الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولأن الأصل وجوب اتباعه في جميع المناسك بقوله صلى الله عليه وسلم: «خُذوا عنّي مناسِكَكم» ، لا سيما وفعلُه صلى الله عليه وسلم خرج امتثالًا لقوله:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} . والفعل إذا خرج امتثالًا لأمرٍ كان بمنزلته، والأمر للوجوب. ولا يجوز أن يقال: فالذكر ليس بواجب؛ لأن أمر الله في كتابه للوجوب، لا سيَّما في العبادات المحضة، وهناك ذكرٌ واجبٌ بالإجماع، وهو صلاة الفجر بمزدلفة، على أنه يحتاج من قال:«إن الذكر لا يجب» إلى دليل.
مسألة
(1)
: (والسعي)
.
يعني به بين الصفا والمروة.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيه؛ فروي عنه أنه ركن لا يتمُّ الحج والعمرة إلا به؛ قال في رواية الأثرم
(2)
فيمن انصرف ولم يسْعَ: يرجع فيسعى، وإلا فلا حج له.
وقال في رواية ابن منصور
(3)
: إذا بدأ بالصفا والمروة قبل البيت
(4)
لا يُجزِئه.
(1)
انظر «المستوعب» (1/ 529) و «الهداية» (ص 199) و «الشرح الكبير» (9/ 296) و «الفروع» (6/ 68).
(2)
كما في «التعليقة» (2/ 54).
(3)
هو الكوسج، انظر «مسائله» (1/ 531).
(4)
في النسختين: «يرجع قبل البيت» . وليس في «المسائل» و «التعليقة» (2/ 54) كلمة «يرجع» . ولا تناسب السياق.
وقال في رواية أبي طالب
(1)
في معتمر طاف فواقعَ أهلَه قبل أن يسعى: فسدت عمرته، وعليه مكانها، ولو طاف وسعى ثم وطئ قبل أن يحلق أو يُقصِّر فعليه دم، إنما العمرة: الطواف والسعي والحلاق.
وروي عنه أنه سنة، قال في رواية أبي طالب
(2)
: فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة، أو تركه عامدًا، فلا ينبغي له أن يتركه، وأرجو أن لا يكون عليه شيء.
وقال في رواية الميموني
(3)
: السعي بين الصفا والمروة تطوُّعٌ، والحاجُّ والقارن والمتمتع عند عطاء واحد، إذا طافوا ولم يسعَوا.
وقال في رواية حرب
(4)
فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة حتى أتى منزله: لا شيء عليه.
وقال القاضي في «المجرد»
…
(5)
وغيره: هو
(6)
واجب يَجْبُره دم. وهذا هو الذي ذكره الشيخ في كتابه
(7)
.
فمن قال: إنه تطوُّع، احتجَّ بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ
(1)
كما في «التعليقة» (2/ 61).
(2)
كما في «التعليقة» (2/ 55).
(3)
كما في المصدر السابق.
(4)
كما في المصدر السابق.
(5)
بياض في النسختين.
(6)
في المطبوع: «هذا» خلاف النسختين.
(7)
أي ابن قدامة في «العمدة» كما سبق.
شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، فأخبر أنهما من شعائر الله، وهذا يقتضي أن الطواف بهما مشروع مسنون، دون زيادة على ذلك، إذ لو أراد زيادةً لأمرَ بالطواف بهما كما قال:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
ثم قال: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، ورفعُ الجُناحِ وإن كان لإزالة الشبهة التي عرضتْ لهم في الطواف بهما كما سيأتي إن شاء الله، فإن هذه الصيغة تقتضي إباحة الطواف بهما، وكونُهما من شعائر الله يقتضي استحباب ذلك. فعُلِم أن الكلام خرج مخرجَ الندب إلى الطواف بهما، وإماطةِ الشبهة العارضة. فأما زيادةً على ذلك فلا.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} ، وإذا ندبَ الله إلى أمر وحسَّنه ثم ختم ذلك بالترغيب في التطوع، كان دليلًا على أنه تطوع، وإلا لم يكن بين فاتحة الآية وخاتمتها نسبة.
