الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
177 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جبارٌ ، والبئر جبارٌ ، والمعدن جبارٌ ، وفي الرّكاز الخمس. (1)
قال المصنِّف: الجبار. الهدر الذي لا شيء فيه.
والعجماء: الدابة.
قوله: (العجماء) بفتح المهملة وسكون الجيم وبالمدّ. تأنيث أعجم وهي البهيمة، ويقال أيضاً لكل حيوان غير الإنسان. ويقال لمن لا يفصح.
والمراد هنا الأوّل.
قوله: (جُبار) وللبخاري " عقلها جبار " وفي رواية لهما " جرحها جبار " وكذا في حديث كثير بن عبد الله المزنيّ عند ابن ماجه، وفي حديث عبادة بن الصّامت عنده.
وقوله " جُبار " بضمّ الجيم وتخفيف الموحّدة ، هو الهدر الذي لا شيء فيه، كذا أسنده ابن وهب عن ابن شهاب.
(1) أخرجه البخاري (1428) 6514) ومسلم (1710) من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (6515) ومسلم (1710) من طريق شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة به. وللبخاري (2228) عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة به. مثله.
وأخرجه مسلم من وجوه أخرى. سيأتي ذكرها في الشرح.
وعن مالك. ما لا دية فيه. أخرجه التّرمذيّ، وأصله أنّ العرب تسمّي السّيل جباراً ، أي: لا شيء فيه.
وقال التّرمذيّ: فسّر بعض أهل العلم قالوا: العجماء الدّابّة المنفلتة من صاحبها ، فما أصابت من انفلاتها فلا غرم على صاحبها.
وقال أبو داود بعد تخريجه: العجماء التي تكون منفلتة لا يكون معها أحد، وقد تكون بالنّهار ولا تكون بالليل.
ووقع عند ابن ماجه في آخر حديث عبادة بن الصّامت " والعجماء البهيمة من الأنعام وغيرها، والجبار هو الهدر الذي لا يغرم " كذا وقع التّفسير مدرجاً ، وكأنّه من رواية موسى بن عقبة.
وذكر ابن العربيّ ، أنّ بناء (ج ب ر) للرّفع والإهدار من باب السّلب وهو كثير، يأتي اسم الفعل والفاعل لسلب معناه ، كما يأتي لإثبات معناه.
وتعقّبه شيخنا في شرح التّرمذيّ: بأنّه للرّفع على بابه ، لأنّ إتلافات الآدميّ مضمونة مقهورٌ متلفها على ضمانها، وهذا إتلاف قد ارتفع عن أن يؤخذ به أحد.
قال شيخنا في شرح التّرمذيّ: وليس ذكر الجرح قيداً ، وإنّما المراد به إتلافها بأيّ وجه كان سواء كان بجرحٍ أو غيره، والمراد بالعقل الدّية أي لا دية فيما تتلفه.
وقد استدل بهذا الإطلاق مَن قال: لا ضمان فيما أتلفت البهيمة سواء كانت منفردة أو معها أحد. سواء كان راكبها أو سائقها أو
قائدها، وهو قول الظّاهريّة.
واستثنوا ما إذا كان الفعل منسوباً إليه بأنْ حملَها على ذلك الفعل إذا كان راكباً ، كأن يلوي عنانها فتتلف شيئاً برجلها مثلاً ، أو يطعنها أو يزجرها حين يسوقها ، أو يقودها حتّى تتلف ما مرّت عليه، وأمّا ما لا ينسب إليه فلا ضمان فيه.
وقال الشّافعيّة: إذا كان مع البهيمة إنسان فإنّه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال. سواء كان سائقاً أو راكباً أو قائداً. سواء كان مالكاً أو أجيراً أو مستأجراً أو مستعيراً أو غاصباً، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو ذنبها أو رأسها، وسواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً.
والحجّة في ذلك. أنّ الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم عليها ، فهي كالآلة بيده ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم لا.
