُ فِي نُفُوسِنَا عِنْدَ صُدُورِ أَحَدِ الْمَقْدُورَيْنِ غَيْرُ مَا نَجِدُهُ عِنْدَ صُدُورِ الْآخَرِ.

وَاتَّفَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ الْوَاحِدَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْمُتَمَاثِلَاتِ لَكِنْ عَلَى مُرُورِ الْأَوْقَاتِ يَمْتَنِعُ وُقُوعُ مِثْلَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِقُدْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَاخْتَلَفُوا فِي تَعَلُّقِهَا بِالضِّدَّيْنِ فَجَوَّزَ أَكْثَرُهُمْ تَعَلُّقَهَا بِهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَادِرُ عَلَى الْمَشْيِ قَادِرًا عَلَى ضِدِّهِ لَكَانَ مُضْطَرًّا إلَى ذَلِكَ الْمَقْدُورِ حَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَرْكِهِ هُوَ وَتَرَدَّدَ أَبُو هَاشِمٍ فَزَعَمَ تَارَةً أَنَّ كُلًّا مِنْ الْقُدْرَةِ الْقَائِمَةِ بِالْقَلْبِ وَالْقُدْرَةِ الْقَائِمَةِ بِالْجَوَارِحِ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ مَحَالِّهَا دُونَ الْأُخْرَى بِمَعْنَى أَنَّ الْقَائِمَةَ بِالْقَلْبِ تُعَلَّقُ بِالْإِرَادَاتِ وَالِاعْتِقَادَاتِ مَثَلًا دُونَ الْحَرَكَاتِ وَالِاعْتِمَادَاتِ وَالْقَائِمَةَ بِالْجَوَارِحِ عَلَى الْعَكْسِ وَتَارَةً بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِالْجَمِيعِ إلَّا أَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ إلَّا فِي أَفْعَالِ مَحَالِّهَا مَثَلًا الْقَائِمَةُ بِالْقَلْبِ تَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ لَكِنْ يَمْتَنِعُ اتِّحَادُ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ بِهَا لِفَقْدِ الشَّرَائِطِ وَالْقَائِمَةُ بِالْجَوَارِحِ تَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْقَلْبِ.

وَأَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ كَلَامًا حَاصِلُهُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ الْقُوَّةُ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ سَوَاءٌ كَمُلَتْ جِهَاتُ تَأْثِيرِهَا أَوْ لَمْ تَكْمُلْ فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهَا قَبْلَ الْفِعْلِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ وَفِي جَوَازِ تَعَلُّقِهَا بِالضِّدَّيْنِ وَإِنْ أُرِيدَ الْقُوَّةُ الَّتِي كَمُلَتْ جِهَاتُ تَأْثِيرِهَا فَلَا خَفَاءَ فِي كَوْنِهَا مَعَ الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ لَا قَبْلَهُ وَفِي امْتِنَاعِ تَعَلُّقِهَا بِالضِّدَّيْنِ بَلْ الْمَقْدُورَيْنِ مُطْلَقًا ضَرُورَةَ أَنَّ الشَّرَائِطَ الْمُخَصَّصَةَ لِهَذَا غَيْرُ الشَّرَائِطِ الْمُخَصَّصَةِ لِذَاكَ اهـ. بِاخْتِصَارٍ.

(قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْعَجْزَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ) فِي تَفْرِيعِ كَوْنِ الْعَجْزِ صِفَةً وُجُودِيَّةً عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُكْتَسِبًا لَا خَالِقًا نَظَرٌ لَا يَخْفَى وَإِنْ أَشَارَ الشَّارِحُ إلَى بِنَائِهِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ كَمَا الْأَمْرُ كَذَلِكَ إلَخْ اهـ نَاصِرٌ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعَجْزَ عَرَضٌ ثَابِتٌ مُضَادٌّ لِلْقُدْرَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ فِي الزَّمِنِ مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي الْمَمْنُوعِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَعِنْدَ أَبِي هَاشِمٍ هُوَ عَدَمُ مَلَكَةٍ لِلْقُدْرَةِ وَلَيْسَ فِي الزَّمِنِ صِفَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ تَضَادُّ الْقُدْرَةَ بَلْ الْفَرْقُ أَنَّ الزَّمِنَ لَيْسَ بِقَادِرٍ وَالْمَمْنُوعُ قَادِرٌ بِالْفِعْلِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ الْقُدْرَةُ بِطَرِيقِ جَرْيِ الْعَادَةِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْعَجْزِ ضِدَّ الْقُدْرَةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّيْخُ الْأَشْعَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوُجُودِ كَالْقُدْرَةِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الصِّفَةِ الْمَوْجُودَةِ بِالْمَعْدُومِ خَيَالٌ مَحْضٌ فَعَجْزُ الزَّمَنِ يَكُونُ عَنْ الْقُعُودِ الْمَوْجُودِ لَا عَنْ الْقِيَامِ الْمَعْدُومِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ وَأَنَّ الْعَجْزَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَلَا امْتِنَاعَ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْدُومِ كَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَلِهَذَا أَطْبَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ عَجْزَ الْمُتَحَدِّينَ عَنْ

ص: 525

كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ لِفِعْلِهِ فَعَلَى الْأَوَّلِ فِي الزَّمَنِ مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي الْمَمْنُوعِ مِنْ الْفِعْلِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَعَلَى الثَّانِي لَا بَلْ الْفَرْقُ أَنَّ الزَّمَنَ لَيْسَ بِقَادِرٍ وَالْمَمْنُوعُ قَادِرٌ إذْ مِنْ شَأْنِهِ الْقُدْرَةُ بِطَرِيقِ جَرْيِ الْعَادَةِ.

(وَرَجَّحَ قَوْمٌ التَّوَكُّلَ) مِنْ الْعَبْدِ عَلَى الِاكْتِسَابِ (وَآخَرُونَ الِاكْتِسَابَ) عَلَى التَّوَكُّلِ أَيْ الْكَفَّ عَنْ الِاكْتِسَابِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ الْأَسْبَابِ اعْتِمَادًا لِلْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَثَالِثٌ الِاخْتِلَافَ) بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ فَمَنْ يَكُونُ فِي تَوَكُّلِهِ لَا يَتَسَخَّطُ عِنْدَ ضِيقِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ وَلَا تَسْتَشْرِفُ نَفْسُهُ أَيْ تَتَطَلَّعُ لِسُؤَالِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فَالتَّوَكُّلُ فِي حَقِّهِ

ــ

[حاشية العطار]

مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ لَا عَنْ السُّكُوتِ وَتَرْكِ الْمُعَارَضَةِ اهـ.

(قَوْلُهُ: كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ) أَيْ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ (قَوْلُهُ: عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ) يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا نَسَبُوا لِلْعَبْدِ خَلْقَ أَفْعَالِهِ فَسَّرُوا الْعَجْزَ بِأَنَّهُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ إلَخْ فَجَعَلُوا التَّقَابُلَ بَيْنَهُمَا تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَفِيهِ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ إلَخْ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ التَّقَابُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُدْرَةِ تَقَابُلُ التَّضَادِّ وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ أَبُو هَاشِمٍ مِنْهُمْ وَفِي الشَّرْحِ الْجَدِيدِ عَلَى التَّجْرِيدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعَجْزَ عَرَضٌ مُضَادٌّ لِلْقُدْرَةِ أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا فَذَهَبَ الْأَشَاعِرَةُ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى الْأَوَّلِ وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى الثَّانِي اهـ.

فَاتَّجَهَ تَنْظِيرُ النَّاصِرِ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ لِلْمُعْتَزِلَةِ يَعْنِي بِكَوْنِ الْعَبْدِ خَالِقًا لِفِعْلِهِ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعَجْزَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ صَرَّحَ بِهِ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ (قَوْلُهُ: فَعَلَى الْأَوَّلِ فِي الزَّمِنِ مَعْنًى إلَخْ) فَإِنْ قِيلَ: الْمَمْنُوعُ إنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْفِعْلُ عَلَى تَقْدِيرِ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ وَالزَّمِنُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَادِرٌ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ قُلْنَا الْمَمْنُوعُ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْفِعْلُ وَهُوَ بِحَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنَّمَا التَّغَيُّرُ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ بِخِلَافِ الزَّمِنِ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ كَذَا فِي الشَّرْحِ الْجَدِيدِ لِلتَّجْرِيدِ

(قَوْلُهُ: وَالْإِعْرَاضِ) بِالْجَرِّ عَطْفُ تَفْسِيرٍ عَلَى الْكَفِّ فَسَّرَ التَّوَكُّلَ بِذَلِكَ تَبَعًا لِكَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ لَا بِمُجَرَّدِ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِمَّا يَأْتِي عَنْ الْمُحَقِّقِينَ لِيَتَأَتَّى مَعَهُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ حَالَتَيْ الِاكْتِسَابِ وَتَرْكِهِ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي أَوْ بِمَا يَأْتِي عَنْ الْمُحَقِّقِينَ لَا يُنَافِي تَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ وَقَرِيبٌ مِمَّا فُسِّرَ بِهِ التَّوَكُّلُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ التَّوَكُّلُ تَرْكُ السَّعْيِ فِيمَا لَا تَسَعُهُ قُدْرَةُ الْبَشَرِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ قَطْعُ النَّظَرِ عَنْ الْأَسْبَابِ مَعَ تَهَيُّئِهَا وَلِهَذَا «قَالَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ قَالَ لَهُ أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ اهـ. زَكَرِيَّا.

وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ أَنَّ التَّوَكُّلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ وَالْحَرَكَةُ بِالظَّاهِرِ لَا تُنَافِي تَوَكُّلَ الْقَلْبِ بَعْدَمَا يَتَحَقَّقُ الْعَبْدُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ تَعَسَّرَ شَيْءٌ فَبِتَقْدِيرِهِ وَإِنْ أَنْفَقَ شَيْءٌ فَبِتَيْسِيرِهِ وَعَلَامَةُ التَّوَكُّلِ ثَلَاثٌ لَا يَسْأَلُ وَلَا يَرُدُّ وَلَا يَحْبِسُ (قَوْلُهُ: فَالتَّوَكُّلُ فِي حَقِّهِ أَرْجَحُ) وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعَاطِي بَعْضِ الْأَسْبَابِ الضَّرُورِيَّةِ لَا أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ كَانَ إبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ مُجَرَّدًا فِي التَّوَكُّلِ مُدَقِّقًا فِيهِ وَكَانَ لَا يُفَارِقُهُ إبْرَةٌ وَخُيُوطٌ وَرَكْوَةٌ وَمِقْرَاضٌ فَقِيلَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ لِمَ تَحْمِلُ هَذَا وَأَنْتَ تَمْنَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَقَالَ مِثْلُ هَذَا لَا يُنْقِصُ التَّوَكُّلَ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا فَرَائِضَ وَالْفَقِيرُ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَرُبَّمَا يَنْخَرِقُ ثَوْبُهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إبْرَةٌ وَخُيُوطٌ تَبْدُو عَوْرَتُهُ فَتَفْسُدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَكْوَةٌ تَفْسُدُ عَلَيْهِ طَهَارَتُهُ وَإِذَا

ص: 526

أَرْجَحُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّبْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ لِلنَّفْسِ وَمَنْ يَكُونُ فِي تَوَكُّلِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ فَالِاكْتِسَابُ فِي حَقِّهِ أَرْجَحُ حَذَرًا مِنْ التَّسَخُّطِ وَالِاسْتِشْرَافِ (وَمِنْ ثَمَّ) أَيْ مِنْ هُنَا وَهُوَ الثَّالِثُ الْمُخْتَارُ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ

ــ

[حاشية العطار]

رَأَيْتَ الْفَقِيرَ بِلَا إبْرَةٍ وَلَا خُيُوطٍ وَلَا رَكْوَةٍ فَاتَّهِمْهُ فِي صَلَاتِهِ (قَوْلُهُ: فَالِاكْتِسَابُ فِي حَقِّهِ أَرْجَحُ) وَقَدْ يَكُونُ التَّكَسُّبُ لَا يُضْعِفُ التَّوَكُّلَ بَلْ لِأَغْرَاضٍ أُخَرَ إمَّا لِقَصْدِ مُعَاوَنَةِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ بِجَلْبِ الْأَقْوَاتِ وَأَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَإِقَامَةِ الصِّنَاعَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ضَرُورِيٌّ لِبَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي لَوْ تَرَكَهُ الْجَمِيعُ لَأَثِمُوا فَإِنَّهُ مِنْ مَفْرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَلِذَلِكَ قِيلَ الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ وَبِتَرْكِ ذَلِكَ يَخْتَلُّ نِظَامُ الْعَالَمِ فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَسْبَابٌ عَادِيَةٌ ارْتَبَطَ بِهَا حِكَمٌ وَمَصَالِحُ يَتَلَبَّسُ بِهَا الْعَارِفُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْجُبَهُمْ عَنْ الْمُسَبِّبِ فَيُحْمَدُوا وَيَقِفُ عِنْدَهَا الْمَحْجُوبُونَ فَيُذَمُّوا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّارَ دَارُ أَسْبَابٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَاطِيهَا وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] فَلَمْ يَقْسِمْ الرَّبُّ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّسَاوِي بَلْ عَلَى طَرِيقِ التَّفَاوُتِ إذْ لَوْ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَكَانَ مَا عِنْدَ هَذَا عِنْدَ غَيْرِهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَمْ يَرْغَبْ بَعْضُهُمْ فِي خِدْمَةِ بَعْضٍ فَوَقَعَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمْ لِيَتَعَاوَنُوا وَيَتَرَفَّقُوا وَيُسَخِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَسْتَعْمِلَ الْأَغْنِيَاءُ الْفُقَرَاءَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ بِالْأُجْرَةِ وَالْفُقَرَاءُ الْأَغْنِيَاءَ فِي مَتَاعِبِ الْأَسْفَارِ وَجَلْبِ السِّلَعِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفُقَرَاءُ مِنْ الْأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ قَالَ الرَّاغِبُ فِي كِتَابِ الذَّرِيعَةِ: التَّكَسُّبُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ مَعْدُودًا مِنْ الْمُبَاحَاتِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ لِلْإِنْسَانِ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ إلَّا بِإِزَالَةِ ضَرُورِيَّاتِ حَيَاتِهِ فَإِزَالَتُهَا وَاجِبَةٌ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى إزَالَةِ ضَرُورِيَّاتِهِ إلَّا بِأَخْذِ تَعَبٍ مِنْ النَّاسِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ فِعْلًا لَهُ وَإِلَّا كَانَ ظَالِمًا لَهُمْ فَمَنْ تَوَسَّعَ فِي تَنَاوُلِ عَمَلِ غَيْرِهِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَسْكَنِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ لَهُمْ عَمَلًا بِقَدْرِ مَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْهُمْ وَلِهَذَا ذُمَّ مَنْ يَدَّعِي التَّصَوُّفَ فَيَتَعَطَّلُ عَنْ الْمَكَاسِبِ وَلَا يَكُونُ لَهُ عِلْمٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ فِي الدِّينِ يُقْتَدَى بِهِ بَلْ يَجْعَلُ هَمَّهُ عَادِيَةَ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَنَافِعَ النَّاسِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ مَعَاشَهُمْ وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِ نَفْعًا فَلَا طَائِلَ فِي أَمْثَالِهِمْ إلَّا أَنْ يُكَدِّرُوا الْمَاءَ وَيُغْلُوا الْأَسْعَارَ اهـ.

وَأَمَّا لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْأَخْذِ مِنْ أَمْوَالِ السَّلَاطِينِ وَقَصْدِ مُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِينَ.

وَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ لِجَمْعِهِ بَيْنَ فَضَائِلَ عَدِيدَةٍ وَعَلَى ذَلِكَ يَتَخَرَّجُ اشْتِغَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ بِالتِّجَارَةِ كَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ أَنَّ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنْتَ تَأْمُرُنَا بِالزُّهْدِ وَالتَّقَلُّلِ وَالْبُلْغَةِ وَنَرَاكَ تَأْتِي بِالْبَضَائِعِ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ إلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ كَيْفَ ذَا وَأَنْتَ تَأْمُرُنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَلِيٍّ أَنَا أَفْعَلُ ذَا لِأَصُونَ بِهِ وَجْهِي وَأُكْرِمُ بِهِ عِرْضِي وَأَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّي لَا أَرَى لِلَّهِ حَقًّا إلَّا سَارَعْتُ إلَيْهِ حَتَّى أَقُومَ بِهِ، فَقَالَ الْفُضَيْلُ: يَا ابْنُ الْمُبَارَكِ مَا أَحْسَنُ ذَا إنْ تَمَّ. اهـ.

ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ جَارٍ فِي عُمُومِ النَّاسِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِهِ بِمَا عَدَا أَهْلَ الْعِلْمِ قَائِلًا بِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِالرِّزْقِ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ تَكَفَّلَ بِذَلِكَ لِعُمُومِ مَخْلُوقَاتِهِ قَالَ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَقَالَ تَعَالَى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] وَأَمَرَهُمْ بِالسَّعْيِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ وَهَذِهِ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ قَدْ أَكْرَمَهَا اللَّهُ بِأَنْ أَوْجَدَ لَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَبِالْعَكْسِ أَمَرَهَا بِقَوْلِهِ {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] قَالَ الشَّاعِرُ:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ

وَهُزِّي إلَيْكِ الْجِذْعَ يَسَّاقَطُ الرُّطَبُ

وَلَوْ شَاءَ أَحْنَى الْجِذْعَ مِنْ غَيْرِ هَزِّهِ

عَلَيْهَا وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبُ

وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:

وَلَيْسَ الرِّزْقُ عَنْ طَلَبٍ حَثِيثٍ

وَلَكِنْ أَلْقِ دَلْوَكَ فِي الدِّلَاءِ

تَجِيءُ بِمِلْئِهَا طَوْرًا وَطَوْرًا

تَجِيءُ بِحَمْأَةٍ وَقَلِيلِ مَاءٍ

ص: 527

(قِيلَ) قَوْلًا مَقْبُولًا (إرَادَةُ التَّجْرِيدِ) عَمَّا يَشْغَلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (مَعَ دَاعِيَةِ الْأَسْبَابِ) مِنْ اللَّهِ فِي مُرِيدِ ذَلِكَ (شَهْوَةٌ خَفِيَّةٌ) مِنْ الْمُرِيدِ.

