الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب
أركان الحج والعمرة
مسألة
(1)
: (أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة)
.
وجملة ذلك: أن أركان الحج هي أبعاضه وأجزاؤه التي لا يتمُّ إلا بها، فمن أخلَّ ببعضها لم يصحَّ حجُّه، سواء تركها لعذر أو غير عذر، بل لا بدَّ من فعلِها، بخلاف أركان الصلاة، فإنها تجب مع القدرة وتسقط مع العجز. وسبب الفرق: أنه متى عجز عن أركان الحج أمكنه الاستنابةُ فيما عجَزَ عنه في حياته أو بعد موته، بخلاف الصلاة المكتوبة فإنه لا نيابة فيها.
وفي هذه الجملة فصول:
أحدها
أن الوقوف بعرفة لا يتمُّ الحج إلا به، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله سبحانه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]. وكلمة «إذا» لا تُستعمل إلا في الأفعال التي لا بدَّ من وجودها، كقولهم: إذا احمرَّ البُسْرُ
(2)
فأْتِني، ولا يقال: إن احمرَّ البسر؛ وذلك لأنها في الأصل ظرف لما يُستقبل من الأفعال، وتتضمن الشرط في الغالب، فإذا جُوزِيَ بها كان معناه إيقاع الجزاء في
(1)
انظر «المستوعب» (1/ 529) و «المغني» (5/ 267، 311) و «الشرح الكبير» (9/ 289) و «الفروع» (6/ 68).
(2)
هو التمر قبل أن يُرطِب.
الزمن الذي أضفتَ
(1)
إليه الفعل، فلا بدَّ من أن يكون الفعل موجودًا في ذلك الزمان، وإلا خرجت عن أن تكون ظرفًا.
ومعلوم أن الإفاضة من عرفات من أفعال العباد، فالإخبار عن وجودها يكون أمرًا حَتْمًا بإيجادها، نحو أن يترك بعض الناس وكلهم
(2)
الإفاضة، وصار هذا بمنزلة: إذا صلّيتَ الظهر فافعلْ كذا.
وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الآية [البقرة: 199]، قالت عائشة: كانت قريش ومن دانَ دِينَها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسمَّون الحُمْسَ، وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيَّه أن يأتي عرفات فيقفَ بها، ثم يُفيضَ منها، فذلك قوله:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
(3)
.
وفي لفظ
(4)
وعن جُبير بن مُطعِم قال: أَضللتُ بعيرًا لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة،
(1)
في المطبوع: «أضيف» خلاف النسختين.
(2)
كذا في النسختين بالواو، وفي هامش ق: لعله «أو» . وفي العبارة غموض. ولعل «نحو أن» مصحفة عن «دون أن» ، أي لا يترك الناس الإفاضة، فهي واقعة لا محالة.
(3)
أخرجه البخاري (4520) ومسلم (1219/ 151).
(4)
عند مسلم (1219/ 152). ونحوه عند البخاري (1665).
فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا مع الناس بعرفة، فقلت: والله إن هذا لمن الحُمْس، فما شأنُه هاهنا؟ وكانت قريش تُعدُّ من الحُمْس. متفق عليه
(1)
.
وعن جابر قال: كانت العرب يَدفع بهم أبو سيَّارة على حمارٍ عُرْيٍ، فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم يشكَّ قريش أنه سيقتصرُ عليه، ويكون منزلُه ثَمَّ، فأجاز ولم يَعْرِضْ [له]، حتى أتى عرفاتٍ فنزل. رواه مسلم
(2)
.
فإن قيل: كيف قيل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ــ والإفاضة من عرفات ــ بعد قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ؟
قيل: قد قيل: إنه لترتيب الأخبار، ومعناه أن الله يأمركم إذا أفضتم من عرفاتٍ أن تذكروا
(3)
عند المشعر الحرام، ثم يأمركم أن تُفيضوا من حيث أفاض الناس. وترتيب الأمر لا يقتضي ترتيبَ الفعل المأمور به، وإنما أُمِر بهذا بعد هذا لأن الأول أمرٌ لجميع الحجيج، والثاني أمرٌ للحُمْس خاصةً.
