المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث السابع 188 - عن أبي هريرة رضي الله عنه ، - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٤

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الزكاة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌كتاب الصيام

- ‌(باب

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب الصوم في السّفر وغيره

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌باب أفضل الصيام وغيره

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌باب ليلة القدر

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌باب الاعتكاف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌كتاب الحجّ

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب ما يلبس المُحرم من الثياب

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب الفدية

- ‌الحديث السابع

- ‌باب حرمة مكة

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب ما يجوز قتله

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب دخول مكة وغيره

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب التّمتّع

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌باب الهدي

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌باب الغسل للمحرم

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌باب فسخ الحجّ إلى العمرة

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌باب المُحرم يأكل من صيد الحلال

- ‌الحديث الأربعون

- ‌الحديث الواحد والأربعون

الفصل: ‌ ‌الحديث السابع 188 - عن أبي هريرة رضي الله عنه ،

‌الحديث السابع

188 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: بينما نحن جلوسٌ عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجلٌ. فقال: يا رسولَ الله ، هلكت. قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي ، وأنا صائمٌ - وفي روايةٍ: أصبت أهلي في رمضان - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبةً تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعرقٍ فيه تمرٌ – والعرق: المكتل – قال: أين السّائل؟ قال: أنا. قال: خذ هذا ، فتصدّق به. فقال الرّجل: على أفقر منّي: يا رسولَ الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه. ثمّ قال: أطعمه أهلك. (1)

قال المصنِّف: الحَرَّة: الأرض تركبها حجارة سود.

قوله: (عن أبي هريرة رضي الله عنه) الحديث رواه عن أبي هريرة حميد بن عبد الرّحمن بن عوف، هكذا توارد عليه أصحاب الزّهريّ ، وقد جمعت منهم في جزءٍ مفردٍ لطرق هذا الحديث أكثر من أربعين نفساً.

منهم: ابن عيينة والليث ومعمرٌ ومنصور عند الشّيخين،

(1) أخرجه البخاري (1834 ، 1835، 2460، 5053، 5737، 5812، 6331، 6333، 6435) ومسلم (1111) من عدّة طرق عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 138

والأوزاعيّ وشعيبٌ وإبراهيم بن سعدٍ عند البخاريّ ومالك، وابن جريجٍ عند مسلم، ويحيى بن سعيد وعراك بن مالك عند النّسائيّ، وعبد الجبّار بن عمر عند أبي عوانة، والجوزقيّ وعبد الرّحمن بن مسافرٍ عند الطّحاويّ، وعقيلٌ عند ابن خزيمة، وابن أبي حفصة عند أحمد، ويونس وحجّاج بن أرطاة وصالح بن أبي الأخضر عند الدّارقطنيّ، ومحمّد بن إسحاق عند البزّار.

وسأذكر ما عند كلٍّ منهم من زيادة فائدةٍ إن شاء الله تعالى.

وخالفهم هشام بن سعد فرواه عن الزّهريّ عن أبي سلمة عن أبي هريرة. أخرجه أبو داود وغيره. قال البزّار وابن خزيمة وأبو عوانة: أخطأ فيه هشام بن سعد.

قلت: وقد تابعه عبد الوهّاب بن عطاء عن محمّد بن أبي حفصة، فرواه عن الزّهريّ أخرجه الدّارقطنيّ في " العلل " والمحفوظ عن ابن أبي حفصة كالجماعة. كذلك أخرجه أحمد وغيره من طريق روح بن عبادة عنه، ويحتمل: أن يكون الحديث عند الزّهريّ عنهما، فقد جمعهما عنه صالح بن أبي الأخضر، أخرجه الدّارقطنيّ في " العلل " من طريقه.

وسيأتي حكاية خلاف آخر فيه على منصور وكذلك حكاية خلافٍ فيه على سفيان بن عيينة إن شاء الله تعالى.

قوله: (أنّ أبا هريرة قال) في رواية ابن جريجٍ عند مسلمٍ ، وعقيلٍ عند ابن خزيمة ، وابن أبي أويسٍ عند الدّارقطنيّ التّصريح بالتّحديث

ص: 139

بين حميدٍ وأبي هريرة.

قوله: (بينما نحن جلوس) أصلها. بين ، وقد ترد بغير " ما " فتشبع الفتحة، ومن خاصّة " بينما " أنّها تتلقّى بإذ وبإذا حيث تجيء للمفاجأة، بخلاف بينا فلا تتلقّى بواحدةٍ منهما، وقد وردا في هذا الحديث كذلك.

قوله: (عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم) فيه حسن الأدب في التّعبير لِمَا تشعر العنديّة بالتّعظيم، بخلاف ما لو قال مع، لكن في رواية الكشميهنيّ " مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ".

قوله: (إذ جاءه رجل) لَم أقف على تسميته، إلَاّ أنّ عبد الغنيّ في المبهمات - وتبعه ابن بشكوال - جزما بأنّه سليمان أو سلمة بن صخر البياضيّ، واستند إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق سليمان بن يسارٍ عن سلمة بن صخر أنّه ظاهر من امرأته في رمضان ، وأنّه وطئها فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: حرّر رقبةً، قلت: ما أملك رقبةً غيرها وضرب صفحة رقبته. قال: فصم شهرين متتابعين. قال: وهل أصبت الذي أصبت إلَاّ من الصّيام؟ قال: فأطعم ستّين مسكينا. قال: والذي بعثك بالحقّ ما لنا طعام. قال: فانطلِق إلى صاحب صدقة بني زريقٍ. فليدفعها إليك.

والظّاهر أنّهما واقعتان ، فإنّ في قصّة المُجامع في حديث الباب أنّه كان صائماً كما سيأتي، وفي قصّة سلمة بن صخر أنّ ذلك كان ليلاً فافترقا.

ص: 140

ولا يلزم من اجتماعهما - في كونهما من بني بياضة ، وفي صفة الكفّارة ، وكونها مرتّبة ، وفي كون كلٍّ منهما كان لا يقدر على شيء من خصالها - اتّحاد القصّتين.

وسنذكر أيضاً ما يؤيّد المغايرة بينهما.

وأخرج ابن عبد البرّ في ترجمة عطاءٍ الخراسانيّ من " التّمهيد " من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيّب ، أنّ الرّجل الذي وقع على امرأته في رمضان في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم. هو سليمان بن صخر.

قال ابن عبد البرّ: أظنّ هذا وهماً، لأنّ المحفوظ أنّه ظاهر من امرأته ، ووقع عليها في الليل لا أنّ ذلك كان منه بالنّهار. انتهى.

ويحتمل: أن يكون قوله في الرّواية المذكورة " وقع على امرأته في رمصان " أي: ليلاً بعد أن ظاهر. فلا يكون وهماً ، ولا يلزم الاتّحاد.

ووقع في مباحث العامّ من " شرح ابن الحاجب " ما يوهم أنّ هذا الرّجل هو أبو بردة بن يسارٍ.

وهو وهمٌ يظهر من تأمّل بقيّة كلامه.

قوله: (فقال: يا رسولَ الله) زاد عبد الجبّار بن عمر عن الزّهريّ " جاء رجل وهو ينتف شعره ويدقّ صدره ويقول: هلك الأبعد " ولمحمّد بن أبي حفصة " يلطم وجهه " ولحجّاج بن أرطاة " يدعو ويله " ، وفي مرسل ابن المسيّب عند الدّارقطنيّ " ويحثي على رأسه التّراب "

ص: 141

واستدل بهذا على جواز هذا الفعل والقول من وقعت له معصيةٌ، ويفرّق بذلك بين مصيبة الدّين والدّنيا. فيجوز في مصيبة الدّين لِمَا يشعر به الحال من شدّة النّدم وصحّة الإقلاع.

