الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
178 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرَ رضي الله عنه على الصّدقة ، فقيل: منع ابن جميلٍ وخالد بن الوليد والعبّاس - عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميلٍ ، إلَاّ أن كان فقيراً فأغناه الله؟ وأمّا خالدٌ: فإنّكم تظلمون خالداً. وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله. وأمّا العبّاس: فهي عليّ ومثلها. ثمّ قال: يا عمر ، أَمَا شعرت أنّ عمّ الرّجل صنو أبيه؟. (1)
قوله: (عن أبي هريرة) في رواية النّسائيّ من طريق عليّ بن عيّاش عن شعيب ممّا حدّثه عبد الرّحمن الأعرج ممّا ذكر أنّه سمع أبا هريرة يقول: قال عمر. فذكره، صرّح بالتّحديث في الإسناد. وزاد فيه عمر، والمحفوظ أنّه من مسند أبي هريرة ، وإنّما جرى لعمر فيه ذكر فقط.
قوله: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصّدقة) في رواية مسلم من طريق ورقاء عن أبي الزناد: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ساعياً على الصدقة. (2)
(1) أخرجه البخاري (1399) من طريق شعيب ، ومسلم (983) من طريق ورقاء كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
لَم أرَ لفظة " ساعياً " في صحيح مسلم ولا في النسخ الموجودة عندي من العمدة. مع أن لفظ العمدة هنا هو سياق مسلم في الصحيح.
لكنها ثابتة عند ابن خزيمة في " صحيحه "(2330) وأبي عوانة في " مستخرجه "(2618) والدارقطني (2007) من طرق عن ورقاء به
وللبخاري " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصّدقة فقيل منع .. الحديث " وهو مشعرٌ بأنّها صدقة الفرض، لأنّ صدقة التّطوّع لا يبعث عليها السّعاة.
وقال ابن القصّار المالكيّ: الأليق أنّها صدقة التّطوّع ، لأنّه لا يظنّ بهؤلاء الصّحابة أنّهم منعوا الفرض.
وتعقّب: بأنّهم ما منعوه كلّهم جحداً ولا عناداً، أمّا ابن جميل فقد قيل: إنّه كان منافقاً ثمّ تاب بعد ذلك، كذا حكاه المُهلَّب. (1)
وجزم القاضي حسين في تعليقه ، أنّ فيه نزلت (ومنهم من عاهد الله) الآية. انتهى.
والمشهور أنّها نزلت في ثعلبة (2)، وأمّا خالدٌ فكان متأوّلاً بإجزاء ما حبسه عن الزّكاة، وكذلك العبّاس لاعتقاده ما سيأتي التّصريح به، ولهذا عَذرَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خالداً والعبّاس ، ولَم يعذر ابن جميل.
قوله: (فقيل منع ابن جميل) قائل ذلك عمر كما سيأتي في حديث
(1) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الاسدي. تقدمت ترجمته (1/ 12).
(2)
أي ابن حاطب الأنصاري رضي الله عنه ، وقد أخرج قصَّته مطولةً. الطبراني في " الكبير "(7873) والبيهقي في " الدلائل "(5/ 375) وغيرهما من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ، أنَّ ثعلبة بن حاطب الأنصاري. قال: يا رسول الله. أدع الله أن يرزقني مالاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فذكر الحديث بطوله في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له وكثرة ماله ومنعه الصدقة ونزول قوله تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) الآية. وفيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يقبض منه الصدقة ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، وأنه مات في خلافة عثمان. وروي بأسانيد أخرى ، وكلها ضعيفة.
قال الشارح في " الإصابة "(1/ 400): إن صحَّ الخبر ، ولا أظنه يصح.
ابن عبّاس في الكلام على قصّة العبّاس، ووقع في رواية ابن أبي الزّناد عن أبيه عند أبي عبيد " فقال بعض من يلمز " أي: يعيب.
وابن جميل لَم أقف على اسمه في كتب الحديث. لكن وقع في تعليق القاضي الحسين المروزيّ الشّافعيّ ، وتبعه الرّويانيّ ، أنّ اسمه عبد الله، ووقع في شرح الشّيخ سراج الدّين بن الملقّن ، أنّ ابن بزيزة سمّاه حميداً.
ولَم أر ذلك في كتاب ابن بزيزة.
ووقع في رواية ابن جريجٍ " أبو جهم بن حذيفة " بدل ابن جميل، وهو خطأٌ لإطباق الجميع على ابن جميل، وقول الأكثر أنّه كان أنصاريّاً، وأمّا أبو جهم بن حذيفة فهو قرشيّ فافترقا.
وذكر بعض المتأخّرين. أنّ أبا عبيد البكريّ ذكر في " شرح الأمثال " له: أنّه أبو جهم بن جميل.