(وَسُلُوكُ الْأَسْبَابِ) الشَّاغِلَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (مَعَ دَاعِيَةِ التَّجْرِيدِ) مِنْ اللَّهِ فِي سَالِكِ ذَلِكَ (انْحِطَاطٌ) لَهُ (عَنْ الذِّرْوَةِ الْعَلِيَّةِ) فَالْأَصْلَحُ لِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ فِيهِ دَاعِيَةَ الْأَسْبَابِ سُلُوكُهُ دُونَ التَّجْرِيدِ وَلِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ فِيهِ دَاعِيَةَ التَّجْرِيدِ سُلُوكُهُ دُونَ الْأَسْبَابِ (وَقَدْ يَأْتِي الشَّيْطَانُ) لِلْإِنْسَانِ

ــ

[حاشية العطار]

لَا يُقَالُ تَكْلِيفُهُمْ السَّعْيَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ يَمْنَعُهُمْ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ لِأَنَّا نَقُولُ تَحْصِيلُ الْقَدْرِ الضَّرُورِيِّ غَيْرُ مَانِعٍ وَاَلَّذِي يَمْنَعُ طَلَبَ الزِّيَادَةِ وَقَدْ وَقَعْنَا فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَتَلَبَّسْنَا بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] وَقَدْ كَانَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ سَابِقًا أَرْزَاقٌ دَائِرَةٌ مِنْ أَوْقَاتِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَصَدَقَاتٍ جَارِيَةٍ مِنْ مَيَاسِيرِ الْمُسْلِمِينَ تَقُومُ بِكِفَايَتِهِمْ وَتَدْفَعُ ضَرُورَةَ حَاجَتِهِمْ فَلَمْ تَطْمَحْ نُفُوسُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى فُضُولِ الْعَيْشِ وَارْتِكَابِ التَّهَوُّرِ فِي تَحْصِيلِهَا وَالطَّيْشِ فَصَرَفُوا أَوْقَاتَهُمْ كُلَّهَا فِي تَحْصِيلِ الْعُلُومِ وَسَاعَدَهُمْ صَفَاءُ الْوَقْتِ مِنْ الشَّوَائِبِ الشَّاغِلَةِ لِلْعُقُولِ وَالْخُطُوبِ الْمُزْعِجَةِ لِلْقُلُوبِ فَوَصَلُوا فِي مَدَارِكِ الْعُلُومِ إلَى حَدٍّ هُوَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ آيَةُ إعْجَازٍ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ إلَى حَقِيقَةِ الْإِحَاطَةِ بِهِ الْمَجَازُ:

ثُمَّ انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ وَأَهْلُهَا

فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُمْ أَحْلَامُ

وَاتَّفَقَ مَجِيئُنَا وَالزَّمَانُ قَدْ شَابَ بَعْدَ شَبَابِهِ وَقَطَبَ بَعْدَ ابْتِسَامِهِ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ فَارْتَشَفْنَا بَعْضَ قَطَرَاتٍ مِنْ بِحَارِ عُلُومِهِمْ وَلَمْ نُدْرِكْ فِي سَيْرِنَا شَأْوَ فُهُومِهِمْ فَحَالُنَا يُنْبِي عَنْ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي:

أَتَى الزَّمَانُ بَنُوهُ فِي شَبِيبَتِهِ

فَسَرَّهُمْ وَأَتَيْنَاهُ عَلَى الْهَرَمِ

هَذَا مَعَ تَكَاثُرِ الْمَآرِبِ وَتَعَاطِي الْمَطَالِبِ وَصَرْفِ الْأَوْقَاتِ فِي ضَرُورِيَّاتِ الْحَاجَاتِ وَتَكَرُّرِ الْأَوْقَاتِ وَكَثْرَةِ الْآفَاتِ وَتَوَارُدِ الْفِتَنِ وَتَوَالِي الْمِحَنِ:

وَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ وَيَفْنَى

نى الْعِلْمُ فِيهِ وَيَنْمَحِي الْأَثَرُ

وَلَا يَسَعُنِي إلَّا التَّسْلِيمُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ حَذَرًا مِنْ السَّخَطِ أَيْ عَدَمِ الرِّضَى بِمَا قُسِمَ لَهُ وَالتَّضَجُّرِ وَبَثِّ الشَّكْوَى.

وَقَوْلُهُ وَالِاسْتِشْرَافُ أَيْ التَّطَلُّعُ لِمَا فِي أَيْدِي الْخَلْقِ وَأَبِيُّ النَّفْسِ لَا يَرْضَى بِتَحَمُّلِ الْمِنَّةِ وَلِلَّهِ دُرُّ الْقَائِلِ:

إذَا أَظْمَأَتْكَ أَكَفُّ اللِّئَامِ

كَفَتْكَ الْقَنَاعَةُ شِبْعًا وَرِيًّا

فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى

وَهَامَةُ هِمَّتِهِ الثُّرَيَّا

فَإِنَّ إرَاقَةَ مَاءِ الْحَيَا

ةِ دُونَ إرَاقَةِ مَاءِ الْمُحَيَّا

(وَقَوْلُهُ قَوْلًا مَقْبُولًا) قَيَّدَهُ بِهَذَا دَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِحِكَايَتِهِ بِقِيلِ وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الْعَارِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ أَخَذَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ وَقَدِمَ الْقَاهِرَةَ وَتَكَلَّمَ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَغَيْرِهِ فَوْقَ الْكُرْسِيِّ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْمِ مَعَ إلْمَامٍ بِآثَارِ السَّلَفِ فَأَحَبَّهُ النَّاسُ وَكَثُرَتْ أَتْبَاعُهُ وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ قِيَامًا عَلَى تَقِيِّ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ مِصْرَ وَأُحْضِرَ مِنْ الشَّامِ عَلَى غَيْرِ صُورَةٍ بِسَبَبِ مَسَائِلَ صَدَرَتْ عَنْهُ أَنْكَرُوهَا عَلَيْهِ وَتَوَلَّى مُنَاظَرَتَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ وَحُبِسَ بِقَلْعَةِ مِصْرَ وَبِسِجْنِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة أَيْضًا وَوَقَعَتْ لَهُ مِحَنٌ كَثِيرَةٌ وَصَارَ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ فِي حَقِّهِ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ مَعَهُ وَفِرْقَةٌ عَلَيْهِ وَالْقِصَّةُ طَوِيلَةٌ تُوُفِّيَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ بِالْمَدْرَسَةِ الْمَنْصُورِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْآنُ بِالْمَارِسْتَانْ وَلَمْ يَمُتْ الشَّيْخُ بِقَاعَةِ الْمَرْضَى الْمُهَيَّئَةِ الْآن لَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْكُنُ بِبَعْضِ مَحِلَّاتِ الْمَسْجِدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ سَابِقًا. فَإِنَّ غَالِبَ سُكْنَاهُمْ كَانَتْ بِالْمَدَارِسِ وَلَهُمْ فِيهَا بُيُوتٌ وَحُجُرَاتٌ لِطَلَبَتِهِمْ مَوْجُودٌ بَعْضُهَا الْآنَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ قَالَ الْمَقْرِيزِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْمُسَمَّى

ص: 528

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[حاشية العطار]

بِالْعُقُودِ تَرَدَّدَ النَّاسُ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَعَمِلُوا عِنْدَ قَبْرِهِ كُلَّ سَنَةٍ مِيعَادًا يَقْرَءُونَ فِيهِ الْقُرْآنَ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فَيُحْشَرُ النَّاسُ مِنْ أَكْثَرِ الْجِهَاتِ لِشُهُودِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَيَخْلِطُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَيَأْتُونَ أَنْوَاعًا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا اهـ.

أَقُولُ قَدْ فَتَرَ هَذَا الْآنَ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْلِدِ الشَّيْخِ الَّذِي يُصْنَعُ لَهُ لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَمِمَّا يُنْسَبُ لَهُ رحمه الله:

مُرَادِي مِنْكَ نِسْيَانُ الْمُرَادِ

إذَا رُمْتَ السُّلُوكَ إلَى الرَّشَادِ

وَأَنْ تَدَعَ الْوُجُودَ فَلَا تَرَاهُ

وَتُصْبِحَ مَالِكًا حَبْلَ اعْتِمَادِي

إلَى كَمْ غَفْلَةٌ عَنِّي وَإِنِّي

عَلَى حِفْظِ الرِّعَايَةِ وَالْوِدَادِ

وَوُدِّي فِيكَ لَوْ تَدْرِي قَدِيمٌ

وَيَوْمُ لَسْتُ يَشْهَدُ بِانْفِرَادِي

وَهَلْ رَبٌّ سِوَايَ فَتَرْتَجِيهِ

غَدًا يُنْجِيكَ مِنْ كُرَبٍ شِدَادِ

فَوَصْفُ الْعَجْزِ عَمَّ الْكَوْنَ طُرًّا

فَمُفْتَقِرٌ لِمُفْتَقِرٍ يُنَادِي

وَبِي قَدْ قَامَتْ الْأَكْوَانُ طُرًّا

وَأَظْهَرْت الْمَظَاهِرَ مِنْ مُرَادِي

أَفِي دَارِي وَفِي مُلْكِي وَمِلْكِي

تُوَجِّهُ لِلسِّوَى وَجْهَ اعْتِمَادِ

وَهَا خِلَعِي عَلَيْكَ فَلَا تُزِلْهَا

وَصُنْ وَجْهَ الرَّجَاءِ عَنْ الْعِبَادِ

وَوَصْفُك فَالْزَمَنْهُ وَكُنْ ذَلِيلًا

تَرَى مِنِّي الْمُنَى طَوْعَ الْقِيَادِ

وَكُنْ عَبْدًا لَنَا وَالْعَبْدُ يَرْضَى

بِمَا تَقْضِي الْمَوَالِي مِنْ مُرَادِ

وَلِلشَّيْخِ تَآلِيفُ مُفِيدَةٌ مِنْهَا مَتْنُ الْحِكَمِ الَّذِي قَالَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلَ وَلَمْ يَنْقُلْهُ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِهِ بَلْ بِمَعْنَاهُ وَلَفْظُ الشَّيْخِ إرَادَتُكَ التَّجْرِيدَ مَعَ إقَامَةِ اللَّهِ إيَّاكَ فِي الْأَسْبَابِ مِنْ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ وَإِرَادَتُكَ الْأَسْبَابَ مَعَ إقَامَةِ اللَّهِ إيَّاكَ فِي التَّجْرِيدِ انْحِطَاطٌ عَنْ الْهِمَّةِ الْعَلِيَّةِ اهـ.

فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مَعَ دَاعِيَةِ الْأَسْبَابِ أَيْ التَّلَبُّسِ بِهَا لِأَنَّ الْمُتَلَبِّسَ بِالشَّيْءِ لَهُ بَاعِثٌ يَبْعَثُهُ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الدَّاعِيَةِ وَكَذَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ مَعَ دَاعِيَةِ التَّجَرُّدِ وَفِي الْفِقْرَةِ الْأُولَى إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاكْتِسَابَ فِي حَقِّ هَذَا الشَّخْصِ أَفْضَلُ كَمَا أَنَّ فِي الثَّانِيَةِ الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّ التَّجَرُّدَ فِي حَقِّ هَذَا الشَّخْصِ أَكْمَلُ وَمَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ الْأَسْبَابَ إذَا ثَبَتَتْ الْإِقَامَةُ فِيهَا بِحُصُولِ ثَمَرَاتِهَا كَانَتْ عِبَادَةً وَسِتْرًا لِلْعَبْدِ لَكِنَّهَا شَاقَّةٌ عَلَى الْمُبْتَدِئِينَ لِمَا فِيهَا مِنْ مَزْجِ الْحُقُوقِ بِالْحُظُوظِ فَلَا تَنْضَبِطُ النَّفْسُ عِنْدَهَا وَلَا يَكَادُ يَتَخَلَّصُ الْمَقْصِدُ فَإِرَادَةُ الْعَبْدِ الِانْتِقَالَ مِنْهَا إلَى التَّجْرِيدِ شَهْوَةُ نَفْسٍ إمَّا لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مَا يَسْهُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَتْرُكُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا وَذَلِكَ شَفَقَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا وَإِمَّا لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِصَاصِ هُوَ التَّجْرِيدُ فَهُوَ يُرِيدُ التَّمْيِيزَ وَالِاتِّصَافَ بِصِفَاتِ الْخَوَاصِّ وَإِمَّا لِأَنَّهُ يَقُولُ بِلِسَانِ حَالِهِ أَنَا أَهْلٌ لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ هَذَا فَيَحْتَقِرُ نِعْمَةَ اللَّهِ وَيَتَطَلَّعُ لِمَا فَوْقَهَا وَالتَّجْرِيدُ إذَا ثَبَتَتْ الْإِقَامَةُ فِيهِ بِحُصُولِ ثَمَرَاتِهِ كَانَ عِبَادَةً وَاَللَّهُ يَفْعَلُ بِعَبْدِهِ مَا يَشَاءُ مِنْ إخْفَاءٍ وَإِظْهَارٍ وَالسِّتْرُ لَا يَنْحَصِرُ فِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ فَإِنَّ أَوْصَافَ الْبَشَرِيَّةِ السَّاتِرَةَ لِلْخُصُوصِيَّةِ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَإِرَادَةُ الِانْتِقَالِ مِنْهُ إلَى الْأَسْبَابِ رِضًا بِالنُّزُولِ عَنْ طَرِيقِ أَهْلِ الِاخْتِصَاصِ إلَى طَرِيقِ أَهْلِ الِانْتِقَاصِ بِحَسَبِ الْغَالِبِ وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا عِبَادَةً وَطَرِيقًا صَالِحًا لِلتَّوَصُّلِ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْضَى بِمَا اخْتَارَهُ لَهُ الْحَقُّ مِنْهُمَا مُسْتَعِينًا بِهِ سَائِلًا مِنْهُ التَّأْيِيدَ فَإِنْ رَأَى خِلَافَ ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ وَلِذَلِكَ حَكَّمَ الْمُؤَلِّفُ إرَادَةَ الْعَبْدِ الْمُخَالِفَةَ لِمُخْتَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِالذَّمِّ سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِمَعَالِي الْأُمُورِ أَوْ بِأَدَانِيهَا لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِمَعَالِيهَا فِي الْمَوْضُوعِ الْمَذْكُورِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ وَالْمُتَعَلِّقَةِ بِأَدَانِيهَا فِيهِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الشَّهْوَةِ الْجَلِيَّةِ اهـ.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّلَبُّسَ بِالسَّبَبِ مَعَ التَّفْوِيضِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ مَحْمُودٌ وَهُوَ مَقَامُ أَهْلِ الْكَمَالِ وَقَدْ «قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي أَهْمَلَ النَّاقَةَ وَقَالَ

ص: 529

(بِاطِّرَاحِ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي صُورَةِ الْأَسْبَابِ أَوْ بِالْكَسَلِ وَالتَّمَاهُنِ فِي صُورَةِ التَّوَكُّلِ) كَأَنْ يَقُولَ لِسَالِكِ التَّجْرِيدِ الَّذِي سُلُوكُهُ لَهُ أَصْلَحُ مِنْ تَرْكِهِ لَهُ إلَى مَتَى تَتْرُكُ الْأَسْبَابَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ تَرْكَهَا يُطْمِعُ الْقُلُوبَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَاسْلُكْهَا لِتَسْلَمَ مِنْ ذَلِكَ وَيَنْتَظِرُ غَيْرُكَ مِنْكَ مَا كُنْتَ تَنْتَظِرُهُ مِنْ غَيْرِكَ وَيَقُولُ لِسَالِكِ الْأَسْبَابِ الَّذِي سُلُوكُهُ لَهَا أَصْلَحُ مِنْ تَرْكِهِ لَهَا لَوْ تَرَكْتَهَا وَسَلَكْتَ التَّجْرِيدَ فَتَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ لَصَفَا قَلْبُكَ وَأَشْرَفَ ذَلِكَ النُّورُ وَأَتَاكَ مَا يَكْفِيكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَاتْرُكْهَا لِيَحْصُلَ لَكَ ذَلِكَ فَيَجُرُّ بِهِ تَرْكُهَا الَّذِي هُوَ غَيْرُ أَصْلَحَ لَهُ إلَى الطَّلَبِ مِنْ الْخَلْقِ وَالِاهْتِمَامِ بِالرِّزْقِ (وَالْمُوَفَّقُ يَبْحَثُ عَنْ هَذَيْنِ) الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَأْتِي بِهِمَا الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ غَيْرِهِمَا كَيْدًا مِنْهُ لَعَلَّهُ يَسْلَمُ مِنْهُمَا.

(وَيَعْلَمُ) مَعَ بَحْثِهِ عَنْهُمَا (أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَا يُرِيدُ) اللَّهُ كَوْنَهُ أَيْ وُجُودَهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا (وَلَا يَنْفَعُنَا عِلْمُنَا بِذَلِكَ) الْمَعْلُومِ الَّذِي ضَمَّنَّاهُ هَذَا الْكِتَابَ جَمْعَ الْجَوَامِعِ (إلَّا أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ سبحانه وتعالى نَفْعَنَا بِهِ بِأَنْ يُوَفِّقَنَا لَأَنْ نَأْتِيَ بِهِ خَالِصًا مِنْ الْعُجْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآفَاتِ (وَقَدْ تَمَّ جَمْعُ الْجَوَامِعِ عِلْمًا) تَمْيِيزٌ مِنْ نِسْبَةِ الْإِتْمَامِ أَيْ تَمَّ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ أَيْ الْمَسَائِلُ الْمَقْصُودُ جَمْعُهَا فِيهِ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا مَعْمُولَ الْجَوَامِعِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا

ــ

[حاشية العطار]

تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» وَقَالَ تَعَالَى {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] وَقَالَ {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وَقَالَ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] وَقَالَ لِلسَّيِّدِ مُوسَى عليه السلام {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا} [الدخان: 23] وَقَدْ «اخْتَفَى صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ وَاسْتَأْجَرَ الْخَبِيرَ وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَاتَّخَذَ خَنْدَقًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ يَحْتَرِسُ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ وَأَقَامَ الرُّمَاةَ يَوْمَ أُحُدٍ لِلتَّحَفُّظِ مِنْ نِكَايَةِ الْعَدُوِّ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتُرِيُّ «التَّوَكُّلُ حَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْكَسْبُ سُنَّتُهُ» فَمَنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ وُصُولَ الْعَبْدِ إلَى أَشْيَاءَ بِغَيْرِ طَلَبٍ فَهُوَ وَاصِلٌ إلَيْهَا بِدُونِ طَلَبٍ وَقَدَّرَ وُصُولَهُ إلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى بَعْدَ الطَّلَبِ فَلَا يَصِلُ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَهُ، فَالطَّلَبُ مِنْ الْقَدَرِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ وَبَيْنَ الطَّلَبِ فِي أَنَّهُمَا مَقْدُورَانِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ.

