الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالثة: أن من فاته الوقوف بها والمبيتُ فعليه دم
، هذا هو المذهب المنصوص في رواية صالح وغيره.
ويحتمل كلامه في رواية حنبل وأبي طالب إذا تركها لعذرٍ لا شيء عليه.
وخرَّج القاضي
(1)
وابن عقيل فيمن لم يمرَّ بها حتى طلعت الشمس، أو أفاض منها أول الليل: لا شيء عليه؛ تخريجًا من إحدى الروايتين في المبيت بمنى؛ لأن المبيت ليس بمقصود لنفسه، وإنما يُقصد للوقوف في غداتها، وذلك ليس بواجب، فما يُقصد له أولى.
وهذا التخريج
(2)
فاسد على المذهب، باطل في الشريعة؛ فإنّ بين الوقوف بمزدلفة والمبيت بمنى من المباينة في الكتاب والسنة، ما لا يجوز معه إلحاقُ أحدهما بالآخر، إلا كإلحاق الوقوف بين الجمرتين بالوقوف بعرفة.
وقولهم: «ليس بمقصودٍ» ، قد منعه من يقول: إن الوقت يمتدُّ إلى طلوع الفجر.
والتحقيق: أن المقصود هو الوقوف بالمشعر الحرام، ووقته من أواخر الليل إلى طلوع الشمس كما سيأتي.
الرابعة: أنه يفوت وقتها بطلوع الفجر، فمن لم يدركها قبل ذلك فعليه دم. هذا هو الذي ذكره القاضي
(3)
وعامة أصحابنا بعده؛ لقول أحمد: وعليه
(1)
في «التعليقة» (2/ 109).
(2)
ق: «تخريج» .
(3)
في «التعليقة» (2/ 109).
أن يبيت بالمزدلفة، فإن لم يبت فعليه دم. لأن الواجب هو المبيت بالمزدلفة، والمبيت إنما يكون بالليل كالمبيت بمنى، فإذا طلع الفجر ذهب وقت المبيت.
وأصحاب هذا القول لا يرون الوقوف بالمزدلفة واجبًا، وإنما الواجب عندهم المبيتُ بها، ولا يرون الوقوف غداةَ جَمْعٍ من جنس الواجب، بل من جنس الوقوف بين الجمرتين.
وهذا القول في غاية السقوط لمن تدبَّر الكتاب والسنة ونصوصَ الإمام أحمد والعلماء قبله.
ونقل عنه صالح
(1)
في رجل فاته الوقوفُ بجمعٍ، وقد وقف بعرفة، ومرَّ بجَمْعٍ بعد طلوع الشمس، قال: عليه دم.
ونقل عنه المرُّوذي
(2)
: إذا وقف بعرفة، فغلبه النومُ حتى طلعت الشمس، عليه دم.
فأوجب الدم بفوات الوقوف بها إذا طلعت الشمس.
وكذلك قال في رواية أبي طالب
(3)
: إذا لم يقف بجَمْعٍ عليه دم، ولكن يأتي جمْعًا
(4)
فيقف قبل الإمام ويُجزِئه.
فجعل الموجب للدم عدم الوقوف، فإذا وقف مع الإمام أو قبله فلا دم
(1)
في «مسائله» (2/ 198).
(2)
كما في «التعليقة» (2/ 109).
(3)
المصدر نفسه (2/ 109).
(4)
في النسختين: «جمع» .
عليه، وكذلك احتج بحديث عمر لما انتظر الأعرابي، وإنما جاء بعد طلوع الفجر.
وعلى هذا إذا لم يقف قبل طلوع الفجر فعليه أن يقف بعد طلوعه، وهذا هو الصواب أن وقت الوقوف لا يفوت إلى طلوع الشمس، فمن وافاها قبل ذلك فقد وقف بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بها وأفاض قبيلَ طلوع الشمس، وهذا هو
(1)
الوقوف المشروع في غداتها، [و] هو المقصود الأعظم من الوقوف بمزدلفة، وبه يتمُّ امتثالُ قوله:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} الآية. وإليه الإشارة بقوله: «هذا هو الموقف، وجَمْعٌ كلها موقف، وارفعوا عن بطن مُحسِّر»
(2)
. وهذا نظير الوقوف عشية عرفة، وأحد الموقفين الشريفين، فكيف لا يكون له تأثير في الوجوب وجودًا وعدمًا؟ أم كيف لا يكون هذا الزمان وقتًا للنُّسك المشروع بمزدلفة؟
وأيضًا فإن عروة بن مُضرِّس أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمزدلفة حين خرج لصلاة الفجر، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«من أدرك معنا هذه الصلاةَ، ووقف معنا حتى نَدفعَ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نهارًا، فقد تمَّ حجُّه وقضى تَفَثَه»
(3)
.
وهذا نصٌّ في [أن] مزدلفة تُدرَك بعد طلوع الفجر كما تُدرَك قبل الفجر؛ لأن هذا السائل إنما وافاها بعد طلوع الفجر، وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء حجّه،
(1)
«هو» ساقطة من المطبوع.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
ولم يُخبره أن عليه دمًا، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يصح أن يقال: فلعله دخل فيها قبل الفجر
…
(1)
.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من أدرك الصلاة والموقفَ بجَمْعٍ، ووقف قبل ذلك بعرفات، فقد تمَّ حجه، ولم يذكر دمًا ولا غيره، ولم يشترط إدراك مزدلفة قبل الفجر، بل نصَّ على الاكتفاء بإدراك الوقوف مع الناس.
