الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يلبس المُحرم من الثياب
الحديث الثالث
218 -
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أنّ رجلاً قال يا رسولَ الله ، ما يلبس المُحرم من الثّياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القميص ، ولا العمائم ، ولا السّراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلَاّ أحدٌ لا يجد نعلين فليلبس خفّين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا يلبس من الثّياب شيئاً مسّه زعفرانٌ أو ورسٌ. (1)
وللبخاريّ: ولا تنتقب المرأة. ولا تلبس القفّازين. (2)
قوله: (أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله) لَم أقف على اسمه في شيء من الطّرق، وللبخاري من طريق الليث عن نافع بلفظ " ماذا تأمرنا أن نلبس من الثّياب في الإحرام ".
وعند النّسائيّ من طريق عمر بن نافع عن أبيه " ما نلبس من الثّياب إذا أحرمنا " وهو مشعرٌ بأنّ السّؤال عن ذلك كان قبل الإحرام.
وقد حكى الدّارقطنيّ عن أبي بكر النّيسابوريّ ، أنّ في رواية ابن
(1) أخرجه البخاري (134 ، 1468 ،، 5458، 5466، 5468) ومسلم (1281) من طرق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (359 ، 1745 ، 5469) ومسلم (1281) من طريق الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه. وأخرجاه من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر. مختصراً.
(2)
أخرجه البخاري (1741) من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه.
جريجٍ والليث عن نافع ، أنّ ذلك كان في المسجد.
ولَم أر ذلك في شيء من الطّرق عنهما. (1)
نعم. أخرج البيهقيّ من طريق حمّاد بن زيد عن أيّوب، ومن طريق عبد الوهّاب بن عطاء عن عبد الله بن عون، كلاهما عن نافع عن ابن عمر: نادى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بذلك المكان. وأشار نافع إلى مقدّم المسجد. فذكر الحديث.
وظهر أنّ ذلك كان بالمدينة.
ووقع في حديث ابن عبّاس الآتي (2) ، أنّه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك في عرفات. فيُحمل على التّعدّد، ويؤيّده أنّ حديث ابن عمر أجاب به السّائل ، وحديث ابن عبّاس ابتدأ به في الخطبة.
قوله: (ما يلبس المُحرم من الثّياب؟) المراد بالمُحرم من أحرم بحجٍّ أو عمرة أو قرَن.
وحكى ابن دقيق العيد ، أنّ ابن عبد السّلام كان يستشكل معرفة حقيقة الإحرام. يعني على مذهب الشّافعيّ ، ويردّ على من يقول إنّه النّيّة، لأنّ النّيّة شرط في الحجّ الذي الإحرام ركنه، وشرط الشّيء غيره، ويعترض على من يقول إنّه التّلبية بأنّها ليست ركناً ، وكأنّه
(1) جاء عند أبي يعلى الموصلي في " معجمه "(112) من طريق الزهري عن نافع. وفيه التصريح بكونه في المسجد.
ولأحمد في " مسنده "(4868) من طريق ابن إسحاق عن نافع. وفيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر. فذكر نحوه.
(2)
بعد حديث الباب إن شاء الله.
يحوم على تعيين فعل تتعلق به النّيّة في الابتداء. انتهى.
والذي يظهر. أنّه مجموع الصّفة الحاصلة من تجرّدٍ وتلبيةٍ ونحو ذلك،
قوله: (ما يلبس المُحرم من الثّياب؟ قال: لا يلبس القمص إلخ) قال النّوويّ: قال العلماء: هذا الجواب من بديع الكلام وجزله ، لأنّ ما لا يلبس منحصر فحصل التّصريح به، وأمّا الملبوس الجائز فغير منحصر فقال: لا يلبس كذا أي ويلبس ما سواه. انتهى.
وقال البيضاويّ: سئل عمّا يلبس ، فأجاب بما لا يلبس ، ليدلّ بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنّما عدل عن الجواب لأنّه أخصر وأحصر، وفيه إشارة إلى أنّ حقّ السّؤال أن يكون عمّا لا يلبس ، لأنّه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه، إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب ، فكان الأليق السّؤال عمّا لا يلبس.