ويحتمل: أن تكون هذه الواقعة قبل النّهي عن لطم الخدود وحلق الشّعر عند المصيبة. (1)

قوله: (هلكت) في رواية منصور في البخاري " فقال: إنّ الأَخِرَ هلك " والأخر بهمزةٍ مفتوحةٍ وخاءٍ معجمةٍ مكسورة بغير مدٍّ هو الأبعد، وقيل: الغائب، وقيل: الأرذل. وفي حديث عائشة في الصحيحين " احترقت " وفي رواية ابن أبي حفصة " ما أراني إلَاّ قد هلكت "

واستدل به على أنّه كان عامداً ، لأنّ الهلاك والاحتراق مجازٌ عن العصيان المؤدّي إلى ذلك، فكأنّه جعل المتوقّع كالواقع، وبالغ فعبّر عنه بلفظ الماضي.

وإذا تقرّر ذلك فليس فيه حجّةٌ على وجوب الكفّارة على النّاسي ، وهو مشهور قول مالك والجمهور. وهو القول الأول.

القول الثاني: عن أحمد وبعض المالكيّة: يجب على النّاسي.

وتمسّكوا بترك استفساره عن جِماعه ، هل كان عن عمد أو نسيان، وترك الاستفصال في الفعل ينزّل منزلة العموم في القول كما اشتهر.

والجواب: أنّه قد تبيّن حاله بقوله هلكت واحترقت. فدلَّ على أنّه

(1) انطر حديث ابن مسعود رضي الله عنه الماضي في الجنائز (172).

ص: 142

كان عامداً عارفاً بالتّحريم، وأيضاً فدخول النّسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد.

واستدل بهذا على أنّ من ارتكب معصيةً لا حدّ فيها وجاء مستفتياً أنّه لا يعزّر، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية، وقد ترجم لذلك البخاريّ في الحدود ، وأشار إلى هذه القصّة. (1)

وتوجُّهُه أنّ مجيئه مستفتياً يقتضي النّدم والتّوبة، والتّعزير إنّما جعل للاستصلاح ولا استصلاح من الصّلاح.

وأيضاً فلو عوقب المستفتي لكان سبباً لترك الاستفتاء ، وهي مفسدةٌ. فاقتضى ذلك أن لا يعاقب، هكذا قرّره الشّيخ تقيّ الدّين.

لكن وقع في " شرح السّنّة للبغوىّ ": أنّ من جامع متعمّداً في رمضان فسد صومه ، وعليه القضاء والكفّارة ، ويعزّر على سوء صنيعه، وهو محمولٌ على من لَم يقع منه ما وقع من صاحب هذه القصّة من النّدم والتّوبة، وبناه بعض المالكيّة على الخلاف في تعزير

(1) باب: من أصاب ذنبا دون الحد، فأخبر الإمام، فلا عقوبة عليه بعد التوبة، إذا جاء مستفتياً ، قال عطاء: لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جريج: ولم يعاقب الذي جامع في رمضان. ولم يعاقب عمر، صاحب الظبي ، وفيه عن أبي عثمان، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أورد حديث الباب.

قال ابن حجر: والتقييد بدون الحد يقتضي أن من كان ذنبه يوجب الحد أنَّ عليه العقوبة ولو تاب ، وأما التقييد الأخير فلا مفهوم له ، بل الذي يظهر أنه ذكر لدلالته على توبته قوله (قال عطاء) لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم أي الذي أخبر أنه وقع في معصية بلا مهلة حتى صلَّى معه فأخبره بأنَّ صلاته كفرت ذنبه. قوله (وقال بن جريج ولم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع في رمضان) ليس في شيء من طرقه أنه عاقبه .. إلخ.

ص: 143

شاهد الزّور.

قوله: (قال: ما لَكَ؟) بفتح اللام استفهامٌ عن حاله، وفي رواية عقيلٍ " ويحك ما شأنك؟ " ، ولابن أبي حفصة " وما الذي أهْلَكَك؟ " ولعمرو " ما ذاك؟ ".

وفي رواية الأوزاعيّ " ويحك ما صنعت؟ " أخرجه البخاري في الأدب. وترجم " بابٌ ما جاء في قول الرّجل ويلك ويحك " ثمّ قال عقبه: تابعه يونس عن الزّهريّ يعني في قوله " ويحك " وقال عبد الرّحمن بن خالد عن الزّهريّ: " ويلك ".

قلت: رواية يونس. وصلها البيهقي من طريق عنبسة بن خالد عنه به ، ورواية عبد الرحمن بن خالد. وصلها الطحاوي من طريق الليث عنه به ، وقد تابع ابنَ خالدٍ في قوله " ويلك " صالحُ بن أبي الأخضر.

وتابع الأوزاعيَّ في قوله " ويحك " عقيلٌ وابن إسحاق وحجّاج بن أرطاة. فهو أرجح وهو اللائق بالمقام، فإنّ ويح كلمة رحمةٍ ، وويل كلمة عذاب. والمقام يقتضي الأوّل.

قوله: (وقعت على امرأتي) وفي رواية ابن إسحاق " أصبت أهلي " وفي حديث عائشة " وطئت امرأتي ".

ووقع في رواية مالك وابن جريجٍ وغيرهما - كما سيأتي بيانه بعد قليل في الكلام على التّرتيب والتّخيير - في أوّل الحديث " أنّ رجلاً أفطر في رمضان، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم " الحديث

واستدل به.

ص: 144

وهو القول الأول: على إيجاب الكفّارة على من أفسد صيامه مطلقاً بأيّ شيء كان ، وهو قول المالكيّة.

القول الثاني: الجمهور حملوا قوله " أفطر " هنا على المقيّد في الرّواية الأخرى ، وهو قوله " وقعت على أهلي " وكأنّه قال أفطر بجماعٍ، وهو أولى من دعوى القرطبيّ وغيره تعدّد القصّة.

واحتجّ من أوجب الكفّارة مطلقاً: بقياس الآكل على المُجامع بجامع ما بينهما من انتهاك حرمة الصّوم، وبأنّ من أكره على الأكل فسد صومه كما يفسد صوم من أكره على الجماع بجامع ما بينهما.

وسيأتي بيان التّرجيح بين الرّوايتين في الكلام على التّرتيب.

وقد وقع في حديث عائشة نظير ما وقع في حديث أبي هريرة فمعظم الرّوايات فيها " وطئت " ونحو ذلك، وفي روايةٍ ساق مسلم إسنادها ، وساق أبو عوانة في " مستخرجه " متنها ، أنّه قال " أفطرت في رمضان ".

والقصّة واحدةٌ ومخرجها متّحدٌ. فيحمل على أنّه أراد أفطرت في رمضان بجماعٍ، وقد وقع في مرسل ابن المسيّب عند سعيد بن منصور " أصبتُ امرأتي ظهراً في رمضان ".

وتعيين رمضان معمولٌ بمفهومه، وللفرق في وجوب كفّارة المُجامع في الصّوم بين رمضان وغيره من الواجبات كالنّذر، وفي كلام أبي عوانة في " صحيحه " إشارة إلى وجوب ذلك على من وقع منه في رمضان نهاراً. سواء كان الصّوم واجباً عليه أو غير واجب.

ص: 145

قوله: (وأنا صائم) جملة حاليّة من قوله " وقعت " فيؤخذ منه أنّه لا يشترط في إطلاق اسم المشتقّ بقاء المعنى المشتقّ منه حقيقةً. لاستحالة كونه صائماً مجامعاً في حالةٍ واحدةٍ.

فعلى هذا قوله " وطئت " أي: شرعت في الوطء ، أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم، ووقع في رواية عبد الجبّار بن عمر " وقعت على أهلي اليوم وذلك في رمضان ".

قوله: (هل تجد رقبة تعتقها؟) في رواية منصور " أتجد ما تحرّر رقبةً؟ " بالنصب على البدل من لفظ " ما " وهي مفعول تجد ، وفي رواية ابن أبي حفصة " أتستطيع أن تعتق رقبةً؟ "

وفي رواية إبراهيم بن سعد والأوزاعيّ فقال " أعتق رقبة " زاد في رواية مجاهدٍ عن أبي هريرة فقال " بئسما صنعت أعتق رقبة ".

