الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس والثلاثون
251 -
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: حججنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النّحر ، فحاضت صفيّة. فأراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرّجل من أهله. فقلت: يا رسولَ الله ، إنّها حائضٌ ، قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسولَ الله ، إنّها قد أفاضت يوم النّحر قال: اخرجوا. (1)
وفي لفظٍ: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: عقرى ، حلقى. أطافتْ يوم النّحر؟ قيل: نعم ، قال: فانفري. (2)
قوله: (فحاضت صفيّة) أي: في أيّام منًى، ولهما من رواية الأسود عن عائشة " أنّ حيضها كان ليلة النّفر "، زاد الحكم عن إبراهيم عن الأسود عند مسلم: لَمّا أراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفيّة على باب خبائها كئيبة حزينة، فقال: عقرى. الحديث.
وهذا يشعر بأنّ الوقت الذي أراد منها ما يريد الرّجل من أهله كان
(1) أخرجه البخاري (1646) ومسلم (1211) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة به.
وأخرجه البخاري (4140) ومسلم (1211) من طريق الزهري عن أبي سلمة وعروة عن عائشة نحوه.
وأخرجه البخاري (1670 ، 322) ومسلم (1211) من طريق القاسم وعمرة عن عائشة نحوه.
(2)
أخرجه البخاري (1673 ، 1682 ، 5019 ، 5805) ومسلم (1211) من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة به.
بالقرب من وقت النّفر من منىً.
واستشكله بعضهم بناء على ما فهمه ، أنّ ذلك كان وقت الرّحيل، وليس ذلك بلازمٍ لاحتمال أن يكون الوقت الذي أراد منها ما أراد سابقاً على الوقت الذي رآها فيه على باب خبائها الذي هو وقت الرّحيل، بل ولو اتّحد الوقت لَم يكن ذلك مانعاً من الإرادة المذكورة.
قوله: (أحابستنا) أي: مانعتنا من التّوجّه من مكّة في الوقت الذي أردنا التّوجّه فيه، ظنّاً منه صلى الله عليه وسلم أنّها ما طافت طواف إفاضة، وإنّما قال ذلك ، لأنّه كان لا يتركها ويتوجّه، ولا يأمرها بالتّوجّه معه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتّى تطهر وتطوف ، وتحلّ الحلّ الثّاني.
قوله: (قالوا) ولهما من رواية الأسود عن عائشة ولفظه: أَمَا كنتِ طفتِ يوم النحر؟ قالت (أي صفيّة): بلى.
وهذا مُشكل ، لأنّه صلى الله عليه وسلم إن كان علِم أنّها طافت طواف الإفاضة. فكيف يقول أحابستنا هي؟ وإن كان ما علِم. فكيف يريد وقاعها قبل التّحلّل الثّاني؟.
ويجاب عنه: بأنّه صلى الله عليه وسلم ما أراد ذلك منها إلَاّ بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهنّ. فكان بانياً على أنّها قد حلت، فلمّا قيل له: إنّها حائض جوّز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتّى منعها من طواف الإفاضة فاستفهم عن ذلك ، فأعلمته عائشة أنّها طافت معهنّ فزال عنه ما خشيه من ذلك والله أعلم.
وفي الصحيحين من طريق عمرة عن عائشة أنّه قال لهم: لعلها تحبسنا، أَلَم تكن طافت معكنّ؟ قالوا: بلى.
وسأذكر بقيّة اختلاف ألفاظ هذه القصّة إن شاء الله تعالى
قوله: (اخرجوا) في رواية عمرة " قال: اخرجي " وفي رواية الزّهريّ عن عروة عن عائشة في البخاري " فلتنفر " وفي رواية الأسود " فلا بأس انفري ".
ومعانيها متقاربه ، ولهما من رواية القاسم عن عائشة " فلا إذاً " أي: فلا حبس علينا حينئذٍ، أي: إذا أفاضت فلا مانع لنا من التّوجّه ، لأنّ الذي يجب عليها قد فعلته. والمراد بها كلّها الرّحيل من منًى إلى جهة المدينة.
