الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع عشر
232 -
عن عبد الله بن عبّاسٍ رضي الله عنه ، قال: طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع على بعيرٍ ، يستلم الرّكن بمحجنٍ. (1)
قال المصنف: المِحجن: عصاً منحنية الرأس.
قوله: (حجة الوداع) بكسر الحاء المهملة وبفتحها، وبكسر الواو وبفتحها. وقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: كنا نتحدّث بحجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، ولا ندري ما حجة الوداع. فحمد الله وأثنى عليه .. الحديث ".
كأنّه شيء ذكره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فتحدّثوا به وما فهموا أنّ المراد بالوداع وداع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، حتّى وقعت وفاته صلى الله عليه وسلم بعدها بقليلٍ فعرفوا المراد، وعرفوا أنّه ودّع النّاس بالوصيّة التي أوصاهم بها أن لا يرجعوا بعده كفّاراً، وأكّد التّوديع بإشهاد الله عليهم بأنّهم شهدوا أنّه قد بلغ ما أرسل إليهم به، فعرفوا حينئذٍ المراد بقولهم حجّة الوداع.
وقد وقع في البخاري من رواية عاصم بن محمّد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر في هذا الحديث " فودّع النّاس ". ووقع عند البيهقيّ أنّ سورة (إذا جاء نصر الله والفتح) نزلت في وسط أيّام التّشريق، فعرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه الوداع، فركب واجتمع النّاس فذكر الخطبة.
(1) أخرجه البخاري (1530) ومسلم (1272) من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (1534 ، 1535 ، 1551 ، 4987) من وجه آخر عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس نحوه ، لكن قال: أشار إليه بشيءٍ كان عنده.
وذكر جابر في حديثه الطّويل في صفتها كما أخرجه مسلم وغيره ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين - أي: منذ قدم المدينة - لَم يحجّ، ثمّ أذّن في النّاس في العاشرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حاجّ، فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلى الله عليه وسلم " الحديث.
ووقع في حديث أبي سعيد الخدريّ ما يوهم أنّه صلى الله عليه وسلم حجّ قبل أنّ يهاجر غير حجّة الوداع. ولفظه (1) ..... وعند التّرمذيّ من حديث جابر " حجّ قبل أن يهاجر ثلاث حجج " وعن ابن عبّاس مثله. أخرجه ابن ماجه والحاكم.
قلت: وهو مبنيّ على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنًى بعد الحجّ، فإنّهم قدموا أوّلاً فتواعدوا، ثمّ قدموا ثانياً فبايعوا البيعة الأولى، ثمّ قدموا ثالثاً فبايعوا البيعة الثّانية، وهذا لا يقتضي نفي الحجّ قبل ذلك.
وقد أخرج الحاكم بسندٍ صحيح إلى الثّوريّ ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجّ قبل أن يهاجر حججاً.
قلت: بل حجّ قبل أن يهاجر مراراً، بل الذي لا أرتاب فيه أنّه لَم يترك الحجّ وهو بمكّة قطّ، لأنّ قريشاً في الجاهليّة لَم يكونوا يتركون الحجّ، وإنّما يتأخّر منهم عنه من لَم يكن بمكّة أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحجّ ، ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب ، فكيف يظنّ بالنّبيّ
(1) بياض بالأصل.
- صلى الله عليه وسلم أنّه يتركه؟ وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم ، أنّه رآه في الجاهليّة واقفاً بعرفة (1)، وأنّ ذلك من توفيق الله له، وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنًى ثلاث سنين متوالية كما بيّنته في الهجرة إلى المدينة.
وقال ابن الجوزيّ: حجّ حججاً لا يُعرف عددها.
وقال ابن الأثير في النّهاية: كان يحجّ كلّ سنة قبل أن يهاجر.
قوله: (على بعيرٍ) حمل البخاريُّ (2) سببَ طوافه صلى الله عليه وسلم راكباً على أنّه كان عن شكوى، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عبّاس أيضاً بلفظ: قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة وهو يشتكي. فطاف على راحلته. ووقع في حديث جابر عند مسلم: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طاف راكباً ليراه النّاس ، وليسألوه.