وعن عطاء عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (أن لا يَطَّوَّف بهما)
(1)
.
وعن عطاء في قراءة ابن مسعود، أو في مصحف ابن مسعود:(أن لا يطَّوَّف بهما)
(2)
. رواهما أحمد في «الناسخ والمنسوخ» .
وعن أنس قال: كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى نزلت: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا
(1)
أخرجه الطبري (2/ 723) وابن أبي داود في «المصاحف» بأرقام (155 - 158) من طريق عطاء وغيره، وفي أسانيده لين.
(2)
أخرجه الطبري (2/ 722) وعبد بن حميد ــ كما في «المحلَّى» (7/ 97) ــ بإسناد صحيح إلى عطاء.
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. متفق عليه، لفظ مسلم
(1)
.
ولفظ البخاري
(2)
: عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة، قال: كنّا نرى [أنهما] من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكْنا عنهما، فأنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فذكر إلى {بِهِمَا} .
فهذا أنس بن مالك قد علم سبب نزول الآية، وقد كان يقول:«إنه تطوُّع»
(3)
، فعُلِم أنه فَهم من الآية أنها خرجت مخرجَ الندب والترغيب في التطوع.
وأما من قال: إنها واجبة في الجملة، وهو الذي عليه جمهور أصحابنا، فإن الله قال: هما {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، وكل ما كان من شعائر الله فلا بدَّ من نُسكٍ واجبٍ بهما، كسائر الشعائر من عرفة ومزدلفة ومنى والبيت، فإن هذه الأمكنة جعلها الله شعائر له
(4)
، يُذكَر فيها اسمه، ويُتعبد فيها له ويُنسَك، حتى صارت أعلامًا، وفَرض على الخلق قصدَها وإتيانها. فلا يجوز أن يُجعَل المكان شعيرةً لله وعَلَمًا له، ويكون الخلق مخيَّرين بين قصدِه والإعراضِ عنه؛ لأن الإعراض عنه مخالف لتعظيمه، وتعظيم [ق 374]
(1)
رقم (1278).
(2)
رقم (4496). ومنه زيادة ما بين المعكوفتين.
(3)
أخرجه الترمذي (2966) وقال: حسن صحيح، والطبري (2/ 723) وابن أبي حاتم (1/ 267) في تفسيريهما.
(4)
«شعائر له» ساقطة من المطبوع.
الشعائر واجب، لقول الله تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، والتقوى واجبة على الخلق، وقد أمر الله بها ووصَّى بها في غير موضع، وذمَّ من لا يتقي الله ومن استغنى عن تقواه، وتوعَّده
(1)
. فإذا
(2)
كان الطواف بهما تعظيمًا لهما، وتعظيمُهما من تقوى القلوب، والتقوى واجبة= كان الطواف بهما واجبًا، وفي ترك الوقوف بهما تركٌ لتعظيمهما، كما أنَّ
(3)
تركَ الحج بالكلية تركٌ لتعظيم الأماكن التي شرَّفها الله، وترك تعظيمها من فجور القلوب بمفهوم الآية.
وأما قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فنفس [الآية]
(4)
تدلُّ على أنه لم يَقصِد بذلك مجردَ إباحة الوقوف، بحيث يستوي وجوده وعدمه، لأنه جعلهما
(5)
من شعائر الله، ثم قال:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} ، والحكم إذا تعقّب الوصف بحرف الفاء عُلِم أنه علة، فيكون كونهما من شعائر الله موجبًا لرفع الحرج. ثم أتبع ذلك بما يدلُّ على الترغيب، وهو قوله:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} الآية. نعم هذه الصيغة
(6)
لا تُستعمل إلا فيما يُتوهَّم حَظْرُه، لانعقاد سبب قد يقتضي حَظْره
(7)
، كقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
(1)
في المطبوع: «توعده» بحذف الواو.
