الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فسخ الحجّ إلى العمرة
الحديث التاسع والعشرون
244 -
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال: أهلَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحجّ. وليس مع أحدٍ منهم هديٌ غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم وطلحة ، وقدم عليّ رضي الله عنه من اليمن. فقال: أهللت بما أهل به النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه: أن يجعلوها عمرةً ، فيطوفوا ثمّ يقصّروا ويحلّوا ، إلَاّ من كان معه الهدي ، فقالوا: ننطلق إلى منىً وذكَرُ أحدِنا يقطر؟ فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أنّ معي الهدي لأحللتُ. وحاضتْ عائشة ، فنسكتِ المناسك كلها ، غير أنّها لَم تطف بالبيت. فلمّا طهُرت وطافت بالبيت ، قالت: يا رسولَ الله ، ينطلقون بحجٍّ وعمرةٍ ، وأنطلق بحجٍّ. فأمر عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ: أن يخرج معها إلى التّنعيم فاعتمرت بعد الحجّ. (1)
قوله: (وليس مع أحدٍ منهم هديٌ غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم وطلحة) هو ابن عبيد الله. هذا مخالف لِمَا رواه أحمد ومسلم وغيرهما من طريق عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ، أنّ الهدي كان مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وذوي اليسار.
(1) أخرجه البخاري (1482 ، 1493 ، 1568 ، 1693 ، 2371 ، 4095 ، 6803 ، 6933) ومسلم (1216) من طرق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر به مطوّلاً ومختصراً. واللفظ للبخاري.
وأخرجه مسلم (1213 ، 1214 ، 1215) من طريق أبي الزبير عن جابر نحوه.
وللبخاري من طريق أفلح عن القاسم بلفظ " ورجال من أصحابه ذوي قوّة ".
ويجمع بينهما: بأنّ كلاً منهما ذكر من اطّلع عليه، وقد روى مسلم أيضاً من طريق مسلم القرّي - وهو بضمّ القاف وتشديد الرّاء - عن ابن عبّاس في هذا الحديث " وكان طلحة ممّن ساق الهدي فلم يحلّ ".
وهذا شاهد لحديث جابر في ذِكر طلحة في ذلك ، وشاهد لحديث عائشة في أنّ طلحة لَم ينفرد بذلك ، وداخل في قولها " وذوي اليسار ".
ولمسلمٍ من حديث أسماء بنت أبي بكر ، أنّ الزّبير كان ممّن كان معه الهدي.
قوله: (وقدم عليٌّ من اليمن) في رواية ابن جريجٍ عن عطاء عند مسلم " من سعايته " وللبخاري " بسعايته " بكسر السّين المهملة. يعني: ولايته على اليمن لا بسعاية الصّدقة.
قال النّوويّ تبعاً لغيره: لأنّه كان يحرم عليه ذلك كما ثبت في صحيح مسلم في قصّة طلب الفضل بن العبّاس أن يكون عاملاً على الصّدقة، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّها أوساخ النّاس. والله أعلم
قوله: (بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية ابن جريجٍ عن عطاء عن جابر، وعن ابن جريجٍ عن طاوسٍ عن ابن عبّاس في هذا الحديث عند البخاري " فقال أحدهما: يقول لبّيك بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: يقول: لبّيك بحجّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي.
فأقرّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك فجاز الإحرام على الإبهام، لكن لا يلزم منه جواز تعليقه إلَاّ على فعل من يتحقّق أنّه يعرفه كما وقع في حديث الباب.
وأمّا مطلق الإحرام على الإبهام.
القول الأول: هو جائز ، ثمّ يصرفه المُحرم لِمَا شاء ، لكونه صلى الله عليه وسلم لَم ينه عن ذلك. وهذا قول الجمهور.
القول الثاني: عن المالكيّة لا يصحّ الإحرام على الإبهام ، وهو قول الكوفيّين.
قال ابن المنيّر: وكأنّه مذهب البخاريّ لأنّه أشار بالتّرجمة (1) إلى أنّ ذلك خاصّ بذلك الزّمن ، لأنّ عليّاً وأبا موسى (2) لَم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفيّة الإحرام فأحالاه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمّا الآن فقد استقرّت الأحكام وعرفت مراتب الإحرام فلا يصحّ ذلك. والله أعلم.