قوله: (قال: لا) في رواية ابن مسافر " فقال: لا والله يا رسولَ الله " وفي رواية ابن إسحاق " ليس عندي " وفي حديث ابن عمر " فقال: والذي بعثك بالحقّ ما ملكت رقبةً قطّ ".

واستدل بإطلاق الرّقبة على جواز إخراج الرّقبة الكافرة كقول الحنفيّة، وهو ينبني على أنّ السّبب إذا اختلف واتّحد الحكم. هل يقيّد المطلق أو لا؟ وهل تقييده بالقيام أو لا؟.

والأقرب أنّه بالقياس، ويؤيّده التّقييد في مواضع أخرى.

قوله: (قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا) في رواية إبراهيم عن سعد " قال: فصم شهرين متتابعين " ، وفي

ص: 146

حديث سعد " قال: لا أقدر " ، وفي رواية ابن إسحاق " وهل لقيت ما لقيت إلَاّ من الصّيام؟ ".

قال ابن دقيق العيد: لا إشكال في الانتقال عن الصّوم إلى الإطعام، لكنّ رواية ابن إسحاق هذه اقتضت أنّ عدم استطاعته لشدّة شبقه وعدم صبره عن الوقاع. فنشأ للشّافعيّة نظرٌ: هل يكون ذلك عذراً - أي شدّة الشّبق - حتّى يعدّ صاحبه غير مستطيع للصّوم أو لا؟. والصّحيح عندهم اعتبار ذلك، ويلتحق به من يجد رقبة لا غنى به عنها فإنّه يسوغ له الانتقال إلى الصّوم مع وجودها. لكونه في حكم غير الواجد.

وأمّا ما رواه الدّارقطنيّ من طريق شريك عن إبراهيم بن عامر عن سعيد بن المسيّب في هذه القصّة مرسلاً ، أنّه قال في جواب قوله هل تستطيع أن تصوم " إنّي لأدع الطّعام ساعةً فما أطيق ذلك " ففي إسناده مقالٌ، وعلى تقدير صحّته فلعله اعتل بالأمرين.

قوله: (فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً؟ قال: لا) زاد ابن مسافر " يا رسولَ الله ". ووقع في رواية سفيان " فهل تستطيع إطعام؟ "، وفي رواية إبراهيم بن سعد وعراك بن مالك " فتطعم ستّين مسكيناً؟ قال: لا أجد " وفي رواية ابن أبي حفصة " أفتستطيع أن تطعم ستّين مسكيناً؟ قال: لا. وذكر الحاجة. وفي حديث ابن عمر " قال: والذي بعثك بالحقّ. ما أشبع أهلي "

قال ابن دقيق العيد: أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى

ص: 147

ستّين. فلا يكون ذلك موجوداً في حقّ من أطعم ستّة مساكين عشرة أيّام مثلاً، ومن أجاز ذلك فكأنّه استنبط من النّصّ معنًى يعود عليه بالإبطال، والمشهور عن الحنفيّة الإجزاء حتّى لو أطعم الجميع مسكيناً واحداً في ستّين يوماً كفى، والمراد بالإطعام الإعطاء لا اشتراط حقيقة الإطعام من وضع المطعوم في الفم. بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف.

وفي إطلاق الإطعام ما يدلّ على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة، بخلاف زكاة الفرض فإنّ فيها النّصّ على الإيتاء وصدقة الفطر فإنّ فيها النّصّ على الأداء، وفي ذكر الإطعام ما يدلّ على وجود طاعمين فيخرج الطّفل الذي لَم يطعم كقول الحنفيّة، ونظر الشّافعيّ إلى النّوع فقال: يسلم لوليّه، وذكر السّتّين ليفهم أنّه لا يجب ما زاد عليها، ومن لَم يقل بالمفهوم تمسّك بالإجماع على ذلك.

وذكر في حكمة هذه الخصال من المناسبة أنّ من انتهك حرمة الصّوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبةً فيفدي نفسه، وقد صحّ أنّ من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النّار.

وأمّا الصّيام فمناسبته ظاهرةٌ ، لأنّه كالمقاصّة بجنس الجناية، وأمّا كونه شهرين فلأنّه لَمّا أمر بمصابرة النّفس في حفظ كلّ يوم من شهر رمضان على الولاء فلمّا أفسد منه يوماً كان كمن أفسد الشّهر كلّه من حيث إنّه عبادةٌ واحدةٌ بالنّوع ، فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل

ص: 148

المقابلة لنقيض قصده.

وأمّا الإطعام. فمناسبته ظاهرةٌ لأنّه مقابلة كلّ يوم بإطعام مسكين. ثمّ أنّ هذه الخصال جامعة لاشتمالها على حقّ الله وهو الصّوم، وحقّ الأحرار بالإطعام، وحقّ الأرقّاء بالإعتاق، وحقّ الجاني بثواب الامتثال.

وفيه دليلٌ على إيجاب الكفّارة بالجماع خلافاً لمن شذّ ، فقال: لا تجب مستنداً إلى أنّه لو كان واجباً لَمَا سقط بالإعسار.

وتعقّب: بمنع الإسقاط كما سيأتي البحث فيه.

واختلفوا أيضاً. هل يلحق الوطء في الدّبر بالوطء في القبل؟، وهل يشترط في إيجاب الكفّارة كلّ وطء في أيّ فرج كان؟

وفيه دليل على جريان الخصال الثّلاث المذكورة في الكفّارة. ووقع في " المدوّنة " ولا يعرف مالكٌ غير الإطعام ولا يأخذ بعتقٍ ولا صيامٍ.

قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يُهتدى إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثّابت، غير أنّ بعض المحقّقين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوّله على الاستحباب في تقديم الطّعام على غيره من الخصال.

ووجّهوا ترجيح الطّعام على غيره بأنّ الله ذكره في القرآن رخصةً للقادر ثمّ نسخ هذا الحكم، ولا يلزم منه نسخ الفضيلة فيترجّح الإطعام أيضاً لاختيار الله له في حقّ المفطر بالعذر، وكذا أخبر بأنّه في

ص: 149

حقّ من أخّر قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر، ولمناسبة إيجاب الإطعام لجبر فوات الصّيام الذي هو إمساك عن الطّعام، ولشمول نفعه للمساكين.

وكلّ هذه الوجوه لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصّيام ثمّ الإطعام ، سواء قلنا الكفّارة على التّرتيب أو التّخيير ، فإنّ هذه البداءة إن لَم تقتض وجوب التّرتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه.

واحتجّوا أيضاً: بما رواه الشيخان من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة: أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه احترق، قال: ما لك؟، قال: أصبت أهلي في رمضان، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق، فقال: أين المحترق قال: أنا، قال: تصدق بهذ.

ولَم يقع فيه سوى الإطعام.

والجواب عن ذلك: بأنّه ورد فيه من وجه آخر ذكر العتق أيضاً ، فقد رواه عبد الرّحمن بن الحارث عن محمّد بن جعفر بن الزّبير بهذا الإسناد مفسّراً. ولفظه " كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلّ فارعٍ - يعني بالفاء والمهملة - فجاءه رجل من بني بياضة فقال: احترقت، وقعت بامرأتي في رمضان. قال: أعتق رقبة، قال: لا أجدها، قال: أطعم ستّين مسكينا، قال: ليس عندي " فذكر الحديث.

أخرجه أبو داود ، ولَم يسق لفظه، وساقه ابن خزيمة في

ص: 150

" صحيحه " والبخاريّ في " تاريخه ". ومن طريقه البيهقيّ. ولَم يقع في هذه الرّواية أيضاً ذكر صيام شهرين، ومن حفظ حجّةٌ على من لَم يحفظ.