وَكَذَا التَّوَكُّلُ مَعَ السَّبَبِ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ التَّوَكُّلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ وَالْكَسْبُ مَحَلُّهُ الْجَوَارِحِ وَلَا تَضَادَّ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَكَانَ بَعْضُ الْمُلُوكِ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ سَبَبِيَّةِ الطَّلَبِ وَيَرَى مَحْضَ الْقَدَرِ فَتَرَكَ الطَّلَبَ وَالتَّدْبِيرَ فَأَخْرَجَهُ إخْوَتُهُ مِنْ سُلْطَانِهِ وَقَهَرُوهُ عَلَى مَمْلَكَتِهِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إنَّ تَرْكَ الطَّلَبِ نِصْفُ الْهِمَّةِ وَبَذْلُ النَّفْسِ وَصَاحِبُهُ صَابِرًا إلَى أَخْلَاقِ ذَوَاتِ الْأَحْجِرَةِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ تَنْشَأُ فِي أَحْجِرَتِهَا وَفِيهَا يَكُونُ مَوْتُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَدَرِ وَالطَّلَبِ، وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا عَجِيبًا وَهُوَ أَنَّ أَعْمَى وَمُقْعَدًا كَانَا فِي قَرْيَةٍ وَهُمَا فِي غَايَةِ الضَّرَرِ وَالْفَقْرِ لَا قَائِدَ لِلْأَعْمَى وَلَا حَامِلَ لِلْمُقْعَدِ وَكَانَ فِي الْقَرْيَةِ رَجُلٌ يُطْعِمُهُمَا احْتِسَابًا فَلَنْ يَزَالَا فِي عَافِيَةٍ إلَى أَنْ هَلَكَ الرَّجُلُ فَاشْتَدَّ جُوعُهُمَا وَبَلَغَ الضُّرُّ فِيهِمَا جَهْدَهُ فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ الْأَعْمَى الْمُقْعَدَ فَيَدُلَّهُ الْمُقْعَدُ عَلَى الطَّرِيقِ بِبَصَرِهِ وَيَسْتَقِلُّ الْأَعْمَى بِحَمْلِ الْمُقْعَدِ فَيَدُورَانِ فِي الْقَرْيَةِ يَسْتَطْعِمَانِ أَهْلَهَا فَفَعَلَا فَنَجَحَ أَمْرُهُمَا وَلَوْ لَمْ يَفْعَلَا هَلَكَا، وَكَذَلِكَ الْقَدَرُ سَبَبُ الطَّلَبِ وَالطَّلَبُ سَبَبُهُ الْقَدَرُ فَأَخَذَ الرَّجُلُ فِي الطَّلَبِ فَظَفِرَ بِأَعْدَائِهِ وَرَجَعَ إلَى مُلْكِهِ فَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُتْرَكُ السَّبَبُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَدَرِ وَلَا يَجْتَهِدُ فِيهِ غَافِلًا عَنْ الْقَدَرِ اهـ

1 -

(قَوْلُهُ: بِاطِّرَاحِ) مُبَالَغَةٌ فِي الطَّرْحِ بِمَعْنَى التَّرْكِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ (قَوْلُهُ: وَالتَّمَاهُنِ) أَيْ الْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ لِلنَّاسِ (قَوْلُهُ: فِي صُورَةِ الْأَسْبَابِ) أَيْ تَحْسِينِهَا فَلَا يَأْمُرُهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بِطَرْحِ جَانِبِ اللَّهِ وَإِنَّمَا يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ تَحْسِينِ الْأَسْبَابِ فَيَتَّبِعُ الشَّيْطَانَ وَيَتْرُكُ جَانِبَ اللَّهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِيمَا بَعْدَهُ (قَوْلُهُ: فَيَجُرُّ بِهِ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ (قَوْلُهُ: بِذَلِكَ الْمَعْلُومِ الَّذِي ضَمَّنَّاهُ إلَخْ) الْأَوْلَى أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَا يُرِيدُهُ (قَوْلُهُ: تَمْيِيزٌ مِنْ نِسْبَةِ التَّمَامِ) وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا مُحَوَّلًا عَنْ الْفَاعِلِ وَالْأَصْلُ تَمَّ عِلْمُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ (قَوْلُهُ: أَيْ الْمَسَائِلُ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ

ص: 530

يَتِمُّ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِنَا ثُمَّ هَذَا عِلْمًا فَإِنَّ تَمَامَهُ مَعْلُومٌ مَعْرُوفٌ اهـ.

وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَمَامِهِ جَمْعًا تَمَامُهُ عِلْمًا فَفِيهِ فَائِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ (الْمُسْمِعِ كَلَامُهُ آذَانًا صُمًّا الْآتِي مِنْ أَحَاسِنِ الْمَحَاسِنِ بِمَا يَنْظُرُهُ الْأَعْمَى) أَيْ أَنَّهُ لِعُذُوبَةِ لَفْظِهِ الْقَلِيلِ وَحُسْنِ مَعْنَاهُ الْكَثِيرِ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَحَقَّقَهُ الْأَصَمُّ فَكَأَنَّهُ يَسْمَعُهُ وَالْأَعْمَى فَكَأَنَّهُ يَنْظُرُهُ وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:

أَنَا الَّذِي نَظَرَ الْأَعْمَى إلَى أَدَبِي

وَأَسْمَعَتْ كَلِمَاتِي مَنْ بِهِ صَمَمُ

وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُ لَهُ فِي ذِكْرِ السَّمْعِ قَبْلَ الْبَصَرِ لِلتَّأَسِّي بِالْقُرْآنِ وَفِي ذِكْرِهِ الْأَسْمَاعَ لِلْآذَانِ لَا لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَالْأَسْمَاعُ لَهَا أَسْمَاعٌ لِصَاحِبِهَا (مَجْمُوعًا جَمُوعًا) أَيْ كَثِيرَ الْجَمْعِ وَهُمَا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْآتِي وَكَذَا قَوْلُهُ (وَمَوْضُوعًا) ذَا فَضْلٍ (لَا مَقْطُوعًا فَضْلُهُ وَلَا مَمْنُوعًا) عَمَّنْ يَقْصِدُهُ لِسُهُولَتِهِ (وَمَرْفُوعًا عَنْ هِمَمِ الزَّمَانِ مَدْفُوعًا) عَنْهَا فَلَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ بِمِثْلِهِ (فَعَلَيْكَ) أَيُّهَا الطَّالِبُ لِمَا ضَمِنَهُ (بِحِفْظِ عِبَارَتِهِ لَا سِيَّمَا مَا خَالَفَ فِيهَا غَيْرَهُ) كَالْمُخْتَصَرِ وَالْمِنْهَاجِ (وَإِيَّاكَ أَنْ تُبَادِرَ بِإِنْكَارِ شَيْءٍ) مِنْهُ (قَبْلَ التَّأَمُّلِ وَالْفِكْرَةِ) فِيهِ (أَوْ أَنْ تَظُنَّ إمْكَانَ اخْتِصَارِهِ، فِي كُلِّ ذَرَّةٍ) مِنْهُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ

ــ

[حاشية العطار]

وَصْفُهُ بِالتَّمَامِ فَهُوَ كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ هَذَا آخِرُ مَا قَصَدْنَا جَمْعَهُ.

(قَوْلُهُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلْمُصَنِّفِ دُونَ غَيْرِهِ) وَأَيْضًا الْجَوَامِعُ جُزْءُ عِلْمٍ فَلَا يُعْمَلُ وَلِأَنَّ جِهَاتِ التَّمَامِ كَثِيرَةٌ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ تَمَامَهُ مِنْ حَيْثُ التَّسْوِيدُ لَا التَّحْرِيرُ وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ أَيْ أَنَّهُ أَتَى عَلَى صِفَةِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ (قَوْلُهُ: حَتَّى يَتَحَقَّقَهُ الْأَصَمُّ) بِأَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ مَثَلًا أَوْ أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ (قَوْلُهُ: مُنْتَزَعٌ) أَيْ مَأْخُوذٌ عَلَى وَجْهِ الْحَلِّ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْبَدِيعِ بِأَنْ يَأْتِيَ الشَّخْصُ لِنَظْمٍ وَيُحِلُّهُ نَثْرًا وَضِدُّهُ الْعَقْدُ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ لِنَثْرٍ فَيَنْظِمُهُ (قَوْلُهُ: وَنَبَّهَ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّهُ خَالَفَ أَبَا الطَّيِّبِ فِي أَمْرَيْنِ لِنُكْتَةٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ التَّأَسِّي بِالْقُرْآنِ فِي الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ قَدَّمَ فِيهِ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ قَالَ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَالْعُدُولُ إلَى الْمَجَازِ الْأَبْلَغِ مِنْ الْحَقِيقَةِ فِي الثَّانِي.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أَبْلَغُ) فَإِنَّ إيقَاعَهُ عَلَى الْأَصْحَابِ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ الْمَجَازُ وَهُوَ الْإِفْهَامُ نَعَمْ فَاتَ الْمُصَنِّفَ نِكَاتٌ فِي كَلَامِ أَبِي الطَّيِّبِ وَهُوَ أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ عَبَّرَ بِالْمَاضِي وَالْمُصَنِّفُ عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي نَظَرَ وَيَنْظُرُ وَعَبَّرَ أَبُو الطَّيِّبِ بِالْكَلِمَاتِ وَالْمُصَنِّفُ بِالْكَلَامِ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ (قَوْلُهُ: جَمُوعًا) بِفَتْحِ الْجِيمِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّارِحُ أَيْ كَثِيرَ الْجَمْعِ.