وقال غيره: هذا يشبه أسلوب الحكيم، ويقرب منه قوله تعالى (يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين) الآية، فعدل عن جنس المنفق ، وهو المسئول عنه ، إلى ذكر المنفق عليه ، لأنّه أهمّ.
وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه. أنّ المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود ، كيف كان ولو بتغييرٍ أو زيادة ، ولا تشترط المطابقة. انتهى.
وهذا كلّه بناء على سياق هذه الرّواية ، وهي المشهورة عن نافع،
وقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريجٍ عن نافع بلفظ " ما يترك المُحرم ". وهي شاذّة. والاختلاف فيها على ابن جريجٍ لا على نافع.
ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ: أنّ رجلاً قال: ما يجتنب المُحرم من الثّياب. أخرجه أحمد وابن خزيمة وأبو عوانة في " صحيحيهما " من طريق عبد الرّزّاق عن معمر عن الزّهريّ عنه.
وأخرجه أحمد عن ابن عيينة عن الزّهريّ. فقال مرّة " ما يترك " ومرّة " ما يلبس "، وأخرجه البخاري من طريق إبراهيم بن سعد عن الزّهريّ بلفظ نافع.
فالاختلاف فيه على الزّهريّ يشعر بأنّ بعضهم رواه بالمعنى. فاستقامت رواية نافع لعدم الاختلاف فيها، واتّجه البحث المتقدّم.
وطعن بعضهم في قول مَن قال من الشّرّاح ، أنّ هذا من أسلوب الحكيم ، بأنّه كان يمكن الجواب بما يحصر أنواع ما لا يلبس كأن يقال ما ليس بمخيطٍ ، ولا على قدر البدن كالقميص أو بعضه كالسّراويل أو الخفّ ، ولا يستر الرّأس أصلاً ، ولا يلبس ما مسّه طيب كالورس والزّعفران، ولعل المراد من الجواب المذكور ذكر المهمّ ، وهو ما يحرم لبسه ويوجب الفدية.
قوله: (المُحرم) أجمعوا على أنّ المراد به هنا الرّجل، ولا يلتحق به المرأة في ذلك.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أنّ للمرأة لبس جميع ما ذكر، وإنّما تشترك مع الرّجل في منع الثّوب الذي مسّه الزّعفران أو الورس.
ويؤيّده. قوله في آخر حديث الليث الآتي " لا تنتقب المرأة " وقوله " لا تلبس " بالرّفع على الخبر وهو في معنى النّهي، وروي بالجزم على أنّه نهي.
قال عياض: أجمع المسلمون على أنّ ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المُحرم، وأنّه نبّه بالقميص والسّراويل على كلّ مخيط، وبالعمائم والبرانس على كلّ ما يغطّى الرّأس به مخيطاً أو غيره، وبالخفاف على كلّ ما يستر الرّجل. انتهى.
وخصّ ابن دقيق العيد الإجماع الثّاني بأهل القياس وهو واضح، والمراد بتحريم المخيط ما يلبس على الموضع الذي جعل له ولو في بعض البدن ، فأمّا لو ارتدى بالقميص مثلاً فلا بأس.
وقال الخطّابيّ: ذكر العمامة والبرنس معاً ، ليدلّ على أنّه لا يجوز تغطية الرّأس لا بالمعتاد ولا بالنّادر، قال: ومن النّادر المكتل يحمله على رأسه.
قلت: إن أراد أنّه يجعله على رأسه كلابس القبع صحّ ما قال، وإلَّا فمجرّد وضعه على رأسه على هيئة الحامل لحاجته لا يضرّ على مذهبه.
وممّا لا يضرّ أيضاً الانغماس في الماء فإنّه لا يُسمّى لابساً، وكذا ستر الرّأس باليد.
قوله: (القميص) وفيه دلالة على وجود القمصان حينئذٍ.