قوله: (والعبّاس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد ابن أبي الزّناد عن أبيه عند أبي عبيد " أن يعطوا الصّدقة. قال: فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبَّ عن اثنين العبّاس وخالد ". وكان العباس أسنَّ من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو بثلاث.
وكان إسلامه على المشهور قبل فتح مكة، قيل: قبل ذلك، وليس ببعيد، فإن في حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط ما يؤيد ذلك. وكنية العباس أبو الفضل.
ومات العباس في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين ، وله بضع
وثمانون سنة.
قوله: (ما ينقم) بكسر القاف أي: ما ينكر أو يكره،
قوله: (فأغناه الله) وللبخاري " فأغناه الله ورسوله " إنّما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ، لأنّه كان سبباً لدخوله في الإسلام ، فأصبح غنيّاً بعد فقره بما أفاء الله على رسوله ، وأباح لأمّته من الغنائم.
وهذا السّياق من باب تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ ، لأنّه إذا لَم يكن له عذرٌ إلَاّ ما ذكر من أنّ الله أغناه فلا عذر له، وفيه التّعريض بكفران النّعم وتقريعٌ بسوء الصّنيع في مقابلة الإحسان.
قوله: (احتبس) أي: حبس.
قوله: (وأعتاده) وهو جمع ، وللبخاري " وأعتده " جمع أيضاٍ بضمّ المثنّاة عتدٍ بفتحتين.
قيل: هو ما يعدّه الرّجل من الدّوابّ والسّلاح.
وقيل: الخيل خاصّة، يقال فرس عتيد. أي: صلب أو معدٌّ للرّكوب أو سريع الوثوب أقوال.
وقيل: إنّ لبعض رواة البخاريّ " وأعبده " بالموحّدة جمع عبدٍ حكاه عياض، والأوّل هو المشهور.
قوله: (فهي عليّ ومثلها).كذا لمسلم. وللبخاري من رواية شعيب عن أبي الزناد " فهي عليه صدقة ومثلها معها "، ولَم يقل ورقاء ولا موسى بن عقبة (1)" صدقة ".
(1) رواية ورقاء. أخرجها مسلم في " صحيحه "(983) كما تقدم ، أمّا رواية موسى بن عقبة. فسيذكرها الشارح بعد قليل.
فعلى رواية شعيب يكون صلى الله عليه وسلم ألزمه بتضعيف صدقته (1) ليكون أرفع لقدره وأنْبَه لذكره وأنفى للذّمّ عنه، فالمعنى. فهو صدقةٌ ثابتةٌ عليه سيصّدّق بها ، ويضيف إليها مثلها كرماً.
ودلَّت رواية مسلمٍ على أنّه صلى الله عليه وسلم التزم بإخراج ذلك عنه لقوله " فهي عليّ " وفيه تنبيهٌ على سبب ذلك وهو قوله " إنّ العمّ صنو الأب " تفضيلاً له وتشريفاً.
ويحتمل: أن يكون تحمَّل عنه بها. فيستفاد منه أنّ الزّكاة تتعلق بالذّمّة كما هو أحد قولي الشّافعيّ.
وجمع بعضهم بين رواية " عليّ " ورواية " عليه " بأنّ الأصل رواية " عليّ " ورواية " عليه " مثلها إلَاّ أنّ فيها زيادة هاء السّكت ، حكاه ابن الجوزيّ عن ابن ناصر.
وقيل: معنى قوله " عليّ " أي: هي عندي قرض ، لأنّني استسلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحاً فيما أخرجه التّرمذيّ وغيره من حديثٍ عليٍّ. وفي إسناده مقال.
وفي الدّارقطنيّ من طريق موسى بن طلحة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال: إنّا كنّا احتجنا فتعجّلنا من العبّاس صدقة ماله سنتين " وهذا مرسل، وروى الدّارقطنيّ أيضاً موصولاً بذكر طلحة فيه.
(1) قال الشيخ ابن باز (3/ 420): هذا فيه نظرٌ ، وظاهر الحديث يدلُّ على أنه صلى الله عليه وسلم تركها له ، وتحمّلها عنه ، وسمّى ذلك صدقة تجوّزاً وتسامحاً في اللفظ ، ويدلُّ على ذلك رواية مسلم " فهي عليّ ومثلها " فتأمّل.
وإسناد المرسل أصحّ.
وفي الدّارقطنيّ أيضاً من حديث ابن عبّاس " أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعياً، فأتى العبّاس فأغلظ له، فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ العبّاس قد أسلفنا زكاة ماله العام، والعام المقبل " وفي إسناده ضعف.
وأخرجه أيضاً هو والطّبرانيّ من حديث أبي رافع نحو هذا. وإسناده ضعيف أيضاً، ومن حديث ابن مسعود ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تعجّل من العبّاس صدقته سنتين. وفي إسناده محمّد بن ذكوان وهو ضعيف.