وعن مالك كذلك ، إلَاّ إن رَمَحَت بغير أن يفعل بها أحدٌ شيئاً ترمحُ بسببه، وحكاه ابن عبد البرّ عن الجمهور.
وقد وقع في رواية جابر عند أحمد والبزّار بلفظ " السّائمة جبار " وفيه إشعار بأنّ المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى لا كلّ بهيمة، لكنّ المراد بالسّائمة هنا التي ليس معها أحد لأنّه الغالب على السّائمة، وليس المراد بها التي لا تعلف كما في الزّكاة فإنّه ليس مقصوداً هنا.
واستُدل به.
وهو القول الأول: على أنّه لا فرق في إتلاف البهيمة للزّروع
وغيرها في الليل والنّهار. وهو قول الحنفيّة والظّاهريّة.
القول الثاني: قال الجمهور: إنّما يسقط الضّمان إذا كان ذلك نهاراً، وأمّا بالليل فإنّ عليه حفظها، فإذا أتلفت بتقصيرٍ منه وجب عليه ضمان ما أتلفت.
ودليل هذا التّخصيص ما أخرجه الشّافعيّ وأبو داود والنّسائيّ وابن ماجه كلّهم من رواية الأوزاعيّ، والنّسائيّ أيضاً وابن ماجه من رواية عبد الله بن عيسى، والنّسائيّ أيضاً من رواية محمّد بن ميسرة وإسماعيل بن أُميَّة كلّهم عن الزّهريّ عن حرام بن محيّصة الأنصاريّ عن البراء بن عازب قال: كانت له ناقة ضارية ، فدخلت حائطاً فأفسدت فيه. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ حفظ الحوائط بالنّهار على أهلها ، وأنّ حفظ الماشية بالليل على أهلها ، وأنّ على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل.
وأخرج ابن ماجه أيضاً من رواية الليث عن الزّهريّ عن ابن محيّصة ، أنّ ناقةً للبراء ولَم يسمّ حراماً،
وأخرج أبو داود من رواية معمر عن الزّهريّ. فزاد فيه رجلاً قال: عن حرام بن محيّصة عن أبيه. وكذا أخرجه مالك والشّافعيّ عنه عن الزّهريّ عن حرام بن سعيد بن محيّصة " أنّ ناقة .. ".
وأخرجه الشّافعيّ في رواية المزنيّ في المختصر عنه عن سفيان عن الزّهريّ ، فزاد مع حرام سعيد بن المسيّب قالا: إنّ ناقةً للبراء.
وفيه اختلاف آخر. أخرجه البيهقيّ من رواية ابن جريجٍ عن
الزّهريّ عن أبي أُمامة بن سهل.
فاختلف فيه على الزّهريّ على ألوان ، والمسند منها طريق حرام عن البراء.
وحرام بمهملتين. اختلف هل هو ابن محيّصة نفسه أو ابن سعد بن محيّصة؟.
قال ابن حزم: وهو مع ذلك مجهول ، لَم يرو عنه إلَاّ الزّهريّ ولَم يوثّقه.
قلت: وقد وثّقه ابن سعد وابن حبّان ، لكن قال: إنّه لَم يسمع من البراء.
وعلى هذا فيحتمل أن يكون قول مَن قال فيه عن البراء ، أي: عن قصّة ناقة البراء فتجتمع الرّوايات، ولا يمتنع أن يكون للزّهريّ فيه ثلاثة أشياخ.
وقد قال ابن عبد البرّ: هذا الحديث. وإن كان مرسلاً فهو مشهور ، حدّث به الثّقات ، وتلقّاه فقهاء الحجاز بالقبول.
وأمّا إشارة الطّحاويّ إلى أنّه منسوخ بحديث الباب ، فقد تعقّبوه بأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتّاريخ.
وأقوى من ذلك قول الشّافعيّ: أخذنا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله ، ولا يخالفه حديث " العجماء جبار " لأنّه من العامّ المراد به الخاصّ، فلمّا قال " العجماء جبار " وقضى فيما أفسدت العجماء بشيءٍ في حال دون حال دلَّ ذلك على أنّ ما أصابت العجماء
من جرح وغيره في حالٍ جبارٌ ، وفي حالٍ غير جبار.
