الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الفدية
الحديث السابع
222 -
عن عبد الله بن معقلٍ، قال: جلستُ إلى كعب بن عُجْرة فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت فِيَّ خاصّةً. وهي لكم عامّةً. حُملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال: ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أَرَى ، أو ما كنت أرى الجَهد بلغ بك ما أرى ، أتجد شاةً؟ فقلت: لا ، فقال: صم ثلاثة أيّامٍ ، أو أطعم ستّة مساكين ، لكل مسكينٍ نصف صاعٍ. (1)
وفي روايةٍ: فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطعم فَرَقاً بين ستّةٍ ، أو يهدي شاةً ، أو يصوم ثلاثة أيّامٍ. (2)
تمهيد: نقل ابن عبد البرّ عن أحمد بن صالح المصريّ ، قال: حديث كعب بن عُجْرة في الفدية سنّة معمول بها لَم يروها من الصّحابة غيره، ولا رواها عنه إلَاّ ابن أبي ليلى وابن معقل.
قال: وهي سنّة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة. قال الزّهريّ: سألت عنها علماءنا كلّهم حتّى سعيد بن المسيّب فلم يبيّنوا كم عدد
(1) أخرجه البخاري (1721 ، 4245) ومسلم (1201) من طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل به.
(2)
أخرجه البخاري (1719 ، 1720، 1722، 3927، 3954، 3955، 4245، 5341، 5376، 6330) ومسلم (1201) من طرق عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه نحو رواية عبد الله بن معقل الماضية.
المساكين.
قلت: فيما أطلقه ابن صالح نظرٌ، فقد جاءت هذه السّنّة من رواية جماعة من الصّحابة غير كعب، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطّبريّ والطّبرانيّ، وأبو هريرة عند سعيد بن منصور، وابن عمر عند الطّبريّ، وفضالة الأنصاريّ عمّن لا يتّهم من قومه عند الطّبريّ أيضاً. ورواه عن كعب بن عُجْرة غير المذكورين ، أبو وائل عند النّسائيّ، ومحمّد بن كعب القرظيّ عند ابن ماجه، ويحيى بن جعدة عند أحمد، وعطاء عند الطّبريّ.
وجاء عن أبي قلابة والشّعبيّ أيضاً عن كعب. وروايتهما عند أحمد، لكنّ الصّواب أنّ بينهما واسطة. وهو ابن أبي ليلى على الصّحيح.
وقد أورد البخاريّ حديث كعب هذا في أربعة أبواب متوالية، وأورده أيضاً في المغازي والطّبّ وكفّارات الأيمان من طرق أخرى ، مدار الجميع على ابن أبي ليلى وابن معقل، فيقيّد إطلاق أحمد بن صالح بالصّحّة فإنّ بقيّة الطّرق التي ذكرتها لا تخلو عن مقال إلَاّ طريق أبي وائل.
وسأذكر ما في هذه الطّرق من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى.
قوله: (عن عبد الله بن معقل) بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف هو ابن مقرّن - بالقاف وزن محمّد لكن بكسر الرّاء - لأبيه صحبة.
وهو من ثقات التّابعين بالكوفة، وليس له في البخاريّ سوى هذا
الحديث وآخر عن عديّ بن حاتم، مات سنة ثمان وثمانين من الهجرة.
يلتبس بعبد الله بن مغفّل - بالغين المعجمة وزن محمّد - ويجتمعان في أنّ كلاً منهما مزنيّ، لكن يفترقان بأنّ الرّاوي عن كعب تابعيّ والآخر صحابيّ.
وفي التّابعين من اتّفق مع الرّاوي عن كعب في اسمه واسم أبيه ثلاثة:
أحدهم: يروي عن عائشة. وهو محاربيّ.
والآخر: يروي عن أنس في المسح على العمامة. وحديثه عند أبي داود.