(2)
في المطبوع: «وإذا» .
(3)
س: «كان» .
(4)
زيادة من ق.
(5)
في النسختين: «لأنهما» .
(6)
في المطبوع: «الصفة» .
(7)
«لانعقاد سبب قد يقتضي حظره» ساقطة من المطبوع.
الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وقوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية [المائدة: 93]، فإن المحرِّم للميتة موجود حالَ الاضطرار، والموجِب للصلاة موجود حالَ السفر، كذلك هنا كانت هاتان الشعيرتان قد انعقد لهما سبب من أمور الجاهلية، خِيفَ أن يحرُم التطوُّفُ بهما لذلك. وقد تقدَّم عن أنس أنهم كانوا يكرهون الطواف بهما حتى أنزل الله هذه الآية.
وعن الزهري عن عروة قال: سألتُ عائشة، فقلت: أرأيتِ قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، فواللهِ ما على أحدٍ جُناحٌ أن لا يطَّوَّف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلتَ يا ابن أختي
(1)
، إنّ هذه لو كانت كما أولَّتَها عليه كانت:(لا جناحَ [عليه] أن لا يطَّوَّف بهما)، ولكنها أُنزِلتْ في الأنصار، كانوا قبل أن يُسلموا يُهِلُّون لمناةَ الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل، فكان من أهلَّ يتحرَّج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما [أسلموا] سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنّا نتحرَّج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطوافَ بينهما، فليس لأحدٍ أن يترك الطواف بينهما.
ثم أخبرتُ
(2)
أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا لعِلْمٌ ما كنتُ سمعتُه، ولقد سمعتُ رجالًا من أهل العلم يذكرون أن الناس ــ إلا من ذكرتْ
(1)
في النسختين: «أخي» . والمثبت من «الصحيحين» .
(2)
القائل هو الزهري.
عائشة ــ ممن كان يُهِلُّ لمناةَ كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الطواف
(1)
بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنّا نطوف بالصفا، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرجٍ أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية.
قال أبو بكر: فأسمعُ هذه الآية نزلتْ في الفريقين كلاهما
(2)
؛ في الذين كانوا يتحرَّجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرَّجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجْلِ أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت. متفق عليه
(3)
.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قلت لعائشة وأنا حديث السِّنّ: أرأيتِ قول الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، فما أرى على أحدٍ شيئًا أن لا يطوفَ بهما، فقالت عائشة: كلّا، لو كانت كما تقول كانت (فلا جناحَ عليه أن لا يطوف بهما)، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهِلّون لمناةَ، وكانت مناةُ حذوَ قُدَيدٍ، وكانوا يتحرَّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا
(1)
في المطبوع: «طواف» خلاف النسختين.
(2)
كذا في النسختين، وهو أسلوب المؤلف في سائر كتبه، يلتزم الألف في «كلاهما» في جميع الأحوال. وفي البخاري:«كليهما» على الجادة.
(3)
البخاري (1643) ومسلم (1277/ 261) بطوله، واللفظ للبخاري، ومنه الزيادة بين المعكوفتين.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} » متفق عليه
(1)
.
وفي لفظ لمسلم
(2)
وفي لفظ له
(3)
وقد روى الأزرقي
(4)
عن ابن إسحاق أن عمرو بن لُحَيٍّ نصب بين الصفا والمروة
(5)
صنمًا يقال له: نَهِيك مُجاوِدُ الريح، ونصب على المروة صنمًا يقال له: مُطعِم الطير، ونصب مناةَ على ساحل البحر مما يلي قُدَيدًا
(6)
، وهي التي كانت الأزد وغَسَّانُ يحجُّونها ويعظِّمونها
(7)
، فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى، لم يَحلِقوا إلا عند مناةَ، وكانوا يُهِلّون لها، ومن أهلَّ لها لم يطُفْ [بين] الصفا والمروة، لمكان الصنمين اللذين عليهما: نَهيك مُجاودِ الريح، ومُطعِم الطير، فكان هذا الحي من
(1)
البخاري (1790) ومسلم (1277/ 262).