ثمّ نقض على الحنفيّة. أنّهم لَم يستمرّوا على الأخذ بعمومه في تضمين الرّاكب ، متمسّكين بحديث " الرِّجل جبار " مع ضعف راويه كما سيأتي.
وتعقّب بعضهم على الشّافعيّة قولهم: إنّه لو جرت عادة قومٍ إرسال المواشي ليلاً وحبسها نهاراً. انعكس الحكم على الأصحّ.
وأجابوا: بأنّهم اتّبعوا المعنى في ذلك، ونظيره القسم الواجب للمرأة ، لو كان يكتسب ليلاً ويأوي إلى أهله نهاراً لانعكس الحكم في حقّه. مع أنّ عماد القسم الليل.
نعم. لو اضطربت العادة في بعض البلاد فكان بعضهم يرسلها ليلاً ، وبعضهم يرسلها نهاراً. فالظّاهر أنّه يُقضى بما دلَّ عليه الحديث.
قال ابن بطّال: فرّق الحنفيّة فيما أصابت الدّابّة بيدها أو رجلها ، فقالوا: لا يضمن ما أصابت برجلها وذنبها ولو كانت بسببٍ، ويضمن ما أصابت بيدها وفمها، فأشار البخاريّ إلى الرّدّ بما نقله عن أئمّة أهل الكوفة ممّا يخالف ذلك. (1)
(1) ذكر هذا البخاري في صحيحه قبل ذِكْر حديث الباب. فقال: (باب العجماء جبار) وقال ابن سيرين: كانوا لا يُضمِّنون من النفحة ، ويُضمِّنون من رد العنان. وقال حماد: لا تُضمن النفحة إلَاّ أن ينخس إنسان الدابة. وقال شريح: لا تَضمن ما عاقبتْ أنْ يضربَها فتضرب برجلها. وقال الحكم وحماد: إذا ساق الْمُكاري حماراً عليه امرأة فتخر، لا شيء عليه. وقال الشعبي: إذا ساق دابةً فأتعبها فهو ضامن لِمَا أصابت، وإن كان خلفها مترسلاً لَم يضمن. انتهى
وقد احتجّ لهم الطّحاويّ. بأنّه لا يمكن التّحفّظ من الرّجل والذّنب بخلاف اليد والفم ، واحتجّ برواية سفيان بن حسين " الرّجل جبار " وقد غلَّطه الحفّاظ، ولو صحّ فاليد أيضاً جبار بالقياس على الرّجل. وكلّ منهما مقيّد بما إذا لَم يكن لمن هي معه مباشرة ولا تسبّب.
ويحتمل: أن يقال حديث " الرّجل جبار " مختصر من حديث " العجماء جبار " لأنّها فرد من أفراد العجماء، وهم لا يقولون بتخصيص العموم بالمفهوم فلا حجّة لهم فيه.
وقد وقع في حديث الباب (1) زيادة " والرّجل جبار " أخرجه الدّارقطنيّ من طريق آدم عن شعبة، وقال: تفرّد آدم عن شعبة بهذه الزّيادة. وهي وهْمٌ.
وعند الحنفيّة خلاف ، فقال أكثرهم: لا يضمن الرّاكب والقائد في الرّجل والذّنب إلَاّ إن أوقفها في الطّريق.
وأمّا السّائق ، فقيل: ضامن لِمَا أصابت بيدها أو رجلها لأنّ النّفحة بمرأى عينه فيمكنه الاحتراز عنها.
(1) حديث الباب أخرجه الشيخان من طرق عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة به كما تقدّم تخريجه. وليس فيه هذه الزيادة التي تفرَّد به آدم ، وهي وهْمٌ. كما قال البيهقي في " السنن "(2/ 238). ونقله الشارح عن الدارقطني.