ومن المالكيّة من وافق على هذا الاستحباب، ومنهم مَن قال: إنّ الكفّارة تختلف باختلاف الأوقات: ففي وقت الشّدّة يكون بالإطعام وفي غيرها يكون بالعتق أو الصّوم. ونقلوه عن محقّقي المتأخّرين. ومنهم مَن قال: الإفطار بالجماع يكفّر بالخصال الثّلاث، وبغيره لا يكفّر إلَاّ بالإطعام. وهو قول أبي مصعب.

وقال ابن جريرٍ الطّبريّ: هو مخيّر بين العتق والصّوم ، ولا يطعم إلَاّ عند العجز عنهما

وفي الحديث أنّه لا مدخل لغير هذه الخصال الثّلاث في الكفّارة.

وجاء عن بعض المتقدّمين إهداء البدنة عند تعذّر الرّقبة، وربّما أيّده بعضهم بإلحاق إفساد الصّيام بإفساد الحجّ.

وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيّب عند مالك في " الموطّأ " عن عطاء الخراسانيّ عنه، وهو مع إرساله قد ردّه سعيد بن المسيّب وكذَّبَ مَن نقَلَه عنه. كما روى سعيد بن منصور عن ابن عليّة عن خالد الحذّاء عن القاسم بن عاصم ، قلت لسعيد بن المسيّب: ما حديث حدّثناه عطاءٌ الخراسانيّ عنك. في الذي وقع على امرأته في رمضان أنّه يعتق رقبة أو يهدي بدنة؟ فقال: كذب. فذكر الحديث، وهكذا رواه الليث عن عمرو بن الحارث عن أيّوب عن القاسم بن

ص: 151

عاصم، وتابعه همّام عن قتادة عن سعيد.

وذكر ابن عبد البرّ: أنّ عطاء لَم ينفرد بذلك. فقد ورد من طريق مجاهد عن أبي هريرة موصولاً، ثمّ ساقه بإسناده ، لكنّه من رواية ليث بن أبي سليمٍ عن مجاهد، وليثٌ ضعيف. وقد اضطرب في روايته سنداً ومتناً. فلا حجّة فيه.

وفي الحديث أيضاً أنّ الكفّارة بالخصال الثّلاث على التّرتيب المذكور.

قال ابن العربيّ: لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نقله من أمرٍ بعد عدمه لأمرٍ آخر وليس هذا شأن التّخيير، ونازع عياض في ظهور دلالة التّرتيب في السّؤال عن ذلك فقال: إنّ مثل هذا السّؤال قد يستعمل فيما هو على التّخيير.

وقرّره ابن المنيّر في الحاشية: بأنّ شخصاً لو حنث فاستفتى ، فقال له المفتي: أعتق رقبةً فقال: لا أجد، فقال: صم ثلاثة أيّام .. إلخ، لَم يكن مخالفاً لحقيقه التّخيير، بل يحمل على أنّ إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفّارة.

وقال البيضاويّ (1): ترتيب الثّاني بالفاء على فقد الأوّل ، ثمّ الثّالث بالفاء على فقد الثّاني ، يدلّ على عدم التّخيير مع كونها في معرض البيان وجواب السّؤال فينزّل منزلة الشّرط للحكم.

(1) هو عبدالله بن عمر الشيرازي ، سبق ترجمته (1/ 191)

ص: 152

وسلك الجمهور في ذلك مسلك التّرجيح: بأنّ الذين رووا التّرتيب عن الزّهريّ أكثر ممّن روى التّخيير.

وتعقّبه ابن التّين: بأنّ الذين رووا التّرتيب. ابن عيينة ومعمرٌ والأوزاعيّ، والذين رووا التّخيير. مالك وابن جريجٍ وفليح بن سليمان وعمرو بن عثمان المخزوميّ.

وهو كما قال في الثّاني دون الأوّل، فالذين رووا التّرتيب في البخاريّ الذي أيضاً إبراهيم بن سعد والليث بن سعد وشعيب بن أبي حمزة ومنصور، ورواية هذين في هذا الباب الذي نشرحه وفي الذي يليه، فكيف غفل ابن التّين عن ذلك. وهو ينظر فيه؟.

بل روى التّرتيب عن الزّهريّ كذلك تمام ثلاثين نفساً أو أزيد.

ورجَح التّرتيب أيضاً بأنَّ راويه حكى لفظ القصّة على وجهها ، فمعه زيادة علم من صورة الواقعة، وراوي التّخيير حكى لفظ راوي الحديث. فدلَّ على أنّه من تصرّف بعض الرّواة. إمّا لقصد الاختصار أو لغير ذلك.

ويترجّح التّرتيب أيضاً: بأنّه أحوط ، لأنّ الأخذ به مجزئٌ سواءٌ قلنا بالتّخيير أو لا بخلاف العكس.

وجمع بعضهم بين الرّوايتين كالمُهلَّب والقرطبيّ: بالحمل على التّعدّد. وهو بعيدٌ ، لأنّ القصّة واحدة والمخرج متّحدٌ ، والأصل عدم التّعدّد.

وبعضهم: حمل التّرتيب على الأولويّة والتّخيير على الجواز.

ص: 153

وعكسه بعضهم فقال: " أو " في الرّواية الأخرى ليست للتّخيير وإنّما هي للتّفسير والتّقدير، أمر رجلاً أن يعتق رقبة أو يصوم إن عَجَزَ عن العتق ، أو يطعم إن عجَز عنهما.

وذكر الطّحاويّ: أنّ سبب إتيان بعض الرّواة بالتّخيير أنّ الزّهريّ راوي الحديث قال في آخر حديثه " فصارت الكفّارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين أو الإطعام ". قال: فرواه بعضهم مختصراً مقتصراً على ما ذكر الزّهريّ أنّه آل إليه الأمر.

قال: وقد قصّ عبد الرّحمن بن خالد بن مسافر عن الزّهريّ القصّة على وجهها ، ثمّ ساقه من طريقه مثل حديث الباب إلى قوله " أطعمه أهلك " قال: فصارت الكفّارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستّين مسكيناً.

قلت: وكذلك رواه الدّارقطنيّ في " العلل " من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزّهريّ. وقال في آخره " فصارت سنّة عتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستّين مسكيناً ".

قوله: (فسكت النبي صلى الله عليه وسلم) كذا رواه أبو نعيم في " المستخرج " من وجهين عن أبي اليمان " فسكت " بالمهملة والكاف المفتوحة والمثنّاة، وكذا ابن مسافر وابن أبي الأخضر.

وفي رواية ابن عيينة " فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: اجلس. فجلس ". وللبخاري " فمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم " بالميم والكاف المفتوحة، ويجوز ضمّها والثّاء المثلثة.

ص: 154

قوله: (فبينا نحن على ذلك) في رواية ابن عيينة " فبينما هو جالس كذلك ".

قال بعضهم: يحتمل: أن يكون سبب أمره له بالجلوس انتظار ما يوحى إليه في حقّه، ويحتمل: أنّه كان عرف أنّه سيؤتى بشيءٍ يعينه به، ويحتمل: أن يكون أسقط عنه الكفّارة بالعجز.

وهذا الثّالث ليس بقويٍّ ، لأنّها لو سقطت ما عادت عليه حيث أمره بها بعد إعطائه إيّاه المكتل.

قوله: (أُتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم) كذا للأكثر بضمّ أوّله على البناء للمجهول وهو جواب " بينا " في هذه الرّواية.

وأمّا رواية ابن عيينة المشار إليها فقال فيها " إذ أتي " ، لأنّه قال فيها " فبينما هو جالس " وقد تقدّم تقرير ذلك.

والآتي المذكور لَم يُسمّ ، لكن وقع في رواية معمر عند البخاري " فجاء رجلٌ من الأنصار " وعند الدّارقطنيّ من طريق داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيّب مرسلاً " فأتى رجلٌ من ثقيف " فإن لَم يحمل على أنّه كان حليفاً للأنصار ، أو إطلاق الأنصار بالمعنى الأعمّ. وإلَّا فرواية الصّحيح أصحّ.