(2)
رقم (1277/ 260).
(3)
رقم (1277/ 263).
(4)
في «أخبار مكة» (1/ 124 - 125).
(5)
و «المروة» ساقطة من المطبوع.
(6)
في النسختين: «قديد» .
(7)
في النسختين: «يحجونهما ويعظمونهما» .
الأنصار يُهِلُّون لمناةَ. قال: وكانت مناةُ للأوس والخزرجِ، وغسانَ من الأزد، ومن كان يَدينها من أهل يثرِب وأهل الشام، وكانت على ساحل البحر من ناحية المُشلَّل بقُدَيدٍ.
وذكره بإسناده عن ابن السائب، قال: كانت صخرةً لهذيل، وكانت بقُدَيدٍ.
فقد تبيَّن أن الآية قُصِد بها رفْعُ ما توهَّمه
(1)
الناس أن الصفا والمروة من جملة الأحجار التي كان أهل الجاهلية يعظِّمونها.
أما الأنصار في الجاهلية فكانوا يتركون الطواف بهما لأجل الصنم الذي كانوا يُهِلُّون له، ويَحِلُّون عنده، مضاهاةً بالصنمين اللذين كانا على الصفا والمروة.
وأما غيرهم فلكون أهل الجاهلية غيرِ الأنصار كانوا يعظِّمونهما، ولم يجرِ لهما ذكرٌ في القرآن.
وهذا السبب يقتضي تعظيمهما وتشريفهما مخالفةً للمشركين، وتعظيمًا لشعائر الله، فإن اليهود والنصارى لما أعرضوا عن تعظيم الكعبة قال الله:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وأوجب حجَّها على الناس
(2)
. فإذا كانت الصفا والمروة مما أعرض عنه بعض المشركين وهو من شعائر الله، كان الأظهر إيجابَ العبادة عنده كما وجبت العبادة عند البيت، ولذلك سنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مخالفةَ المشركين، حيث كانوا يُفِيضون من المزدلفة، فأفاض من عرفات، وصارت الإفاضة من عرفات واجبة، ووقف إلى غروب الشمس، فصار الوقوف بها واجبًا. فقد رأينا كل مكانٍ من
(1)
في المطبوع: «توهم» .
(2)
في النسختين: «البيت» .
الشعائر أعرض المشركون عن النُّسك فيه، أوجب الله النسك فيه.
وأما قوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} فإن التطوع في الأصل مأخوذ من الطاعة، وهو الاستجابة والانقياد، يقال: طوَّعتُ الشيء فتطوَّعَ أي سهَّلتُه فتَسهَّل، كما قال:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30]، وتطوَّعتُ الخيرَ: إذا فعلتَه بغير تكلُّف وكراهية.
ولما كانت مناسك الحج عبادة محضة، وانقيادًا صِرفًا، وذلًّا للنفوس، وخروجًا عن العزّ والأمور المعتادة، وليس فيها حظٌّ للنفوس، فربما قبَّحها الشيطان في عين الإنسان، ونهاه عنها، ولهذا قال:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16]. قال رجال
(1)
من أهل العلم: هو طريق الحج
(2)
. وقال بعد أن فرض: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، لعلمه أن من الناس من قد يكفُر بهذه العبادة وإن لم يكفُر بالصلاة والزكاة والصيام، فلا يرى حجَّه بِرًّا ولا تركَه إثمًا.
ثم الطواف بالصفا والمروة خصوصًا، فإنه مطاف بعيد، وفيه عَدْوٌ شديد، وهو غير مألوف في غير الحج والعمرة، فربما كان الشيطان أشدَّ تنفيرًا عنهما، فقال سبحانه:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} ، فاستجابَ لله وانقادَ له، وفعلَ هذه العبادة طوعًا لا كرهًا، عبادةً لله وطاعةً له ولرسوله. وهذا مبالغة في الترغيب فيهما، ألا ترى أن الطاعة موافقة الأمر، وتطوُّعُ الخير خلافُ تكرُّهِه. فكل فاعلِ خيرٍ طاعةً لله طوعًا لا كرهًا، فهو متطوِّعٌ خيرًا، سواء كان
(1)
في المطبوع: «رجل» .