وأخرجه الشيخان أيضاً من طريق الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة به. دون الزيادة. وقد زاد سفيان بن حسين عن الزهري فيه " الرجل جبار " أخرجه أبو داود (4592) والنسائي في " الكبرى "(3/ 412). ونقل الشارحُ اتفاقَ الحفاظِ على تغليط سفيان كما سيأتي.
والرّاجح عندهم لا يضمن النّفحة وإن كان يراها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التّحرّز عنه، بخلاف الفم فإنّه يمنعها باللجام ، وكذا قال الحنابلة.
قوله: (والبئر جبار) في رواية الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند مسلم " والبئر جرحها جبار ".
أمّا البئر: فهي بكسر الموحّدة ثمّ ياء ساكنة مهموزة ويجوز تسهيلها ، وهي مؤنّثة ، وقد تذكّر على معنى القليب والطّوى ، والجمع أبؤرٌ وآبارٌ بالمدّ والتّخفيف وبهمزتين بينهما موحّدة ساكنة.
قال أبو عبيد: المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يُعلم لها مالكٌ. تكون في البادية فيقع فيها إنسانٌ أو دابّةٌ فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حفر بئراً في ملكه أو في موات فوقع فيها إنسان أو غيره فتلف فلا ضمان إذا لَم يكن منه تسبّب إلى ذلك ولا تغرير.
وكذا لو استأجر إنساناً ليحفر له البئر فانهارت عليه فلا ضمان، وأمّا من حفر بئراً في طريق المسلمين وكذا في ملك غيره بغير إذن. فتلف بها إنسان فإنّه يجب ضمانه على عاقلة الحافر والكفّارة في ماله، وإن تلف بها غير آدميّ وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كلّ حفرة على التّفصيل المذكور.
وإلى التّفرقة بين الحفر في ملكه وغيره. ذهب الجمهور، وخالف الكوفيّون.
والمراد بـ جَرحها: وهي بفتح الجيم لا غير كما نقله في النّهاية عن
الأزهريّ. ما يحصل بالواقع فيها من الجراحة ، وليست الجراحة مخصوصة بذلك ، بل كلّ الإتلافات ملحقة بها.
قال عياض وجماعة: إنّما عبّر بالجرح لأنّه الأغلب ، أو هو مثال نبّه به على ما عداه ، والحكم في جميع الإتلافات بها سواء كان على نفس أو مال، ورواية الأكثر تتناول ذلك على بعض الآراء، ولكنّ الرّاجح الذي يحتاج لتقديرٍ لا عموم فيه.
قال ابن بطّال: وخالف الحنفيّة في ذلك فضمّنوا حافر البئر مطلقاً قياساً على راكب الدّابّة، ولا قياس مع النّصّ.
قال ابن العربيّ: اتّفقت الرّوايات المشهورة على التّلفّظ بالبئر، وجاءت رواية شاذّة بلفظ " النّار جبار " بنونٍ وألف ساكنة قبل الرّاء. ومعناه عندهم أنّ من استوقد ناراً ممّا يجوز له فتعدّت حتّى أتلفت شيئاً فلا ضمان عليه. قال:
وقال بعضهم: صحّفها بعضهم ، لأنّ أهل اليمن يكتبون النّار بالياء لا بالألف. فظنّ بعضهم البئر الموحّدة النّار بالنّون فرواها كذلك.
قلت: هذا التّأويل نقله ابن عبد البرّ وغيره عن يحيى بن معين. وجزم بأنّ معمراً صحّفه حيث رواه عن همّام عن أبي هريرة.
قال ابن عبد البرّ: ولَم يأتِ ابن معين على قوله بدليلٍ، وليس بهذا تردّ أحاديث الثّقات.
قلت: ولا يعترض على الحفّاظ الثّقات بالاحتمالات. ويؤيّد ما قاله
ابن معين. اتّفاقُ الحفّاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر البئر دون النّار.
وقد ذكر مسلمٌ أنّ علامة المنكر في حديث المحدّث أن يعمد إلى مشهور بكثرة الحديث والأصحاب فيأتي عنه بما ليس عندهم. وهذا من ذاك.