قال ابن العربيّ: لَم أر للقميص ذكراً صحيحاً إلَاّ في الآية " وجاءوا
على قميصه " وقصّة ابن أبيّ بن سلول " وألبسه قميصه " (1) ولَم أر لهما ثالثاً فيما يتعلق بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال هذا في كتابه " سراج المريدين ".
وكأنّه صنّفه قبل " شرح التّرمذيّ " فلم يستحضر حديث أمّ سلمة ولا حديث أبي هريرة: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه.
ولا حديث أسماء بنت يزيد: كانت يد كمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الرّسغ. ولا حديث معاوية بن قرّة بن إياس المزنيّ حدّثني أبي قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة فبايعناه وإنّ قميصه لمطلق، فبايعته، ثمّ أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم.
ولا حديث أبي سعيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوباً سمّاه باسمه قميصاً أو عمامة أو رداء ، ثمّ يقول: اللهمّ لك الحمد ".
وكلّها في السّنن، وأكثرها في التّرمذيّ.
وفي الصّحيحين حديث عائشة: كفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة أثواب ، ليس فيها قميص ولا عمامة. وحديث أنس ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رخّص لعبد الرّحمن بن عوف في قميص الحرير ، لحكّةٍ كانت به. وحديث ابن عمر رفعه " لا يلبس المُحرم القميص ولا العمائم " الحديث ، وغير ذلك.
قوله: (العمائم) ورد فيها حديث عمرو بن حريث أنّه قال: كأنّي
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5795) ومسلم (2773) عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبي بعد ما أدخل قبره، فأمر به فأخرج، ووضع على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه "
أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه عمامة سوداء. قد أرخى طرفها بين كتفيه. أخرجه مسلم، وعن أبي المليح بن أسامة عن أبيه رفعه: اعتمّوا تزدادوا حلماً. أخرجه الطّبرانيّ والتّرمذيّ في " العلل المفرد ". وضعّفه البخاريّ؛ وقد صحَّحه الحاكم فلم يُصب، وله شاهد عند البزّار عن ابن عبّاس ضعيف أيضاً.
وعن ركانة رفعه: فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم. أخرجه أبو داود والتّرمذيّ، وعن ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتمّ ، سدل عمامته بين كتفيه. أخرجه التّرمذيّ، وفيه ، أنّ ابن عمر كان يفعله والقاسم وسالم، وأمّا مالك ، فقال: إنّه لَم ير أحداً يفعله إلَاّ عامر بن عبد الله بن الزّبير. والله أعلم.
قوله: (السراويلات) قال ابن سيده: السّراويل فارسيٌّ معرّبٌ يذكّر ويؤنّث. ولَم يَعرِف أبو حاتم السّجستانيّ التّذكير، والأشهر عدم صرفه.
وسيأتي إن شاء الله في حديث ابن عباس الذي بعده باقي مباحثه
قوله: (البرانس) جمع برنس - بضمّ الموحّدة والنّون بينهما راء ساكنة وآخره مهملة - وأخرج البخاري عن سليمان التيمي قال: رأيت على أنسٍ برنساً أصفر من خز.
وقد كره بعض السّلف لبس البرنس ، لأنّه كان من لباس الرّهبان، وقد سئل مالك عنه. فقال: لا بأس به. قيل: فإنّه من لبوس النّصارى. قال: كان يلبس هاهنا. وقال عبد الله بن أبي بكر: ما كان
أحدٌ من القرّاء إلَاّ له برنس.
وأخرج الطّبرانيّ من حديث أبي قرصافة قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم برنساً ، فقال: البَسْه. وفي سنده من لا يعرف.
ولعل من كرهه أخذ بعموم حديث عليّ رفعه: إيّاكم ولبوس الرّهبان، فإنّه من تزيّا بهم أو تشبّه فليس منّي. أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط " بسندٍ لا بأس به.
قوله: (إلَاّ أحدٌ) قال ابن المنيّر في الحاشية: يستفاد منه جواز استعمال أحد في الإثبات خلافاً لمن خصّه بضرورة الشّعر.
قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أنّه لا يستعمل في الإثبات إلَاّ إن كان يعقبه نفي.
قوله: (لا يجد نعلين) زاد معمر في روايته عن الزّهريّ عن سالم في هذا الموضع زيادة حسنة ، تفيد ارتباط ذكر النّعلين بما سبق. وهي قوله " وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لَم يجد نعلين فليلبس الخُفَّين "
واستدل بقوله " فإن لَم يجد ".
وهو القول الأول. على أنّ واجد النّعلين لا يلبس الخُفَّين المقطوعين ، وهو قول الجمهور.
القول الثاني: عن بعض الشّافعيّة جوازه ، وكذا عند الحنفيّة.
وقال ابن العربيّ: إن صارا كالنّعلين جاز وإلَاّ متى سترا من ظاهر الرّجل شيئاً لَم يجز إلَاّ للفاقد، والمراد بعدم الوجدان ، أن لا يقدر على
تحصيله إمّا لفقده أو ترك بذل المالك له وعجزه عن الثّمن إن وجد من يبيعه أو الأجرة، ولو بيع بغبنٍ لَم يلزمه شراؤه أو وهب له لَم يجب قبوله إلَاّ إن أعير له.
قوله: (فليلبس) ظاهر الأمر للوجوب، لكنّه لَمّا شرع للتّسهيل لَم يناسب التّثقيل وإنّما هو للرّخصة.
قوله: (وليقطعهما أسفل من الكعبين) في رواية ابن أبي ذئب عند البخاري " حتّى يكونا تحت الكعبين " والمراد كشف الكعبين في الإحرام ، وهما العظمان النّاتئان عند مفصل السّاق والقدم.
ومؤيّده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا اضطرّ المُحرم إلى الخُفَّين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه.
وقال محمّد بن الحسن ومن تبعه من الحنفيّة: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشّراك.
وقيل: إنّ ذلك لا يعرف عند أهل اللّغة.
وقيل: إنّه لا يثبت عن محمّد ، وأنّ السّبب في نقله عنه ، أنّ هشام بن عبيد الله الرّازيّ سمعه يقول ، في مسألة المُحرم: إذا لَم يجد النّعلين حيث يقطع خفّيه ، فأشار محمّد بيده إلى موضع القطع، ونقله هشام إلى غسل الرّجلين في الطّهارة.
وبهذا يتعقّب على من نقل عن أبي حنيفة كابن بطّال أنّه قال: إنّ الكعب هو الشّاخص في ظهر القدم، فإنّه لا يلزم من نقل ذلك عن
محمّد بن الحسن - على تقدير صحّته عنه - أن يكون قول أبي حنيفة.
ونقل عن الأصمعيّ ، وهو قول الإماميّة ، أنّ الكعب عظم مستدير تحت عظم السّاق حيث مفصل السّاق والقدم.
وجمهور أهل اللّغة على أنّ في كلّ قدم كعبين.
وظاهر الحديث. أنّه لا فدية على من لبسهما إذا لَم يجد النّعلين. وعن الحنفيّة تجب. وتعقّب: بأنّها لو وجبت لبيّنها النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنّه وقت الحاجة.
واستُدل به.
وهو القول الأول. على اشتراط القطع.
القول الثاني: المشهور عن أحمد. أنّه أجاز لبس الخُفَّين من غير قطع لإطلاق حديث ابن عبّاس الآتي بلفظ " ومن لَم يجد نعلين فليلبس خفّين ".
وتعقّب: بأنّه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيّد فينبغي أن يقول بها هنا
وأجاب الحنابلة بأشياء:
الجواب الأول: دعوى النّسخ في حديث ابن عمر، فقد روى الدّارقطنيّ من طريق عمرو بن دينار ، أنّه روى عن ابن عمر حديثه ، وعن جابر بن زيد عن ابن عبّاس حديثه ، وقال: انظروا أيّ الحديثين قبل.
ثمّ حكى الدّارقطنيّ عن أبي بكر النّيسابوريّ أنّه قال: حديث ابن
عمر قَبْل ، لأنّه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عبّاس بعرفاتٍ.