(2)
انظر «الدر المنثور» (6/ 337).
واجبًا أو مستحبًّا، نعم مُيِّز الواجب بأخصِّ اسميه، فقيل: فرض وواجب
(1)
، وبقي الاسم العام في العرف غالبًا على أدنى القسمين، كلفظة
(2)
الدابة والحيوان وغيرهما.
وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في عُمَرِه كلها
(3)
وفي حجَّته ــ والمسلمون معه ــ بين الصفا والمروة، وقال:«لتأخذوا عنّي مناسِكَكم» ، والطواف بينهما من أكبر المناسك، وأكثرِها عملًا، وخرج ذلك منه مخرجَ الامتثال لأمر الله بالحج في قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وفي قوله:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ومخرجَ التفسير والبيان لمعنى هذا الأمر، فكان فعلُه هذا على الوجوب، ولا يخرج عن ذلك إلا هيئاتٌ في المناسك وتتمّات، وأما جنس تامٌّ من المناسك ومشعرٌ من المشاعر [ق 376] يقتطع عن هذه القاعدة، فلا يجوز أصلًا، وبهذا احتجَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمرو بن دينار: سألنا ابن عمر عن رجل قدِمَ بعمرة، فطاف بالبيت ولم يطفْ بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا، وصلَّى خلف المقام ركعتين، وبين الصفا والمروة سبعًا، وقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. متفق عليه
(4)
، زاد البخاري
(5)
: «وسألنا جابر بن عبد الله، فقال: لا يَقربنَّها حتى يطوف بالصفا والمروة» .
(1)
في المطبوع: «أو واجب» خلاف النسختين.
(2)
في النسختين: «كلفة» . وفي المطبوع: «كلغة» . ولعل الصواب ما أثبته.
(3)
«كلها» ساقطة من المطبوع.
(4)
البخاري (1645) ومسلم (1234).
(5)
رقم (1646).
وأيضًا فما روى ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «من كان منكم أهدى فإنه لا يَحِلُّ من شيء حَرُم منه حتى يقضي حجَّه، ومن لم يكن أهدى فليطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصِّر ولْيحلِلْ، ثم لِيُهِلَّ بالحج ولْيُهْدِ» ، وذكر الحديث. متفق عليه
(1)
.
وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو للإيجاب، لاسيّما في العبادات المحضة، وفي ضمنِ
(2)
أشياءَ كلُّها واجب.
وعن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هديٌ إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يَحِلَّ. متفق عليه
(3)
.
فأمره بالحِلّ بعد الطوافين، فعُلِم أنه لا يجوز التحلُّل قبل ذلك.
وعن أبي موسى قال: أهللتُ بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«هلْ معك من هَدْيٍ؟» قلت: لا، فأمرني فطفتُ بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأحللتُ
(4)
، وفي لفظ
(5)
: «فطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حِلَّ» متفق عليه.
ثم من قال: هو واجب يجب بتركهما هَدْيٌ، قال: قد دلَّت الأدلة على وجوبهما، لكن لا يبلغ مبلغَ الركن، لأن المناسك إما وقوف أو طواف، والركن من جنس الوقوف نوع واحد، فكذلك الركن من جنس الطواف
(1)
البخاري (1691) ومسلم (1227).
(2)
في المطبوع: «ضمنه» .
(3)
البخاري (1709، 2952) ومسلم (1211).
(4)
في المطبوع: «فأهللت» تحريف. والحديث أخرجه البخاري (1559) بهذا اللفظ.
(5)
عند البخاري (4346) ومسلم (1221/ 155).
يجب أن يكون طوافًا واحدًا؛ لأن أركان الحج لا يجوز أن تتكرَّر من جنس واحدٍ، كما لا يتكرر وجوبه بالشرع.