ووقع في رواية ابن إسحاق " فجاء رجلٌ بصدقته يحملها " وفي مرسل الحسن عند سعيد بن منصور " بتمرٍ من تمر الصّدقة ".

قوله: (بعَرَقٍ) بفتح المهملة والرّاء بعدها قافٌ.

قال ابن التّين: كذا لأكثر الرّواة، وفي رواية أبي الحسن يعني

ص: 155

القابسيّ بإسكان الرّاء. قال عياض: والصّواب الفتح.

وقال ابن التّين: أنكر بعضهم الإسكان ، لأنّ الذي بالإسكان هو العظم الذي عليه اللحم.

قلت: إن كان الإنكار من جهة الاشتراك مع العظم فلينكر الفتح ، لأنّه يشترك مع الماء الذي يتحلب من الجسد.

نعم. الرّاجح من حيث الرّواية الفتح ومن حيث اللّغة أيضاً، إلَاّ أنّ الإسكان ليس بمنكرٍ ، بل أثبته بعض أهل اللّغة كالقزّاز.

قوله: (والعرق المِكتل) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثنّاة بعدها لام، زاد ابن عيينة عند الإسماعيليّ وابن خزيمة: المكتل الضّخم.

قال الأخفش: سُمِّي المكتل عَرْقاً ، لأنّه يضفّر عرقةً عرقةً جمع. فالعرق جمع عرقة كعلق وعلقةٍ، والعرقة الضّفيرة من الخوص.

وقوله " والعرق المكتل " تفسير من أحد رواته، وظاهر هذه الرّواية أنّه الصّحابيّ، لكن في رواية ابن عيينة ما يشعر بأنّه الزّهريّ، وفي رواية منصور في البخاري " فأتي بعرقٍ فيه تمر وهو الزّبيل ".

وفي رواية ابن أبي حفصة " فأتي بزبيل وهو المكتل ". والزّبيل بفتح الزّاي وتخفيف الموحّدة بعدها تحتانيّة ساكنة ثمّ لام بوزن رغيف. هو المكتل.

قال ابن دريدٍ: يسمّى زبيلاً لحمل الزّبل فيه، وفيه لغة أخرى زنبيل بكسر الزّاي أوّله وزيادة نونٍ ساكنة ، وقد تدغم النّون فتشدّد

ص: 156

الباء مع بقاء وزنه، وجمعه على اللّغات الثّلاث زنابيل.

ووقع في بعض طرق عائشة عند مسلمٍ " فجاءه عرقان " والمشهور في غيرها عرق. ورجّحه البيهقيّ. وجمع غيره بينهما بتعدّد الواقعة.

وهو جمعٌ لا نرضاه لاتّحاد مخرج الحديث ، والأصل عدم التّعدّد.

والذي يظهر أنّ التّمر كان قدر عرق ، لكنّه كان في عرقين في حال التّحميل على الدّابّة ليكون أسهل في الحمل.

فيحتمل أنّ الآتي به لَمّا وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمَن قال عرقان أراد ابتداء الحال ، ومَن قال عرق أراد ما آل إليه، والله أعلم.

قوله: (أين السّائل؟) زاد ابن مسافر " آنفاً " أطلق عليه ذلك ، لأنّ كلامه متضمّن للسّؤال. فإنّ مراده هلكت فما ينجيني وما يخلصني مثلاً؟، وفي حديث عائشة " أين المحترق آنفاً "؟.

وقد تقدّم توجيهه.

ولَم يعيّن في هذه الرّواية مقدار ما في المكتل من التّمر ، بل ولا في شيء من طرق الصّحيحين في حديث أبي هريرة.

ووقع في رواية ابن أبي حفصة " فيه خمسة عشر صاعاً " ، وفي رواية مؤمّلٍ عن سفيان " فيه خمسة عشر أو نحو ذلك " ، وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثّوريّ عن ابن خزيمة " فيه خمسة عشر أو عشرون " وكذا هو عند مالك وعبد الرّزّاق في مرسل سعيد بن المسيّب.

وفي مرسله عند الدّارقطنيّ الجزم بعشرين صاعاً. ووقع في حديث عائشة عند ابن خزيمة " فأتي بعرقٍ فيه عشرون صاعاً ".

ص: 157

قال البيهقيّ: قوله " عشرون صاعاً " بلاغٌ بلغ محمّد بن جعفر. يعني بعض رواته، وقد بيّن ذلك محمّد بن إسحاق عنه فذكر الحديث. وقال في آخره: قال محمّد بن جعفر: فحدّثت بعد أنّه كان عشرين صاعاً من تمر.

قلت: ووقع في مرسل عطاء بن أبي رباح وغيره عند مسدّد " فأمر له ببعضه ".

وهذا يجمع الرّوايات، فمَن قال: إنّه كان عشرين أراد أصل ما كان فيه، ومَن قال: خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفّارة.

ويبيّن ذلك حديث عليٍّ عند الدّارقطنيّ " تطعم ستّين مسكيناً لكل مسكينٍ مدٌّ " وفيه " فأتي بخمسة عشر صاعاً ، فقال: أطعمه ستّين مسكيناً " وكذا في رواية حجّاج عن الزّهريّ عند الدّارقطنيّ في حديث أبي هريرة.

وفيه ردٌّ على الكوفيّين في قولهم: إنّ واجبه من القمح ثلاثون صاعاً ومن غيره ستّون صاعاً، ولقول عطاء: إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعاً، وعلى أشهب في قوله: لو غدّاهم أو عشّاهم كفي تصدّق الإطعام، ولقول الحسن: يطعم أربعين مسكيناً عشرين صاعاً أو بالجماع أطعم خمسة عشر.

وفيه ردٌّ على الجوهريّ حيث قال في الصّحاح: المكتل يشبه الزّبيل يسع خمسة عشر صاعاً لأنّه لا حصر في ذلك، وروي عن مالك أنّه قال: يسع خمسة عشر أو عشرين ، ولعله قال ذلك في هذه القصّة

ص: 158

الخاصّة فيوافق رواية مهران ، وإلا فالظّاهر أنّه لا حصر في ذلك. والله أعلم.

وأمّا ما وقع في رواية عطاء ومجاهد عن أبي هريرة عند الطّبرانيّ في " الأوسط "، أنّه أتي بمكتل فيه عشرون صاعاً فقال: تصدّق بهذا. وقال قبل ذلك: تصدّق بعشرين صاعاً أو بتسع عشرة أو بإحدى وعشرين.

فلا حجّة فيه لِمَا فيه من الشّكّ، ولأنّه من رواية ليث بن أبي سليمٍ وهو ضعيف ، وقد اضطرب فيه، وفي الإسناد إليه مع ذلك من لا يحتجّ به.

ووقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم " فجاءه عرقان فيهما طعام " ووجهه - إن كان محفوظاً - ما تقدّم قريباً. والله أعلم

قوله: (خذ هذا فتصدّق به) كذا للأكثر. ومنهم من ذكره بمعناه.

وزاد ابن إسحاق " فتصدّق به عن نفسك " ، ويؤيّده رواية منصور في البخاري بلفظ " أطعم هذا عنك " ونحوه في مرسل سعيد بن المسيّب من رواية داود بن أبي هند عنه عند الدّارقطنيّ، وعنده من طريق ليث عن مجاهد عن أبي هريرة " نحن نتصدّق به عنك "

القول الأول. استدل بإفراده بذلك على أنّ الكفّارة عليه وحده دون الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة " هل تستطيع " و " هل تجد " وغير ذلك، وهو الأصحّ من قولي الشّافعيّة ، وبه قال الأوزاعيّ.

القول الثاني: قال الجمهور وأبو ثور وابن المنذر: تجب الكفّارة على

ص: 159

المرأة أيضاً ، على اختلافٍ وتفاصيل لهم في الحرّة والأمة والمطاوعة والمكرهة ، وهل هي عليها أو على الرّجل عنها؟.