والثّالث: أصغر منهما. أخرج له ابن ماجه
قوله: (جلست إلى كعب بن عُجْرة)(1) زاد مسلم في روايته من طريق غندر عن شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عنه " وهو في المسجد "، ولأحمد عن بهز " قعدت إلى كعب بن عُجْرة في هذا المسجد " وزاد في رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهانيّ " يعني مسجد الكوفة ".
وفيه الجلوس في المسجد ، ومذاكرة العلم ، والاعتناء بسبب النّزول لِمَا يترتّب عليه من معرفة الحكم وتفسير القرآن.
قوله: (نزلت في خاصة، وهي لكم عامة ، حُملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي) وللبخاري من رواية حميد بن قيس
(1) تقدّمت ترجمة كعب رضي الله عنه في الصلاة برقم (125).
عن مجاهد " لعلك آذاك هوامّك " ، وفي رواية عبد الكريم عن ابن أبي ليلى عند مالك ، أنّه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم فآذاه القمل.
وفي رواية سيف عن مجاهد في البخاري " وقف عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً فقال: أيؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك - الحديث. وفيه - قال: فيَّ نزلت هذه الآية (فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه).
زاد في رواية أبي الزّبير عن مجاهد عند الطّبرانيّ " أنّه أهلَّ في ذي القعدة " وفي رواية مغيرة عن مجاهد عند الطّبريّ " أنّه لقيه وهو عند الشّجرة وهو محرم ".
وفي رواية أيّوب عن مجاهد في البخاري " أتى عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت برمة. والقمل يتناثر على رأسي " زاد في رواية ابن عون عن مجاهد " فقال: ادن، فدنوت. فقال: أيؤذيك؟ ".
وفي رواية ابن بشر عن مجاهد فيه قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرةٌ. فجعلتِ الهوامّ تتساقط على وجهي، فقال: أيؤذيك هوامّ رأسك؟ قلت: نعم. فأنزلت هذه الآية.
وفي رواية أبي وائل عن كعب " أحرمت فكثر قمل رأسي. فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأتاني وأنا أطبخ قدراً لأصحابي ". وفي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند البخاري " رآه وإنّه ليسقط القمل على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامّك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق وهم بالحديبية ،
ولَم يبيّن لهم أنّهم يحلّون، وهم على طمع أن يدخلوا مكّة، فأنزل الله الفدية " وأخرجه الطّبرانيّ من طريق عبد الله بن كثير عن مجاهد. بهذه الزّيادة.
ولأحمد وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة عن كعب " قملت حتّى ظننت أنّ كلّ شعرة في رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها " زاد سعيد " وكنت حسن الشّعر ".
ولأحمد من وجه آخر عن سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني عن ابن معقل " وقع القمل في رأسي ولحيتي حتّى حاجبي وشاربي، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليّ فدعاني، فلمّا رآني قال: لقد أصابك بلاء ونحن لا نشعر، ادع إليّ الحجّام، فحلقني ".
ولأبي داود من طريق الحكم بن عتيبة عن ابن أبي ليلى عن كعب: أصابتني هوامّ حتّى تخوّفت على بصري ".
وفي رواية أبي وائل عن كعب عند الطّبريّ " فحكّ رأسي بأصبعه فانتثر منه القمل " زاد الطّبريّ من طريق الحكم " إنّ هذا لأذىً، قلت: شديد يا رسولَ الله ".
والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى عن كعب ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ به فرآه، وفي قول عبد الله بن معقل ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل إليه فرآه. أن يقال: مرّ به أوّلاً فرآه على تلك الصّورة فاستدعى به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته، فنقل كلُّ واحدٍ منهما ما لَم ينقله الآخر.
ويوضّحه قوله في رواية ابن عون عن مجاهد عند البخاري حيث قال فيها: فقال: ادن فدنوت. فالظّاهر أنّ هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إيّاه إذ مرّ به وهو يوقد تحت القدر.