ولأن الركن يجوز أن يكون مقصودًا بإحرام، فإنه إذا وقفَ بعرفة ثم مات فُعِلَ عنه سائرُ الحج، وتمَّ حجُّه، وإذا خرج من مكة قبل طواف الزيارة رجع إليها محرمًا للطواف فقط. والسعي لا يُقصَد بإحرام، فهو كالوقوف بمزدلفة ورمي الجمار.
ولأن نسبة الطواف بهما إلى الطواف بالبيت كنسبة الوقوف بمزدلفة إلى وقوف عرفة، لأنه وقوفٌ بعد وقوف، وطوافٌ بعد طواف، ولأن الثاني لا يصحُّ إلا تبعًا للأول؛ فإنه لا يجوز الطواف بهما إلا بعد الطواف بالبيت، ولا يصحُّ الوقوف بمزدلفة إلا إذا أفاض من عرفات.
وقد دلَّ على ذلك قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، وقوله:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الآية، فإذا كان الوقوف المشروع بعد عرفة ليس بركن، فالطواف المشروع بعد طواف البيت أولى أن لا يكون ركنًا؛ لأن الأمر بذاك في القرآن أظهر. وذلك لأن ما لا يُفعل إلا تبعًا لغيره يكون ناقصًا عن درجة ذلك المتبوع، والناقص عن الركن هو الواجب؛ ولهذا كل ما يُفعَل بعد الوقوف بعرفة تبعًا له فهو واجب.
وطَرْدُ ذلك أركانُ الصلاة، فإنّ بعضها يجوز أن ينفرد عن بعض؛ فإن القيام يُشرَع وحدَه في صلاة الجنازة، والركوع ابتداءً في صلاة المسبوق، والسجود عند التلاوة والسهو، ولو عجز عن بعض أركان الصلاة أتى بما بعده، فعُلِم أنه ليس بعضها تبعًا لبعض، وهنا إذا فاته الوقوف بعرفة لم يجُزْ فعلُ ما بعده.
ولأنه لو كان ركنًا لشُرِع من جنسه ما ليس بركنٍ، كالوقوف من جنسه الوقوف بمزدلفة.
ولأنه لو كان لتوقَّتَ أولُه وآخره كالإحرام والطواف والوقوف، والسعي لا يتوقَّتُ.
ومن قال: إنه ركن احتجَّ على ذلك بما روتْ صفية بنت شيبة أخبرتْني حَبيبة بنت أبي تِجْراةَ إحدى نساء بني عبد الدار قالت: نظرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة، فرأيتُه يسعى وإن مِئزره ليدور من شدَّة السعي، حتى أقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول:«اسعَوْا، فإنّ الله كتبَ عليكم السعي» . وفي رواية: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبته من شدّة السعي يدور به إزاره، وهو يقول:«اسْعَوا، فإن الله كتبَ عليكم السعي» . رواه أحمد
(1)
، ورواه أيضًا
(2)
عن صفية [أنَّ] امرأةً أخبرتْها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا [ق 377] والمروة يقول: «كُتِب عليكم السعيُ فاسْعَوا» .
وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به كما أمر بالطواف بالبيت في قَرَنٍ واحد،
(1)
الرواية الأولى لم أجدها بهذا اللفظ عند أحمد، وهي بلفظ قريب عند الشافعي في الأم (3/ 545) ومن طريقه أخرجها الدارقطني (2/ 256). والرواية الثانية في «المسند» (27368). وفي إسناد الروايتين عبد الله بن المؤمل المخزومي، ضعيف الحديث. ولكن الحديث يتقوّى ويثبت بما له من المتابعات عند ابن خزيمة (2764، 2765) والدارقطني (2/ 255) والحاكم (4/ 70) وغيرهم. انظر «تنقيح التحقيق» (2201) و «الإرواء» (1072). وقد سبق حديث صفية هذا بلفظٍ آخر (ص 193).