واستدل الشّافعيّة بسكوته صلى الله عليه وسلم عن إعلام المرأة. بوجوب الكفّارة مع الحاجة.

وأجيب: بمنع وجود الحاجة إذ ذاك ، لأنّها لَم تعترف ، ولَم تسأل. واعتراف الزّوج عليها لا يوجب عليها حكماً ما لَم تعترف، وبأنّها قضيّة حالٍ فالسّكوت عنها لا يدلّ على الحكم. لاحتمال أن تكون المرأة لَم تكن صائمة لعذرٍ من الأعذار.

ثمّ إنّ بيان الحكم للرّجل بيان في حقّها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصّوم كما لَم يأمره بالغسل. والتّنصيص على الحكم في حقّ بعض المكلفين كافٍ عن ذكره في حقّ الباقين.

ويحتمل: أن يكون سبب السّكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنّها لا قدرة لها على شيء.

وقال القرطبيّ: اختلفوا في الكفّارة. هل هي على الرّجل وحده على نفسه فقط ، أو عليه وعليها ، أو عليه كفّارتان عنه وعنها ، أو عليه عن نفسه وعليها عنها؟.

وليس في الحديث ما يدلّ على شيء من ذلك ، لأنّه ساكت عن المرأة فيؤخذ حكمها من دليل آخر. مع احتمال أن يكون سبب السّكوت أنّها كانت غير صائمة.

واستدل بعضهم بقوله في بعض طرق هذا الحديث " هلكتُ

ص: 160

وأهلكتُ " وهي زيادة فيها مقال.

فقال ابن الجوزيّ: في قوله " وأهلكت " تنبيهٌ على أنّه أكرهها ولولا ذلك لَم يكن مهلكاً لها.

قلت: ولا يلزم من ذلك تعدّد الكفّارة بل لا يلزم من قوله " وأهلكت " إيجاب الكفّارة عليها، بل يحتمل أن يريد بقوله " هلكت " أثمت " وأهلكت " أي: كنت سبباً في تأثيم من طاوعتني فواقعها. إذ لا ريب في حصول الإثم على المطاوِعة ، ولا يلزم من ذلك إثبات الكفّارة ولا نفيها.

أو المعنى " هلكت " أي: حيث وقعت في شيء لا أقدر على كفّارته، " وأهلكت " أي: نفسي بفعلي الذي جرّ عليّ الإثم.

وهذا كلّه بعد ثبوت الزّيادة المذكورة، وقد ذكر البيهقيّ: أنّ للحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء.

ومحصّل القول فيها ، أنّها وردت من طريق الأوزاعيّ ، ومن طريق ابن عيينة.

أمّا الأوزاعيّ: فتفرّد بها محمّد بن المسيّب عن عبد السّلام بن عبد الحميد عن عمر بن عبد الواحد والوليد بن مسلم وعن محمّد بن عقبة بن (1) علقمة عن أبيه ثلاثتهم عن الأوزاعيّ.

قال البيهقيّ: رواه جميع أصحاب الأوزاعيّ بدونها ، وكذلك جميع الرّواة عن الوليد وعقبة وعمر، ومحمّد بن المسيّب كان حافظاً مكثراً.

(1) وقع في المطبوع (عن علقمة) وهي تصحيف.

ص: 161

إلَاّ أنّه كان في آخر أمره عمي فلعلَّ هذه اللفظة أدخلت عليه، وقد رواه أبو عليٍّ النّيسابوريّ عنه بدونها.

ويدلّ على بطلانها ما رواه العبّاس بن الوليد عن أبيه قال: سئل الأوزاعيّ عن رجل جامع امرأته في رمضان قال: عليهما كفّارة واحدة إلَاّ الصّيام، قيل له: فإن استكرهها؟ قال: " عليه الصّيام وحده ".

وأمّا ابن عيينة: فتفرّد بها أبو ثور عن معلى بن منصور عنه.

قال الخطّابيّ: المعلَّى ليس بذاك الحافظ.

وتعقّبه ابن الجوزيّ: بأنّه لا يعرِف أحداً طعن في المعلى.

وغفل عن قول الإمام أحمد ، إنّه كان يخطئ كل يومٍ في حديثين أو ثلاثةٍ، فلعله حدّث من حفظه بهذا فوهم، وقد قال الحاكم: وقفت على " كتاب الصّيام للمعلى " بخطٍّ موثوقٍ به ، وليست هذه اللفظة فيه.

وزعم ابن الجوزيّ: أنّ الدّارقطنيّ أخرجه من طريق عقيلٍ أيضاً.

وهو غلطٌ منه. فإنّ الدّارقطنيّ لَم يخرج طريق عقيلٍ في " السّنن " وقد ساقه في " العلل " بالإسناد الذي ذكره عنه ابن الجوزيّ بدونها.

تنْبيه: القائل بوجوب كفّارةٍ واحدةٍ على الزّوج عنه وعن موطوءته ، يقول: يعتبر حالهما. فإن كانا من أهل العتق أجزأت رقبة، وإن كانا من أهل الإطعام أطعم ما سبق، وإن كانا من أهل الصّيام صاما جميعاً، فإن اختلف حالهما ففيه تفريعٌ محلّه كتب الفروع.

ص: 162

قوله: (فقال الرّجل: على أفقر منّي) أي: أتصدّق به على شخصٍ أفقر منّي؟ وهذا يشعر بأنّه فهم الإذن له في التّصدّق على من يتّصف بالفقر، وقد بيّن ابن عمر في حديثه ذلك. فزاد فيه " إلى من أدفعه؟ قال: إلى أفقر من تعلم " أخرجه البزّار والطّبرانيّ في " الأوسط ".

وفي رواية إبراهيم بن سعد " أعلى أفقر من أهلي "؟ ولابن مسافر " أعلى أهل بيت أفقر منّي "؟ ، وللأوزاعيّ " أعلى غير أهلي "؟ ولمنصورٍ " أعلى أحوج منّا " ، ولابن إسحاق " وهل الصّدقة إلَاّ لي وعليّ "؟

قوله: (فوالله ما بين لابتيها) تثنية لابةٍ بتخفيف الموحدة. وهي الحرة وهي الحجارة السود ، والضّمير للمدينة ، لأنها بين لابتين شرقية وغربية ، ولها لابتان أيضاً من الجانبين الآخرين إلَاّ أنهما يرجعان إلى الأولين لاتصالهما بهما.

قوله: (يريد الحرّتين) من كلام بعض رواته، زاد في رواية ابن عيينة ومعمرٍ " والذي بعثك بالحقّ " ، ووقع في حديث ابن عمر المذكور " ما بين حرّتيها ".

وفي رواية الأوزاعيّ عند البخاري " والذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة " تثنية طنب - وهو بضمّ الطّاء المهملة بعدها نون - والطّنب أحد أطناب الخيمة فاستعاره للطّرف.

قوله: (أهل بيت أفقر من أهل بيتي) زاد يونس " منّي ومن أهل بيتي " وفي رواية إبراهيم بن سعد " أفقر منّا ". وأفقر بالنّصب على

ص: 163

أنّها خبر ما النّافية، ويجوز الرّفع على لغة تميم.

وفي رواية عقيل " ما أحدٌ أحقّ به من أهلي، ما أحدٌ أحوج إليه منّي " وفي أحقّ وأحوج ما في أفقر.

وفي مرسل سعيد من رواية داود عنه " والله ما لعيالي من طعام " ، وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة " ما لنا عشاء ليلةٍ "

قوله: (فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه) في رواية ابن إسحاق " حتّى بدت نواجذه "(1) ولأبي قرّة في " السّنن " عن ابن جريجٍ " حتّى بدت ثناياه " ولعلها تصحيف من أنيابه. فإنّ الثّنايا تبين بالتّبسّم غالباً ، وظاهر السّياق إرادة الزّيادة على التّبسّم.

ويُحمل ما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أنّ ضحكه كان تبسّماً على غالب أحواله، وقيل: كان لا يضحك إلَاّ في أمرٍ يتعلق بالآخرة. فإن كان في أمر الدّنيا لَم يزد على التّبسّم.

قيل: وهذه القضيّة تعكّر عليه ، وليس كذلك. فقد قيل: إنّ سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم كان من تباين حال الرّجل حيث جاء خائفاً على نفسه راغباً في فدائها مهما أمكنه، فلمّا وجد الرّخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفّارة.

وقيل: ضحك من حال الرّجل في مقاطع كلامه وحسن تأتّيه وتلطّفه في الخطاب وحسن توسّله في توصّله إلى مقصوده.

(1) وهذه الرواية أخرجها البخاري أيضاً في صحيحه (6709) من طريق سفيان عن الزهري به.

ص: 164

والذي يظهر من مجموع الأحاديث: أنّه صلى الله عليه وسلم كان في معظم أحواله لا يزيد على التّبسّم، وربّما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنّما هو الإكثار منه أو الإفراط فيه ، لأنّه يذهب الوقار.

قال ابن بطّال: والذي ينبغي أن يقتدى به من فعله ما واظب عليه من ذلك، فقد روى البخاريّ في " الأدب المفرد " وابن ماجه من وجهين عن أبي هريرة رفعه " لا تكثر الضّحك. فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب ".

قوله: (ثمّ قال: أطعمه أهلك) كذا في رواية شعيب ، وتابعه معمر وابن أبي حفصة، وفي رواية لابن عيينة في البخاري " أطعمه عيالك " ولإبراهيم بن سعد " فأنتم إذاً " وقدّم على ذلك ذكر الضّحك، ولأبي قرّة عن ابن جريجٍ " ثمّ قال: كله " ونحوه ليحيى بن سعيد وعراك.

وجمع بينهما ابن إسحاق ولفظه " خذها وكلها وأنفقها على عيالك " ونحوه في رواية عبد الجبّار وحجّاج وهشام بن سعد كلّهم عن الزّهريّ، ولابن خزيمة في حديث عائشة " عد به عليك وعلى أهلك ".

وقال ابن دقيق العيد: تباينت في هذه القصّة المذاهب.

فقيل: إنّه دلَّ على سقوط الكفّارة بالإعسار المقارن لوجوبها ، لأنّ الكفّارة لا تصرف إلى النّفس ولا إلى العيال، ولَم يبيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم استقرارها في ذمّته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشّافعيّة ، وجزم به

ص: 165

عيسى بن دينار من المالكيّة.

وقال الأوزاعيّ: يستغفر الله ، ولا يعود.

ويتأيّد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن لسبب وجوبها وهو هلال الفطر، لكنّ الفرق بينهما أنّ صدقة الفطر لها أمدٌ تنتهي إليه، وكفّارة الجماع لا أمد لها فتستقرّ في الذّمّة، وليس في الخبر ما يدلّ على إسقاطها بل فيه ما يدلّ على استمرارها على العاجز.

وقال الجمهور: لا تسقط الكفّارة بالإعسار، والذي أذن له في التّصرّف فيه ليس على سبيل الكفّارة.

ثمّ اختلفوا:

فقال الزّهريّ: هو خاصّ بهذا الرّجل، وإلى هذا نحا إمام الحرمين (1)، وردّ بأنّ الأصل عدم الخصوصيّة.

وقال بعضهم: هو منسوخ، ولَم يبيّن قائله ناسخه.

وقيل: المراد بالأهل الذين أمر بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقته من أقاربه، وهو قول بعض الشّافعيّة، وضعّف بالرّواية الأخرى التي فيها عيالك، وبالرّواية المصرّحة بالإذن له في الأكل من ذلك.

وقيل: لَمّا كان عاجزاً عن نفقة أهله. جاز له أن يصرف الكفّارة لهم، وهذا هو ظاهر الحديث، وهو الذي حمل أصحاب الأقوال الماضية على ما قالوه بأنّ المرء لا يأكل من كفّارة نفسه.

قال الشّيخ تقيّ الدّين: وأقوى من ذلك أن يجعل الإعطاء لا على

(1) هو عبدالملك الجويني ، سبق ترجمته (1/ 283)

ص: 166

جهة الكفّارة ، بل على جهة التّصدّق عليه وعلى أهله بتلك الصّدقة لِمَا ظهر من حاجتهم، وأمّا الكفّارة فلم تسقط بذلك، ولكن ليس استقرارها في ذمّته مأخوذاً من هذا الحديث.

وأمّا ما اعتلّوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه، لأنّ العلم بالوجوب قد تقدّم، ولَم يرد في الحديث ما يدلّ على الإسقاط ، لأنّه لَمّا أخبره بعجزه ثمّ أمره بإخراج العرق دلَّ على أن لا سقوط عن العاجز، ولعله أخّر البيان إلى وقت الحاجة وهو القدرة. انتهى

وقد ورد ما يدلّ على إسقاط الكفّارة أو على إجزائها عنه بإنفاقه إيّاها على عياله وهو قوله في حديث عليٍّ " وكله أنت وعيالك. فقد كفّر الله عنك ". ولكنّه حديثٌ ضعيفٌ لا يحتجّ بما انفرد به.

والحقّ أنّه لَمّا قال له صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فتصدّق به. لَم يقبضه ، بل اعتذر بأنّه أحوج إليه من غيره فأذن له حينئذٍ في أكله، فلو كان قبضه لملكه ملكاً مشروطاً بصفةٍ وهو إخراجه عنه في كفّارته.

فينبني على الخلاف المشهور في التّمليك المقيّد بشرطٍ، لكنّه لَمّا لَم يقبضه لَم يملكه، فلمّا أذن له صلى الله عليه وسلم في إطعامه لأهله وأكله منه كان تمليكاً مطلقاً بالنّسبة إليه وإلى أهله وأخذهم إيّاه بصفة الفقر المشروحة.

وقد تقدّم أنّه كان من مال الصّدقة، وتصرّف النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه تصرّف الإمام في إخراج مال الصّدقة، واحتمل إنّه كان تمليكاً بالشّرط الأوّل. ومن ثَمَّ نشأ الإشكال.

ص: 167

والأوّل أظهر. فلا يكون فيه إسقاط ، ولا أكل المرء من كفّارة نفسه ، ولا إنفاقه على من تلزمه نفقتهم من كفّارة نفسه.

وأمّا ترجمة البخاريّ الباب الذي يليه " بابٌ المُجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفّارة إذا كانوا محاويج " فليس فيه تصريح بما تضمنّه حكم التّرجمة. وإنّما أشار إلى الاحتمالين المذكورين بإتيانه بصيغة الاستفهام. والله أعلم.

واستدل به على جواز إعطاء الصّدقة جميعها في صنفٍ واحدٍ.

وفيه نظرٌ ، لأنّه لَم يتعيّن أنّ ذلك القدر هو جميع ما يجب على ذلك الرّجل الذي أحضر التّمر.

واستُدل به:

وهو القول الأول. على سقوط قضاء اليوم الذي أفسده المُجامع اكتفاءً بالكفّارة، إذ لَم يقع التّصريح في الصّحيحين بقضائه ، وهو محكيٌّ في مذهب الشّافعيّ.

القول الثاني: عن الأوزاعيّ: يقضي إن كفّر بغير الصّوم ، وهو وجهٌ للشّافعيّة أيضاً.

قال ابن العربيّ: إسقاط القضاء لا يشبه منصب الشّافعيّ. إذ لا كلام في القضاء لكونه أفسد العبادة ، وأمّا الكفّارة فإنّما هي لِمَا اقترف من الإثم، قال: وأمّا كلام الأوزاعيّ فليس بشيء.