قال القرطبيّ قوله " لعلك آذاك هوامّك ": هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتّب عليها الحكم، فلمّا أخبره بالمشقّة التي نالته خفّف عنه.
و" الهوامّ " بتشديد الميم جمع هامّة. وهي ما يدبّ من الأخشاش، والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان غالباً إذا طال عهده بالتّنظيف، وقد عيّن في كثير من الرّوايات أنّها القمل.
واستدل به على أنّ الفدية مرتّبة على قتل القمل.
وتعقّب: بذكر الحلق، فالظّاهر أنّ الفدية مرتّبة عليه، وهما وجهان عند الشّافعيّة، يظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولَم يقتل قملاً.
قوله: (ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أَرى) في رواية المستملي والحمويّ " يبلغ بك ".
وأُرى الأولى بضمّ الهمزة. أي: أظنّ، وأَرى الثّانية بفتح الهمزة من الرّؤية، وكذا في قوله " أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك " وهو شكّ من الرّاوي هل قال الوجع أو الجهد؟.
والجهد: بالفتح المشقّة، قال النّوويّ: والضّمّ لغة في المشقّة أيضاً، وكذا حكاه عياض عن ابن دريد.
وقال صاحب العين: بالضّمّ الطّاقة وبالفتح المشقّة.
فيتعيّن الفتح هنا بخلاف لفظ الجهد في حديث بدء الوحي حيث قال " حتّى بلغ منّي الجهد " فإنّه محتمل للمعنيين.
قوله: (أتجد شاةً؟) ولأبي داود في رواية أخرى " أمعك دم؟ قال: لا. قال: فإن شئت فصم " ونحوه للطّبرانيّ من طريق عطاء عن كعب، ووافقهم أبو الزّبير عن مجاهد عند الطّبرانيّ. وزاد بعد قوله ما أجد هدياً " قال: فأطعم. قال: ما أجد. قال: صم ".
ولهذا قال أبو عوانة في " صحيحه ": فيه دليل على أنّ من وجد نسكاً لا يصوم، يعني ولا يطعم.
لكن لا أعرف مَن قال بذلك من العلماء. إلَاّ ما رواه الطّبريّ وغيره عن سعيد بن جبير قال: النّسك شاة، فإن لَم يجد قوّمت الشّاة دراهم والدّراهم طعاماً فتصدّق به أو صام لكل نصف صاع يوماً. أخرجه من طريق الأعمش عنه قال: فذكرته لإبراهيم ، فقال: سمعت علقمة مثله. فحينئذٍ يحتاج إلى الجمع بين الرّوايتين.
وقد جُمع بينهما بأوجهٍ.
الوجه الأول: ما قال ابن عبد البرّ: إنّ فيه الإشارة إلى ترجيح التّرتيب لا لإيجابه
الوجه الثاني: ما قال النّوويّ: ليس المراد أنّ الصّيام أو الإطعام لا يجزئ إلَاّ لفاقد الهدي، بل المراد أنّه استخبره: هل معه هدي أو لا؟ فإن كان واجده أعلمه أنّه مخيّر بينه وبين الصّيام والإطعام، وإن لَم يجده أعلمه أنّه مخيّر بينهما.
ومحصّله أنّه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذّبح تعيينه لاحتمال أنّه لو أعلمه أنّه يجده لأخبره بالتّخيير بينه وبين الإطعام والصّوم.
الوجه الثالث: ما قال غيرهما: يحتمل أن يكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى. أفتاه بأن يكفّر بالذّبح على سبيل الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم ، أو بوحيٍ غير متلوٍّ، فلمّا أعلمه أنّه لا يجد نزلت الآية بالتّخيير بين الذّبح والإطعام والصّيام. فخيّره حينئذٍ بين الصّيام والإطعام. لعلمه بأنّه لا ذبح معه، فصام لكونه لَم يكن معه ما يطعمه.
ويوضّح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور حيث قال " أتجد شاة؟ قلت: لا. فنزلت هذه الآية (ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ) فقال: صم ثلاثة أيّام أو أطعم ".
