الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الفدية
مسألة: (وهي على ضربين؛ أحدهما: على التخيير، وهي فدية الأذى واللبس والطيب، فله الخيار بين [صيام]
(1)
ثلاثة أيام، أو إطعامِ ثلاثة آصُعٍ من تمرٍ لستة مساكين، أو ذبحِ شاة)
(2)
.
الأصل في هذه الفدية قوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فأباح الله سبحانه الحلق للمريض، ولمن في رأسه قَمْلٌ يؤذيه، وأوجب عليه الفدية المذكورة، وفسَّر مقدارَها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث كعب بن عُجرة، وهو الأصل في هذا الباب، فقال له: «فاحْلِقه
(3)
واذبحْ شاة، أو صُمْ ثلاثة أيام، أو تصدَّقْ بثلاثة آصُعٍ من تمرٍ بين ستة مساكين»
(4)
.
وقد أجمع المسلمون على مثل هذا. وتقديره صلى الله عليه وسلم لِما ذُكر في كتاب الله من صيام أو صدقة أو نسكٍ [ق 291] مثلُ تقديره لأعداد الصلاة وللركعات والأوقات، وفرائض الصدقات ونُصُبها، وأعداد الطواف والسعي والرمي وغير ذلك، إذ كان هو المبيِّن عن الله معانيَ كتابه صلى الله عليه وسلم.
وأما من حلقَ شعر بدنه، أو قلَّم أظفاره، أو لبس، أو تطيَّب= فملحقٌ
(1)
زيادة من «العمدة» .
(2)
انظر «المغني» (5/ 381) و «الشرح الكبير مع الإنصاف» (8/ 377) و «الفروع» (5/ 398).
(3)
في المطبوع: «فاحلق» خلاف ما في النسختين و «المسند» .
(4)
أخرجه أحمد (18117) ــ واللفظ له ــ ومسلم (1201).
بهذا المحظور في مقدار الفدية؛ لأن الله حرَّم ذلك كله في الإحرام.
فصل
إن فعل المحظور لعذر ففديته على التخيير كما ذكرناه، وإن فعله لغير عذر ففيه روايتان:
إحداهما: أن فديته على التخيير أيضًا كما ذكره الشيخ؛ لأن كل كفارة وجبت على التخيير وسببها مباحٌ وجبت على التخيير، وإن كان محظورًا كجزاء الصيد.
وأيضًا فإن الكفارة جَبْرٌ لما نقص من الإحرام بفعل المحرَّم، والنقص لا يختلف بين أن يكون بسبب مباح أو محظور، إلا أن في أحدهما
(1)
جائزًا، والآخرِ حرامًا، فلو لم يكن كل واحد من الكفارات الثلاث جابرًا لنقص الإحرام لما اكتُفِي به مع وجود غيره؛ ولهذا كفارة اليمين تجب على التخيير سواء كان الحنث جائزًا أو حرامًا.
وأيضًا فإن كون سبب الكفارة جائزًا لا يوجب التخيير، بدليل دم المتعة والقران، هو على الترتيب وإن كان سببه جائزًا، فلما كانت هذه الكفارة على التخيير عُلِم أن ذلك ليس لجواز السبب، بل لأنها جابرة لنقص الإحرام.
وأما الآية فإنما لم يذكر فيها إلا المعذور، لأن الله بيَّن جواز الحلق ووجوب الفدية، لأنه قد نهى قبل ذلك عن الحلق، وهذا الحكمان يختصان المعذور خاصة.
(1)
كذا في النسختين، وفي هامشهما:«لعله إلا في أن أحدهما، أو إلا أنه في أحدهما» .
والرواية الثانية: أنه يلزمه الدم عينًا
(1)
، و [لا] يتخيَّر
(2)
بين الخصال الثلاثة. فإن عَدِمَ الدمَ فعليه الصدقة، وإن لم يجد انتقل إلى الصيام. نصَّ عليه في رواية ابن القاسم وسندي
(3)
، في المحرم يحلق رأسه من غير أذى: ليس هو بمنزلة من يحلق من أذى؛ إذا حلق رأسه من أذى فهو مخيَّر في الفدية. ومثل هذا لا ينبغي أن يكون مخيَّرًا.
وهذا اختيار القاضي
(4)
وأصحابه مثل الشريف أبي جعفر
(5)
وأبي الخطاب، ولم يذكروا في تعليقهم خلافًا.
قال ابن أبي موسى
(6)
: وإن حلق رأسه لغير ضرورة
(7)
فعليه الفدية، وليس بمخيَّرٍ فيها، فيلزمه دم. وإن تنوَّر
(8)
فعليه فدية على التخيير.