قوله: (عقرى ، حلقى) بالفتح فيهما ثم السكون وبالقصر بغير تنوين في الرواية، ويجوز في اللغة التنوين. وصوبه أبو عبيد، لأنَّ معناه الدعاء بالعقر والحلق، كما يقال سقيا ورعيا ونحو ذلك من المصادر التي يدعى بها.
وذكر في الأمثال: أنه في كلام العرب بالمد وفي كلام المحدّثين بالقصر.
وعلى الأول هو نعت لا دعاء.
ثم معنى عقرى عقرها الله. أي جرحها ، وقيل: جعلها عاقراً لا تلد، وقيل: عقر قومها.
ومعنى حلقى. حلق شعرها وهو زينة المرأة، أو أصابها وجع في
حلقها، أو حلق قومها بشؤمها أي أهلكهم.
وحكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتسع العربي في قولهما بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا: قاتله الله ، وتربت يداه ونحو ذلك.
قال القرطبي وغيره: شتان بين قوله صلى الله عليه وسلم هذا لصفية ، وبين قوله لعائشة لَمَّا حاضت منه في الحج: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم. لِمَا يشعر به من الميل لها والحنو عليها بخلاف صفية.
قلت: وليس فيه دليل على اتّضاع قدر صفية عنده، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام.
فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفاً على ما فاتها من النسك فسلَّاها بذلك.
وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله فأبدت المانع فناسب كلاًّ منهما ما خاطبها به في تلك الحالة.
وفي حديث الباب. أنّ طواف الإفاضة ركن، ويُسمى أيضاً طواف الصدر وطواف الركن. وأنّ الطّهارة شرط لصحّة الطّواف.
وأنّ طواف الوداع واجب كما سيأتي.
واستدل به على أنّ أمير الحاجّ يلزمه أنّ يؤخّر الرّحيل لأجل من تحيض ممّن لَم تطف للإفاضة.
وتعقّب: باحتمال أن تكون إرادته صلى الله عليه وسلم تأخير الرّحيل إكراماً لصفيّة كما احتبس بالنّاس على عقد عائشة.
وأمّا الحديث الذي أخرجه البزّار من حديث جابر ، وأخرجه البيهقيّ في " فوائده " من طريق أبي هريرة مرفوعاً: أميران وليسا بأميرين: من تبع جنازة فليس له أن ينصرف حتّى تدفن أو يأذن أهلها، والمرأة تحجّ أو تعتمر مع قوم فتحيض قبل طواف الرّكن فليس لهم أن ينصرفوا حتّى تطهر أو تأذن لهم.
فلا دلالة فيه على الوجوب - إن كان صحيحاً - فإنّ في إسنادِ كلٍّ منهما ضعفاً شديداً.
وقد ذكر مالك في " الموطّإ ": أنّه يلزم الجمّال أن يحبس لها إلى انقضاء أكثر مدّة الحيض، وكذا على النّفساء.
واستشكله ابن الموّاز: بأنّ فيها تعريضاً للفساد كقطع الطّريق.
وأجاب عياض: بأنّ محلّ ذلك مع أمن الطّريق كما أنّ محلّه أنّ كون مع المرأة محرم
قال ابن المنذر: قال عامّة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع. وروينا عن عمر بن الخطّاب وابن عمر وزيد بن ثابت ، أنّهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضاً لطواف الوداع. وكأنّهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لَم يسقط عنها.
ثمّ أسند عن عمر بإسنادٍ صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال: طافت امرأة بالبيت يوم النّحر ثمّ حاضت، فأمر عمر بحبسها بمكّة بعد أن ينفر النّاس حتّى تطهر وتطوف بالبيت.
قال: وقد ثبت رجوع ابن عمر (1) وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة.
يشير إلى ماتضمّنه حديث عائشة ، وما أخرجه البخاري من طريق أيوب عن عكرمة ، أنَّ أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنه، عن امرأة طافت ثم حاضت؟ قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد ، قال: إذا قدمتم المدينة فسلوا، فقدموا المدينة، فسألوا، فكان فيمن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية.
