الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن وافاها نهارًا فإنه يجب عليه أن يقف إلى الليل كما سيأتي، لكن لو لم يقف إلى الليل إما بأن يدفع منها، أو يَعرِضَ ما يمنع صحة الوقوف من إغماءٍ أو موتٍ، فإنه يُجزئه إن وقف بعد الزوال.
و
أما إن وقف قبل الزوال ففيه روايتان:
إحداهما: يجزئه الوقوف في أية ساعةٍ كان من يوم عرفة وليلتها، من طلوع فجر يومها إلى طلوع فجر يوم النحر. قال إسحاق بن منصور
(1)
: قال أحمد: إذا كان مريضًا أهلَّ من الميقات، ثم أُغمِي عليه بعرفات، فلم يُفِقْ
(2)
حتى أصبح، فلا حجَّ له. فإن أفاق ولو ساعةً إلى أن يطلع الفجر من ليلٍ أو نهارٍ فقد تمَّ حجه، ويُرمَى عنه. قلت لأحمد: إذا عَقلَ عند الميقات فأهلَّ [ثم أفاق] بعرفة ساعةً؟ قال: قد أجزأ عنه.
وقال حنبل
(3)
: سمعت [ق 361] أبا عبد الله يقول: كل من وقف بعرفة من ليلٍ أو نهارٍ ولو ساعةً، فقد تمَّ حجُّه.
وهذا قول أكثر أصحابنا، مثل أبي بكر وابن أبي موسى
(4)
وابن حامد والقاضي
(5)
وأصحابه، قالوا: لو وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال، ونَفَرَ منها قبل الزوال= أساء، وحجُّه تامّ، وعليه دم.
(1)
الكوسج في «مسائله» (2/ 570، 572). والزيادة منه.
(2)
في المطبوع: «فلم يقف» تحريف.
(3)
كما في «التعليقة» (2/ 87).
(4)
في «الإرشاد» (ص 179).
(5)
في «التعليقة» (2/ 87).
والثانية: لا يجزئه إلا بعد الزوال، وهو قول ابن بطّة وأبي حفص العُكْبَريَّين
(1)
. فمن لم يقفْ ــ عندهم ــ بعد الزوال فحجه باطل. قال أحمد في رواية عبد الله
(2)
وأبي الحارث، وقد سئل عن الذي يَشْرُد به
(3)
بعيرُه بعرفة، فقال: كلُّ من وطئ عرفةَ بليلٍ أو نهارٍ بعد أن يقف الناس بها
(4)
، فقد تمَّ حجُّه إذا أتى ما يجب عليه. ويدخل على قول من قال:«يجزئه حجُّه إذا أُغمي عليه بعرفة» لو أن رجلًا أُغمي عليه في أول يوم من شهر رمضان حتى انسلخ عنه، فلم يأكل ولم يشرب= أنه يُجزِئه صوم رمضان، ولا يقضي شيئًا من الصلاة.
فقد قيَّد الوقوفَ المُجزِئ أن يكون بعدَ وقوف الناس بها، وأولُ وقت وقوفِ الناس زوالُ
(5)
الشمس؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف بعد الزوال، وهذه السنة الموروثة
(6)
عنه المنقولة نقلًا عامًّا، فلو كان قبل الزوال وقت وقوفٍ لوقفَ فيه، ولم ينزل بنَمِرةَ، وهي خارجة عن المعرَّف، إذ المسارعة إلى العبادة أولى من التأخير.
ولأن مواقيت العبادات إنما تُتلقَّى من فعله صلى الله عليه وسلم أو قوله
(7)
. وإنما وقف
(1)
كما ذكره القاضي عنهما في المصدر السابق.
(2)
في «مسائله» (ص 238).
(3)
«به» ساقطة من ق.
(4)
«بها» ساقطة من المطبوع.
(5)
في المطبوع: «بعد زوال» خلاف النسختين.
(6)
في المطبوع: «المورثة» .
(7)
ق: «وقوله» .
بعد الزوال، كما رمى جمار أيام منى بعد الزوال، وكما صلّى الظهر وغيرها من العبادات في مواقيتها. والعبادةُ المفعولة قبل وقتها لا تصحُّ بخلاف المفعولة بعد وقتها.