وفي رواية عطاء الخراسانيّ قال " صم ثلاثة أيّام أو أطعم ستّة مساكين " قال " وكان قد علم أنّه ليس عندي ما أنسك به ". ونحوه في رواية محمّد بن كعب القرظيّ عن كعب.
وسياق الآية يشعر بتقديم الصّيام على غيره، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره، بل السّرّ فيه أنّ الصّحابة الذين خوطبوا شفاهاً بذلك كان أكثرهم يقدر على الصّيام أكثر ممّا يقدر على الذّبح والإطعام.
وعُرف من رواية أبي الزّبير ، أنّ كعباً افتدى بالصّيام.
ووقع في رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنّه افتدى بالذّبح لأنّ لفظه "
صم أو أطعم أو انسك شاة. قال: فحلقت رأسي ونسكت ".
وروى الطّبرانيّ من طريق ضعيفة عن عطاء عن كعب في آخر هذا الحديث " فقلت: يا رسولَ الله خر لي، قال: أطعم ستّة مساكين.
قوله: (فقلت: لا) زاد (1) مسلم وأحمد " فنزلت هذه الآية (ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ) قال: صوم ثلاثة أيّام " الحديث.
قوله: (لكل مسكين نصف صاع) وللطّبرانيّ عن أحمد بن محمّد الخزاعيّ عن أبي الوليد - شيخ البخاريّ فيه - عن شعبة " لكل مسكين نصف صاع تمر " ولأحمد عن بهز عن شعبة " نصف صاع طعام " ولبشر بن عمر عن شعبة " نصف صاع حنطة ".
ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى تقتضي أنّه نصف صاع من زبيب. فإنّه قال " يطعم فرقاً من زبيب بين ستّة مساكين ".
قال ابن حزم: لا بدّ من ترجيح إحدى هذه الرّوايات ، لأنّها قصّة واحدة في مقام واحد في حقّ رجل واحد.
قلت: المحفوظ عن شعبة أنّه قال في الحديث " نصف صاع من طعام " والاختلاف عليه في كونه تمراً أو حنطة لعله من تصرّف الرّواة.
(1) قوله (زاد) أي: من هذا الطريق. وهو طريق عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة ، وهي الرواية التي ساقها صاحب العمدة. وإلاّ فنزول هذه الآية بهذا السبب ثابت في الصحيحين من طريق ابن أبي ليلى عن كعب رضي الله عنه.
وأمّا الزّبيب. فلم أره إلَاّ في رواية الحكم، وقد أخرجها أبو داود وفي إسنادها ابن إسحاق، وهو حجّة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف.
والمحفوظ رواية التّمر. فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى ، ولَم يختلف فيه على أبي قلابة. وكذا أخرجه الطّبريّ من طريق الشّعبيّ عن كعب، وأحمد من طريق سليمان بن قرم عن ابن الأصبهانيّ، ومن طريق أشعث وداود الشّعبيّ عن كعب، وكذا في حديث عبد الله بن عمرو عند الطّبرانيّ.
وعُرف بذلك قوّة قول مَن قال: لا فرق في ذلك بين التّمر والحنطة. وأنّ الواجب ثلاثة آصعٍ لكل مسكين نصف صاع.
ولمسلمٍ عن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب في هذا الحديث " وأطعم فرقاً بين ستّة مساكين " والفرق ثلاثة آصعٍ.
وأخرجه الطّبريّ من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة فقال فيه: قال سفيان: والفرق ثلاثة آصعٍ " فأشعر بأنّ تفسير الفرق مدرج، لكنّه مقتضى الرّوايات الأخر، ففي رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهانيّ عند أحمد " لكل مسكين نصف صاع ". وفي رواية يحيى بن جعدة عند أحمد أيضاً " أو أطعم ستّة مساكين مدّين مدّين ".