وكأنّه أخذ الإشارة من تقييده بزمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة فيطوفوا) في رواية لهما " أَحِلُّوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصّروا، ثم أقيموا حلالاً، حتى إذا كان يوم التروية فأهلِّوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة " أي: اجعلوا الحجّة المفردة التي
(1) ترجم عليه (باب مَن أهلَّ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم)
(2)
حديث أبي موسى متفق عليه ، وقد تقدَّم ذكره قريباً.
أهللتم بها عمرة تتحللوا منها فتصيروا متمتّعين، فأطلق على العمرة متعة مجازاً. والعلاقة بينهما ظاهرة.
ووقع في رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عند مسلم " فلمّا قدمنا مكّة أمرنا أن نحلّ ونجعلها عمرة ". ونحوه في رواية الباقر عن جابر في الخبر الطّويل عند مسلم.
زاد ابن جريجٌ عن عطاء فيه " وأصيبوا النّساء " قال عطاء: ولَم يعزم عليهم ، ولكن أحلهنّ لهم، يعني: إتيان النّساء، لأنّ من لازم الإحلال إباحة إتيان النّساء، وإذنه لهم في جماع نسائهم إشارة إلى المبالغة في الإحلال، إذ الجماع يفسد النّسك دون غيره من محرّمات الإحرام، ووقع في رواية حمّاد بن زيد عن ابن جريجٍ في البخاري " فأمرنا فجعلناها عمرة، وأن نحلّ إلى نسائنا.
قوله: (ثم يقصروا) إنّما أمرهم بذلك ، لأنّهم يهلّون بعد قليل بالحجّ فأخّر الحلق ، لأنّ بين دخولهم وبين يوم التّروية أربعة أيّام فقط.
قوله: (فقالوا: ننطلق إلى منىً وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ ذلك النّبيّ ..) في رواية لهما عن ابن جريج عن عطاء ، فبلغه أنا نقول: لَمَّا لَم يكن بيننا وبين عرفة إلَاّ خمس، أمرنا أن نحل إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المذي، قال: ويقول جابر بيده هكذا. وحركها.
وقوله " لَمَّا لَم يكن بيننا وبين عرفة إلَاّ خمس "، أي: أوّلها ليلة الأحد وآخرها ليلة الخميس؛ لأنّ توجّههم من مكّة كان عشيّة
الأربعاء. فباتوا ليلة الخميس بمنًى ودخلوا عرفة يوم الخميس.
قوله " فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المذي " في رواية المستمليّ " المنيّ " وكذا عند الإسماعيليّ.
ويؤيّده ما وقع في رواية حمّاد بن زيد بلفظ " فيروح أحدنا إلى منًى ، وذكره يقطر منيّاً " وإنّما ذكر منًى؛ لأنّهم يتوجّهون إليها قبل توجّههم إلى عرفة.
وقوله " ويقول جابر بيده هكذا وحرّكها " أي: أمالها، وفي رواية حمّاد بن زيد بلفظ: فقال جابر بكفّه. أي: أشار بكفّه.
قال الكرمانيّ: هذه الإشارة لكيفيّة التّقطّر ، ويحتمل أن يكون إلى محلّ التّقطّر ، ووقع في رواية الإسماعيليّ قال: يقول جابر: كأنّي أنظر إلى يده يحرّكها ". وهذا يحتمل أن يكون مرفوعاً.
قوله: (فقال: لو استقبلت من أمري) زاد في رواية ابن جريج عن عطاء: قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لَم أسق الهدي، فحِلِّوا. فحللنا وسمعنا وأطعنا .. الحديث.
قوله: (ولولا أنّ معي الهدي لأحللت) في رواية لهما من طريق أبي شهاب عن عطاء " ولكن لا يحل مني حِرامٌ حتى يبلغ الهدي محله. ففعلوا " وقوله " حِرام " بكسر حاء يحلّ. أي: شيء حرام، والمعنى لا يحلّ منّي ما حرم عليّ.
ووقع في رواية مسلم " لا يحلّ منّي حراماً " بالنّصب على المفعوليّة.
وعلى هذا فيقرأ يحلّ بضمّ أوّله ، والفاعل محذوف تقديره ، لا يحلّ طول المكث ونحو ذلك منّي شيئاً حراماً حتّى يبلغ الهدي محلّه، أي: إذا نحر يوم منًى.
واستدل به على أنّ من اعتمر فساق هدياً لا يتحلل من عمرته حتّى ينحر هديه يوم النّحر، وقد تقدّم حديث حفصة نحوه. (1)
ولهما من حديث عائشة من طريق عقيل عن الزّهريّ عن عروة عنها بلفظ " من أحرم بعمرةٍ فأهدى فلا يحلّ حتّى ينحر ".