ففرق بين حلق الرأس والتنوُّر، ولعل ذلك لأن حلق الرأس نسكٌ عند التحلل، فإذا فعله قبل وقته فقد فعل محظورًا وفوَّت نسكًا في وقته، ومن ترك شيئا من نسكه فعليه دم. بخلاف شعر البدن فإنه ليس في حلقه تركُ نسكٍ؛ لأن الله سبحانه إنما ذكر التخيير في المريض ومن به أذى، وذلك يقتضي أن غير المعذور بخلاف ذلك لوجوه:
(1)
«عينًا» ، ساقطة من المطبوع.
(2)
بعدها في المطبوع: «لدلالة السياق عليه» . ولا وجود لها في النسختين.
(3)
كما في «التعليقة» (1/ 442).
(4)
في المصدر السابق.
(5)
في «رؤوس المسائل» (1/ 377).
(6)
في «الإرشاد» (ص 161).
(7)
في النسختين: «عذر» . والمثبت من هامشهما بعلامة ص، وهو الموافق لما في «الإرشاد» .
(8)
أي أزال شعره بالنورة.
أحدها: أن «مَنْ» حرف شرط، والحكم المعلّق بشرطٍ= عَدَمٌ عند عدمه حتى عند أكثر نفاة المفهوم. والحكم المذكور هنا وجوب فدية على التخيير إذا حلق، فلو كانت هذه الفدية مشروعة في حال العذر وعدمِه لزم إبطال فائدة الشرط والتخصيص.
وقولهم: التخصيص لجواز الحلق وإباحته، يُجاب عنه بأن الجواز ليس مذكورًا في الآية، وإنما المذكور وجوب الفدية، وإنما الجواز يستفاد من سياق الكلام، ولو كان الجواز مذكورًا أيضًا فالشرط شرط في جواز الحلق وفي هذه
(1)
الفدية المذكورة.
الثاني: المريض ومن به أذًى معذور في استباحة المحظور، والمعذورُ يناسب حاله التخفيف عنه والترخيص له، فجاز أن تكون التوسعة له في التخيير لأجل العذر؛ لأن الحكم إذا عُلِّق بوصف مناسب كان ذلك الوصف علة له. وإذا كان علة التوسعة هو العذر لم يجز ثبوت الحكم بدون علته. يوضِّح هذا أن الله بدأ بالأخف فالأخف من خصال الفدية؛ قال:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] تنصيصًا على أن «أو» للتخيير، إذ وقع الابتداء بأدنى الخصال، وغير المعذور بعيد من هذا، ولهذا بدأ في آية الجزاء بأشد الخصال وهو المثل لما ذكر المتعمد
(2)
.
الثالث: أن الله سماها فدية، والفدية إنما تكون في الجائزات كفدية الصيام، وهذا لأن الصائم والمحرم ممنوعان مما حُرِّم عليهما محبوسان عنه، كالرقيق والأسير الممنوع من التصرف، فجوَّز الله لهما أن يفتديا
(1)
«هذه» ساقطة من المطبوع.
(2)
في المطبوع: «المعتمد» تحريف.
أنفسهما عند الحاجة كما يفتدي الأسير والرقيق أنفسهما، وكما تفتدي المرأة نفسها من زوجها.
ومعلوم أنه إذا لم يحتجْ إلى الحلق لم يأذن الله له أن يفتدي نفسه، ولا يفتكُّ
(1)
رقبته [ق 292] من حبْس
(2)
الإحرام، فلا يكون الواجب عليه فدية.
والله سبحانه إنما ذكر التخيير تقسيمًا للفدية وتوسيعًا في الافتداء، فلا يثبت هذا الحكم في غير الفدية. وبهذا يظهر الفرق بين هذه الفدية وبين جزاء الصيد وكفارة اليمين؛ لأن الله ذكر التخيير في جزاء الصيد مع النص على أنه قتله متعمدًا، فكان التخيير في حق المخطئ أولى، وذكر الترتيب والتخيير في كفارة اليمين مطلقًا.
وأيضًا فإنها كفارة وجبت لفعل محظور، فتعيَّن فيها الدم ككفارة الوطء وتوابعه، ومعلوم أن إلحاق المحظور بالمحظور أولى من إلحاقه بجزاء الصيد.
ولأن الله أوجب الدم على المتمتع عينًا حيث لم يكن به حاجة إلى التمتع بحِلّه مع جواز التمتع به، فلأن يجب على من تمتع في الإحرام من غير حاجة مع تحريم الله أولى، وعكسُه المعذور.
ولأنها كفارة وجبت لجناية على الإحرام لا على وجه المعاوضة، فوجب الدم عينًا كترك الواجبات، وعكسه جزاء الصيد فإنه وجب بدلًا
(3)
لِمُتلَف، فهو مقدَّر بقدر مُبدَلِه، وأبدالُ المتلَفات لا يفرَّق فيها بين مُتلَف ومُتلَف، بخلاف الكفارات التي لخللٍ في العبادة كالوطء في رمضان
(1)
ق: «يفك» .
(2)
«حبس» ساقطة من المطبوع.
(3)
في المطبوع: «بدل» مكان «وجب بدلًا» .