ويقال: إنه معطوف على قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ} إلى قوله: {وَتَزَوَّدُوا
…
}
(4)
{وَاتَّقُونِ
…
} {ثُمَّ أَفِيضُوا} ، ويكون معناه: فمن فرض الحج فلا يرفث ولا يفسُقُ، ثم بعدَ
(1)
البخاري (1664) ومسلم (1220).
(2)
رقم (1218/ 148). والزيادة منه.
(3)
في المطبوع: «تذكروه» خلاف النسختين.
(4)
«وتزودوا» ساقطة من المطبوع.
فرضِ الحج يُفيض من حيث أفاض الناس، ويكون الكلام في بيان المحظورات والمفروضات.
فإن قيل: لم ذُكِر لفظُ الإفاضة دون الوقوف؟
قيل: لأنه لو قال: ثم قِفُوا حيث وقف الناس لظنّ ظانٌّ
(1)
أن الوقوف بعرفة يُجزئ في كل وقتٍ بحيث يجوز تقديمه، وأما الإفاضة فإنها الدفع بعد تمام الوقوف، [ق 360] وقد علموا أن وقت الدفع هو آخر يوم عرفة، فإذا أُمِروا بالإفاضة منها عُلِم أنه يجب أن يقفوا بها إلى وقت الإفاضة، وأنها غاية السير الذي ينتهي إليه الحاج، فلا يُتجاوز ولا يُقصَّر عنها؛ لأن المقصِّر والمتجاوز
(2)
لا يُفيضانِ منها.
وأما السنة فما روى سفيان وشعبة عن بُكَير بن عطاء الليثي عن عبد الرحمن بن يَعْمَر الدِّيلي: أن ناسًا من أهل نجد أَتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديًا فنادى:«الحج عرفة، من جاء ليلةَ جَمْعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيامُ منًى ثلاثة، فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخَّر فلا إثم عليه» ، وأردف رجلًا خلفه يُنادي بهن. رواه الخمسة
(3)
. قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه الثوري
(4)
.
(1)
«ظان» ساقطة من المطبوع.
(2)
في المطبوع: «والمجاوز» خلاف النسختين.
(3)
رواه أحمد (18773، 18774) وأبو داود (1949) والترمذي (889، 890) ــ واللفظ أشبه بلفظه ــ والنسائي (3044) وابن ماجه (3015). وصححه ابن خزيمة (2822) وابن حبان (3892) والحاكم (2/ 278).
(4)
أسنده الترمذي عن ابن عيينة عقب الحديث (890)، وأسند عن وكيع أنه قال:«هذا الحديث أم المناسك» . وذكر ابن ماجه عن شيخه محمد بن يحيى الذهلي أنه قال: «ما أرى للثوري حديثًا أشرفَ منه» .
وفي رواية لسعيد
(1)
: «من جاء ليلةَ جَمْعٍ قبل صلاة الصبح فقد تمَّ حجُّه» .
وفي رواية له
(2)
: «فمن أدرك ليلةَ جَمْعٍ قبل صلاة الصبح فقد تم حجُّه»
(3)
.
وعن عروة بن مضرِّس بن أوس بن حارثة بن لَأْمٍ الطائي قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئتُ من جبل طيِّئ، أكللتُ راحلتي وأتعبتُ نفسي، والله ما تركتُ من جبلٍ إلا وقفتُ عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من شهِدَ صلاتَنا هذه، ووقفَ معنا حتى نَدفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا= فقد تمَّ حجُّه، وقَضَى تَفَثَه» . رواه الخمسة
(4)
، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(1)
وبلفظ قريب عند البخاري في «التاريخ» (5/ 243) والنسائي (3044).
(2)
وأيضًا لأحمد (18773).
(3)
في هامش النسختين هنا: «بخطه رضي الله عنه: لعله أراد بالإدراك إدراك المزدلفة، ولذلك قال: تم حجه» .