وتأوّل ذلك المالكيّة والشّافعيّة: على أنّ معناه ، ومن أحرم بعمرةٍ وأهدى فليهل بالحجّ. ولا يحلّ حتّى ينحر هديه، ولا يخفى ما فيه.
قلت: فإنّه خلاف ظاهر الأحاديث المذكورة. وبالله التّوفيق.
قوله: (وأنّ عائشة حاضت) في رواية عائشة نفسها كما في الصحيحين " أنّ حيضها كان بسرف قبل دخولهم مكّة، وفي رواية أبي الزّبير عن جابر عند مسلم ، أنّ دخول النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليها وشكواها ذلك له كان يوم التّروية.
ووقع عند مسلم من طريق مجاهد عن عائشة ، أنّ طهرها كان بعرفة " وفي رواية القاسم عنها ، وطهرت صبيحة ليلة عرفة حتّى قدمنا منًى، وله من طريقه " فخرجت في حجّتي حتّى نزلنا منًى فتطهّرت، ثمّ طفنا بالبيت " الحديث.
واتّفقت الرّوايات كلّها على أنّها طافت طواف الإفاضة من يوم
(1) تقدَّم برقم (236).
النّحر.
واقتصر النّوويّ في " شرح مسلم " على النّقل عن أبي محمّد بن حزم ، أنّ عائشة حاضت يوم السّبت ثالث ذي الحجّة وطهرت يوم السّبت عاشره يوم النّحر، وإنّما أخذه ابن حزم من هذه الرّوايات التي في مسلم.
ويجمع بين قول مجاهد وقول القاسم: أنّها رأت الطّهر وهي بعرفة ، ولَم تتهيّأ للاغتسال إلَاّ بعد أن نزلت منًى، وانقطع الدّم عنها بعرفة وما رأت الطّهر إلَاّ بعد أن نزلت منًى، وهذا أولى. والله أعلم. (1)
قوله: (فنسكت المناسك كلها ، غير أنّها لَم تطف بالبيت) ولهما من حديث عائشة " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ". وهو بفتح التّاء والطّاء المهملة المشدّدة وتشديد الهاء أيضاً.
أو هو على حذف إحدى التّاءين، وأصله تتطهّري. ويؤيّده قوله في رواية مسلم " حتّى تغتسلي ".
والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطّواف حتّى ينقطع دمها وتغتسل ، لأنّ النّهي في العبادات يقتضي الفساد وذلك يقتضي بطلان الطّواف لو فعلته ، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث. وهو قول الجمهور.
وذهب جمعٌ من الكوفيّين: إلى عدم الاشتراط.
(1) قال الشارح في موضع آخر (1/ 417): قولها (وتطهرت بعرفة) محمول على غسل الإحرام جمعاً بين الروايتين.
قال ابن أبي شيبة: حدّثنا غندر حدّثنا شعبة: سألت الحكم وحمّاداً ومنصوراً وسليمان عن الرّجل يطوف بالبيت على غير طهارة؟ فلم يروا به بأساً.
وروي عن عطاء: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعداً ثمّ حاضت أجزأ عنها.
وفي هذا تعقُّب على النّوويّ حيث قال في " شرح المهذّب ": انفرد أبو حنيفة بأنّ الطّهارة ليست بشرط في الطّواف ، واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانه بالدّم إن فعله. انتهى
ولَم ينفردوا بذلك كما ترى. فلعله أراد انفرادهم عن الأئمّة الثّلاثة.
لكن عند أحمد رواية: أنّ الطّهارة للطّواف واجبة تجبر بالدّم ، وعند المالكيّة قول يوافق هذا.
تكميل: روي عن مالك في حديث عائشة بزيادة " ولا بين الصّفا والمروة ".
قال ابن عبد البرّ: لَم يقله أحدٌ عن مالك إلَاّ يحيى بن يحيى التّميميّ النّيسابوريّ.
قلت: فإن كان يحيى حفظه فلا يدلّ على اشتراط الوضوء للسّعي ، لأنّ السّعي يتوقّف على تقدّم طواف قبله ، فإذا كان الطّواف ممتنعاً امتنع لذلك لا لاشتراط الطّهارة له.
وقد روي عن ابن عمر أيضاً قال: تقضي الحائض المناسك كلّها إلَاّ الطّواف بالبيت وبين الصّفا والمروة. أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد
صحيح. قال: وحدّثنا ابن فضيل عن عاصم ، قلت لأبي العالية: تقرأ الحائض؟ قال: لا. ولا تطوف بالبيت ولا بين الصّفا والمروة.
