الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الواحد والعشرون
236 -
عن حفصة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنّها قالت: يا رسولَ الله ، ما شأن النّاس حلّوا بعمرةٍ (1) ولَم تحلّ أنت من عمرتك؟ فقال: إنّي لبّدتُ رأسي ، وقلَّدتُ هديي ، فلا أَحلّ حتّى أنحر (2).
قوله: (عن حفصة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم) بنت عمر. (3)
قوله: (قالت: يا رسولَ الله ما شأن النّاس حلّوا بعمرةٍ .. الحديث)، لَم يقع في رواية مسلم قوله " بعمرةٍ ".
وذكر ابن عبد البرّ. أنّ أصحاب مالك ذكرها بعضهم وحذفها بعضهم.
واستشكل كيف حلّوا بعمرةٍ مع قولها: ولَم تحلّ من عمرتك؟.
والجواب: أنّ المراد قولها " بعمرةٍ " أي: إنّ إحرامهم بعمرةٍ كان سبباً لسرعة حلهم.
واستدلَّ به على أنّ من ساق الهدي لا يتحلل من عمل العمرة حتّى يحلّ بالحجّ ويفرغ منه، لأنّه جعل العلة في بقائه على إحرامه كونه أهدى، وكذا وقع في حديث جابر " فلولا أني سقت الهدي لفعلت
(1) في النسخ المطبوعة (من العمرة) ولَم أرها في الصحيحين مطلقاً ، أمّا مسلم فلم يذكرها مطلقاً لا (بعمرة) ولا (من العمرة) كما قال الشارح.
أمَّا البخاري فلم يذكرها في بعض المواضع. وذكرها في بعضها ، لكن قال (بعمرة) وهو الصواب. وعليه فقوله (من العمرة) خطأ توارد عليه محققو العمدة. والله أعلم
(2)
أخرجه البخاري (1491 ، 1610 ، 1638 ، 4137 ، 5572) ومسلم (1229) من طرق عن نافع عن ابن عمر عن حفصة رضي الله عنها.
(3)
تقدَّمت ترجمتها رضي الله عنها في كتاب الصلاة رقم (66).
مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله " متفق عليه، وأخبر أنّه لا يحلّ حتّى ينحر الهدي. وهو قول أبي حنيفة وأحمد ومن وافقهما.
ويؤيّده قوله في حديث عائشة في الصحيحين " فأمر من لَم يكن ساق الهدي أن يحل " والأحاديث بذلك متضافرة.
وأجاب بعض المالكيّة والشّافعيّة عن ذلك: بأنّ السّبب في عدم تحلّله من العمرة كونه أدخلها على الحجّ، وهو مشكل عليه لأنّه يقول إنّ حجّه كان مفرداً.
وقال بعض العلماء: ليس لمَن قال كان مفرداً عن هذا الحديث انفصال، لأنّه إن قال به استشكل عليه كونه علل عدم التّحلّل بسوق الهدي ، لأنّ عدم التّحلّل لا يمتنع على من كان قارناً عنده.
وجنح الأصيليّ وغيره: إلى توهيم مالك في قوله " ولَم تحلّ أنت من عمرتك " وأنّه لَم يقله أحد في حديث حفصة غيره.
وتعقّبه ابن عبد البرّ - على تقدير تسليم انفراده - بأنّها زيادة حافظ فيجب قبولها، على أنّه لَم ينفرد، فقد تابعه أيّوب وعبيد الله بن عمر ، وهما مع ذلك حفّاظ أصحاب نافع. انتهى.
ورواية عبيد الله بن عمر عند مسلم، وقد أخرجه مسلم من رواية ابن جريجٍ والبخاريّ من رواية موسى بن عقبة ، والبيهقيّ من رواية شعيب بن أبي حمزة ثلاثتهم عن نافع بدونها.
ووقع في رواية عبيد الله بن عمر عند الشّيخين " فلا أحلّ حتّى
أحل من الحجّ ".
ولا تنافي هذه ورواية مالك ، لأنّ القارن لا يحلّ من العمرة ، ولا من الحجّ حتّى ينحر، فلا حجّة فيه لمن تمسّك بأنّه صلى الله عليه وسلم كان متمتّعاً كما سيأتي، لأنّ قول حفصة " ولَم تحلّ من عمرتك " وقوله هو " حتّى أحلّ من الحجّ " ظاهر في أنّه كان قارناً.
وأجاب مَن قال كان مفرداً عن قوله " ولَم تحلّ من عمرتك " بأجوبةٍ:
الجواب الأول: قاله الشّافعيّ معناه: ولَم تحلّ أنت من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنيّةٍ واحدة، بدليل قوله " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة "
الجواب الثاني: معناه ولَم تحلّ من حجّك بعمرةٍ كما أمرت أصحابك، قالوا: وقد تأتي " من " بمعنى الباء كقوله عز وجل (يحفظونه من أمر الله) أي: بأمر الله، والتّقدير ولَم تحلّ أنت بعمرةٍ من إحرامك.
الجواب الثالث: ظنّت أنّه فسخ حجّه بعمرةٍ كما فعل أصحابه بأمره فقالت: لِمَ لَمْ تحلّ أنت أيضاً من عمرتك؟.
ولا يخفى ما في بعض هذه التّأويلات من التّعسّف.
والذي تجتمع به الرّوايات أنّه صلى الله عليه وسلم كان قارناً. بمعنى أنّه أدخل العمرة على الحجّ بعد أن أهل به مفرداً، لا أنّه أوّل ما أهل أحرم بالحجّ والعمرة معاً.
وفي البخاري من حديث عمر مرفوعاً " وقل عمرة في حجّة " وحديث أنس " ثمّ أهل بحجٍّ وعمرة " ولمسلمٍ من حديث عمران بن حصين " جمع بين حجٍّ وعمرة ".
ولأبي داود والنّسائيّ من حديث البراء مرفوعاً " أنّي سقت الهدي وقرنت " ، وللنّسائيّ من حديث عليّ مثله.
ولأحمد من حديث سراقة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرن في حجّة الوداع. وله من حديث أبي طلحة " جمع بين الحجّ والعمرة ".
وللدّارقطنيّ من حديث أبي سعيد وأبي قتادة والبزّار من حديث ابن أبي أوفى ثلاثتهم مرفوعاً مثله.
وأجاب البيهقيّ عن هذه الأحاديث وغيرها نصرةً لِمن قال إنّه صلى الله عليه وسلم كان مفرداً ، فنقل عن سليمان بن حرب أنّ رواية أبي قلابة عن أنس ، أنّه سمعهم يصرخون بهما جميعاً (1). أثْبتُ من رواية من روي عنه ، أنّه صلى الله عليه وسلم جمع بين الحجّ والعمرة.
ثمّ تعقّبه: بأنّ قتادة وغيره من الحفّاظ رووه عن أنس كذلك، فالاختلاف فيه على أنس نفسه، قال: فلعله سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم غيره كيف يهلّ بالقران. فظنّ أنّه أهل عن نفسه.
وأجاب عن حديث حفصة: بما نقل عن الشّافعيّ أنّ معنى قولها "
(1) أخرجه البخاري (1548) من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه، قال: صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وسمعتهم يصرخون بهما جميعاً.
ولَم تحلّ أنت من عمرتك " أي: من إحرامك كما تقدّم، وعن حديث عمر بأنّ جماعة رووه بلفظ " صلَّى في هذا الوادي ، وقال: عمرة في حجّة ".
قال: وهؤلاء أكثر عدداً ممّن رواه " وقل: عمرة في حجّة " فيكون إذناً في القران. لا أمراً للنّبيّ صلى الله عليه وسلم في حال نفسه.
وعن حديث عمران (1): بأنّ المراد بذلك إذنه لأصحابه في القِران بدليل روايته الأخرى " أنّه صلى الله عليه وسلم أعمر بعض أهله في العشر " وروايته الأخرى " أنّه صلى الله عليه وسلم تمتّع " فإنّ مراده بكل ذلك إذنه في ذلك.
وعن حديث البراء (2) بأنّه ساقه في قصّة عليّ ، وقد رواها أنسٌ كما في البخاري وجابر كما أخرجه مسلم. وليس فيها لفظ " وقرنت " وأخرج حديث مجاهد عن عائشة قالت: لقد علم ابن عمر ، أنّ النّبيّ
(1) حديث عمران سيأتي إن شاء الله في العمدة بعد حديث حفصة.
(2)
حديث البراء. أخرجه أبوداود (1797) والنسائي في " الكبرى "(3691) والبيهقي في " السنن "(5/ 22) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء يعني ابن عازب قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن، فلمَّا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، قال علي: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف صنعت؟ قلت: أهللت بإهلالك ، قال: فإني سُقتُ الهدي. وقرنت قال: وقال لأصحابه: لو استقبلتُ من أمري كما استدبرتُ لفعلتُ كما فعلتم، ولكني سقت الهدي. وقرنت.
قال البيهقي: كذا في هذه الرواية " وقرنت " ، وليس ذلك في حديث جابر بن عبد الله حين وصف قدوم علي رضي الله عنه وإهلاله ، وحديث جابر أصحُّ سنداً ، وأحسن سياقة ، ومع حديث جابر حديث أنس بن مالك
- صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها في حجّته " أخرجه أبو داود.
وقال البيهقيّ: تفرّد أبو إسحاق عن مجاهد بهذا، وقد رواه منصور عن مجاهد بلفظ " فقالت: ما اعتمر في رجبٍ قطّ " وقال: هذا هو المحفوظ، ثمّ أشار إلى أنّه اختلف فيه على أبي إسحاق. فرواه زهير بن معاوية عنه هكذا ، وقال زكريّا: عن أبي إسحاق عن البراء.
ثمّ روى حديث جابر ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجّ حجّتين قبل أن يهاجر وحجّة قرن منها عمرة. يعني بعدما هاجر.
وحكى عن البخاريّ ، أنّه أعلَّه ، لأنّه من رواية زيد بن الحباب عن الثّوريّ عن جعفر عن أبيه عنه، وزيدٌ ربّما يَهِم في الشّيء، والمحفوظ عن الثّوريّ مرسل، والمعروف عن جابر ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهل بالحجّ خالصاً.
ثمّ روى حديث ابن عبّاس نحو حديث مجاهد عن عائشة ، وأعلَّه بداود العطّار ، وقال: إنّه تفرّد بوصله عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبّاس، ورواه ابن عيينة عن عمرو فأرسله ، ولَم يذكر ابن عبّاس.
ثمّ روى حديث الصُّبي بن معبد ، أنّه أهل بالحجّ والعمرة معاً فأنكر عليه، فقال له عمر: هديت لسنّة نبيّك. الحديث. وهو في السّنن. وفيه قصّة.
وأجاب عنه: بأنّه يدلّ على جواز القران ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان قارناً.
ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من التّعسّف.
وقال النّوويّ: الصّواب الذي نعتقده أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان قارناً، ويؤيّده: أنّه صلى الله عليه وسلم لَم يعتمر في تلك السّنة بعد الحجّ، ولا شكّ أنّ القِران أفضل من الإفراد الذي لا يعتمر في سننه عندنا، ولَم ينقل أحدٌ أنّ الحجّ وحده أفضل من القران.
كذا قال. والخلاف ثابت قديماً وحديثاً.
أمّا قديماً: فالثّابت عن عمر أنّه قال: إنّ أتمّ لحجّكم وعمرتكم أن تنشئوا لكلٍّ منهما سفراً. وعن ابن مسعود نحوه. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره.
وأمّا حديثاً: فقد صرّح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد ، ولو لَم يعتمر في تلك السّنة.
وقال صاحب الهداية من الحنفيّة: الخلاف بيننا وبين الشّافعيّ مبنيّ على أنّ القارن يطوف طوافاً واحداً وسعياً واحداً فبهذا ، قال: إنّ الإفراد أفضل، ونحن عندنا أنّ القارن يطوف طوافين وسعيين. فهو أفضل لكونه أكثر عملاً.
وقال الخطّابيّ: اختلفت الرّواية فيما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم به محرماً.
والجواب عن ذلك بأنّ كلّ راوٍ أضاف إليه ما أمر به اتّساعاً، ثمّ رجّح بأنّه كان أفرد الحجّ، وهذا هو المشهور عند المالكيّة والشّافعيّة.
وقد بسط الشّافعيّ القول فيه في " اختلاف الحديث " وغيره. ورجّح أنّه صلى الله عليه وسلم أحرم إحراماً مطلقاً ينتظر ما يؤمر به فنزّل عليه الحكم بذلك وهو على الصّفا، ورجّحوا الإفراد أيضاً بأنّ الخلفاء الرّاشدين
واظبوا عليه ولا يظنّ بهم المواظبة على ترك الأفضل، وبأنّه لَم ينقل عن أحدٍ منهم أنّه كره الإفراد، وقد نقل عنهم كراهية التّمتّع والجمع بينهما حتّى فعله عليّ لبيان الجواز، وبأنّ الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التّمتّع والقران. انتهى
وهذا ينبني على أنّ دم القران دم جبران ، وقد منعه من رجّح القران وقال: إنّه دم فضل وثواب كالأضحيّة، ولو كان دم نقص لَمَا قام الصّيام مقامه، ولأنّه يؤكل منه ودم النّقص لا يؤكل منه كدم الجزاء. قاله الطّحاويّ.
وقال عياض نحو ما قال الخطّابيّ. وزاد: وأمّا إحرامه هو فقد تضافرت الرّوايات الصّحيحة بأنّه كان مفرداً، وأمّا رواية من روى متمتّعاً فمعناه أمر به ، لأنّه صرّح بقوله " ولولا أنّ معي الهدي لأحللت " فصحّ أنّه لَم يتحلل. وأمّا رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله ، لأنّه أدخل العمرة على الحجّ لَمّا جاء إلى الوادي وقيل له " قل عمرة في حجّة ". انتهى
وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديماً ابن المنذر. وبيّنه ابن حزم في " حجّة الوداع " بياناً شافياً ، ومهّده المحبّ الطّبريّ تمهيداً بالغاً يطول ذكره.
ومحصّله: أنّ كلّ من روى عنه الإفراد حمل على ما أهلَّ به في أوّل الحال، وكلّ من روى عنه التّمتّع أراد ما أمر به أصحابه، وكلّ من روى عنه القران أراد ما استقرّ عليه أمره.
ويترجّح رواية مَن روى القِران بأمورٍ:
الأول: أنّ معه زيادة علم على من روى الإفراد وغيره.
الثاني: أنّ من روى الإفراد والتّمتّع اختلف عليه في ذلك.
فأشهر من روى عنه الإفراد عائشة. وقد ثبت عنها أنّه اعتمر مع حجّته كما في الصحيحن، وابن عمر ، وقد ثبت عنه " أنّه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة ثمّ أهل بالحجّ " كما في البخاري.
وثبت " أنّه جمع بين حجٍّ وعمرة ثمّ حدث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك " كما في البخاري أيضاً، وجابر بقوله: إنّه اعتمر مع حجّته أيضاً ". وروى القِرانَ عنه جماعةٌ من الصّحابة لَم يختلف عليهم فيه.
الثالث: أنّه لَم يقع في شيء من الرّوايات النّقل عنه من لفظه أنّه قال: أفردت ولا تمتّعت، بل صحّ عنه أنّه قال " قرنت " وصحّ عنه أنّه قال " لولا أنّ معي الهدي لأحللت "
الرابع: أنّ من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التّأويل إلَاّ بتعسّفٍ. بخلاف من روى الإفراد. فإنّه محمول على أوّل الحال وينتفي التّعارض.
ويؤيّده: أنّ من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران كما تقدّم، ومن روى عنه التّمتّع فإنّه محمول على الاقتصار على سفرٍ واحد للنّسكين.
ويؤيّده: أنّ من جاء عنه التّمتّع لَمّا وصفه. وصفه بصورة القِران ، لأنّهم اتّفقوا على أنّه لَم يحلّ من عمرته حتّى أتمّ عمل جميع الحجّ.
وهذه إحدى صور القران.
الخامس: أنّ رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيّاً بأسانيد جياد بخلاف روايتي الإفراد والتّمتّع. وهذا يقتضي رفع الشّكّ عن ذلك ، والمصير إلى أنّه كان قارناً.
القول الأول: مقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد ومن التّمتّع ، وهو قول جماعة من الصّحابة والتّابعين.
وبه قال الثّوريّ وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه ، واختاره من الشّافعيّة المزنيّ وابن المنذر وأبو إسحاق المروزيّ.
ومن المتأخّرين تقيّ الدّين السّبكيّ ، وبحث مع النّوويّ في اختياره ، أنّه صلى الله عليه وسلم كان قارناً ، وأنّ الإفراد مع ذلك أفضل. مستنداً إلى أنّه صلى الله عليه وسلم اختار الإفراد أوّلاً ، ثمّ أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحجّ لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور كما في الصحيحين.
وملخّص ما يتعقّب به كلامه: أنّ البيان قد سبق منه صلى الله عليه وسلم في عمره الثّلاث فإنّه أحرم بكلٍّ منها في ذي القعدة عمرة الحديبية التي صدّ عن البيت فيها وعمرة القضيّة التي بعدها وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره عمرة حجّته بيان الجواز فقط مع أنّ الأفضل خلافه لاكتفى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجّهم إلى العمرة.
القول الثاني: ذهب جماعة من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم: إلى أنّ التّمتّع أفضل لكونه صلى الله عليه وسلم تمنّاه ، فقال " لولا أنّي سقت الهدي
لأحللت " ولا يتمنّى إلَاّ الأفضل، وهو قول أحمد بن حنبل في المشهور عنه.
وأجيب: بأنّه إنّما تمنّاه تطييباً لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته وإلا فالأفضل ما اختاره الله له واستمرّ عليه.
وقال ابن قدامة: يترجّح التّمتّع. بأنّ الذي يفرد. إن اعتمر بعدها فهي عمرة مختلف في إجزائها عن حجّة الإسلام ، بخلاف عمرة التّمتّع فهي مجزئة بلا خلاف ، فيترجّح التّمتّع على الإفراد ويليه القران، وقال من رجّح القران. هو أشقّ من التّمتّع وعمرته مجزئة بلا خلاف فيكون أفضل منهما.
القول الثالث: حكى عياض عن بعض العلماء ، أنّ الصّور الثّلاث في الفضل سواء ، وهو مقتضى تصرّف ابن خزيمة في " صحيحه ".
القول الرابع: عن أبي يوسف: القِران والتّمتّع في الفضل سواء. وهما أفضل من الإفراد.
القول الخامس: عن أحمد: من ساق الهدي فالقِران أفضل له ليوافق فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومن لَم يسق الهدي فالتّمتّع أفضل له ليوافق ما تمنّاه وأمر به أصحابه.
زاد بعض أتباعه: ومن أراد أن ينشئ لعمرته من بلده سفراً فالإفراد أفضل له ، قال: وهذا أعدل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصّحيحة، فمَن قال الإفراد أفضل فعلى هذا يتنزّل ، لأنّ أعمال سفرين للنّسكين أكثر مشقّة فيكون أعظم أجراً ولتجزئ عنه
عمرته من غير نقص ولا اختلاف.
ومن العلماء من جمع بين الأحاديث على نمط آخر. مع موافقته على أنّه كان قارناً كالطّحاويّ وابن حبّان وغيرهما.
فقيل: أهلَّ أوّلاً بعمرةٍ ، ثمّ لَم يحلل منها إلى أن أدخل عليها الحجّ يوم التّروية.
ومستند هذا القائل حديث ابن عمر في البخاري بلفظ " فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة ، ثمّ أهل بالحجّ ".
وهذا لا ينافي إنكار ابن عمر على أنس كونه نقل أنّه صلى الله عليه وسلم أهل بالحجّ والعمرة كما تقدّم لاحتمال أن يكون من إنكاره كونه نقل أنّه أهل بهما معاً ، وإنّما المعروف عنده أنّه أدخل أحد النّسكين على الآخر ، لكنّ جزمه بأنّه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة مخالف لِمَا عليه أكثر الأحاديث. فهو مرجوح.
وقيل: أهلَّ أوّلاً بالحجّ مفرداً ، ثمّ استمرّ على ذلك إلى أن أمر أصحابه بأن يفسخوا حجّهم فيجعلوه عمرة وفسخ معهم، ومنعه من التّحلّل من عمرته المذكورة ما ذكره في حديث الباب وغيره من سوق الهدي. فاستمرّ معتمراً إلى أن أدخل عليها الحجّ حتّى تحلل منهما جميعاً، وهذا يستلزم أنّه أحرم بالحجّ أوّلاً وآخراً، وهو محتمل ، لكنّ الجمع الأوّل أولى.
وقيل: إنّه صلى الله عليه وسلم أهل بالحجّ مفرداً واستمرّ عليه إلى أن تحلل منه بمنًى ، ولَم يعتمر في تلك السّنة. وهو مقتضى من رجّح أنّه كان مفرداً.
والذي يظهر لي. أنّ من أنكر القران من الصّحابة نفى أن يكون أهل بهما في أوّل الحال، ولا ينفي أن يكون أهل بالحجّ مفرداً ، ثمّ أدخل عليه العمرة. فيجتمع القولان كما تقدّم. والله أعلم.
قوله: (ولَم تَحلِل) بكسر اللام الأولى. أي: لَم تحلّ، وإظهار التّضعيف لغة معروفة
قوله: (لبّدتُ) بتشديد الموحّدة. أي: شعر رأسي ، والتّلبيد هو أن يجعل فيه شيء ليلتصق به، نحو الصمغ ليجتمع شعره ، لئلا يتشعث في الإحرام أو يقع فيه القمل ، ولأبي داود والحاكم من طريق نافع عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم لبَّد رأسه بالعسل ".
قال ابن عبد السلام: يحتمل: أنه بفتح المهملتين ، ويحتمل: أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة. وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره.
قلت: ضبطناه في روايتنا في سنن أبي داود بالمهملتين ، ويؤخذ منه استحباب ذلك للمحرم.
واختلفوا فيمن لبّد. هل يتعيّن عليه الحلق أو لا؟.
فنقل ابن بطّال عن الجمهور تعيّن ذلك حتّى عن الشّافعيّ ، وقال أهل الرّأي: لا يتعيّن بل إن شاء قصّر. انتهى.
وهذا قول الشّافعيّ في الجديد.
وليس للأوّل دليل صريح. وأعلى ما فيه ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: سمعت عمر يقول: من ضفر رأسه فليحلق ، ولا
تشبّهوا بالتّلبيد " وكان ابن عمر يقول: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ملبّداً.
أمّا قول عمر. فحمله ابن بطّال على أنّ المراد إن أراد الإحرام فضفر شعره ليمنعه من الشّعث لَم يجز له أن يقصّر، لأنّه فعل ما يشبه التّلبيد الذي أوجب الشّارع فيه الحلق، وكان عمر يرى أنّ من لبّد رأسه في الإحرام تعيّن عليه الحلق والنّسك ، ولا يجزئه التّقصير، فشبّه من ضفر رأسه بمن لبّده. فلذلك أمر من ضفر أن يحلق.
ويحتمل: أن يكون عمر أراد الأمر بالحلق عند الإحرام حتّى لا يحتاج إلى التّلبيد ولا إلى الضّفر، أي: من أراد أن يضفّر أو يلبّد فليحلق فهو أولى من أن يضفّر أو يلبّد، ثمّ إذا أراد بعد ذلك التّقصير لَم يصل إلى الأخذ من سائر النّواحي كما هي السّنّة.
وأمّا قوله " تشبّهوا " فحكى ابن بطّال: أنّه بفتح أوّله. والأصل لا تتشبّهوا فحذفت إحدى التّاءين، قال: ويجوز ضمّ أوّله وكسر الموحّدة، والأوّل أظهر. وأمّا قول ابن عمر فظاهره أنّه فهم عن أبيه ، أنّه كان يرى أنّ ترك التّلبيد أولى، فأخبر هو أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله.
قوله: (وقلَّدتُ هديي) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في حديث عائشة بعد حديث.
قوله: (فلا أحلّ حتّى أنحر) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله في حديث جابر. (1)
(1) انظره برقم (244).