وفي لفظ: «من أدرك إفاضتَنا هذه»
(2)
. والإفاضة قبيلَ طلوع الشمس، فأين يُذهَب عن هذا
(3)
البيان الواضح من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولأن من أدرك عرفة [ق 370] قبيلَ الفجر فمحال أن يُدرِك المزدلفة تلك الليلة، فلو كان هذا المدرك لعرفة قد فاتته المزدلفة وعليه دم لم يصحَّ أن يقال: من أدرك عرفة أدرك الحج مطلقًا، فإنه قد فاته بعض الواجبات، بل أعظم الواجبات؛ ولذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بعده صرَّحوا بأن من طلع عليه الفجر بعرفة فقد أدرك الحج، من غير ذكرٍ لدمٍ ولا تفويتِ الوقوفِ بالمزدلفة.
وأيضًا فإيجاب النُّسك باسم المبيت بمزدلفة لم ينطِقْ [به] كتاب ولا سنة ولا ذكره الصحابة والتابعون، بل الذي في كتاب الله قوله:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، وهذا يقتضي التعقيب؛ لقوله:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} .
(1)
بياض في النسختين.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
«هذا» ساقطة من المطبوع.
فمن أفاض من عرفات عند طلوع الفجر، يذكر الله إذا أفاض بعد طلوع الفجر بنصّ الآية.
وأيضًا فإن الله أمر كلَّ مُفيضٍ من عرفات بذكره عند المشعر الحرام، فلو كان وقت هذا الواجب يفوت بطلوع الفجر، لم يُمكِن كلَّ مفيضٍ امتثالُ هذا الأمر.
وأيضًا فإن وقت التعريف يمتدُّ إلى طلوع الفجر، فلا بدَّ أن يكون عقيبَه وقتٌ للمشعر الحرام؛ لئلا يتداخل وقت هذين النسكين.
وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم[ذكر]
(1)
الوقوف بالمزدلفة، وشهود صلاة الصبح، والوقوف معه، وإنما جاء المبيت بمزدلفة تبعًا، لأن الوقوف بعد الفجر، وإنما يكون ذلك بعد المبيت، فكيف يكون المقصود تبعًا والتبع مقصودًا؟!
وأيضًا فما روى إبراهيم عن الأسود: أن رجلًا قدِمَ على عمر بن الخطاب وهو بجَمْعٍ بعدما أفاض من عرفات
(2)
، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمتُ الآنَ، فقال: أما كنتَ وقفتَ بعرفات؟ قال: لا، قال: فائْتِ عرفَة، وقِفْ بها هُنَيَّةً
(3)
، ثم أَفِضْ. فانطلق الرجل، وأصبح عمر بجَمْعٍ، وجعل يقول: أجاء الرجل؟ فلما قيل: قد جاء، أفاض. رواه سعيد بإسناد صحيح
(4)
، واحتج به أحمد.
(1)
مكانه بياض في النسختين.
(2)
في المطبوع: «بعرفات» خلاف النسختين.
(3)
في المطبوع: «هنيهة» خلاف النسختين. وانظر «تاج العروس» (هنو).
(4)
وأخرجه الطحاوي في «أحكام القرآن» (1440) بنحوه. وفي إسناده لين من أجل الحجاج بن أرطاة.
فهذا رجل إنما أدرك الناس قبيل
(1)
الإفاضة من جَمْع؛ لأن مجيئه إلى مزدلفة قبل التعريف لا أثر له، فإن مزدلفة إنما يصحُّ المبيت والوقوف بها بعد عرفة، ومع هذا لم يأمره عمر بدم، بل انتظره ليقف مع الناس، ولو كان وقت الواجب
(2)
قد ذهب لما كان لانتظاره معنًى.
وأيضًا فإن الوقوف بالمزدلفة بعد الوقوف بعرفة بنصّ الكتاب
(3)
والسنة. والعبادات المتعاقبة لا يجوز دخول وقت إحداهما في وقت الأخرى، كأوقات الصلوات. ووقت عرفة يمتدُّ إلى طلوع الفجر، فلو كان وقت مزدلفة ينتهي إلى ذلك الوقت لكان وقت مزدلفة بعضَ وقت عرفة، وذلك لا يجوز.
وأما قولهم: المبيت بمزدلفة واجب.
قلنا: هذا غير مسلَّم، فإن من أدركها في النصف الثاني أو قبيلَ طلوع الفجر لا يُسمَّى بائتًا بها، ألا ترى أن المبيت بمنى لما كان واجبًا لم يجزْ أن يبيتَ بها لحظةً من آخر الليل حتى يبيتَ بها معظمَ الليل. نعم من أدركها أولَ الليل فعليه أن يبيت بها إلى آخر الليل؛ لأجل أن الوقوف المطلوب هو في النصف الآخر، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، وصار هذا مثل الوقوف الواجب بعرفة هو آخر النهار، فإذا نزلوا بنَمِرَة أقاموا إلى نصف النهار لانتظار الوقوف، لا لأن النزول بنَمِرةَ هو المقصود، ولو تأخَّر الإنسان إلى وقت الوقوف أجزأ، كذلك هنا.
(1)
في المطبوع: «قبل» .
(2)
في المطبوع: «الوجوب» .
(3)
في النسختين: «القرآن» . والمثبت من هامشهما بعلامة ص.