ولَم يذكر ابن المنذر عن أحدٍ من السّلف اشتراط الطّهارة للسّعي ، إلَاّ عن الحسن البصريّ.
وقد حكى المجد بن تيميّة من الحنابلة روايةً عندهم مثله.
وأمّا ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بإسناد صحيحٍ: إذا طافت ثمّ حاضت قبل أن تسعى بين الصّفا والمروة فلتسع.
وعن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن مثله. وهذا إسناد صحيح عن الحسن. فلعلَّه يفرّق بين الحائض والمحدث.
وقال ابن بطّال: كأنّ البخاريّ فهم أنّ قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: افعلي ما يفعل الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت. أنّ لها أن تسعى ، ولهذا قال (1): وإذا سعى على غير وضوء. انتهى
وهو توجيه جيّد لا يخالف التّوجيه الذي قدّمته. وهو قول الجمهور.
وحكى ابن المنذر عن عطاء قولين. فيمن بدأ بالسّعي قبل الطّواف بالبيت.
القول الأول: بالإجزاء.
قال بعض أهل الحديث. واحتجّ بحديث أسامة بن شريك ، أنّ
(1) أي: في تبويبه حيث قال (باب تقضي الحائض المناسك كلّها. إلَاّ الطواف بالبيت ، وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة)
رجلاً سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال: سعيت قبل أن أطوف. قال: طف ولا حرج.
القول الثاني: قال الجمهور: لا يجزئه ، وأوّلوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم. وقبل طواف الإفاضة.
قوله: (ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحجٍّ) تمسّك به مَن قال: إنّ عائشة لَمّا حاضت تركت عمرتها واقتصرت على الحجّ، وفي رواية لهما عن الأسود عن عائشة " فحلَّ من لَم يكن ساق الهدي، ونساؤه لَم يسقن الهدي، فأحللن ، قالت عائشة: فحضت .. "
قوله " فأحللن " أي: وهي منهنّ ، لكن منعها من التّحلّل كونها حاضت ليلة دخولهم مكّة.
وفي رواية القاسم عنها في الصحيحين بيان ذلك وأنّها بكت ، وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: كوني في حجّك. فظاهره أنّه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تجعل عمرتها حجّاً ، ولهذا قالت: يرجع النّاس بحجٍّ وعمرة ، وأرجع بحجٍّ. فأعمرها لأجل ذلك من التّنعيم.
وقال مالك: ليس العمل على حديث عروة (1) قديماً ولا حديثاً.
قال ابن عبد البرّ: يريد ليس عليه العمل في رفض العمرة وجعلها حجّاً. بخلاف جعل الحجّ عمرة ، فإنّه وقع للصّحابة. واختلف في
(1) رواية عروة عن عائشة. أخرجها البخاري (317) ومسلم (1211) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عنها. بلفظ: فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي وأهلي بحج. وسيأتي في كلام الشارح.
جوازه مَن بعدهم ، لكن أجاب جماعةٌ من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله في البخاري " ارفضي عمرتك " أي: اتركي التّحلّل منها ، وأدخلي عليها الحجّ فتصير قارنة.
ويؤيّده قوله في رواية لمسلمٍ " وأمسكي عن العمرة " أي: عن أعمالها، وإنّما قالت عائشة " وأرجع بحجٍّ " لاعتقادها أنّ إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمّهات المؤمنين.
واستبعد هذا التّأويل: لقولها في رواية عطاء عنها " وأرجع أنا بحجّةٍ ليس معها عمرة " أخرجه أحمد.
وهذا يقوّي قول الكوفيّين: أنّ عائشة تركت العمرة وحجّت مفردة.
وتمسّكوا في ذلك بقولها في رواية هشام عن أبيه عنها في الصحيحين " دعي عمرتك ". وفي رواية للبخاري " ارفضي عمرتك " ونحو ذلك.
واستدلّوا به على أنّ للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتّعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة ، وتهلّ بالحجّ مفرداً كما فعلت عائشة.
لكن في رواية عطاء عنها ضعف.
والرّافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر ، أنّ عائشة أهلَّت بعمرةٍ، حتّى إذا كانت بسرف حاضت ، فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أهلي بالحجّ، حتّى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت فقال: قد حللتِ من حجّكِ وعمرتكِ، قالت يا رسولَ الله: إنّي أجد في نفسي
أنّي لَم أطف بالبيت حتّى حججت، قال: فأعمرها من التّنعيم ".