وأجاب الشّافعيّ عن هذا في " الأمّ " فقال: كلاهما صادق حافظ، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عبّاس لاحتمال أن تكون عزبت عنه أو شكّ أو قالها فلم يقلها عنه بعض رواته انتهى.
الجواب الثاني: سلك بعضهم التّرجيح بين الحديثين.
قال ابن الجوزيّ: حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عبّاس لَم يختلف في رفعه. انتهى.
وهو تعليلٌ مردودٌ ، بل لَم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلَاّ في رواية شاذّة، على أنّه اختلف في حديث ابن عبّاس أيضاً. فرواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس موقوفاً.
ولا يرتاب أحدٌ من المحدّثين أنّ حديث ابن عمر أصحّ من حديث ابن عبّاس ، لأنّ حديث ابن عمر جاء بإسنادٍ وصف بكونه أصحّ الأسانيد، واتّفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفّاظ منهم نافع وسالم.
بخلاف حديث ابن عبّاس فلم يأت مرفوعاً إلَاّ من رواية جابر بن زيد عنه. حتّى قال الأصيليّ (1): إنّه شيخ بصريّ لا يُعرف.
(1) هو عبدالله بن إبراهيم ، سبق ترجمته (1/ 114)
كذا قال، وهو معروف موصوف بالفقه عند الأئمّة.
الجواب الثالث: استدل بعضهم بالقياس على السّراويل كما سيأتي البحث فيه. في حديث ابن عبّاس إن شاء الله تعالى.
وأجيب: بأنّ القياس مع وجود النّصّ فاسد الاعتبار.
الجواب الرابع: احتجّ بعضهم بقول عطاء: إنّ القطع فساد ، والله لا يحبّ الفساد.
وأجيب: بأنّ الفساد إنّما يكون فيما نهى الشّرع عنه لا فيما أذن فيه.
وقال ابن الجوزيّ: يحمل الأمر بالقطع على الإباحة لا على الاشتراط. عملاً بالحديثين، ولا يخفى تكلّفه.
قال العلماء: والحكمة في منع المُحرم من اللباس والطّيب البعد عن التّرفّه، والاتّصاف بصفة الخاشع، وليتذكّر بالتّجرّد القدوم على ربّه فيكون أقرب إلى مراقبته وامتناعه من ارتكاب المحظورات.
قوله: (ولا تلبسوا من الثّياب شيئاً مسّه زعفران أو ورس) قيل: عدل عن طريقة ما تقدّم ذكره إشارة إلى اشتراك الرّجال والنّساء في ذلك.
وفيه نظرٌ. بل الظّاهر أنّ نكتة العدول. أنّ الذي يخالطه الزّعفران والورس لا يجوز لبسه. سواء كان ممّا يلبسه المُحرم أو لا يلبسه.
والورس: بفتح الواو وسكون الرّاء بعدها مهملة. نبت أصفر طيّب الرّيح يصبغ به.
قال ابن العربيّ: ليس الورس بطيبٍ، ولكنّه نبّه به على اجتناب
الطّيب وما يشبهه في ملاءمة الشّمّ، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطّيب على المُحرم وهو مجمع عليه فيما يقصد به التّطيّب.
واستدل بقوله " مسّه " على تحريم ما صبغ كلّه أو بعضه. ولو خَفِيتْ رائحته
قال مالك في الموطّأ: إنّما يكره لبس المصبغات ، لأنّها تنفض.
وقال الشّافعيّة: إذا صار الثّوب بحيث لو أصابه الماء لَم تفح له رائحة لَم يمنع.
والحجّة فيه حديث ابن عبّاس في البخاري بلفظ " ولَم ينه عن شيء من الثّياب ، إلَاّ المزعفرة التي تردع الجلد "
وأمّا المغسول. فقال الجمهور: إذا ذهبت الرّائحة جاز خلافاً لمالكٍ.
واستدل لهم بما روى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث " إلَاّ أن يكون غسيلاً " أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحمّانيّ في " مسنده " عنه.