وفي حديث ابن عمر المتقدم: «إذا كان عشية عرفة باهَى الله بالحاجّ»
(1)
، فمن لم يقف إلى العشية لم يُباهِ الله به، فلا يكون من الحاجّ.
ولأن الرمي المشروع بعد الزوال لا يجوز تقديمه على وقته، وإن جاز التأخير عنه، فالوقوف أولى وأحرى.
ولأن الوقوف عبادة مشروعة عشيةَ اليوم، فلا يجوز فعلُها قبل الزوال كالظهر والعصر، وهذا لأن ما بين زوال الشمس إلى طلوع الفجر مواقيتُ الصلوات المكتوبات، فجاز أن يجعلها الله ميقاتًا للمناسك التي هي من جنس الصلاة، بخلاف صدر النهار.
ووجهُ الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من شهِدَ صلاتَنا هذه، ووقفَ معنا حتى ندفع، وقد وقفَ قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نهارًا= فقد تمَّ حجُّه، وقضى تَفَثَه»
(2)
. فعلَّق تمامَ الحج
(3)
وقضاءَ التَّفَث بالصلاة والوقوفِ
(4)
بمزدلفة، وبأن يقفَ قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نهارًا، فمن وقف بعرفة قبل الزوال، وأفاض إلى جَمْعٍ فوقف بها مع الإمام= فقد دخل في عموم
الحديث. ولو كان وقتُ الإجزاء بعد الزوال لقال: ووقفَ بعرفةَ قبل ذلك ليلًا أو نهارًا بعد الزوال.
فإن قيل: إنما معناه: بعرفةَ قبل ذلك ليلًا فقط، أو نهارًا إلى الليل؛ لأن المخاطبين قد علموا أن من وقف نهارًا وصل الوقوفَ إلى الليل، والشك إنما كان فيمن لم يُدركها إلا ليلًا، فخرج كلامه لبيان ما أشكل، بدليل أن الوقوف إلى آخر النهار واجب، وتَرْكه مُوجِب للدم، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه قد تمَّ حجُّه وقضى تَفَثَه، ولم يذكر دمًا، ومن يكون قد ترك واجبًا لا يكون حجُّه تامًّا إلا بإخراج الدم.
قيل: أولًا هذا السؤال إنما يصح ممن يقول: إن الوقوف بالليل ركن كما قال مالك. ولا يختلف المذهب أن من دفع قبل غروب الشمس صحّ حجُّه، لكن عليه دم كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ويُبيِّن
(1)
ضعفَ هذا أنه على هذا التقدير يكون الوقت المعتبر هو الليل فقط، فكان يكفي أن يقال: ووقف بعرفة قبل ذلك في شيء من الليل، فلما قال:«ووقف بعرفة ليلًا أو نهارًا» عُلِم أن كلًّا منهما وقتٌ للوقوف على انفراد، وحجُّ من وقفَ في أحدهما تامٌّ، وتَفَثُه مقضيٌّ، نعم قد يجب عليه دم في بعض الأوقات، وليس كلُّ من لم يُدرِك آخر النهار عليه دم، كما سيأتي.
وأيضًا فقوله في بعض الروايات: «أفاض قبل ذلك من عرفاتٍ ليلًا أو نهارًا فقد تمَّ حجُّه» يُبطِل هذا التأويل؛ لأن من أفاض نهارًا لم يقف إلى
(1)
في المطبوع: «وبين» خلاف النسختين.
الليل
…
(1)
.
وأما الإجماع، فقال أبو عبد الله في رواية عبد الله
(2)
وأبي الحارث: قوله: «الحج عرفة» على السلامة، فإذا هو عمِلَ ما يعمل الناس من طواف يوم النحر فهو الطواف الواجب؛ لأنه لم يختلف الناس فيما
(3)
علمنا أنه من لم يطفْ يوم النحر أنه يرجع حتى يطوف، ولو كان قد أتى أهله. وذلك يُشبِه
(4)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدركها»
(5)
. فإذا أدرك ركعةً أفليس عليه أن يأتي بها على كمالها؟ [ق 362] وما أفسدَ آخرَها أفسدَ أولَها، وإنما ذلك على كمالها. وكذلك الواقف بعرفة ما لم يأتِ برمي الجمار وهذه الأشياء، فحجه فاسد إذا وطئ قبل رمي الجمار، وإن كان قد وقف بعرفة؛ لأن الإحرام قائم عليه، وإذا رمى الجمار فقد انتقض إحرامه، وحلَّ له كل شيء إلا النساء.
فصل
ويُشترط لصحة كل طواف في الحج والعمرة، وفي غير حج وعمرة، عشرةُ أشياء:
(1)
بياض في النسختين. وكتب في هامشهما: «بيض نصف ورقة» . والكلام الآتي متعلق بطواف الإفاضة، وسقط دليل ركنيته من الكتاب والسنة. والدليل الثالث الإجماع الذي ذكره فيما بعد.
(2)
في «مسائله» (ص 239، 222).
(3)
«فيما» ليست في س.
(4)
في المطبوع: «مشبه» خلاف النسختين.
(5)
أخرجه البخاري (580) ومسلم (607) من حديث أبي هريرة.
أحدها: النية، وهي أن يقصد الطواف بالبيت، فلو دار حول البيت طالبًا لرجل، أو متروِّحًا بالمشي، ونحو ذلك= لم يكن ذلك طوافًا، كما لو أمسك عن المفطرات ولم يقصد الصوم، أو تجرَّد عن المخيط ولبَّى
(1)
ولم يقصد الإحرام. وهذا أصل مستقرٌّ في جميع العبادات المقصودة: لا تصحُّ إلا بنية، لقوله سبحانه:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وهذا لم ينوِ
(2)
العبادة.
الشرط الثاني: أن يكون طاهرًا من الحدث، فلو كان مُحدِثًا أو جنبًا أو حائضًا لم يجزْ له فعل الطواف
(3)
، رواية واحدة، بل هو حرام عليه، ولا يجوز أن يؤمر به؛ لأن الأمر بالحرام حرام؛ لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النفساء والحائض تغتسل وتُحرِم وتقضي المناسك كلها، غير أن لا تطوف بالبيت. رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن
(4)
.
وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن أبي بكر: أنه خرج حاجًّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أسماء بنت عُميس، فولدت محمد بن أبي بكر، فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرها أن تغتسل، ثم تُهِلَّ بالحج، وتصنعَ ما يصنع الناس إلا أنها لا تطوف بالبيت. رواه النسائي وابن ماجه
(5)
.
(1)
ق: «أو لبى» .
(2)
ق: «لم ينوي» .
(3)
تغيَّر رأي المؤلف في هذه المسألة، انظر «مجموع الفتاوى» (26/ 176 - 218).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
النسائي (2664) وابن ماجه (2912). والإسناد وإن كان مُرسلًا لأن محمد بن أبي بكر لم يسمع من أبيه، إلا أن أصله ثابت بنحوه من حديث جابر وحديث عائشة عند مسلم (1209، 1210) وغيره. وقد صححه ابن خزيمة (2610).
وعن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج حتى جئنا سَرِفَ، فطَمِثْتُ، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:«ما يُبكيك؟» فقلت: والله لوددتُ أني لم أكن خرجتُ العام، قال:«ما لكِ لعلك نُفِسْتِ؟» قلت: نعم، قال:«هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غيرَ أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهُري» ، وذكرت الحديث. متفق عليه
(1)
.
وفي رواية لمسلم
(2)
: «فاقضي
(3)
ما يقضي الحاجُّ، غيرَ أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي».
وفي رواية لأحمد
(4)
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف» .
وهذا متواتر في حديث عائشة: أنها حاضت لما قدمت مكةَ، ومنعها النبي صلى الله عليه وسلم من الطواف، وأمرها بالإهلال بالحج، وطافت لما رجعت من عرفات، ثم اعتمرتْ بعد الصَّدَر من منًى.
وقد تقدم أيضًا في حديث صفية بنت حُيي أنها حاضت بعدما أفاضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«عَقْرى حَلْقَى، إنك لحابستُنا» ثم قال لها: «أكنتِ أفضتِ
(1)
البخاري (305) ومسلم (1211/ 120).