ولمسلمٍ من طريق طاوسٍ عنها " فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم: طوافك يسعك لحجّك وعمرتك " فهذا صريح في أنّها كانت قارنة لقوله " قد حللتِ من حجّك وعمرتك ".
وإنّما أعمرها من التّنعيم تطييباً لقلبها ، لكونها لَم تطف بالبيت لَمّا دخلت معتمرة. وقد وقع في رواية لمسلمٍ: وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً إذا هويت الشّيء تابعها عليه.
قوله: (فأمر عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ ، أن يخرج معها إلى التّنعيم فاعتمرت بعد الحجّ) ولهما من رواية عمرو بن أوس عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أردف عائشة، وأعمرها من التنعيم.
وهذا يدلّ على أنّ إعمارها من التّنعيم كان بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأصرح منه ما أخرجه أبو داود من طريق حفصة بنت عبد الرّحمن بن أبى بكر عن أبيها ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا عبد الرّحمن أردف أختك عائشة فأعمرها من التّنعيم. الحديث.
ونحوه رواية مالك عند الشيخين ابن شهاب عن عروة عن عائشة: أرسلني النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع عبد الرّحمن إلى التّنعيم. ورواية الأسود عن عائشة ، قال: فاذهبي مع أخيك إلى التّنعيم.
ولهما من رواية الأسود والقاسم جميعاً عنها بلفظ " فاخرجي إلى التّنعيم ". وهو صريح بأنّ ذلك كان عن أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وكلّ ذلك يفسّر قوله في رواية القاسم عنها السّابقة في الصحيحين بلفظ " اخرج بأختك من الحرم فلتهلَّ بعمرة ، ثم أفرغا من طوافكما. أنتظركما ها هنا ".
وأمّا ما رواه أحمد من طريق ابن أبي مُلَيْكة عنها في هذا الحديث قال: ثمّ أرسل إلى عبد الرّحمن بن أبي بكر فقال: احملها خلفك حتّى تخرج من الحرم، فوالله ما قال فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى التّنعيم.
فهي رواية ضعيفة لضعف أبي عامر الخرّاز الرّاوي له عن ابن أبي مُلَيْكة.
ويحتمل: أن يكون قوله " فوالله .. إلخ " من كلام من دون عائشة قاله متمسّكاً بإطلاق قوله " فاخرج من الحرم " لكنّ الرّوايات المقيّدة بالتّنعيم مقدّمة على المطلقة فهو أولى ، ولا سيّما مع صحّة أسانيدها. والله أعلم.
وفي هذا الحديث جواز الخلوة بالمحارم سفراً وحضراً، وإرداف المُحرم مَحرمه معه.
واستدل به على تعيّن الخروج إلى الحلّ لمن أراد العمرة ممّن كان بمكّة، وهو أحد قولي العلماء.
القول الثّاني: تصحّ العمرة. ويجب عليه دم لترك الميقات، وليس في حديث الباب ما يدفع ذلك.
واستدل به على أنّ أفضل جهات الحلّ التّنعيم.
وتعقّب: بأنّ إحرام عائشة من التّنعيم إنّما وقع لكونه أقرب جهة
الحلّ إلى الحرم، لا أنّه الأفضل.
فائدةٌ: زاد أبو داود (1) في روايته بعد قوله إلى التّنعيم " فإذا هبطتَ بها من الأكمة فلتحرم ، فإنّها عمرة متقبّلة ".
وزاد أحمد في رواية له " وذلك ليلة الصّدر " وهو بفتح المهملة والدّال. أي: الرّجوع من منًى، وفي قوله " فإذا هبطت بها " إشارة إلى المكان الذي أحرمت منه عائشة.
والتّنعيم: بفتح المثنّاة وسكون النّون وكسر المهملة مكان معروف خارج مكّة، وهو على أربعة أميال من مكّة إلى جهة المدينة. كما نقله الفاكهيّ.
وقال المحبّ الطّبريّ: التّنعيم أبعد من أدنى الحلّ إلى مكّة بقليلٍ، وليس بطرف الحلّ ، بل بينهما نحو من ميل، ومن أطلق عليه أدنى الحلّ فقد تجوّز.
قلت: أو أراد بالنّسبة إلى بقيّة الجهات.