ويؤيّده أيضاً. أنّه وقع عند أحمد من حديث جابر بلفظ " والجبّ جبارٌ " بجيمٍ مضمومة وموحّدة ثقيلة وهي البئر.
وقد اتّفق الحفّاظ على تغليط سفيان بن حسين حيث روى عن الزّهريّ في حديث الباب " الرّجل جبار " بكسر الرّاء وسكون الجيم، وما ذاك إلَاّ أنّ الزّهريّ مكثر من الحديث والأصحاب ، فتفرّد سفيان عنه بهذا اللفظ. فعُدَّ منكراً.
وقال الشّافعيّ: لا يصحّ هذا.
وقال الدّارقطنيّ: رواه عن أبي هريرة سعيد بن المسيّب وأبو سلمة وعبيد الله بن عبد الله والأعرج وأبو صالح ومحمّد بن زياد ومحمّد بن سيرين فلم يذكروها، وكذلك رواه أصحاب الزّهريّ ، وهو المعروف.
نعم. الحكم الذي نقله ابن العربيّ صحيح. ويمكن أن يتلقّى من حيث المعنى من الإلحاق بالعجماء ، ويلتحق به كلّ جماد، فلو أنّ شخصاً عثر فوقع رأسه في جدارٍ فمات أو انكسر لَم يجب على صاحب الجدار شيء.
قوله: (والمعدن جبار) أي: هَدرٌ. وليس المراد أنه لا زكاة فيه ، ووقع في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم " والمعدن جرحها جبار " والحكم فيه ما تقدّم في البئر ، لكنّ البئر مؤنّثة ، والمعدن مذكّر ، فكأنّه ذكره بالتّأنيث للمؤاخاة أو لملاحظة أرض المعدن.
فلو حفر معدناً في ملكه أو في موات فوقع فيه شخص فمات فدمه هدر، وكذا لو استأجر أجيراً يعمل له فانهار عليه فمات.
ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كلّ أجير على عمل. كمن استؤجر على صعود نخلة فسقط منها فمات.
قال ابن بطّالٍ: ذهب أبو حنيفة والثّوريّ وغيرهما إلى أنّ المعدن كالرّكاز، واحتجّ لهم بقول العرب: أركز الرّجل إذا أصاب ركازاً، وهي قطعٌ من الذّهب تخرج من المعادن. والحجّة للجمهور. تفرقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين المعدن والرّكاز بواو العطف ، فصحّ أنّه غيره.
قال: وما ألزم به البخاريّ (1) القائل المذكور بقوله " قد يقال لمن وهب له الشّيء أو ربح ربحاً كثيراً أو كثر ثمره: أركزت " حجّةٌ بالغةٌ، لأنّه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى، إلَاّ إن أوجب ذلك من يجب التّسليم له، وقد أجمعوا على أنّ المال الموهوب لا يجب فيه الخمس، وإن كان يقال له أركز ، فكذلك المعدن.
(1) ذكر هذا البخاري في صحيحه " باب في الركاز الخمس " فقال: وقال بعض الناس: المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية لأنه يقال أركز المعدن. إذا خرج منه شيء. قيل له: قد يقال لمن وهب له شيء، أو ربح ربحاً كثيراً، أو كثر ثمره أركزت. ثم ناقض ، وقال: لا بأس أن يكتمه فلا يؤدّي الخمس.
وأمّا قوله " ثم ناقض وقال: لا بأس أن يكتمه فلا يؤدي الخمس " فليس كما قال، وإنّما أجاز له أبو حنيفة أن يكتمه إذا كان محتاجاً، بمعنى أنّه يتأوّل أنّ له حقّاً في بيت المال ونصيباً في الفيء ، فأجاز له أن يأخذ الخمس لنفسه عوضاً عن ذلك. لا أنّه أسقط الخمس عن المعدن. انتهى.