وأمّا ما وقع في بعض النّسخ عند مسلم من رواية زكريّا عن ابن الأصبهانيّ " أو يطعم ستّة مساكين لكل مسكين صاع " فهو تحريف
ممّن دون مسلم، والصّواب ما في النّسخ الصّحيحة " لكل مسكينين " بالتّثنية، وكذا أخرجه مسدّد في " مسنده " عن أبي عوانة عن ابن الأصبهانيّ على الصّواب.
قوله: (فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقاً بين ستّةٍ ، أو يهدي شاةً ، أو يصوم ثلاثة أيّامٍ) وللبخاري من طريق مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد بلفظ " احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة ".
والنّسك يطلق على العبادة وعلى الذّبح المخصوص، وسياق رواية البخاري موافق للآية، وقد تقدّم أنّ كعباً قال: إنّها نزلت بهذا السّبب.
قال البخاري: وقد خيّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم كعباً في الفدية، ويذكر عن ابن عبّاس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار. انتهى.
وأقرب ما وقفت عليه من طرق حديث الباب إلى التّصريح. ما أخرجه أبو داود من طريق الشّعبيّ عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عُجْرة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيّام، وإنّ شئت فأطعم .. الحديث.
ووافقتها رواية عبد الوارث عن ابن أبي نجيح. أخرجها مسدّد في " مسنده " ، ومن طريقه الطّبرانيّ.
وفي رواية مالك في " الموطّإ " عن عبد الكريم عن ابن أبي ليلى في
آخر الحديث " أيّ ذلك فعلت أجزأ "
قوله: (أن يطعم فرقاً بين ستّةٍ) فيه أنّ الصّدقة في الآية مبهمة فسّرتها السّنّة، وبهذا قال جمهور العلماء.
وروى سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عن الحسن قال: الصّوم عشرة أيّام، والصّدقة على عشرة مساكين. وروى الطّبريّ عن عكرمة ونافع نحوه.
قال ابن عبد البرّ: لَم يقل بذلك أحدٌ من فقهاء الأمصار.
قوله: (فرقاً) بفتح الفاء والرّاء وقد تسكّن، قاله ابن فارس.
وقال الأزهريّ: كلام العرب بالفتح، والمحدّثون قد يسكّنونه، وآخره قاف: مكيال معروف بالمدينة وهو ستّة عشر رطلاً.
ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد وغيره " الفرق ثلاثة آصعٍ ".
ولمسلمٍ من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى " أو أطعم ثلاثة آصعٍ من تمر على ستّة مساكين ".
وإذا ثبت أنّ الفَرَقَ ثلاثة آصعٍ اقتضى أنّ الصّاع خمسة أرطال وثلث خلافاً لمَن قال: إنّ الصّاع ثمانية أرطال.
قوله: (أو يهدي شاةً) وهو النّسك المذكور في الآية حيث قال (أو نسك) وروى الطّبريّ من طريق مغيرة عن مجاهد في آخر هذا الحديث " فأنزل الله (ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ) والنّسك شاة ".
ومن طريق محمّد بن كعب القرظيّ عن كعب " أمرني أن أحلق وأفتدي بشاةٍ ".
قال عياض ومن تبعه تابعاً لأبي عمر: كلّ من ذكر النّسك في هذا الحديث مفسّراً فإنّما ذكروا شاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء.
قلت: يعكّر عليه ما أخرجه أبو داود من طريق نافع عن رجل من الأنصار عن كعب بن عُجْرة ، أنّه أصابه أذًى فحلق فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يهدي بقرة.
وللطّبرانيّ من طريق عبد الوهّاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر قال: حلق كعب بن عُجْرة رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتدي، فافتدى ببقرةٍ.
ولعبد بن حميدٍ من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر قال: افتدى كعبٌ من أذىً كان برأسه فحلقه ببقرةٍ قلدها وأشعرها.
ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عن سليمان بن يسار ، قيل لابن كعب بن عُجْرة: ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه؟ قال: ذبح بقرة.