وروى الفاكهيّ من طريق عبيد بن عمير قال: إنّما سُمِّي التّنعيم لأنّ الجبل الذي عن يمين الدّاخل يقال له ناعم، والذي عن اليسار يقال له منعّم، والوادي نعمان.
وروى الأزرقيّ من طريق ابن جريجٍ ، قال: رأيت عطاءً يصف الموضع الذي اعتمرتْ منه عائشة ، قال: فأشار إلى الموضع الذي
(1) هذه الزيادة أخرجها أبو داود في " السنن "(1995) من طريق يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرّحمن بن أبي بكر عن أبيها به.
ابتنى فيه محمّد بن عليّ بن شافع المسجد الذي وراء الأكمة، وهو المسجد الخرب.
ونقل الفاكهيّ عن ابن جريجٍ وغيره ، أنّ ثَمّ مسجدين يزعم أهل مكّة أنّ الخرب الأدنى من الحرم هو الذي اعتمرت منه عائشة.
وقيل: هو المسجد الأبعد على الأكمة الحمراء، ورجّحه المحبّ الطّبريّ.
وقال الفاكهيّ: لا أعلم إلَاّ أنّي سمعت ابن أبي عمر يذكر عن أشياخه: أنّ الأوّل هو الصّحيح عندهم.
تكميل: قال صاحب " الهدى "(1): لَم ينقل أنّه صلى الله عليه وسلم اعتمر مدّة إقامته بمكّة قبل الهجرة، ولا اعتمر بعد الهجرة إلَاّ داخلاً إلى مكّة، ولَم يعتمر قطّ خارجاً من مكّة إلى الحلّ ثمّ يدخل مكّة بعمرةٍ كما يفعل النّاس اليوم، ولا ثبت عن أحد من الصّحابة أنّه فعل ذلك في حياته إلَاّ عائشة وحدها. انتهى.
وبعد أنْ فعلته عائشة بأمره دلَّ على مشروعيّته.
واختلف السّلف في جواز الاعتمار في السّنة أكثر من مرّة.
فكرهه مالك. وخالفه مطرّف وطائفة من أتباعه. وهو قول الجمهور.
واستثنى أبو حنيفة: يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق، ووافقه
(1) أي ابن القيّم رحمه الله في كتابه زاد المعاد.
أبو يوسف إلَاّ في يوم عرفة.
واستثنى الشّافعيّ: البائت بمنًى لرمي أيّام التّشريق، وفيه وجه اختاره بعض الشّافعيّة ، فقال بالجواز مطلقاً كقول الجمهور. والله أعلم.
واختلفوا أيضاً. هل يتعيّن التّنعيم لمن اعتمر من مكّة؟ وإذا لَم يتعيّن. هل لها فضل على الاعتمار من غيرها من جهات الحلّ أو لا؟.
فروى الفاكهيّ وغيره من طريق محمّد بن سيرين قال: بلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل مكّة التّنعيم.
ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممّن هو من أهل مكّة أو غيرها فليخرج إلى التّنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها، وأفضل ذلك أن يأتي وقتاً. أي: ميقاتاً من مواقيت الحجّ.
قال الطّحاويّ:
ذهب قومٌ. إلى أنّه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكّة إلَاّ التّنعيم، ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحجّ.
وخالفهم آخرون. فقالوا: ميقات العمرة الحلّ ، وإنّما أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة بالإحرام من التّنعيم ، لأنّه كان أقرب الحلّ من مكّة. ثمّ روى من طريق ابن أبي مُلَيْكة عن عائشة في حديثها قالت: وكان أدنانا من الحرم التّنعيم فاعتمرت منه.
قال: فثبت بذلك أنّ ميقات مكّة للعمرة الحلّ، وأنّ التّنعيم وغيره في ذلك سواء.
تكميل:
قال البخاري: باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع.
أورد فيه حديث عائشة في عمرتها من التنعيم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن " اخرج بأختك من الحرم فلتهل عمرة ثم افرغا من طوافكما " الحديث.
قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف فخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة. انتهى.
وكأن البخاري لمَّا لم يكن في حديث عائشة التصريح بأنها ما طافت للوداع بعد طواف العمرة لم يبت الحكم في الترجمة.
أيضاً فإن قياس من يقول إن إحدى العبادتين لا تندرج في الأخرى أن يقول بمثل ذلك هنا.
ويستفاد من قصة عائشة ، أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن - إن قلنا إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع - إن تخلل السعي بين الطواف والخروج لا يقطع إجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معاً.