(2)
رقم (1211/ 119).
(3)
في المطبوع: «فاقض» خطأ.
(4)
رقم (25055). وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف.
يوم النحر؟» قالت: نعم، قال:«فانفِري» . ورخَّص للحائض أن تَنفِرَ من غير وداع، ولو كان للحائض سبيل إلى الطواف بجُبران أو غيرِ جُبران لم يحبس النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من أجلها، بل أمرها بالطواف وبجبرانه
(1)
لو كان جائزًا، وكذلك لو كان جائزًا لم يسقط عنها طواف الوداع، بل أمرها به وبجبرانه.
وعن عائشة: أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدِمَ أنه توضأ ثم طاف بالبيت. متفق عليه
(2)
.
وعن طاوس عن رجل قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الطواف صلاة، فإذا طفتم فأقِلُّوا الكلام» . رواه أحمد والنسائي
(3)
.
ورواه الترمذي
(4)
عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
في المطبوع: «بجبران» خلاف النسختين.
(2)
البخاري (1614، 1641) ومسلم (1235).
(3)
أحمد (15423) والنسائي (2922). وقد اختُلف على طاوس في هذا الحديث على أوجه. فقد أخرجه النسائي (2923) وغيره عن طاوس عن ابن عمر موقوفًا عليه، وهذا الوجه رجحه الدارقطني في «العلل» (3044). وأخرجه عبد الرزاق (9789، 9790) والبيهقي (5/ 87) وغيرهما من طريقين صحيحين عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا عليه، وهو الذي رجحه البيهقي. وقد روي عن طاوس عن ابن عباس مرفوعًا، وهو الحديث الآتي.
(4)
رقم (960) من طريق عطاء بن السائب عن طاوس به مرفوعًا. قال الترمذي: «وقد رُوي هذا الحديثُ عن ابنِ طاوس وغيرِه عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا. ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن السائب» . وقد صحّحه مرفوعًا ابن خزيمة (2739) وابن حبان (3836) والحاكم (1/ 459). وقد روي عن عطاء بن السائب موقوفًا أيضًا كما عند عبد الرزاق (9791) وابن أبي شيبة (12960). قال البيهقي: «رَفَعه عطاءُ بن السائب في رواية جماعة عنه، ورُوي عنه موقوفًا، والموقوف أصح» . انظر: «معرفة السنن والآثار» (7/ 232) و «التلخيص الحبير» (1/ 129 - 131) والتخريج السابق.
«الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلَّم فيه فلا يتكلَّم إلا بخير» . قال: وقد روي عن ابن عباس موقوفًا
(1)
.
فقد جعله صلاةً ومثلَ الصلاة إلا في إباحة النطق، وهذا يقتضي أنه يساوي الصلاة في سائر الأحكام، من الطهارتين والزينة ونحو ذلك، إذ لو فارقها في غير الكلام لوجب استثناؤه، فإن استثناءه
(2)
هذه الصورةَ دليلٌ على أنها تدخل في العموم لولا الاستثناء، وإذا دخلت هذه الصورة فدخول سائر الصور أوكدُ.
وعلى هذا فالمحدِث يُمنَع منه كما يمنع من الصلاة.
وأما الجنب فيُمنَع منه كذلك
(3)
، ولأن الطواف لا يصح إلا في المسجد، والجنب ممنوع من اللُّبث في المسجد، إلا أن هذا المانع يزول عنه إذا توضأ للصلاة. والحائض تُمنَع منه لهذين السببين، إلا إذا انقطع دمها وتوضأت، فإنما تُمنَع منه
(4)
لسببٍ واحد على
…
(5)
. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «غيرَ أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي» دليلٌ على أنها ممنوعة منه قبل الاغتسال، توضأتْ أو لم تتوضأ، والجُنُب مثلها في هذه الصورة. ولو فُرِض
(1)
في النسختين: «موقوف» .
(2)
في المطبوع: «استثناء» خلاف النسختين.
(3)
في المطبوع: «لذلك» .
(4)
«منه» ساقطة من المطبوع.
(5)
بياض في النسختين.