فهذه الطّرق كلّها تدور على نافع، وقد اختلف عليه في الواسطة الذي بينه وبين كعب.
وقد عارضها ما هو أصحّ منها. مِن أنّ الذي أُمر به كعب وفعله في النّسك إنّما هو شاة.
وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميدٍ من طريق المقبريّ عن أبي
هريرة: أنّ كعب بن عُجْرة ذبح شاة لأذًى كان أصابه. وهذا أصوب من الذي قبله.
واعتمد ابن بطّال على رواية نافع بن سليمان بن يسار فقال: أخذ كعب بأرفع الكفّارات، ولَم يُخالف النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أمره به من ذبح شاة، بل وافق وزاد. ففيه أنّ من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها كما فعل كعب.
قلت: هو فرع ثبوت الحديث، ولَم يثبت لِمَا قدّمته. والله أعلم.
قوله: (صم ثلاثة أيّامٍ) الصّيام المطلق في الآية مقيّد بما ثبت في الحديث بالثّلاث.
قال ابن التّين وغيره: جعل الشّارع هنا صوم يوم معادلاً بصاعٍ، وفي الفطر من رمضان عدل مدّ، وكذا في الظّهار والجماع في رمضان، وفي كفّارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أنّ القياس لا يدخل في الحدود والتّقديرات.
وفي حديث كعب بن عُجْرة من الفوائد غير ما تقدّم.
أنّ السّنّة مبيّنة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن وتقييدها بالسّنّة، وتحريم حلق الرّأس على المُحرم، والرّخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع.
وفيه تلطّف الكبير بأصحابه وعنايته بأحوالهم وتفقّده لهم، وإذا رأى ببعض أتباعه ضرراً سأل عنه وأرشده إلى المخرج منه.
واستنبط منه بعض المالكيّة. إيجاب الفدية على من تعمّد حلق رأسه
بغير عذر، فإنّ إيجابها على المعذور من التّنبيه بالأدنى على الأعلى. لكن لا يلزم من ذلك التّسوية بين المعذور وغيره.
ومن ثَمَّ قال الشّافعيّ والجمهور: لا يتخيّر العامد بل يلزمه الدّم، وخالف في ذلك أكثر المالكيّة.
واحتجّ لهم القرطبيّ بقوله في حديث كعب " أو اذبح نسكاً " قال: فهذا يدلّ على أنّه ليس بهديٍ. قال: فعلى هذا يجوز أن يذبحها حيث شاء.
قلت: لا دلالة فيه. إذ لا يلزم تسميتها نسكاً أو نسيكة أنْ لَاّ تسمّى هدياً ، أو لا تعطى حكم الهدي، وقد وقع تسميتها هدياً حيث قال " أو تهدي شاة ".
وفي رواية مسلم " واهد هدياً " وفي رواية للطّبريّ " هل لك هدي؟ قلت: لا أجد " فظهر أنّ ذلك من تصرّف الرّواة. ويؤيّده قوله في رواية مسلم " أو اذبح شاة ".
واستدل به على أنّ الفدية لا يتعيّن لها مكان، وبه قال أكثر التّابعين.
وقال الحسن: تتعيّن مكّة.
وقال مجاهد: النّسك بمكّة ومنًى، والإطعام بمكّة، والصّيام حيث شاء.
وقريب منه قول الشّافعيّ وأبي حنيفة: الدّم والإطعام لأهل الحرم، والصّيام حيث شاء إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم.
وألْحَقَ بعض أصحاب أبي حنيفة وأبو بكر بن الجهم من المالكيّة
الإطعام بالصّيام.
واستُدلّ به على أنّ الحجّ على التّراخي ، لأنّ حديث كعب دلَّ على أنّ نزول قوله تعالى (وأتمّوا الحجّ والعمرة لله) كان بالحديبية. وهي في سنة ستّ. وفيه بحث (1). والله أعلم.
(1) انظر ص (350).