قلت: وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث في رواية أبي أويس وعبد الجبّار وهشام بن سعد كلّهم عن الزّهريّ، وأخرجه البيهقيّ

ص: 168

من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزّهريّ، وحديث إبراهيم بن سعد في الصّحيح عن الزّهريّ نفسه بغير هذه الزّيادة، وحديث الليث عن الزّهريّ في الصّحيحين بدونها، ووقعت الزّيادة أيضاً في مرسل سعيد بن المسيّب ونافع بن جبير والحسن ومحمّد بن كعب.

وبمجموع هذه الطّرق تعرف أنّ لهذه الزّيادة أصلاً. (1)

(1) قال البخاري في " صحيحه " في كتاب الصوم: باب إذا جامع في رمضان ، ويذكر عن أبي هريرة رفعه: من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه. وبه قال ابن مسعود ، وقال سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقضي يوماً مكانه. انتهى

قال الشارح رحمه الله: قوله: (باب إذا جامع في رمضان) أي: عامداً عالماً وجبت عليه الكفارة.

وقوله: (ويذكر عن أبي هريرة رفعه: من أفطر يوما من رمضان من غير عذرٍ ولا مرضٍ لم يقضه صيام الدهر وإن صامه)

وصله أصحاب السنن الأربعة وصحَّحه ابن خزيمة من طريق سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن عمارة بن عمير عن أبي المطوّس عن أبيه عن أبي هريرة نحوه، وفي رواية شعبة " في غير رخصة رخصها الله تعالى له لم يقض عنه وإن صام الدهر كله ". قال الترمذي: سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس لا أعرف له غير هذا الحديث.

وقال البخاري في التاريخ أيضا: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ، ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا.

قلت: واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافاً كثيراً فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب ، والجهل بحال أبي المطوس ، والشك في سماع أبيه من أبي هريرة.

وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء.

وذكر ابن حزم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثله موقوفاً.

قال ابن بطال: أشار بهذا الحديث إلى إيجاب الكفارة على من أفطر بأكل أو شرب قياساً على الجماع، والجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدا. وقرر ذلك الزين بن المنير بأنه ترجم بالجماع لأنه الذي ورد فيه الحديث المسند، وإنما ذكر آثار الإفطار ليفهم أن الإفطار بالأكل والجماع واحد. انتهى.

والذي يظهر لي أنَّ البخاري أشار بالآثار التي ذكرها إلى أن إيجاب القضاء مختلف فيه بين السلف، وأنَّ الفطر بالجماع لا بد فيه من الكفارة.

وأشار بحديث أبي هريرة إلى أنه لا يصحّ لكونه لم يجزم به عنه، وعلى تقدير صحته فظاهره يقوِّي قول من ذهب إلى عدم القضاء في الفطر بالأكل بل يبقى ذلك في ذمته زيادة في عقوبته لأنَّ مشروعية القضاء تقتضي رفع الإثم، لكن لا يلزم من عدم القضاء عدم الكفارة فيما ورد فيه الأمر بها وهو الجماع.

والفرق بين الانتهاك بالجماع والأكل ظاهر فلا يصح القياس المذكور. انتهى.

ص: 169

ويؤخذ من قوله " صم يوماً " عدم اشتراط الفوريّة للتّنكير في قوله " يوماً ".

وفي الحديث من الفوائد - غير ما تقدّم - السّؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفاً للشّرع، والتّحدّث بذلك لمصلحة معرفة الحكم.

واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه. لقوله " واقعت أو أصبت " على أنّه قد ورد في بعض طرقه - كما تقدّم - وطئت، والذي يظهر أنّه من تصرّف الرّواة. وفيه الرّفق بالمتعلم والتّلطّف في التّعليم والتّألّف على الدّين، والنّدم على المعصية، واستشعار الخوف.

وفيه الجلوس في المسجد لغير الصّلاة من المصالح الدّينيّة كنشر العلم، وفيه جواز الضّحك عند وجود سببه، وإخبار الرّجل بما يقع منه مع أهله للحاجة.

وفيه الحلف لتأكيد الكلام، وقبول قول المكلف ممّا لا يطّلع عليه إلَاّ من قِبَله. لقوله في جواب قوله أفقر منّا " أطعمه أهلك " ويحتمل

ص: 170

: أن يكون هناك قرينة لصدقه.

وفيه التّعاون على العبادة والسّعي في إخلاص المسلم وإعطاء الواحد فوق حاجته الرّاهنة، وإعطاء الكفّارة أهل بيتٍ واحدٍ، وأنّ المضطرّ إلى ما بيده لا يجب عليه أن يعطيه أو بعضه لمضطرٍّ آخر.

واستدل به البخاري بأن قبض الهبة جائز وإن لَم يقل قبلت ، ونقل فيه ابن بطّال اتّفاق العلماء، وأنّ القبض في الهبة هو غاية القبول، وغفل رحمه الله عن مذهب الشّافعيّ، فإنّ الشّافعيّة يشترطون القبول في الهبة دون الهديّة، إلَاّ إن كانت الهبة ضمنيّة كما لو قال: أعتق عبدك عنّي. فعتقه عنه فإنّه يدخل في ملكه هبة ويعتق عنه ، ولا يشترط القبول.

ومقابل إطلاق ابن بطّال قول الماورديّ: قال الحسن البصريّ: لا يعتبر القبول في الهبة كالعتق، قال: وهو قول شذّ به عن الجماعة ، وخالف فيه الكافّة ، إلَاّ أن يريد الهديّة فيحتمل. انتهى.

على أنّ في اشتراط القبول في الهديّة وجهاً عند الشّافعيّة. والغرض منه أنّه صلى الله عليه وسلم أعطى الرّجل التّمر فقبضه ولَم يقل قبِلت، ثمّ قال له:" اذهب فأطعمه أهلك ".

ولمن اشترط القبول أن يجيب عن هذا بأنّها واقعة عين فلا حجّة فيها، ولَم يصرّح فيها بذكر القبول ولا بنفيه، وقد اعترض الإسماعيليّ بأنّه ليس في الحديث أنّ ذلك كان هبة، بل لعله كان من الصّدقة فيكون قاسماً لا واهباً. انتهى

ص: 171

وقد تقدّم التّصريح بأنّ ذلك كان من الصّدقة، وكأنّ البخاري يجنح إلى أنّه لا فرق في ذلك.

وفيه أنه كما جاز إعانة المعسر بالكفّارة عن وقاعه في رمضان كذلك تجوز إعانة المعسر بالكفّارة عن يمينه إذا حنث فيه.

قال ابن المنير: قوله " أطعمه أهلك " إذا جاز إعطاء الأقرباء. فالبعداء أجوز، وقاس البخاري كفّارة اليمين على كفّارة الجماع في الصّيام في إجازة الصّرف إلى الأقرباء.

قلت: وهو على رأي من حمل قوله " أطعمه أهلك " على أنّه في الكفّارة، وأمّا من حمله على أنّه أعطاه التّمر المذكور في الحديث لينفقه عليهم وتستمرّ الكفّارة في ذمّته إلى أن يحصل له يسرةٌ فلا يتّجه الإلحاق، وكذا على قول من يقول تسقط عن المعسر مطلقاً.

وقد تقدّم البحث فيه، ومذهب الشّافعيّ جواز إعطاء الأقرباء إلَاّ من تلزمه نفقته.

ومن فروع المسألة.

القول الأول: اشتراط الإيمان فيمن يعطيه. وهو قول الجمهور.

القول الثاني: أجاز أصحاب الرّأي إعطاء أهل الذّمّة منه. ووافقهم أبو ثور.

القول الثالث: قال الثّوريّ: يجزئ إن لَم يجد المسلمين، وأخرج ابن أبي شيبة عن النّخعيّ والشّعبيّ مثله ، وعن الحكم كالجمهور.

وقد اعتنى به بعض المتأخّرين ممّن أدركه شيوخنا. فتكلَّم على

ص: 172

الحديث في مجلدين جمع فيهما ألف فائدةٍ وفائدةٍ، ومحصّله إن شاء الله تعالى فيما لخّصته مع زياداتٍ كثيرةٍ عليه، فلله الحمد على ما أنعم.

ص: 173