وروى الطّحاويّ عن أحمد بن أبي عمران ، أنّ يحيى بن معين أنكره على الحمّانيّ، فقال له عبد الرّحمن بن صالح الأزديّ: قد كتبته عن أبي معاوية. وقام في الحال. فأخرج له أصله فكتبه عنه يحيى بن معين. انتهى.
وهي زيادة شاذّة ، لأنّ أبا معاوية - وإن كان متقناً - لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال.
قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله ، ولَم يجيء بهذه الزّيادة غيره.
قلت: والحمّانيّ ضعيف ، وعبد الرّحمن الذي تابعه فيه مقال.
واستدل به المُهلَّب على منع استدامة الطّيب. وفيه نظرٌ.
واستنبط مَن منع لبس الثّوب المزعفر منع أكل الطّعام الذي فيه الزّعفران. وهذا قول الشّافعيّة، وعن المالكيّة خلاف.
وقال الحنفيّة: لا يحرم ، لأنّ المراد اللّبس والتّطيّب والآكل لا يعدّ متطيّباً.
ولَم يختلف العلماء. أنّ المرأة كالرّجل في منع الطّيب، وإنّما اختلفوا في أشياء. هل تُعدّ طيباً أو لا؟.
والحكمة في منع المُحرم من الطّيب. أنّه من دواعي الجماع ومقدّماته التي تفسد الإحرام، وبأنّه ينافي حال المُحرم ، فإنّ المُحرم أشعث أغبر.
وذكر البخاري معلقاً ووصله البيهقيّ من طريق معاذ عن عائشة قالت: المُحرمة تلبس من الثّياب ما شاءت إلَّا ثوباً مسّه ورس أو زعفران، ولا تبرقع ولا تلثّم، وتسدل الثّوب على وجهها إن شاءت.
وروى أحمد وأبو داود والحاكم أصلَ حديث الباب من طريق ابن إسحاق حدّثني نافع عن ابن عمر بلفظ: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى النّساء في إحرامهنّ عن القفّازين والنّقاب وما مسّ الورس والزّعفران من الثّياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبّت من ألوان الثّياب.
وقد أخذ من التّقييد بالمُحرم جواز لبس الثّوب المزعفر للحلال.
قال ابن بطّال: أجاز مالك وجماعة لباس الثّوب المزعفر للحلال ، وقالوا: إنّما وقع النّهي عنه للمحرم خاصّة. وحمله الشّافعيّ والكوفيّون على المُحرم وغير المُحرم، وحديث ابن عمر في الصحيح يدلّ على الجواز، فإنّ فيه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالصّفرة.
وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن جعفر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزّعفران. وفي سنده عبد الله بن مصعب الزّبيريّ. وفيه ضعف.
وأخرج الطّبرانيّ من حديث أمّ سلمة ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره ورداءه بزعفرانٍ. وفيه راوٍ مجهول.
ومن المستغرب قول ابن العربيّ. لَم يرد في الثّوب الأصفر حديث، وقد ورد فيه عدّة أحاديث كما ترى.
قال المُهلَّب: الصّفرة أبهج الألوان إلى النّفس، وقد أشار إلى ذلك ابن عبّاس في قوله تعالى:(صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين)(1)
تنْبيه زاد الثّوريّ في روايته عن أيّوب عن نافع في هذا الحديث " ولا القباء " أخرجه عبد الرّزّاق عنه، ورواه الطّبرانيّ من وجه آخر عن الثّوريّ، وأخرجه الدّارقطنيّ والبيهقيّ من طريق حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع أيضاً.
والقباء: بالقاف والموحّدة معروف، ويطلق على كلّ ثوب مفرّج.
(1) سيأتي إن شاء الله بسط هذه المسألة في كتاب اللباس.
ومَنْعُ لبسِه على المُحرم متّفق عليه، إلَاّ أنّ أبا حنيفة قال: يشترط أن يدخل يديه في كمّيه لا إذا ألقاه على كتفيه، ووافقه أبو ثور والخرقيّ من الحنابلة.