(4)
أحمد (16208، 16209، 18300 - 18304) وأبو داود (1950) والترمذي (891) ــ واللفظ له ــ والنسائي (3039 - 3043) وابن ماجه (3016). وصححه ابن خزيمة (2820) وابن حبان (3850) والحاكم (1/ 463) وابن عبد البر في «الاستذكار» (13/ 30).
وفي رواية لأحمد صحيحة
(1)
: «من شهدَ صلاتنا هذه ووقف بعرفات» .
وفي رواية صحيحة لسعيد
(2)
: «من وقفَ معنا هذا الموقفَ، وشهِدَ معنا هذه الصلاة ــ يعني صلاةَ الفجر ــ، [و]
(3)
أفاض قبل ذلك من عرفات ليلًا أو نهارًا= فقد تمَّ حجُّه، وقضى تَفَثَه».
وفي رواية له
(4)
: «أَفْرِخْ
(5)
رَوْعَك، من أدركَ إفاضتَنا هذه فقد أدرك الحجَّ».
وأما الإجماع ..
(6)
.
فصل
وللوقوف بعرفة مكان وزمان. فأما حدود عرفات فقد تقدم
(7)
، وأما زمان الوقوف فاليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم عرفة، وليلة العاشر من ذي الحجة إلى طلوع الفجر، وتسمَّى ليلة جَمْعٍ، و
(8)
ليلة المزدلفة، وليلة النحر، وليلة عرفة. فمن طلع الفجرُ ولم يقفْ في شيء من عرفة فقد فاته الحج؛ لأن
(1)
لم أجدها في «المسند» ولا غيره.
(2)
ابن منصور في «سننه» ، وبلفظ قريب رواه ابن عبد البر في «الاستذكار» (13/ 31).
(3)
ليست في النسختين. وفي هامش ق: لعله «وقد» .
(4)
أخرجها أيضًا الطبراني في «الكبير» (17/ 151) وأبو الشيخ في «أمثال الحديث» رقم (228) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 173). وإسنادها ضعيف.
(5)
في المطبوع: «أفرح» تصحيف. والمعنى: أذهِبْ همَّك. ويمكن أن يكون: «أفْرخَ رُوْعُك» أي خلا قلبُك من الهمّ، جملة دعائية.
(6)
بياض في النسختين.
(7)
لعله كان في السقط المتعلق بوقوف عرفة.
(8)
«ليلة جمع و» ساقطة من المطبوع.
الله قال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} . و «إذا» كلمة توقيتٍ وتحديدٍ، فأشْعَر ذلك بأن الإفاضة لها وقت محدود، إلا أن يقال:
…
(1)
، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الحج عرفةُ، مَن جاء ليلةَ جمْعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج»
(2)
، وهذا ذكره في معرض تحديد وقت الوقوف، فعُلِم أن من جاءها ليلًا فقد أدرك الحج، ومن لم يُوافِها حتى طلع الفجر فقد فاته الحج.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من شهِدَ صلاتنا هذه، ووقفَ معنا حتى نَدفع، وقد وقفَ قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نهارًا» . والصلاة بالمزدلفة هي أول ما يَبزُغ الفجر، فعُلِم أن وقت الوقوف قبل ميقات تلك الصلاة ليلًا أو نهارًا، وإنما يكون هذا قبل طلوع الفجر يوم النحر. وهذا مما أُجمِع عليه.
وعن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: من لم يقف بعرفةَ ليلةَ جَمْعٍ قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج. رواه مالك
(3)
عن نافع عنه.
ومن لم يُوافِ عرفةَ إلا ليلًا أجزأه الوقوف، ولو لحظةً في بعض جوانبها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من جاء ليلة جَمْعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدرك» ، وقوله:«وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا» .
ولا دم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه يدرك الحج، وأنه قد تمَّ حجه وقضى تفثَه، ولم يذكر أن عليه دمًا. وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، لاسيما في حكم عظيمٍ أردفَ خلفه من ينادي به في الناس في حجة الوداع.
(1)
بياض في النسختين.
(2)
سبق تخريجه قريبًا من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي.
(3)
في «الموطأ» (1/ 390).