وللإسماعيلي عن عبد الوهاب عن أيوب. وفيه فأخبرتهم أنّ عائشة قالت لصفيّة. أفي الخَيْبة أنت؟ إنّك لحابستنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ذاك؟ قالت عائشة: صفيّة حاضت، قيل إنّها قد أفاضت، قال: فلا إذاً. فرجعوا إلى ابن عبّاس فقالوا: وجدنا الحديث كما حدّثتناه.
وللطيالسي من طريق قتادة عن عكرمة قال: اختلف ابن عبّاس وزيد بن ثابت في المرأة إذا حاضت ، وقد طافت بالبيت يوم النّحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها بالبيت، وقال ابن عبّاس: تنفر إن شاءت، فقالت الأنصار: لا نتابعك يا ابن عبّاس وأنت تخالف زيداً، فقال: سلوا صاحبتكم أمّ سليمٍ - يعني فسألوها - فقالت: حضت بعدما طفت بالبيت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ أنفر، وحاضت صفيّة ، فقالت لها عائشة: حبستنا فأمرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تنفر.
وقد روى هذه القصّة طاوسٌ عن ابن عبّاس متابعاً لعكرمة،
(1) رجوع ابن عمر رضي الله عنه. سيأتي إن شاء الله في شرح حديث ابن عبّاس الآتي.
أخرجه مسلم والنّسائيّ والإسماعيليّ من طريق الحسن بن مسلم عن طاوس: كنت مع ابن عبّاس إذ قال له زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عبّاس: أمّا لا. فسل فلانة الأنصاريّة. هل أمرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع إليه ، فقال: ما أراك إلَاّ قد صدقت. لفظ مسلم.
وللنّسائي " كنت عند ابن عبّاس فقال له زيد بن ثابت: أنت الذي تفتي؟ وقال فيه: فسألها، ثمّ رجع وهو يضحك فقال: الحديث كما حدّثتني. وللإسماعيليّ بعد قوله أنت الذي .. إلخ. قال: نعم. قال: فلا تُفْتِ بذلك. قال: فسل فلانة. والباقي نحو سياق مسلم، وزاد في إسناده عن ابن جريجٍ ، قال: وقال عكرمة بن خالد عن زيد وابن عبّاس نحوه ، وزاد فيه: فقال ابن عبّاس: سل أمّ سليمٍ وصواحبها. هل أمرهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ فسألهنّ، فقلن: قد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
وقد عرف برواية عكرمة الماضية أنّ الأنصاريّة هي أمّ سليمٍ، وأمّا صواحبها فلم أقف على تسميتهنّ.
وقد روى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمّد: كان الصّحابة يقولون. إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيض فقد فرغت، إلَاّ عمر فإنّه كان يقول: يكون آخر عهدها بالبيت.
وقد وافق عمرَ على رواية ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم غيرُه، فروى أحمد وأبو داود والنّسائيّ والطّحاويّ - واللفظ لأبي داود - من طريق
الوليد بن عبد الرّحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثّقفيّ. قال: أتيت عمر فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النّحر ثمّ تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت. فقال الحارث: كذلك أفتاني - وفي رواية أبي داود " هكذا حدّثني - رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
واستدل الطّحاويّ: بحديث عائشة وبحديث أمّ سليمٍ على نسخ حديث الحارث في حقّ الحائض.
قال المُهلَّب: فيه شاهد لتصديق النّساء فيما يدّعينه من الحيض. لكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤخّر السّفر ، ويحبس من معه لأجل حيض صفيّة، ولَم يمتحنها في ذلك ولا أكذبها.
وقال ابن المنيّر: لَمّا رتّب النّبيّ صلى الله عليه وسلم على مجرّد قول صفيّة إنّها حائض تأخيره السّفر أخذ منه تعدّي الحكم إلى الزّوج، فتصدّق المرأة في الحيض والحمل باعتبار رجعة الزّوج وسقوطها وإلحاق الحمل به.
وقال إسماعيل القاضي: دلَّت الآية (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) أنَّ المرأة المعتدة مُؤتمنةٌ على رحمها من الحمل والحيض إلَاّ أن تأتي من ذلك بما يعرف كذبها فيه.
وقد أخرج الحاكم في " المستدرك " من حديث أبي بن كعب: إنَّ من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. هكذا أخرجه موقوفا في تفسير سورة الأحزاب. ورجاله رجال الصحيح.