وحكى الماورديّ. نظيره إن كان كمّه ضيّقاً، فإن كان واسعاً فلا.
وفي الحديث. أنّ الصّلاة تجوز بدون القميص والسّراويل وغيرهما من المخيط لأمر المُحرم باجتناب ذلك، وهو مأمور بالصّلاة.
قال ابن المنير: وفيه التّنبيه على أنّ مطابقة الجواب للسّؤال غير لازم، بل إذا كان السّبب خاصّاً والجواب عامّاً جاز، وحمل الحكم على عموم اللفظ لا على خصوص السّبب لأنّه جواب وزيادة فائدة.
ويؤخذ منه أيضاً. أنّ المفتي إذا سئل عن واقعة. واحتمل عنده أن يكون السّائل يتذرّع بجوابه إلى أن يعدّيه إلى غير محلّ السّؤال ، تعيّن عليه أن يفصّل الجواب، ولهذا قال:" فإن لَم يجد نعلين " فكأنّه سأل عن حالة الاختيار فأجابه عنها وزاده حالة الاضطرار، وليست أجنبيّة عن السّؤال ، لأنّ حالة السّفر تقتضي ذلك.
وأمّا ما وقع في كلام كثير من الأصوليّين ، أنّ الجواب يجب أن يكون مطابقاً للسّؤال. فليس المراد بالمطابقة عدم الزّيادة، بل المراد أنّ الجواب يكون مفيداً للحكم المسئول عنه. قاله ابن دقيق العيد.
وفي الحديث أيضاً. العدول عمّا لا ينحصر إلى ما ينحصر طلباً للإيجاز؛ لأنّ السّائل سئل عمّا يلبس فأجيب بما لا يلبس، إذ الأصل الإباحة، ولو عدّد له ما يلبس لطال به، بل كان لا يؤمن أن يتمسّك
بعض السّامعين بمفهومه فيظنّ اختصاصه بالمُحرم، وأيضاً فالمقصود ما يحرم لبسه لا ما يحلّ له لبسه لأنّه لا يجب له لباس مخصوص بل عليه أن يجتنب شيئاً مخصوصاً.
قوله: (وللبخاريّ: ولا تنتقب المرأة ، ولا تلبس القفّازين) القُفّاز بضمّ القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي: ما تلبسه المرأة في يدها فيغطّي أصابعها وكفّيها عند معاناة الشّيء كغزلٍ ونحوه، وهو لليد كالخفّ للرّجل.
والنّقاب: الخمار الذي يشدّ على الأنف أو تحت المحاجر، وظاهره اختصاص ذلك بالمرأة، ولكنّ الرَّجُلَ في القفّاز مثلها لكونه في معنى الخفّ فإنّ كلاًّ منهما محيط بجزء من البدن.
وأمّا النّقاب فلا يحرم على الرّجل من جهة الإحرام ، لأنّه لا يحرم عليه تغطية وجهه على الرّاجح. كما تقدم الكلام عليه في حديث ابن عبّاس (1).
واختلف العلماء في ذلك.
القول الأول: منعه الجمهور.
القول الثاني: أجازه الحنفيّة. وهو رواية عند الشّافعيّة والمالكيّة.
ولَم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفّيها بما سوى النّقاب والقفّازين.
تكميل: زيادة البخاري " لاتنتقب .. الحديث " أخرجها من طريق
(1) حديث ابن عباس رضي الله عنه تقدّم شرحه في الجنائز برقم (165)
الليث عن نافع به مرفوعاً ، ثم قال البخاري: تابعه موسى بن عقبة، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وجويرية، وابن إسحاق: في النقاب والقفازين،
وقال عبيد الله: ولا ورس، وكان يقول: لا تتنقب المُحرمة، ولا تلبس القفازين، وقال مالك، عن نافع، عن ابن عمر: لا تتنقب المُحرمة، وتابعه ليث بن أبي سليم. انتهى
قوله " تابعه موسى بن عقبة ". وصله النّسائيّ من طريق عبد الله بن المبارك عنه عن نافع في آخر الزّيادة المذكورة قبل.