ولو ثبت لكان رافعاً للإشكال ، ولرجح به سياق رواية مسلمٍ على بقيّة الرّوايات.
وفيه ردٌّ لقول مَن قال: إنّ قصّة التّعجيل إنّما وردت في وقتٍ غير الوقت الذي بعث فيه عمر لأخذ الصّدقة، وليس ثبوت هذه القصّة في تعجيل صدقة العبّاس ببعيدٍ في النّظر بمجموع هذه الطّرق. والله أعلم.
وقيل: المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين؛ فأمر أن يقاصّ به من ذلك ، واستبعد ذلك بأنّه لو كان وقع لكان صلى الله عليه وسلم أعلم عمر بأنّه لا يطالب العبّاس، وليس ببعيد.
ومعنى " عليه " على التّأويل الأوّل. أي: لازمة له ، وليس معناه أنّه يقبضها ، لأنّ الصّدقة عليه حرام لكونه من بني هاشم.
ومنهم: من حمل رواية شعيب على ظاهرها فقال: كان ذلك قبل
تحريم الصّدقة على بني هاشم، ويؤيّده رواية موسى بن عقبة عن أبي الزّناد عند ابن خزيمة بلفظ " فهي له " بدل " عليه ".
وقال البيهقيّ: اللام هنا بمعنى على لتتّفق الرّوايات، وهذا أولى ،لأنّ المخرج واحد، وإليه مال ابن حبّان.
وقيل: معناها فهي له. أي: القدر الذي كان يراد منه أن يخرجه ، لأنّني التزمت عنه بإخراجه.
وقيل: إنّه أخّرها عنه ذلك العام إلى عامٍ قابلٍ ، فيكون عليه صدقة عامين. قاله أبو عبيد.
وقيل: إنّه كان استدان حين فادى عقيلاً وغيره. فصار من جملة الغارمين ، فساغ له أخذ الزّكاة بهذا الاعتبار.
وأبعد الأقوال كلّها قول مَن قال: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التّأديب بالمال، فألزم العبّاس بامتناعه من أداء الزّكاة بأن يؤدّي ضعف ما وجب عليه لعظمة قدره وجلالته. كما في قوله تعالى في نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم (يُضاعف لها العذاب ضعفين) الآية، وقد تقدّم بعضه في أوّل الكلام.
واستدل بقصّة خالدٍ على جواز إخراج مال الزّكاة في شراء السّلاح وغيره من آلات الحرب والإعانة بها في سبيل الله، بناءً على أنّه صلى الله عليه وسلم أجاز لخالد أن يحاسب نفسه بما حبسه فيما يجب عليه كما سبق، وهي طريقة البخاريّ.
وأجاب الجمهور بأجوبة:
أحدها: أنّ المعنى. أنّه صلى الله عليه وسلم لَم يقبل إخبار من أخبره بمنع خالد ، حملاً على أنّه لَم يصرّح بالمنع، وإنّما نقلوه عنه بناءً على ما فهموه، ويكون قوله " تظلمونه " أي: بنسبتكم إيّاه إلى المنع وهو لا يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوّع بتحبيس سلاحه وخيله؟
ثانيها: أنّهم ظنّوا أنّها للتّجارة. فطالبوه بزكاة قيمتها ، فأعلمهم صلى الله عليه وسلم بأنّه لا زكاة عليه فيما حبس.
وهذا يحتاج لنقلٍ خاصٍّ فيكون فيه حجّةٌ لمن أسقط الزّكاة عن الأموال المحبّسة، ولمن أوجبها في عروض التّجارة.
ثالثها: أنّه كان نوى بإخراجها عن ملكه الزّكاة عن ماله ، لأنّ أحد الأصناف سبيل الله وهم المجاهدون.
وهذا يقوله من يجيز إخراج القيم في الزّكاة كالحنفيّة. ومن يجيز التّعجيل كالشّافعيّة.
وقد استدل البخاريّ به على إخراج العروض في الزّكاة. وعلى مشروعيّة تحبيس الحيوان والسّلاح، وأنّ الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبسه، وعلى صرف الزّكاة إلى صنفٍ واحدٍ من الثّمانية.
وتعقّب ابن دقيق العيد جميع ذلك: بأنّ القصّة واقعة عينٍ. محتملةٌ لِمَا ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على شيءٍ ممّا ذكر.
قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصاداً وعدم تصرّف، ولا يبعد أن يطلق على ذلك التّحبيس فلا يتعيّن الاستدلال بذلك لِمَا ذكر.
وفي الحديث بعث الإمام العمّال لجباية الزّكاة، وتنبيه الغافل على ما
أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر ليقوم بحقّ الله عليه، والعتب على من منع الواجب، وجواز ذكره في غيبته بذلك، وتحمّل الإمام عن بعض رعيّته ما يجب عليه، والاعتذار عن بعض الرّعيّة بما يسوغ الاعتذار به. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب.