المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب المُحرم يأكل من صيد الحلال ‌ ‌الحديث الأربعون 255 - عن أبي - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٤

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الزكاة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌كتاب الصيام

- ‌(باب

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب الصوم في السّفر وغيره

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌باب أفضل الصيام وغيره

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌باب ليلة القدر

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌باب الاعتكاف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌كتاب الحجّ

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب ما يلبس المُحرم من الثياب

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب الفدية

- ‌الحديث السابع

- ‌باب حرمة مكة

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب ما يجوز قتله

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب دخول مكة وغيره

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب التّمتّع

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌باب الهدي

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌باب الغسل للمحرم

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌باب فسخ الحجّ إلى العمرة

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌باب المُحرم يأكل من صيد الحلال

- ‌الحديث الأربعون

- ‌الحديث الواحد والأربعون

الفصل: ‌ ‌باب المُحرم يأكل من صيد الحلال ‌ ‌الحديث الأربعون 255 - عن أبي

‌باب المُحرم يأكل من صيد الحلال

‌الحديث الأربعون

255 -

عن أبي قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجّاً ، فخرجوا معه. فصرف طائفةً منهم - فيهم أبو قتادة - وقال: خذوا ساحل البحر ، حتّى نلتقي. فأخذوا ساحلَ البحرِ ، فلمّا انصرفوا أحرموا كلّهم إلَاّ أبا قتادة فلم يُحرم ، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمرَ وحشٍ ، فحمل أبو قتادة على الحمر. فعقَرَ منها أتاناً ، فنزلنا فأكلنا من لحمها ، ثمّ قلنا: أنأكل لحم صيدٍ ، ونحن محرمون؟ ، فحملنا ما بقي من لحم الأَتان فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألناه عن ذلك؟ فقال: أمنكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها؟ قالوا: لا ، قال: فكُلُوا ما بقي من لحمها. (1)

وفي روايةٍ: قال: هل معكم منه شيءٌ؟ فقلت: نعم. فناولته العضد ، فأكل منها.

قوله: (خرج حاجّاً) قال الإسماعيليّ: هذا غلطٌ، فإنّ القصّة كانت في عُمرةٍ، وأمّا الخروج إلى الحجّ فكان في خلق كثير ، وكان كلّهم على الجادّة لا على ساحل البحر. ولعلَّ الرّاوي أراد خرج محرماً

(1) أخرجه البخاري (1725 ، 1726 ، 1728 ، 2431 ، 2699 ، 3918 ، 5090 ، 5091) ومسلم (1196) من طرق عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه.

وأخرجه البخاري (1727 ، 2757 ، 5172 ، 5173) ومسلم (1196) من طريق نافع مولى أبي قتادة ، ومسلم (1196) من طريق عطاء بن يسار كلاهما عن أبي قتادة.

ص: 670

فعبّر عن الإحرام بالحجّ غلطاً.

قلت: لا غلط في ذلك، بل هو من المجاز السّائغ. وأيضاً فالحجّ في الأصل قصد البيت فكأنّه قال خرج قاصداً للبيت، ولهذا يقال للعمرة الحجّ الأصغر.

ثمّ وجدت الحديث من رواية محمّد بن أبي بكر المقدّميّ (1) عن أبي عوانة عن عثمان بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه بلفظ " خرج حاجّاً أو معتمراً " أخرجه البيهقيّ، فتبيّن أنّ الشّكّ فيه من أبي عوانة.

وقد جزم يحيى بن أبي كثير (2) بأنّ ذلك كان في عمرة الحديبية. وهذا هو المعتمد. وقوله " بالحديبية " أصحّ من رواية الواقديّ من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة ، أنّ ذلك كان في عمرة القضيّة.

قوله: (أحرموا كلّهم ، إلَاّ أبا قتادة ، فلم يحرم) وللبخاري من رواية علي بن المبارك عن يحيى " انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولَم أحرم، فأنبئنا بعدو بغَيْقَة، فتوجهنا نحوهم "(3).

(1) أخرج حديث الباب بلفظه. البخاري (1728) عن موسى بن إسماعيل. ومسلم (1169) عن أبي كامل الجحدري كلاهما عن أبي عوانة به. بلفظ الحج. دون شكٍّ.