(قَوْلُهُ: وَهُمَا حَالٌ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَالٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَالَانِ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْآتِي وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَالًا مِنْهُ وَالْآخَرُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تِلْكَ الْحَالِ فَيَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْأَحْوَالِ الْمُتَدَاخِلَةِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ حَالًا وَاحِدَةً بِمَعْنَى الْكَامِلِ فِي الْجَمْعِ وَالِاسْتِيعَابِ كَمَا فِي حُلْوٍ حَامِضٍ (قَوْلُهُ: وَمَوْضُوعًا) أَيْ مَجْعُولًا (قَوْلُهُ: لِلْأَفْضَالِ عَلَى الْقَاصِدِينَ) أَيْ مُؤَلَّفًا عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ يُفِيدُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ: فَلَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ أَيْ زَمَانِ الْمُصَنِّفِ) تَقْيِيدُهُ بِزَمَانِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ زَمَانِهِ وَلَا مَانِعَ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ وَمَوَاهِبَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لَا تَنْقَطِعُ عَنْ الْعِبَادِ فَيَضَانُهَا {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] وَلَا يُنَاقِضُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ الزَّمَانَ يَتَنَاقَضُ فِي الْفَضَائِلِ كُلَّمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ تَنَاقُضَهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَجْمُوعِ الطَّبَقَةِ فَلَا يُنَافِي تَفَوُّقَ بَعْضِ أَفْرَادٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ الْمُصَنِّفُ فِي خُطْبَةِ تَرْشِيحِ التَّوْشِيحِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ وَالِدَهُ أَفْضَلُ مِنْ أَفْرَادٍ تَقَدَّمَ عَصْرُهُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ إتْيَانِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِ الْمُصَنِّفِ بِمِثْلِهِ قَدْ يَمْنَعُ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِقْرَاءِ أَحْوَالِ الْعُلَمَاءِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَهُوَ مُتَعَسِّرٌ بَلْ مُتَعَذِّرٌ وَأَمْثَالُ هَذَا الْكَلَامِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَقَدْ أَلَّفَ الْعَلَّامَةُ الْفَنَارِيُّ وَعَصْرُهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمُصَنِّفِ كِتَابَ فُصُولُ الْبَدَائِعِ فِي الْأُصُولِ وَجَمَعَ فِيهِ مَا تَفَرَّقَ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مَعَ مَزِيدِ التَّحْرِيرِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ مِمَّا خَلَا عَنْهَا هَذَا الْكِتَابُ وَأَلَّفَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْهِنْدِ كِتَابًا فِي هَذَا الْعِلْمِ وَسَمَّاهُ مُسَلَّمَ الثُّبُوتِ وَتَارِيخُ تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ هُوَ اسْمُهُ وَهُوَ أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَتِسْعٌ فَهَذَا زَمَانٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمُصَنِّفِ وَالْفَتَاوَى وَمُسَلَّمِ الثُّبُوتِ هَذَا قَدْ اعْتَنَى بِهِ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْهِنْدِ وَمَا وَرَاءِ النَّهْرِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ شُرُوحًا وَحَوَاشِيَ وَاشْتَغَلُوا بِهِ كَاشْتِغَالِ أَهْلِ دِيَارِنَا بِهَذَا الْكِتَابِ إلَى الْآنَ كَمَا

ص: 531

أَيْ حَرْفٍ (دُرَّةٌ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ كَالْجَوْهَرَةِ.

(فَرُبَّمَا ذَكَرْنَا) فِيهِ (الْأَدِلَّةَ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ إمَّا لِكَوْنِهَا مُقَرَّرَةً فِي مَشَاهِيرِ الْكُتُبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبِينُ) أَيْ لَا يَظْهَرُ (أَوْ الْغَرَابَة) لَهَا (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَخْرِجُهُ النَّظَرُ الْمَتِينُ) أَيْ الْقَوِيُّ كَبَيَانِ الْمُدْرِكِ الْخَفِيَّ الْأَوَّلَ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْخَبَرِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْخَبَرِ كَذِبًا وَالثَّانِي كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي عَدَمِ التَّأْثِيرِ إذْ الْفَرْضُ بِالْفَرْضِ أَشْبَهُ وَالثَّالِثُ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لِارْتِفَاعِ الثِّقَةِ بِمَذْهَبِهِ إذْ لَمْ يُدَوِّنْ.

(وَرُبَّمَا أَفْصَحْنَا بِذِكْرِ أَرْبَابِ الْأَقْوَالِ فَحَسِبَهُ الْغَبِيُّ) بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ الضَّعِيفُ الْفَهْمِ (تَطْوِيلًا يُؤَدِّي إلَى الْمَلَلِ وَمَا دَرَى أَنَّا إنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِغَرَضٍ تُحَرَّكُ لَهُ الْهِمَمُ الْعَوَالِ فَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ مَشْهُورًا عَمَّنْ ذَكَرْنَاهُ) كَمَا فِي نَقْلِ أَفْضَلِيَّةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ عَلَى فَرْضِ الْعَيْنِ عَنْ الْأُسْتَاذِ وَالْجُوَيْنِيِّ مَعَ وَلَدِهِ الْمَشْهُورِ وَذَلِكَ مِنْهُ فَقَطْ (أَوْ كَانَ) مَنْ ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ قَوْلًا (قَدْ عُزِيَ إلَيْهِ عَلَى الْوَهْمِ) أَيْ الْغَلَطِ (سِوَاهُ) كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ مِنْ الْمَانِعِينَ لِثُبُوتِ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مِنْ الْمُجَوِّزِينَ (أَوْ) كَانَ الْغَرَضُ (غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُظْهِرُهُ التَّأَمُّلُ لِمَنْ اسْتَعْمَلَ قُوَاهُ) كَمَا فِي ذِكْرِهِ غَيْرَ الدَّقَّاقِ مَعَهُ فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ تَقْوِيَةً لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ كُلُّ ذَلِكَ.

(بِحَيْثُ إنَّا جَازِمُونَ بِأَنَّ اخْتِصَارَ هَذَا الْكِتَابِ مُتَعَذِّرٌ

ــ

[حاشية العطار]

أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَقِيتُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْهِنْدِ وَعُلَمَاءِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَلِصَاحِبِ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ كِتَابٌ جَلِيلٌ فِي الْمَنْطِقِ سَمَّاهُ سُلَّمَ الْعُلُومِ وَشَرَحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْهِنْدِ وَاعْتَنَتْ بِهِ فُضَلَاءُ تِلْكَ الدِّيَارِ كَاعْتِنَائِهِمْ بِمُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَقَدْ اطَّلَعْت لَهُ عَلَى شَرْحَيْنِ وَنَقَلْتُ عَنْهُمَا فِي حَاشِيَتِي عَلَى الْخَبِيصِيِّ وَمَا زَالَ الزَّمَانُ يَأْتِي بِالنَّوَادِرِ، هَذَا الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْحَكِيمِ وَالْعَلَّامَةُ مِيرْ زَاهِدْ كِلَاهُمَا مِمَّنْ أَدْرَكَ الْقَرْنَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَلَهُمَا مِنْ التَّأْلِيفِ مَا خَضَعَتْ لَهَا رِقَابُ الْفُضَلَاءِ وَتَفَاخَرَتْ بِإِدْرَاكِ دَقَائِقِهَا أَذْهَانُ النُّبَلَاءِ وَلَا يُعْجِبُنِي قَوْلُ أَهْلِ دِيَارِنَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَعْلَمُ مِنْ عُلَمَاءِ مِصْرَ فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِقْرَاءٍ تَامٍّ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُمْ ذَلِكَ وَلَا غَيْرُهُمْ وَغَايَةُ مَا يَصِلُ إلَيْهِ عِلْمُنَا أَفْرَادٌ مِنْ الْأَقْطَارِ الْقَرِيبَةِ مِنَّا لَا جَمِيعُ الْأَفْرَادِ فَهَذَا قَوْلٌ يُنَادِي بِرُعُونَةِ قَائِلِهِ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

وَمَا عَبَّرَ الْإِنْسَانُ عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ

سِوَى بِاعْتِرَافِ الْفَضْلِ فِي كُلِّ فَاضِلٍ

وَسُبْحَانَهُ الْعَلِيمُ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ (قَوْلُهُ: أَيْ حَرْفٍ) أَيْ مِنْ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ كَوَاوِ الْعَطْفِ مَثَلًا أَوْ الدَّالَّةِ وَلَوْ فِي ضِمْنِ الْمُرَكَّبَاتِ فَشَمِلَ سَائِرَ الْحُرُوفِ (قَوْلُهُ: أَيْ فَائِدَةٌ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ فِي دُرَّةٍ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ (قَوْلُهُ: فَرُبَّمَا ذَكَرْنَا) كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُبَادِرَ إلَخْ بِأَنْ تَقُولَ بَيَانُ الْأَدِلَّةِ لَا يَلِيقُ بِالْمُتُونِ فَإِنَّ جَوَابَهُ أَنَّ ذِكْرَهَا إمَّا لِكَوْنِهَا إلَخْ (قَوْلُهُ: فِي مَبْحَثِ الْخَبَرِ) عِبَارَتُهُ هُنَاكَ وَمَدْلُولُ الْخَبَرِ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا ثُبُوتُهَا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ إلَخْ.