قوله " وإسماعيل بن إبراهيم " أي: ابن عقبة، وهو ابن أخي موسى المذكور قبله، وقد رويناه من طريقه موصولاً في " فوائد عليّ بن محمّد المصريّ " من رواية السّلفيّ عن الثّقفيّ عن ابن بشران عنه عن يوسف بن يزيد عن يعقوب بن أبي عبّاد عن إسماعيل عن نافع به.
قوله " وجويرية " أي: ابن أسماء، وصله أبو يعلى عن عبد الله بن محمّد بن أسماء عنه عن نافع. وفيه الزّيادة.
قوله " وابن إسحاق " وصله أحمد وغيره كما تقدّم. قوله " في النّقاب والقفّازين " أي: في ذكرهما في الحديث المرفوع.
قوله " وقال عبيد الله " يعني. ابن عمر العمريّ " ولا ورس " وكان يقول " لا تتنقّب المُحرمة ولا تلبس القفّازين "
يعني. أنّ عبيد الله المذكور خالف المذكورين قبل في رواية هذا الحديث عن نافع فوافقهم على رفعه إلى قوله " زعفران ولا ورس "
وفصَلَ بقيّة الحديث فجعله من قول ابن عمر.
وهذا التّعليق عن عبيد الله. وصله إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن محمّد بن بشر وحمّاد بن مسعدة ، وابن خزيمة من طريق بشر بن المفضّل ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمر عن نافع. فساق الحديث إلى قوله " ولا ورس " قالا: وكان عبيد الله - يعني ابن عمر - يقول " ولا تنتقب المُحرمة ، ولا تلبس القفّازين ".
ورواه يحيى القطّان عند النّسائيّ وحفص بن غياث عند الدّارقطنيّ كلاهما عن عبيد الله. فاقتصرا على المتّفق على رفعه.
قوله " وقال مالك إلخ " هو في " الموطّإ " كما قال، والغرض. أنّ مالكاً اقتصر على الموقوف فقط، وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله. وظهر الإدراج في رواية غيره.
وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج في هذا الحديث لورود النّهي عن النّقاب والقفّاز مفرداً مرفوعاً ، وللابتداء بالنّهي عنهما في رواية ابن إسحاق المرفوعة المقدّم ذكرها.
وقال في " الاقتراح ": دعوى الإدراج في أوّل المتن ضعيفة.
وأجيب: بأنّ الثّقات إذا اختلفوا. وكان مع أحدهم زيادة قدّمت ، ولا سيّما إن كان حافظاً ، ولا سيّما إن كان أحفظ، والأمر هنا كذلك. فإنّ عبيد الله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه ، وفد فصَلَ المرفوع من الموقوف.
وأمّا الذي اقتصر على الموقوف فرفعه. فقد شذّ بذلك وهو
ضعيف.
وأمّا الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف. فإنّه من التّصرّف في الرّواية بالمعنى، وكأنّه رأى أشياء متعاطفة فقدّم وأخّر لجواز ذلك عنده، ومع الذي فَصَلَ زيادة علم فهو أولى، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح التّرمذيّ.
وقال الكرمانيّ: فإن قلت: فلِمَ قال البخاري بلفظ " قال " وثانياً بلفظ " كان يقول "؟ قلت: لعله قال ذلك مرّة. وهذا كان يقوله دائماً مكرّراً، والفرق بين المرويّين. إمّا من جهة حذف المرأة ، وإمّا من جهة أنّ الأوّل بلفظ " لا تتنقّب " من التّفعّل والثّاني من الافتعال، وإمّا من جهة أنّ الثّاني بضمّ الباء على سبيل النّفي لا غير والأوّل بالضّمّ والكسر نفياً ونهياً. انتهى كلامه
ولا يخفى تكلّفه.
قوله " وتابعه ليث بن أبي سليمٍ " أي: تابع مالكاً في وقفه ، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من طريق فضيل بن غزوان عن نافع موقوفاً على ابن عمر.