(2)

رواية يحيى بن أبي كثير في الصحيحين عنه عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه. ولفظه " انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية

" زاد مسلم " فأهلُّوا بعمرةٍ غيري.

(3)

وتمامه " فبصر أصحابي بحمار وحش، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرتُ فرأيته، فحملتُ عليه الفرس فطعنته فأثبته، فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني، فأكلنا منه، ثم لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخشينا أن نقتطع، أرفع فرسي شأواً وأسير عليه شأواً، فلقيتُ رجلاً من بني غفار في جوف الليل، فقلت: أين تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: تركته بتعهن، وهو قائل السقيا، فلحقتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيته، فقلت: يا رسول الله، إن أصحابك أرسلوا يقرءون عليك السلام ورحمة الله وبركاته، وإنهم قد خشوا أن يقتطعهم العدو دونك فانظرهم، ففعل، فقلت: يا رسول الله. إنَّا اصَّدْنا حمار وحش، وإنَّ عندنا فاضلة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا. وهم محرمون.

ص: 671

ولمسلم " فأحرم أصحابي ولَم أحرم ". وفي هذا السّياق حذف بيّنتْهُ رواية الباب.

وبيّنّ المطّلب عن أبي قتادة عند سعيد بن منصور مكان صرفهم. ولفظه " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى إذا بلغنا الرّوحاء ".

وقوله " بغيقة " أي: في غيقة. وهو بفتح الغين المعجمة بعدها ياء ساكنة ثمّ قاف مفتوحة ثمّ هاء.

قال السّكونيّ: هو ماء لبني غفار بين مكّة والمدينة، وقال يعقوب: هو قليب لبني ثعلبة يصبّ فيه ماء رضوى. ويصبّ هو في البحر.

وحاصل القصّة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خرج في عمرة الحديبية فبلغ الرّوحاء - وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلاً - أخبروه بأنّ عدوّاً من المشركين بوادي غيقة يخشى منهم أن يقصدوا غرّته، فجهّز طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرّهم، فلمّا أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم فأحرموا إلَاّ هو فاستمرّ هو حلالاً ، لأنّه إمّا لَم يجاوز الميقات ، وإمّا لَم يقصد العمرة.

وبهذا يرتفع الإشكال الذي ذكره أبو بكر الأثرم ، قال: كنت

ص: 672

أسمع أصحابنا يتعجّبون من هذا الحديث ، ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات وهو غير محرم؟ ولا يدرون ما وجهه.

قال: حتّى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد فيها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرمنا، فلمّا كنّا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة ، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه في وجهٍ. الحديث. قال: فإذا أبو قتادة. إنّما جاز له ذلك لأنّه لَم يخرج يريد مكّة.

قلت: وهذه الرّواية التي أشار إليها تقتضي أنّ أبا قتادة لَم يخرج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وليس كذلك لِمَا بيّناه.

ثمّ وجدت في صحيح ابن حبّان والبزّار من طريق عياض بن عبد الله عن أبي سعيد قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة على الصّدقة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون حتّى نزلوا بعسفان " فهذا سبب آخر، ويحتمل جمعهما.

والذي يظهر أنّ أبا قتادة إنّما أخّر الإحرام ، لأنّه لَم يتحقّق أنّه يدخل مكّة فساغ له التّأخير.

وقد استدل بقصّة أبي قتادة: على جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن لَم يرد حجّاً ولا عمرة، وقيل: كانت هذه القصّة قبل أن يؤقِّت النّبيّ صلى الله عليه وسلم المواقيت.

وأمّا قول عياض ومن تبعه: إنّ أبا قتادة لَم يكن خرج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة ، وإنّما بعثه أهل المدينة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلمونه أنّ بعض العرب قصدوا الإغارة على المدينة، فهو ضعيف مخالف لِمَا ثبت في

ص: 673

هذه الطّريق الصّحيحة طريق عثمان بن موهب (1) كما أشرت إليها قبل.

قوله: (إلَاّ أبا قتادة) كذا للكشميهنيّ، ولغيره " إلَاّ أبو قتادة " بالرّفع، ووقع بالنّصب عند مسلم وغيره من هذا الوجه.

قال ابن مالك في " التّوضيح ": حقّ المستثنى بإلا من كلام تامّ موجب أن ينصب مفرداً كان أو مكمّلاً معناه بما بعده، فالمفرد نحو قوله تعالى (الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلَاّ المتّقين) والمكمّل نحو (إنّا لمنجّوهم أجمعين إلَاّ امرأته قدّرنا إنّها لمن الغابرين) ولا يعرف أكثر المتأخّرين من البصريّين في هذا النّوع إلَاّ النّصب، وقد أغفلوا وروده مرفوعاً بالابتداء مع ثبوت الخبر ومع حذفه، فمن أمثلة الثّابت الخبر قول أبي قتادة " أحرموا كلّهم إلَاّ أبو قتادة لَم يحرم " فإلَّا بمعنى لكن، وأبو قتادة مبتدأ ولَم يحرم خبره.

ونظيره من كتاب الله تعالى (ولا يلتفت منكم أحدٌ، إلَاّ امرأتك إنّه مصيبها ما أصابهم) فإنّه لا يصحّ أن يجعل امرأتك بدلاً من أحد لأنّها لَم تسِر معهم فيتضمّنها ضمير المخاطبين. وتكلف بعضهم: بأنّه وإن لَم يسِرْ بها لكنّها شعرت بالعذاب فتبعتهم ، ثمّ التفتتْ فهلكت.

قال: وهذا على تقدير صحّته لا يوجب دخولها في المخاطبين، ومن أمثلة المحذوف الخبر قوله صلى الله عليه وسلم: كلّ أمّتي معافًى إلَاّ المجاهرون " أي:

(1) طريق عبد الله بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة. هي التي اعتمدها المقدسيّ في العمدة.

ص: 674

لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، ومنه من كتاب الله تعالى قول تعالى (فشربوا منه إلَاّ قليلٌ منهم) أي لكن قليل منهم لَم يشربوا.

قال: وللكوفيّين في هذا الثّاني مذهب آخر. وهو أن يجعلوا " إلَاّ " حرف عطف وما بعدها معطوف على ما قبلها. انتهى.

وفي نسبة الكلام المذكور لابن أبي قتادة دون أبي قتادة نظرٌ، فإنّ سياق الحديث ظاهر في أنّ قوله قول أبي قتادة حيث قال: إنّ أباه أخبره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجّاً فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة - إلى أن قال - أحرموا كلّهم إلَاّ أبو قتادة ".

وقول أبي قتادة " فيهم أبو قتادة " من باب التّجريد، وكذا قوله " إلَاّ أبو قتادة " ولا حاجة إلى جعله من قول ابنه ، لأنّه يستلزم أن يكون الحديث مرسلاً.

ومن توجيه الرّواية المذكورة. وهي قوله " إلَاّ أبو قتادة "، أن يكون على مذهب من يقول: عليّ بن أبو طالب.

قوله: (فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمُرَ وحشٍ) في رواية أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة عند البخاري: فرأوا حماراً وحشيّاً قبل أن يراه أبو قتادة، فلمّا رأوه تركوه حتّى رآه فركب. ففيه أنّ رؤيته له كانت متأخّرة عن رؤية أصحابه ، وفي رواية يحيى بن أبي كثير " فبينما أبي مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض. فنظرت فإذا أنا بحمار وحش ".

وفي رواية عليّ بن المبارك عن يحيى " فبصر أصحابي بحمار وحش ،

ص: 675

فجعل بعضهم يضحك إلى بعض " زاد في رواية أبي حازم " وأحبّوا لو أنّي أبصرته ". هكذا في جميع الطّرق والرّوايات.

ووقع في رواية العذريّ في مسلم " فجعل بعضهم يضحك إليَّ " فشدّدت الياء من إليّ.

قال عياض: وهو خطأ وتصحيف، وإنّما سقط عليه لفظة " بعض "، ثمّ احتجّ لضعفها بأنّهم لو ضحكوا إليه لكانت أكبر إشارة ، وقد قال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم: هل منكم أحد أمره أو أشار إليه؟ قالوا: لا. وإذا دلَّ المُحرم الحلال على الصّيد لَم يأكل منه اتّفاقاً، وإنّما اختلفوا في وجوب الجزاء. انتهى.

وتعقّبه النّوويّ: بأنّه لا يمكن ردّ هذه الرّواية لصحّتها وصحّة الرّواية الأخرى، وليس في واحدة منهما دلالة ولا إشارة، فإنّ مجرّد الضّحك ليس فيه إشارة.

قال بعض العلماء: وإنّما ضحكوا تعجّباً من عروض الصّيد ثمّ ولا قدرة لهم عليه.

قلت: قوله. فإنّ مجرّد الضّحك ليس فيه إشارة صحيحٌ، ولكن لا يكفي في ردّ دعوى القاضي، فإنّ قوله " يضحك بعضهم إلى بعض " هو مجرّد ضحك، وقوله " يضحك بعضهم إليّ " فيه مزيد أمر على مجرّد الضّحك، والفرق بين الموضعين أنّهم اشتركوا في رؤيته فاستووا في ضحك بعضهم إلى بعض، وأبو قتادة لَم يكن رآه فيكون ضحك بعضهم إليه بغير سبب باعثاً له على التّفطّن إلى رؤيته.

ص: 676

ويؤيّد ما قال القاضي ، ما وقع في رواية أبي النّضر عن مولى أبي قتادة كما في البخاري بلفظ: إذ رأيت النّاس متشوّفين لشيءٍ فذهبت أنظر فإذا هو حمار وحش، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: لا ندري ، فقلت: هو حمار وحش. فقالوا: هو ما رأيت.

ووقع في حديث أبي سعيد عند البزّار والطّحاويّ وابن حبّان في هذه القصّة " وجاء أبو قتادة وهو حِلٌّ فنكّسوا رءوسهم كراهية أن يحدّوا أبصارهم له فيفطن فيراه ". فكيف يظنّ بهم مع ذلك أنّهم ضحكوا إليه؟ فتبيّن أنّ الصّواب ما قال القاضي.

وفي قول الشّيخ: قد صحّت الرّواية. نظرٌ، لأنّ الاختلاف في إثبات هذه اللفظة وحذفها لَم يقع في طريقين مختلفين، وإنّما وقع في سياق إسناد واحد ممّا عند مسلم، فكان مع من أثبت لفظ " بعض " زيادة علم سالمة من الإشكال فهي مقدّمة.

وبيّن محمّد بن جعفر في روايته عن أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة كما في البخاري ، أنّ قصّة صيده للحمار كانت بعد أن اجتمعوا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونزلوا في بعض المنازل ولفظه: كنت يوماً جالساً مع رجال من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكّة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نازل أمامنا ، والقوم محرمون وأنا غير محرم.

وبيّن في هذه الرّواية السّبب الموجب لرؤيتهم إيّاه دون أبي قتادة بقوله " فأبصروا حماراً وحشيّاً وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبّوا لو أنّي أبصرته، والتفتّ فأبصرته ".

ص: 677

ووقع في حديث أبي سعيد المذكور أنّ ذلك وقع وهُم بعسفان. وفيه نظرٌ، والصّحيح ما جاء في الصحيحين من طريق صالح بن كيسان عن أبي محمّد مولى أبي قتادة عنه قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالقاحة، ومنّا المُحرم وغير مُحرم، فرأيت أصحابي يتراءون شيئاً فنظرت فإذا حمار وحش " الحديث.

والقاحة بقافٍ ومهملة خفيفة بعد الألف، وادٍ على نحو ميل من السّقيا إلى جهة المدينة، ويقال لواديها وادي العباديد. وقد بيّن البخاري أنّها من المدينة على ثلاث أي: ثلاث مراحل.

قال عياض: رواه النّاس بالقاف إلَاّ القابسيّ فضبطوه عنه بالفاء، وهو تصحيف.

قلت: ووقع عند الجوزقيّ من طريق عبد الرّحمن بن بشر عن سفيان عن صالح بن كيسان " بالصّفاح " بدل القاحة، والصّفاح بكسر المهملة بعدها فاء وآخره مهملة. وهو تصحيف ، فإنّ الصّفاح موضع بالرّوحاء، وبين الرّوحاء وبين السّقيا مسافة طويلة.

وقد تقدّم أنّ الرّوحاء هو المكان الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر ثمّ التقوا بالقاحة وبها وقع له الصّيد المذكور، وكأنّه تأخّر هو ورفقته للرّاحة أو غيرها وتقدّمهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى السّقيا حتّى لحقوه.

وقوله " فنظرت " هذا فيه التفات، فإنّ السّياق الماضي يقتضي أن يقول فنظر لقوله " فبينا أبي مع أصحابه " فالتّقدير: قال أبي: فنظرت

ص: 678

، وهذا يؤيّد الرّواية الموصولة.

قوله: (فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتاناً) في هذا السّياق زيادة على جميع الرّوايات ، لأنّها متّفقة على إفراد الحمار بالرّؤية.

وأفادت هذه الرّواية ، أنّه من جملة الحمر ، وأنّ المقتول كان أتاناً. أي أنثى، فعلى هذا في إطلاق الحمار عليها تجوّز. وفي رواية يحيى بن أبي كثير " فحملت عليه فطعنته فأثبتّه. فاستعنتُ بهم فأبوا أن يعينونني ".

وفي رواية محمّد بن جعفر عن أبي حازم " فقمت إلى الفرس فأسرجته ثمّ ركبت ونسيت السّوط والرّمح ، فقلت لهم: ناولوني السّوط والرّمح. فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيءٍ، فغضبت فنزلت فأخذتهما ثمّ ركبت ".

وفي رواية فضيل بن سليمان " فركب فرساً له يقال له الجرادة ، فسألهم أن يناولوه سوطه فأبوا فتناوله ". وفي رواية أبي النّضر " وكنت نسيت سوطي فقلت لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نعينك عليه، فنزلت فأخذته.

وفي رواية أبي محمد نافع مولى أبي قتادة عنه عند البخاري " فقالوا: لا نعينك بشيء إنا محرمون " ووقع عند النّسائيّ من طريق شعبة عن عثمان بن موهب، وعند ابن أبي شيبة عن طريق عبد العزيز بن رفيع، وأخرج مسلم إسنادهما كلاهما عن أبي قتادة " فاختلس من بعضهم سوطاً ".

ص: 679

والرّواية الأولى أقوى، ويمكن أن يجمع بينهما بأنّه رأى في سوط نفسه تقصيراً فأخذ سوط غيره، واحتاج إلى اختلاسه ، لأنّه لو طلبه منه اختياراً لامتنع.

وفي قولهم " إنّا محرمون " دلالة على أنّهم كانوا قد علموا أنّه يحرم على المُحرم الإعانة على قتل الصّيد.

قوله: (فعقر منها أتاناً) في رواية أبي محمد " ثم أتيت الحمار من وراء أكمةٍ فعقرته "، في رواية يحيى بن أبي كثير " فطعنته فأثبتّه " بالمثلثة ثمّ الموحّدة ثمّ المثنّاة. أي: جعلته ثابتاً في مكانه لا حراك به ، وفي رواية أبي حازم " فشددت على الحمار فعقرته ، ثمّ جئت به وقد مات ".

وفي رواية أبي النّضر " حتّى عقرته فأتيت إليهم ، فقلت لهم: قوموا فاحتملوا، فقالوا: لا نمسّه، فحملته حتّى جئتهم به ".

قوله: (فنزلنا فأكلنا من لحمها. ثمّ قلنا: أنأكل لحم صيدٍ ، ونحن محرمون) في رواية يحيى بن أبي كثير " فأكلنا من لحمه " وفي رواية فضيل عن أبي حازم " فأكلوا فندموا ".

وفي رواية محمّد بن جعفر عن أبي حازم " فوقعوا يأكلون منه، ثمّ إنّهم شكّوا في أكلهم إيّاه وهم حُرُمٌ فرحنا وخبّأت العضد معي ". وفي رواية مالك عن أبي النّضر " فأكل منه بعضهم ، وأبى بعضهم ".

وفي حديث أبي سعيد " فجعلوا يشوون منه " وفي رواية المطّلب عن أبي قتادة عند سعيد بن منصور " فظللنا نأكل منه ما شئنا طبيخاً

ص: 680

وشواء ، ثمّ تزوّدنا منه " وفي رواية أبي محمد " فقال بعضهم: كلوا ، وقال بعضهم: لا تأكلوا ".

والظاهر أنهم أكلوا أول ما أتاهم به ، ثم طرأ عليهم الشكّ.

قوله: (فحملنا ما بقي من لحم الأتان) في رواية أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة عند البخاري " فرحنا وخبّأت العضد معي " وفيه " معكم منه بشيءٍ؟ فناولته العضد فأكلها حتّى تعرّقها " ، ولهما من رواية أبي حازم قال " معنا رجله، فأخذها فأكلها ".

وفي رواية المطّلب عن أبي قتادة عند سعيد بن منصور " قد رفعنا لك الذّراع، فأكل منها ".