فيحتمل: أن يكون فعل ذلك للأمرين، وحينئذٍ لا دلالة فيه على جواز الطّواف راكباً لغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز إلَاّ أنّ المشي أولى، والرّكوب مكروه تنزيهاً، والذي يترجّح المنع ، لأنّ طوافه صلى الله عليه وسلم وكذا أمّ سلمة كان قبل أن يحوّط المسجد.
(1) أخرجه البخاري (1664) ومسلم (1220) عن جبير رضي الله عنه قال: أضللت بعيراً لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس بعرفة، فقلت: والله، إن هذا لمن الحُمس، فما شأنه هاهنا؟. وكانت قريش تعد من الحمس
(2)
حيث قال (باب المريض يطوف راكباً) ثم ذكر حديث ابن عبّاس. وكذا حديث أم سلمة ، قالت: شكوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي ، فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة .. الحديث
ووقع في حديث أمّ سلمة " طوفي من وراء النّاس " وهذا يقتضي منع الطّواف في المطاف، وإذا حوّط المسجد امتنع داخله، إذ لا يؤمن التّلويث فلا يجوز بعد التّحويط، بخلاف ما قبله. فإنّه كان لا يحرم التّلويث كما في السّعي.
وعلى هذا فلا فرق في الرّكوب - إذا ساغ - بين البعير والفرس والحمار.
وأمّا طواف النّبيّ صلى الله عليه وسلم راكباً فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه ، ولذلك عدّه بعض من جمع خصائصه فيها.
واحتمل أيضاً: أن تكون راحلته عصمت من التّلويث حينئذٍ كرامة له ، فلا يقاس غيره عليه، وأبعد من استدل به على طهارة بول البعير وبَعْرِه.
قوله: (يستلم الرّكن بمحجنٍ) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم بعدها نون، هو عصا محنيّة الرّأس، والحجن الاعوجاج، وبذلك سُمِّي الحجون.
والاستلام افتعال من السّلام بالفتح. أي: التّحيّة. قاله الأزهريّ.
وقيل: من السّلام بالكسر. أي: الحجارة ، والمعنى أنّه يومئ بعصاه إلى الرّكن يصيبه.
زاد مسلم من حديث أبي الطّفيل " ويقبّل المحجن " وله من حديث ابن عمر ، أنّه استلم الحجر بيده ، ثمّ قبّله. ورفع ذلك.
ولسعيد بن المنصور من طريق عطاء قال: رأيت أبا سعيد وأبا
هريرة وابن عمر وجابراً إذا استلموا الحجر قبّلوا أيديهم. قيل: وابن عبّاس؟ قال: وابن عبّاس، أحسبه. قال: كثيراً.
وبهذا قال الجمهور: أنّ السّنّة أن يستلم الرّكن ، ويقبّل يده. فإن لَم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيءٍ في يده ، وقبّل ذلك الشّيء ، فإن لَم يستطع أشار إليه ، واكتفى بذلك. (1)
وعن مالك في رواية: لا يقبّل يده، وكذا قال القاسم، وفي رواية عند المالكيّة يضع يده على فمه من غير تقبيل.
وزاد أبو داود في آخر حديثه " فلمّا فرغ من طوافه أناخ فصلَّى ركعتين "
تكميل: في رواية للبخاري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس: كلَّما أتى الركن أشار إليه بشيءٍ كان عنده وكبّر.
وفيه استحباب التّكبير عند الرّكن الأسود في كلّ طوفة.
قال ابن التّين: تقدّم أنّه كان يستلمه بالمحجن، فيدلّ على قربه من البيت، لكن من طاف راكباً يستحبّ له أن يبعد إن خاف أن يؤذي أحداً، فيحمل فعله صلى الله عليه وسلم على الأمن من ذلك. انتهى.
ويحتمل: أن يكون في حال استلامه قريباً حيث أمن ذلك، وأن يكون في حال إشارته بعيداً حيث خاف ذلك.
(1) أي بعدم تقبيل اليد. فإنَّ التقبيل إنما يكون لشيء مسَّ الحجر كاليد والمحجن وغيرهم.