الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الهدي
الحديث الثالث والعشرون
238 -
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: فَتَلْتُ قلائدَ هديِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمّ أشعرتها وقلَّدها أو قلّدتها ، ثمّ بعث بها إلى البيت. وأقام بالمدينة ، فما حَرُم عليه شيءٌ كان له حِلاًّ. (1)
قوله: (فتلت قلائد هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم) وللبخاري " فتلت قلائدها من عهن كان عندي " وفيه ردٌّ على من كره القلائد من الأوبار ، واختار أن تكون من نبات الأرض ، وهو منقول عن ربيعة ومالك.
وقال ابن التّين: لعله أراد أنّه الأولى مع القول بجواز كونها من الصّوف. والله أعلم
قوله: (ثمّ أشعرها) فيه مشروعيّة الإشعار ، وهو أن يكشط جلد البدنة حتّى يسيل دمٌ ثمّ يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هدياً وبذلك قال الجمهور من السّلف والخلف.
وذكر الطّحاويّ في " اختلاف العلماء " كراهته عن أبي حنيفة ، وذهب غيره إلى استحبابه للاتّباع حتّى صاحباه أبو يوسف ومحمّد فقالا: هو حسن. قال: وقال مالك: يختصّ الإشعار بمن لها سنام.
(1) أخرجه البخاري (1609 ، 1612 ، 1618) ومسلم (1321) من طرق عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها به. واللفظ لمسلم.
وأخرجه البخاري (1611 ، 1613 ، 2192 ، 5246) ومسلم (1321) من وجوه أخرى عن عمرة وعروة ومسروق عن عائشة نحوه.
قال الطّحاويّ: ثبت عن عائشة وابن عبّاس التّخيير في الإشعار وتركه فدلَّ على أنّه ليس بنسك ، لكنّه غير مكروه لثبوت فعله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال الخطّابيّ وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنّه من المثلة مردود بل هو باب آخر كالكيّ وشقّ أذن الحيوان ليصير علامة وغير ذلك من الوسم. وكالختان والحجامة وشفقة الإنسان على المال عادة. فلا يخشى ما توهّموه من سريان الجرح حتّى يفضي إلى الهلاك. ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيّده الذي كرهه به كأنّه يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السّراية حتّى تهلك البدنة مكروه فكان قريباً.
وقد كثُر تشنيع المتقدّمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار ، وانتصر له الطّحاويّ في " المعاني " فقال:
لَم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار. وإنّما كره ما يفعل على وجهٍ يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح ، ولا سيّما مع الطّعن بالشّفرة. فأراد سدّ الباب عن العامّة ، لأنّهم لا يراعون الحدّ في ذلك ، وأمّا من كان عارفاً بالسّنّة في ذلك فلا.
وفي هذا تعقّبٌ على الخطّابيّ حيث قال: لا أعلم أحداً كره الإشعار إلَاّ أبا حنيفة ، وخالفه صاحباه فقالا بقول الجماعة. انتهى.
وروي عن إبراهيم النّخعيّ أيضاً ، أنّه كره الإشعار. ذكر ذلك التّرمذيّ قال: سمعت أبا السّائب يقول: كنّا عند وكيع ، فقال له رجل: روي عن إبراهيم النّخعيّ أنّه قال: الإشعار مثلةٌ ، فقال له
وكيع: أقول لك أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول قال إبراهيم!؟ ما أحقّك بأن تحبس. انتهى.
وفيه تعقّبٌ على ابن حزم في زعمه: أنّه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلفٌ. وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع. ويتعيّن الرّجوع إلى ما قال الطّحاويّ فإنّه أعلم من غيره بأقوال أصحابه.
وفي هذا الحديث مشروعيّة الإشعار ، وفائدته الإعلام بأنّها صارت هدياً ليتبعها من يحتاج إلى ذلك. وحتّى لو اختلطت بغيرها تميّزت أو ضلَّت عُرفت ، أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشّرع وحثّ الغير عليه
تنبيه: اتّفق مَن قال بالإشعار. بإلحاق البقر في ذلك بالإبل ، إلَاّ سعيد بن جبير.
واتّفقوا على أنّ الغنم لا تُشعر لضعفها ، لكون صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار ، وأمّا على ما نقل عن مالك. فلكونها ليست ذات أسنمة. والله أعلم.
قوله: (وقلدها) في رواية لهما عن عمرة عن عائشة " ثم قلَّدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه.
قال ابن التّين: يحتمل أن يكون قول عائشة " ثمّ قلدها بيده " بياناً لحفظها للأمر ومعرفتها به. ويحتمل أن تكون أرادت أنّه صلى الله عليه وسلم تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التّقليد ، ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المُحرم ، لئلا يظنّ أحدٌ أنّه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد
الهدي.
قوله: (ثمّ بعث بها إلى البيت) ولهما من وجه آخر عن عمرة عن عائشة " ثم بعث بها مع أَبِي " بفتح الهمزة وكسر الموحّدة الخفيفة. تريد بذلك أباها أبا بكر الصّديق. واستفيد من ذلك وقت البعث. وأنّه كان في سنة تسع عام حجّ أبو بكر بالنّاس.
قال ابن التّين: أرادت عائشة بذلك علمها بجميع القصّة ، ويحتمل: أن تريد أنّه آخر فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنّه حجّ في العام الذي يليه حجّة الوداع ، لئلا يظنّ ظانّ أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام ثمّ نسخ. فأرادت إزالة هذا اللبس وأكملت ذلك بقولها " ، فلم يحرم عليه شيء كان له حلاً حتّى نحر الهدي " أي: وانقضى أمره ولَم يحرم وترك إحرامه بعد ذلك أحرى وأولى ، لأنّه إذا انتفى في وقت الشّبهة فلأن ينتفي عند انتفاء الشّبهة أولى.
وحاصل اعتراض عائشة على ابن عبّاس ، أنّه ذهب إلى ما أفتى به. قياساً للتّولية في أمر الهدي على المباشرة له ، فبيّنت عائشة أنّ هذا القياس لا اعتبار له في مقابلة هذه السّنّة الظّاهرة.
وفي الحديث من الفوائد: تناول الكبيرِ الشّيءَ بنفسه وإن كان له من يكفيه إذا كان ممّا يهتمّ به ، ولا سيّما ما كان من إقامة الشّرائع وأمور الدّيانة.
وفيه تعقّب بعض العلماء على بعضٍ، وردّ الاجتهاد بالنّصّ ، وأنّ الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم التّأسّي به حتّى تثبت الخصوصيّة.
قوله: (فما حرم عليه شيءٌ كان له حلاًّ) ولهما عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة، أنَّ عبد الله بن عباس، قال: من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج، حتى ينحر الهدي، وقد بعثتُ بهديي، فاكتبي إلي بأمرك، قالت عمرة: قالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلَّدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي.
وللبخاري عن مسروق أنّه قال: يا أمّ المؤمنين إنّ رجلاً يبعث بالهدي إلى الكعبة ، ويجلس في المِصْر فيوصي أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرماً حتّى يحل النّاس .. فذكر الحديث نحوه.
ولفظ الطّحاويّ في حديث مسروق ، قال: قلت لعائشة: إنّ رجالاً هاهنا يبعثون بالهدي إلى البيت ويأمرون الذي يبعثون معه بمعلم لهم يقلدها في ذلك اليوم فلا يزالون محرمين حتّى يحل النّاس " الحديث.
وقال سعيد بن منصور: حدّثنا هشيمٌ حدّثنا يحيى بن سعيد حدّثنا محدّث عن عائشة وقيل لها: إنّ زياداً إذا بعث بالهدي أمسك عمّا يمسك عنه المُحرم حتّى ينحر هديه ، فقالت عائشة: أو له كعبةٌ يطوف بها؟!.
قال: وحدّثنا يعقوب حدّثنا هشام عن أبيه ، بلغ عائشة أنّ زياداً بعث بالهدي ، وتجرّد. فقالت: إنْ كنت لأفتل قلائد هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم -
ثمّ يبعث بها وهو مقيم عندنا. ما يجتنب شيئاً.
وروى مالك في " الموطّإ " عن يحيى بن سعيد عن محمّد بن إبراهيم التّيميّ عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير ، أنّه رأى رجلاً متجرّداً بالعراق فسأل عنه ، فقالوا: إنّه أمر بهديه أن يقلد ، قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزّبير فذكرت له ذلك فقال: بدعةٌ وربّ الكعبة.
ورواه ابن أبي شيبة عن الثّقفيّ عن يحيى بن سعيد أخبرني محمّد بن إبراهيم ، أنّ ربيعة أخبره ، أنّه رأى ابن عبّاس - وهو أمير على البصرة في زمان عليّ - مُتجرّداً على منبر البصرة. فذكره. فعرف بهذا اسم المبهم في رواية مالك.
قال ابن التّين: خالف ابن عبّاس في هذا جميع الفقهاء ، واحتجّت عائشة بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه ، ولعل ابن عبّاس رجع عنه. انتهى.
وفيه قصور شديد. فإنّ ابن عبّاس لَم ينفرد بذلك ، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصّحابة.
منهم ابن عمر. رواه ابن أبي شيبة عن ابن عليّة عن أيّوب، وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما عن نافع ، أنّ ابن عمر كان إذا بعث بالهدي ، يُمسك عمّا يُمسك عنه المُحرم إلَاّ أنّه لا يلبّي.
ومنهم قيس بن سعد بن عبادة. أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيّب عنه نحو ذلك.
وروى ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن عليّ بن الحسين عن عمر
وعليّ ، أنّهما قالا في الرّجل يرسل ببدنته: أنّه يمسك عمّا يمسك عنه المُحرم. وهذا منقطع.
وقال ابن المنذر: قال عمر وعليّ وقيس بن سعد وابن عمر وابن عبّاس والنّخعيّ وعطاء وابن سيرين. وآخرون: من أرسل الهدي وأقام حرم عليه ما يحرم على المُحرم.
وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزّبير وآخرون: لا يصير بذلك محرماً. وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار.
ومن حجّة الأوّلين: ما رواه الطّحاويّ وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه قال: كنت جالساً عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقدَّ قميصه من جيبه حتّى أخرجه من رجليه ، وقال: إنّي أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا فلبستُ قميصي ونسيتُ ، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. الحديث.
وهذا لا حجّة فيه لضعف إسناده ، إلَاّ أنّ نسبة ابن عبّاس إلى التّفرّد بذلك خطأ. وقد ذهب سعيد بن المسيّب ، إلى أنّه لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المُحرم إلَاّ الجماع ليلة جمعٍ. رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح.
نعم. جاء عن الزّهريّ ما يدلّ على أنّ الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عبّاس. ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه. وأخرجه البيهقيّ من طريقه قال: أوّل من كشف العمى عن النّاس وبيّن لهم السّنّة في ذلك عائشة " فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها ، قال:
فلمّا بلغ النّاسَ قولُ عائشة أخذوا به ، وتركوا فتوى ابن عبّاس.
وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أنّ من أراد النّسك صار بمجرّد تقليده الهدي مُحرماً. حكاه ابن المنذر عن الثّوريّ وأحمد وإسحاق.
قال: وقال أصحاب الرّأي: من ساق الهدي وأمّ البيت ثمّ قلَّد وجب عليه الإحرام.
قال: وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرماً ، ولا يجب عليه شيء.
ونقل الخطّابيّ عن أصحاب الرّأي مثل قول ابن عبّاس ، وهو خطأٌ عليهم. فالطّحاويّ أعلم بهم منه.
ولعل الخطّابيّ ظنّ التّسوية بين المسألتين.