قوله: (قال: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها؟ قالوا: لا) وفي رواية مسلم " هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيءٍ؟ " وله من طريق شعبة عن عثمان " هل أشرتم أو أعنتم أو اصطدتم؟ " ولأبي عوانة من هذا الوجه " أشرتم أو اصطدتم أو قتلتم؟ ".

اتّفقوا على تحريم الإشارة إلى الصّيد ليصطاد، وعلى سائر وجوه الدّلالات على المُحرم، لكن قيّده أبو حنيفة. بما إذا لَم يمكن الاصطياد بدونها.

واختلفوا في وجوب الجزاء على المُحرم إذا دلَّ الحلال على الصّيد بإشارةٍ أو غيرها أو أعان عليه.

القول الأول: قال الكوفيّون وأحمد وإسحاق: يضمن المُحرم

ص: 681

ذلك.

القول الثاني: قال مالك والشّافعيّ: لا ضمان عليه كما لو دلَّ الحلال حلالاً على قتل صيد في الحرم.

قالوا: ولا حجّة في حديث الباب، لأنّ السّؤال عن الإعانة والإشارة إنّما وقع ليبيّن لهم. هل يحلّ لهم أكله أو لا؟ ولَم يتعرّض لذكر الجزاء.

واحتجّ الموفّق: بأنّه قول عليّ وابن عبّاس ، ولا نعلم لهما مخالفاً من الصّحابة.

وأجيب: بأنّه اختلف فيه على ابن عبّاس، وفي ثبوته عن عليٍّ نظرٌ، ولأنّ القاتل انفرد بقتله باختياره مع انفصال الدّالّ عنه. فصار كمن دلَّ محرماً أو صائماً على امرأة فوطئها. فإنّه يأثم بالدّلالة ، ولا يلزمه كفّارة ولا يفطر بذلك.

قوله: (قال: فكلوا ما بقي من لحمها) ولهما من رواية أبي محمد عن أبي قتادة " فقال: كلوه حلال " ولمسلم " هو حلال فكلوه ".

وصيغة الأمر هنا للإباحة لا للوجوب، لأنّها وقعت جواباً عن سؤالهم عن الجواز لا عن الوجوب، فوقعت الصّيغة على مقتضى السّؤال.

ولَم يذكر في هذه الرّواية أنّه صلى الله عليه وسلم أكل من لحمها، وذكره في روايتي أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة كما تراه ، ولَم يذكر ذلك أحدٌ من الرّواة عن عبد الله بن أبي قتادة غيره، ووافقه صالح بن حسّان عند

ص: 682

أحمد وأبي داود الطّيالسيّ وأبي عوانة. ولفظه " فقال: كلوا وأطعموني " وكذا لَم يذكرها أحدٌ من الرّواة عن أبي قتادة نفسه إلَّا المطّلب عند سعيد بن منصور.

ووقع لنا من رواية أبي محمّد وعطاء بن يسار وأبي صالح ، كما في البخاري في الصّيد، ومن رواية أبي سلمة بن عبد الرّحمن عند إسحاق، ومن رواية عبادة بن تميم وسعد بن إبراهيم عند أحمد.

وتفرّد معمرٌ عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة بزيادةٍ مضادّة لروايتي أبي حازم كما أخرجه إسحاق وابن خزيمة والدّارقطنيّ من طريقه ، وقال في آخره: فذكرتُ شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقلت: إنّما اصطدته لك. فأمر أصحابه فأكلوه، ولَم يأكل منه حين أخبرته أنّي اصطدته له.

قال ابن خزيمة وأبو بكر النّيسابوريّ والدّارقطنيّ والجوزقيّ: تفرّد بهذه الزّيادة معمر.

قال ابن خزيمة: إن كانت هذه الزّيادة محفوظة احتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أكل من لحم ذلك الحمار قبل أن يعلمه أبو قتادة أنّه اصطاده من أجله، فلمّا أعلمه امتنع. انتهى

وفيه نظرٌ: لأنّه لو كان حراماً ما أقرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأكل منه إلى أن أعلمه أبو قتادة بأنّه صاده لأجله.

ويحتمل: أن يكون ذلك لبيان الجواز، فإنّ الذي يحرم على المُحرم إنّما هو الذي يعلم أنّه صيد من أجله، وأمّا إذا أتي بلحمٍ لا يدري ألحم

ص: 683

صيد أو لا فحمله على أصل الإباحة فأكل منه. لَم يكن ذلك حراماً على الآكل.