(2)
رقم (27463)، والزيادة منه. وفي إسناده راوٍ مجهول.
وأمرُه على الوجوب كما تقدَّم، وما ثبت وجوبه تعيَّن فعلُه، ولم يجُزْ أن يُقام غيرُه مقامَه إلا بدليل.
وأيضًا فإنه نسكٌ يختصُّ بمكان، يُفعل في الحج والعمرة، فكان ركنًا كالطواف بالبيت، وذلك لأن تكرُّره في النسكين دليل على قوته، واختصاصُه بمكانٍ دليلٌ على وجوب قصد ذلك الموضع، وقد قيل: نُسكٌ يتكرر في النسكين، فلم يَنُبْ عنه الدم، كالطواف والإحرام.
وأيضًا فإن الأصل في جميع الأفعال أن يكون ركنًا، لكن ما يُفعل بعد الوقوف لم يكن ركنًا؛ لأنه لو كان ركنًا لفات الحجُّ بفواته، والحاجُّ إذا أدرك عرفة فقد أدرك الحج، والسعي لا يختصُّ بوقتٍ.
وأيضًا فإن أفعال الحج على قسمين: موقَّت وغير موقَّت، فالموقَّت إما أن يفوت بفوات وقته، أو يُجْبَر بدم، لكون وقته إذا مضى لم يمكن فعله. وأما غير الموقت إذا كان واجبًا فلا معنى لنيابة الدم عنه، لأنه يمكن فعلُه في جميع الأوقات، والطواف والسعي ليسا بموقَّتينِ في الانتهاء، فإلحاقُ أحدهما بالآخر أولى من إلحاقه بالمزدلفة ورمي الجمار؛ لأن ذلك يفوت بخروج وقته، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين توابع الوقوف.
فصل
وبكل حالٍ فيُشترط له ستة أشياء:
أحدها: نية السعي بينهما، كما اشترطناها في الطواف.
الثاني: استكمال سبعة أشواط تامة، فلو ترك خُطوةً من شوطٍ لم يُجزِئه، ولا بدَّ أن يستوعب ما بين الجبلين بالسعي، سواء كان راكبًا أو ماشيًا.
قال الأزرقي
(1)
: حدثني جدي، قال: كان
(2)
الصفا والمروة يُسْنِدُ
(3)
فيهما من سعى
(4)
بينهما، ولم يكن بينهما بناء ولا دَرَجٌ، حتى كان عبد الصمد بن علي في خلافة أبي جعفر
(5)
فبنى درجَها
(6)
، فكان أول من أحدث بناءها.
الثالث: الترتيب، وهو
(7)
أن يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة، فإن بدأ بالمروة لم يعتدَّ بذلك الشوط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما خرج إلى الصفا: «ابدأوا
(8)
بما بدأ الله به».
الرابع: الموالاة، قال في رواية حنبل
(9)
وذُكِر له أن الحسن طاف بين الصفا والمروة أسبوعًا فغُشِيَ عليه، فحُمِلَ إلى أهله، فجاء من العَشِيِّ فأتمَّه
(10)
، فقال أحمد: إن أتمَّه فلا بأس، وإن استأنفَ فلا بأس.
(1)
في «أخبار مكة» (2/ 120).
(2)
في المطبوع: «كانت» خلاف النسختين.
(3)
أي يصعد ويرقى.
(4)
في المطبوع: «يسعى» خلاف النسختين.
(5)
أي المنصور، كما عند الأزرقي.
(6)
في المطبوع: «درجهما» .
(7)
الواو ليست في المطبوع.
(8)
في المطبوع: «أبدأ» خلاف النسختين. وقد سبق تخريجه. وهو باللفظ المثبت عند النسائي (2962) والدارقطني (2/ 254) من حديث جابر، فلا يحتاج إلى تغيير.
(9)
كما في «التعليقة» (2/ 15).
(10)
أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (1400) ولفظه: «
…
فجاء من الغد فبنى من حيث قطع».