وقد نقل الطّحاويّ المسألة التي ذكرها ابن بطّالٍ ، ونقل أيضاً أنّه لو وجد في داره معدناً فليس عليه شيءٌ، وبهذا يتّجه اعتراض البخاريّ.
والفرق بين المعدن والرّكاز في الوجوب وعدمه ، أنّ المعدن يحتاج إلى عملٍ ومئونةٍ ومعالجةٍ لاستخراجه بخلاف الرّكاز، وقد جرت عادة الشّرع أنّ ما غلظت مئونته خفّف عنه في قدر الزّكاة وما خفّت زيد فيه.
وقيل: إنّما جعل في الرّكاز الخمس ، لأنّه مال كافرٍ فنزّل من وجده منزلة الغنائم فكان له أربعة أخماسه.
وقال الزّين بن المنيّر: كأنّ الرّكاز مأخوذٌ من أركزته في الأرض إذا غرزته فيها، وأمّا المعدن فإنّه ينبت في الأرض بغير وضع واضعٍ. هذه حقيقتهما، فإذا افترقا في أصلهما فكذلك في حكمهما.
قوله: (وفي الرّكاز الخمس) الرّكاز بكسر الرّاء وتخفيف الكاف وآخره زايٌ. المال المدفون ، مأخوذٌ من الرّكز بفتح الرّاء يقال: ركزه يركزه ركزاً إذا دفنه فهو مركوزٌ، وهذا متّفقٌ عليه
وهو من دفن الجاهليّة ، بكسر الدّال وسكون الفاء. الشّيء المدفون كذبحٍ بمعنى مذبوحٍ، وأمّا بالفتح فهو المصدر ولا يراد هنا.
وذهب الجمهور: إلى أنّه المال المدفون.
لكن حصره الشّافعيّة. فيما يوجد في الموات، بخلاف ما إذا وجده في طريقٍ مسلوكٍ أو مسجدٍ فهو لقطةٌ، وإذا وجده في أرضٍ مملوكةٍ فإن كان المالك الذي وجده فهو له، وإن كان غيره فإن ادّعاه المالك فهو له وإلَاّ فهو لمن تلقّاه عنه إلى أن ينتهي الحال إلى من أحيا تلك الأرض.
قال الشّيخ تقيّ الدّين بن دقيق العيد: مَن قال من الفقهاء بأنّ في الرّكاز الخمس إمّا مطلقاً أو في أكثر الصّور فهو أقرب إلى الحديث، وخصّه الشّافعيّ أيضاً بالذّهب والفضّة، وقال الجمهور: لا يختصّ، واختاره ابن المنذر.
واختلفوا في مصرفه.
القول الأول: قال مالكٌ وأبو حنيفة والجمهور: مصرفه مصرف خمس الفيء، وهو اختيار المزنيّ.
القول الثاني: قال الشّافعيّ في أصحّ قوليه: مصرفه مصرف الزّكاة. وعن أحمد روايتان.
وينبني على ذلك ما إذا وجده ذمّيٌّ ، فعند الجمهور يخرج منه الخمس ، وعند الشّافعيّ لا يؤخذ منه شيءٌ.
واتّفقوا على أنّه لا يشترط فيه الحول ، بل يجب إخراج الخمس في
الحال.
وأغرب ابن العربيّ في " شرح التّرمذيّ " فحكى عن الشّافعيّ الاشتراط، ولا يعرف ذلك في شيءٍ من كتبه ، ولا من كتب أصحابه.
وقال الشافعي: في قليله وكثيره الخمس وهو قوله في القديم كما نقله ابن المنذر واختاره.
وأمّا الجديد ، فقال: لا يجب فيه الخمس حتّى يبلغ نصاب الزّكاة.
والأوّل قول الجمهور. كما نقله ابن المنذر أيضاً ، وهو مقتضى ظاهر الحديث.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عاصمٍ الأحول عن الحسن قال: إذا وجد الكنز في أرض العدوّ ففيه الخمس، وإذا وجد في أرض العرب ففيه الزّكاة "
قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً فرّق هذه التّفرقة غير الحسن.