وعندي بعد ذلك فيه وقفة، فإنّ الرّوايات المتقدّمة ظاهرة في أنّ الذي تأخّر هو العضد، وأنّه صلى الله عليه وسلم أكلها حتّى تعرّقها. أي: لَم يبق منها إلَاّ العظم، ووقع عند البخاريّ في الهبة " حتّى نفدها " أي: فرّغها، فأيّ شيء يبقى منها حينئذٍ حتّى يأمر أصحابه بأكله.

لكنّ رواية أبي محمّد عن أبي قتادة في البخاري في الصّيد " أبقي معكم شيء منه؟ قلت: نعم ، قال: كلوا، فهو طعمة أطعمكموها الله " فأشعر بأنّه بقي منها غير العضد، والله أعلم.

وسيأتي البحث في حكم ما يصيده الحلال بالنّسبة إلى المُحرم في الصعب بن جثّامة الذي يليه إن شاء الله تعالى.

وفي حديث أبي قتادة من الفوائد:

أنّ تمنّي المُحرم أن يقع من الحلال الصّيد ليأكل المُحرم منه لا يقدح في إحرامه، وأنّ الحلال إذا صاد لنفسه جاز للمحرم الأكل من صيده، وهذا يقوّي من حمل الصّيد في قوله تعالى (وحرّم عليكم صيد البرّ) على الاصطياد.

وفيه الاستيهاب من الأصدقاء وقبول الهديّة من الصّديق. وقال عياض: عندي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طلب من أبي قتادة ذلك تطييباً لقلب من أكل منه ، بياناً للجواز بالقول والفعل لإزالة الشّبهة التي حصلت لهم.

ص: 684

وفيه تسمية الفرس، وألحق البخاري به الحمار فترجم له في الجهاد (1).

وقال ابن العربيّ: قالوا: تجوز التّسمية لِمَا لا يعقل، وإن كان لا يتفطّن له ولا يجيب إذا نودي، مع أنّ بعض الحيوانات ربّما أدمن على ذلك بحيث يصير يميّز اسمه إذا دعي به.

وفيه إمساك نصيب الرّفيق الغائب ممّن يتعيّن احترامه أو ترجى بركته أو يتوقّع منه ظهور حكم تلك المسألة بخصوصها.

وفيه تفريق الإمام أصحابه للمصلحة، واستعمال الطّليعة في الغزو. وفيه أنّ عقر الصّيد ذكاته.

وجواز الاجتهاد في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربيّ: هو اجتهاد بالقرب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا في حضرته.

وفيه العمل بما أدّى إليه الاجتهاد ولو تضادّ المجتهدان ، ولا يعاب واحد منهما على ذلك لقوله: فلم يعب ذلك علينا. (2) وكأنّ الآكل تمسّك بأصل الإباحة، والممتنع نظر إلى الأمر الطّارئ.

وفيه الرّجوع إلى النّصّ عند تعارض الأدلة، وركض الفرس في الاصطياد، والاستعانة بالفارس، وحمل الزّاد في السّفر، والرّفق

(1) فقال في الجهاد " باب اسم الفرس والحمار " ولفظه (حتى رآه أبو قتادة، فركب فرساً له يقال له الجرادة ..) وقد تقدَّم ذكرها في الشرح.

(2)

ظاهر كلام الشارح أن هذه العبارة أعني (فلم يعب ..) ضمن حديث أبي قتادة رضي الله عنه ، لكنّي لَم أرها نصَّاً في الحديث عند من أخرجه. إلَاّ أنها صحيحة من حيث المعنى ، وقد جاءت هذه العبارة في قضايا كثيرة في السنة.

ص: 685

بالأصحاب والرّفقاء في السّير.

واستعمال الكناية في الفعل كما تستعمل في القول ، لأنّهم استعملوا الضّحك في موضع الإشارة لِمَا اعتقدوه من أنّ الإشارة لا تحلّ ، وفيه ذكر الحكم مع الحكمة في قوله " إنّما هي طعمة أطعمكموها الله "

تكملة: لا يجوز للمحرم قتل الصّيد إلَاّ إن صال عليه فقتله دفعاً فيجوز، ولا ضمان عليه. والله أعلم.

ص: 686