(قَوْلُهُ: فِي عَدَمِ التَّأْثِيرِ) أَيْ فِي مَبْحَثِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ الْجُمُعَةُ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ كَالظُّهْرِ فَزَادَ الْمَفْرُوضَةَ لِأَنَّ الْفَرْضَ بِالْفَرْضِ أَشْبَهَ فَلَيْسَتْ الزِّيَادَةُ حَشْوًا (قَوْلُهُ: تَحَرَّكَ) بِحَذْفِ إحْدَى تَاءَيْهِ الْفَوْقِيَّتَيْنِ فَتَاؤُهُ مَفْتُوحَةٌ مُضَارِعٌ (قَوْلُهُ: فَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ مَشْهُورًا) أَيْ فَلَوْ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى قَائِلِهِ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ قَوْلُهُ (قَوْلُهُ: وَالْجُوَيْنِيِّ) هُوَ وَالِدُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ (قَوْلُهُ: بِحَيْثُ إنَّا جَازِمُونَ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ بِحَيْثُ إلَخْ وَالْأَمْرُ مُتَلَبِّسٌ هِيَ بِحَالَةِ إنَّا جَازِمُونَ إلَخْ (قَوْلُهُ: بِأَنَّ اخْتِصَارَ هَذَا الْكِتَابِ مُتَعَذِّرٌ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ جَزْمُهُ لِمَا قَامَ بَعْدَهُ بِتَعَذُّرِ اخْتِصَارِهِ لِغَيْرِ مُبَذِّرٍ مُبْتِرٍ لَا يُنَافِي جَزْمَ غَيْرِهِ بِضِدِّ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ لِلْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ اهـ.

أَقُولُ: قَدْ اخْتَصَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمَا أَدْرِي أَوْفَى بِجَمِيعِ مَقَاصِدِهِ أَوْ لَا وَلِدَعْوَى التَّعَذُّرِ مَحْمَلٌ بِأَنْ يُرَادَ اخْتِصَارُهُ عَلَى وَجْهِ اسْتِيفَاءِ مَعَانِيهِ كُلِّهَا مَعَ اتِّحَادِ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إمْكَانُ الِاخْتِصَارِ بِحَيْثُ لَا تُسْتَوْفَى جَمِيعُ مَعَانِيهِ أَوْ تُسْتَوْفَى لَكِنْ تَكُونُ دَلَالَةُ الْفَرْعِ أَخْفَى مِنْ دَلَالَةِ الْأَصْلِ كَمَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمُخْتَصَرَاتِ (قَوْلُهُ: وَرَوْمُ النُّقْصَانِ مِنْهُ مُتَعَسِّرٌ) إنْ كَانَ الْمُرَادُ رَوْمَهُ

ص: 532

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ رَجُلٌ مُبَذِّرٌ) أَيْ يَنْقُلُ شَيْئًا مِنْ مَكَانِهِ إلَى غَيْرِهِ (مُبْتِرٌ) أَيْ يَأْتِي بِالْأَلْفَاظِ بَتْرَاءَ أَيْ نَوَاقِصَ كَأَنْ يَحْذِفَ مِنْهَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ رَوْمُ النُّقْصَانِ لَكِنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَفِي بِمَقْصُودِنَا (فَدُونَكَ) أَيُّهَا الطَّالِبُ لِمَا تَضَمَّنَهُ مُخْتَصَرُنَا (مُخْتَصَرًا) لَنَا (بِأَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ حَقِيقًا وَأَصْنَافِ الْمَحَاسِنِ خَلِيقًا) لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا يَقْتَضِي أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ (جَعَلَنَا اللَّهُ بِهِ) لِمَا أَمَلْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69]

ــ

[حاشية العطار]

مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ فَيَرْجِعُ إلَى الِاخْتِصَارِ وَإِلَّا فَغَيْرُ مُتَعَسِّرٍ اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ) رَاجِعٌ إلَى تَعَسُّرِ رَوْمِ النُّقْصَانِ كَمَا يَدُلُّ لَهُ كَلَامُ الشَّارِحِ وَهُوَ كَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْقَصْدِ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ أَمْرٌ بَعِيدٌ نَادِرٌ كَأَنَّهُ يَدْعُو اللَّهَ وَيُنَادِيهِ اسْتِظْهَارًا بِهِ وَاسْتِعَانَةً عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: بِأَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ حَقِيقًا) أَيْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ بِهَا وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِيهِ وَمَا بَعْدَهُ لِرِعَايَةِ السَّجْعِ فَقَوْلُهُ وَأَصْنَافِ الْمَحَاسِنِ خَلِيقًا بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ إذْ خَلِيقُ بِمَعْنَى حَقِيقٍ (قَوْلُهُ: أَيْ لِمَا أَمَلْنَاهُ مِنْ كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ) لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَأَعْلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْعِلْمُ وَلِذَلِكَ قَالُوا إنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ مِنْ عَالِمٍ أَوْ مُتَعَلِّمٍ إذَا دَخَلَ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لِابْنِ وَهْبٍ لَمَّا جَمَعَ كُتُبَهُ وَقَامَ يَتَنَقَّلُ مَا الَّذِي قُمْتُ إلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا كُنْتَ فِيهِ إذَا أَحْسَنْتَ النِّيَّةَ، نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَذَا الْعِلْمُ فَمَتَى الْعَمَلُ فَقَالَ أَحْمَدُ أَلَسْنَا فِي عَمَلٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ النَّافِلَةِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ الْعَالِمُ إذَا لَمْ يُخِلَّ بِوَاجِبٍ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي فَرْضٍ أَفْضَلُ مِنْ الْعَابِدِ وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ جَعَلَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِ الْمُوَثِّقِينَ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِلْفَوْزِ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الْعَمَلِ إجْلَالُ اللَّهِ وَتَعْظِيمُهُ وَثُبُوتُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مَعَ ذَلِكَ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْلِيلِ بِهِمَا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأَغْرَاضِ وَالْأَغْرَاضِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ فَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَحْمُودَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إظْهَارِ الِافْتِقَارِ إلَى إحْسَانِ الْمَوْلَى جَلَّ وَعَلَا.

وَقَدْ اعْتَرَضَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى الصُّوفِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ لَا نَعْبُدُهُ خَوْفًا مِنْ نَارِهِ وَلَا طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَظَّمَ شَأْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَرَغَّبَ عِبَادَهُ فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَخَوَّفَهُمْ مِنْ النَّارِ وَعَذَابِهَا وَإِنْ أُجِيبَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ احْتِقَارَ شَأْنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَدَمِ الِاهْتِبَالِ بِهِمَا فَإِنَّ تَعْظِيمَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ وَاجِبٌ وَاحْتِقَارُهُ رُبَّمَا كَانَ كُفْرًا وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَجْعَلُونَ أَعْمَالَهُمْ مُعَلَّلَةً بِهِمَا بِحَيْثُ إنَّهُمَا لَوْ لَمْ يُوجَدَا مَا عَمِلُوا فَإِنَّ مَوْلَانَا تَعَالَى يَسْتَحِقُّ عَلَى الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَحَرَّزُونَ عَنْهُ وَمِنْ هَاهُنَا نَعْلَمُ أَنَّ حَقَّ الْعَامِلِينَ لَا يَقْصِدُوا بِأَعْمَالِهِمْ التَّوَصُّلَ إلَى عَطَائِهِ بَلْ مِنْ حَقِّ هَذَا السَّيِّدِ الْمُحْسِنِ فِي حَالَتَيْ الْإِقْبَالِ وَالْإِعْرَاضِ أَنْ لَا يَسْلُكَ مَعَهُ سَبِيلَ الْمُعَامَلَاتِ وَالْإِعْرَاضِ وَأَنْ يَعْبُدَ وَيُخْضَعَ لَهُ لِجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ اللَّذَيْنِ أَنْبَأَ عَنْهُمَا عُمُومُ إحْسَانِهِ فَمَنْ عَبَدَهُ حِينَئِذٍ لِيَتَوَصَّلَ بِعِبَادَتِهِ إلَى عَطَائِهِ فَقَدْ جَهِلَ حَقَّ رُبُوبِيَّتِهِ وَلَمْ يُخْلِصْ فِي عُبُودِيَّتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْمَلُ لِنَيْلِ حَظِّهِ فَكَأَنَّهُ يَدْفَعُ شَيْئًا لِيَأْخُذَ فِي مُقَابَلَتِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَيْسَ عَبْدًا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَأَنَّهُ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ مَعْبُودَهُ إنَّمَا يُعْطِيهِ بِعَمَلِهِ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْكَرَمِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ تَعَالَى وَلِهَذَا أَوْرَدَ النَّهْيَ عَنْ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ نَحْوَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ قَدِمَ غَائِبِي لَأَصُومَنَّ أَوْ لَأَتَصَدَّقَنَّ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ اشْفِ مَرِيضِي أَعْبُدْكَ بِكَذَا كَأَنَّهُ إنَّمَا يَشْفِيهِ لَهُ إذَا الْتَزَمَ عِبَادَتَهُ وَهَذَا غَيْرُ لَائِقٍ بِكَرَمِهِ تَعَالَى فَهُوَ جَهْلٌ قَبِيحٌ مِنْ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إيَّاكُمْ وَالنَّذْرَ فَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» وَقَدْ نَبَّهَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنَالُ شَيْئًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا بِفَضْلِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ بِقَوْلِهِ «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» فَحَقُّ الْعَبْدِ إذًا أَنْ لَا يَجْعَلَ عَمَلَهُ هُوَ الْمُوَصِّلُ عَلَى سَبِيلِ الرَّبْطِ الْمُطَّرِدِ وَالدَّوَرَانِ الدَّائِمِ بَلْ يَعْمَلُ عُبُودِيَّةً وَخُضُوعًا وَيَعْتَمِدُ عَلَى فَضْلِ مَوْلَاهُ وَكَرَمِهِ وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ

ص: 533

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[حاشية العطار]

بُطْلَانَ الرَّبْطِ الْمُطَّرِدِ إحْسَانُهُ السَّابِقُ عَنْ الْأَعْمَالِ.

قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ عِنَايَتُهُ فِيكَ لَا لِشَيْءٍ مِنْكَ وَأَيْنَ كُنْتَ حِينَ وَجَّهَتْكَ عِنَايَتُهُ وَقَابَلَتْكَ رِعَايَتُهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَزَلِهِ إخْلَاصُ أَعْمَالٍ وَلَا وُجُودُ أَحْوَالٍ بَلْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مَحْضُ الْإِفْضَالِ وَعَظِيمُ النَّوَالِ (قَوْلُهُ: أَيْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّينَ) فَسَّرَهُمْ الْبَيْضَاوِيُّ بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ صَعِدَتْ نُفُوسُهُمْ تَارَةً بِمَرَاقِي النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ وَأُخْرَى بِمَعَارِجِ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَاتِ إلَى أَوْجِ الْعِرْفَانِ حَتَّى اطَّلَعُوا عَلَى الْأَشْيَاءِ وَأَخْبَرُوا عَنْهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ: أَيْ رَفِيقًا) لِأَنَّ فَعِيلًا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَالصَّدِيقِ أَوْ أَنَّ الْمَعْنَى وَحَسُنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَفِيقًا وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ الْحَالِ (قَوْلُهُ: بِأَنْ يَسْتَمْتِعَ إلَخْ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُرَافَقَةِ الِاشْتِرَاكَ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فِي الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ إذْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبِيِّينَ بَلْ وَالصِّدِّيقِينَ عَلَى تَفْسِيرِ الشَّارِحِ بَلْ الْمُرَادُ بِهَا مَا ذَكَرَ (قَوْلُهُ: وَذَهَبَ عَنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَفْضُولٌ) أَيْ وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا فِي الْوَاقِعِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَفْضُولٌ وَلَكِنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ لَا يُوجِبُ عِنْدَهُ حَسْرَةً لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمَا قُسِمَ لَهُ.

(قَوْلُهُ: الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَرَاتِبُ إلَخْ) لِأَنَّ الْجِنَانَ سَبْعٌ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ وَجَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّةُ النَّعِيمِ وَدَارُ الْخُلْدِ وَجَنَّةُ الْمَأْوَى وَدَارُ السَّلَامِ وَعِلِّيُّونَ وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ الْأَعْمَالِ وَالْعُمَّالِ اهـ.

نَقَلَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَرَوَى عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ أَنَّ الْجِنَانَ سَبْعٌ دَارُ الْجَلَالِ وَدَارُ السَّلَامِ وَجَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّةُ الْمَأْوَى وَجَنَّةُ الْخُلْدِ وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ وَجَنَّةُ النَّعِيمِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَقِيلَ إنَّ الْجِنَانَ أَرْبَعٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَ.

فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] قُلْنَا جَنَّةُ الْمَأْوَى اسْمٌ لِجَمِيعِ الْجِنَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 19] وَالْجَنَّةُ اسْمُ جِنْسٍ فَمَرَّةً يُقَالُ جَنَّةٌ وَمَرَّةً يُقَالُ جَنَّاتٌ وَكَذَلِكَ جَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّاتُ عَدْنٍ لِأَنَّ الْعَدْنَ الْإِقَامَةُ وَكُلُّهَا دَارُ الْإِقَامَةِ كَمَا أَنَّهَا كُلُّهَا مَأْوَى الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَلِكَ دَارُ الْخُلْدِ وَالسَّلَامِ لِأَنَّ جَمِيعَهَا دَارٌ لِلْخُلُودِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَحَزَنٍ وَكَذَلِكَ جَنَّاتُ النَّعِيمِ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ لِأَنَّهَا كُلُّهَا مَشْحُونَةٌ بِأَصْنَافِ النَّعِيمِ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عَذَابٍ وَلَا مِحْنَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ سَبَقُونَا بِجَمِيعِ الْكَمَالَاتِ يَقُولُ مُؤَلِّفُهَا الْفَقِيرُ حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ الشَّافِعِيُّ الْأَزْهَرِيُّ عَامَلَهُ اللَّهُ بِلُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ قَدْ اسْتَرَاحَ جَوَادُ الْقَلَمِ مِنْ الْجَرْيِ فِي مَيْدَانِ طِرْسِهِ وَتَجَرَّدَ عَنْ حُلَّةِ سَوَادِ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ اقْتَنَصَ أَوَابِدَ الْفَوَائِدِ وَغَاصَ فِي بِحَارِ الْمَعَانِي فَاسْتَخْرَجَ نَفَائِسَ الْفَوَائِدِ وَسَاقَهَا أَيُّهَا الطَّالِبُ الذَّكِيُّ إلَيْكَ وَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَأَرَاحَكَ مِنْ تَعَبِ التَّفْتِيشِ عَنْهَا فِي مَظَانِّهَا وَسَهَّلَ لَكَ الطَّرِيقَ إلَى وِجْدَانِهَا فَلَا تُقَابِلْهَا بِإِعْرَاضٍ وَطَيِّ كَشْحٍ وَإِنْ عَثَرْتَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الطَّبْعُ الْبَشَرِيُّ مِنْ التَّقْصِيرِ فَقَابِلْهُ بِإِغْمَاضِ صَفْحٍ وَلَا تَنْسَنِي بِاَللَّهِ مِنْ صَالِحِ الدُّعَا فَإِنِّي لِمَا أَمَّلْتُهُ فِيكَ مُحْتَاجٌ، قَالَ مُؤَلِّفُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَوَافَقَ الْكَمَالُ بَعْدَ عِشَاءِ لَيْلَةِ الْخَمِيسِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 1246 بِمَنْزِلِي بِحَارَةِ دَرْبِ الْحَمَامِ بِخُطَّةِ الْمَشْهَدِ الْحُسَيْنِيِّ نَفَعَنَا اللَّهُ بِمَنْ حَلَّ بِهِ وَالْمُسْلِمِينَ آمِينَ

ص: 534

أَيْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّينَ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ {وَالشُّهَدَاءِ} [النساء: 69] أَيْ الْقَتْلَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ {وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] غَيْرِ مَنْ ذَكَرَ {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] أَيْ رُفَقَاءَ فِي الْجَنَّةِ بِأَنْ نَتَمَتَّعَ فِيهَا بِرُؤْيَتِهِمْ وَزِيَارَتِهِمْ وَالْحُضُورِ مَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ مَقَرُّهُمْ فِي دَرَجَاتٍ عَالِيَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ وَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ قَدْ رَزَقَ الرِّضَا بِحَالِهِ وَذَهَبَ عَنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَفْضُولٌ انْتِفَاءً لِلْحَسْرَةِ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ الْمَرَاتِبُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ وَعَلَى قَدْرِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَشَاءُ اللَّهُمَّ يَا ذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ وَبِمَا تَشَاءُ مِنْ النَّعِيمِ بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

ــ

[حاشية العطار]

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْجَامِعِ قُلُوبَ النُّسَّاكِ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى مَحَبَّةِ ذِي الْكَلِمِ الْجَوَامِعِ الْبَدِيعِ الَّذِي أَبْدَعَ بِبَاهِرِ قُدْرَتِهِ مَا يَشْهَدُ بِأَنَّهُ الْوَاحِدُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْإِيجَادِ مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ وَلَا مُدَافِعٍ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ طِرَازِ الْأَحْكَامِ وَأَمَانِ الْأَنَامِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ عُلَمَاءِ شَرِيعَتِهِ وَأَعْلَامِ حَنَفِيَّتِهِ الَّذِينَ أَبَادُوا تُرَّهَاتِ الْعُقُولِ بِمَا أَوْصَلُوهُ مِنْ حُجَجِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ (وَبَعْدُ) فَقَدْ تَمَّ طَبْعُ حَاشِيَةِ مُقَوِّمِ تَحَارِيرِ الْمَعَانِي مُثَقِّفِ تَحَابِيرِ الْمَبَانِي ذِي الْفَضْلِ الْمِدْرَارِ الْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ حَسَنِ الْعَطَّارِ عَلَى شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ لِلْإِمَامِ ابْنِ السُّبْكِيّ الْأُصُولِيِّ ذِي الْيَدِ الطُّولَى فِي إجَادَةِ التَّصْنِيفِ وَالتَّحْبِيرِ رحمهم الله وَأَحَلَّهُمْ جَمِيعًا دَارَ رِضَاهُ وَقَدْ حَلَّيْتَ طُرُرَهُ وَوَشَّيْتُ غُرَرَهُ بِتَقْرِيرِ شَيْخِ الْمَشَايِخِ ذِي الْفَضْلِ الْبَاذِخِ الْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّرْبِينِيِّ ضَاعَفَ اللَّهُ لَهُ الْأُجُورَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ لِمَا لَهُ مِنْ كَثِيرِ الْعَائِدَةِ وَكَبِيرِ الْفَائِدَةِ لِلشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَلِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْإِمَامِ حَفِظَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَهْدَى إلَى الْأَفْكَارِ وَزَفَّ إلَى الْبَصَائِرِ وَالْأَبْصَارِ مَا يَشْهَدُ بِهِ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ وَتَقَرُّ بِمَحَاسِنِهِ النَّوَاظِرُ النَّوَاضِرُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ امْتَازَتْ هَذِهِ الطَّبْعَةُ بِتَقْرِيرَاتٍ قَيِّمَةٍ وَتَعْلِيقَاتٍ وَافِيَةٍ لِحَضْرَةِ الْفَاضِلِ الْأُسْتَاذِ الْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ الْمَالِكِيِّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ.

ص: 535