الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
187 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال: من نسي وهو صائمٌ. فأكل أو شرب ، فليتمّ صومه. فإنّما أطعمه الله وسقاه. (1)
قوله: (من نسي وهو صائم) وللبخاري " إذا نسي فأكل " وله أيضاً من طريق عوف عن ابن سيرين " من أكل ناسياً وهو صائم "، ولأبي داود من طريق حبيب بن الشّهيد وأيّوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة " جاء رجل فقال: يا رسولَ الله إنّي أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم " وهذا الرّجل هو أبو هريرة راوي الحديث. أخرجه الدّارقطنيّ بإسنادٍ ضعيفٍ.
قوله: (فليتمّ صومه) في رواية التّرمذيّ من طريق قتادة عن ابن سيرين " فلا يفطر ". وهل يجب عليه القضاء أو لا؟ وهي مسألة خلافٍ مشهورةٌ.
القول الأول: ذهب الجمهور إلى عدم الوجوب.
القول الثاني: عن مالك يبطل صومه ويجب عليه القضاء. قال عياضٌ: هذا هو المشهور عنه ، وهو قول شيخه ربيعٍ وجميع أصحاب مالك، لكن فرّقوا بين الفرض والنّفل.
(1) أخرجه البخاري (1831) من طريق يزيد بن زريع ، ومسلم (1155) من طريق إسماعيل بن إبراهيم كلاهما عن هشام القردوسي عن ابن سيرين عن أبي هريرة به.
وأخرجه البخاري (6292) من طريق عوف عن خلاس ومحمد عن أبي هريرة.
وقال الدّاوديّ (1): لعل مالكاً لَم يبلغه الحديث، أو أوّله على رفع الإثم.
قوله: (فإنّما أطعمه الله وسقاه) في رواية التّرمذيّ " فإنّما هو رزق رزقه الله " وللدّارقطنيّ من طريق ابن عليّة عن هشامٍ " فإنّما هو رزق ساقه الله تعالى إليه ".
قال ابن العربيّ: تمسّك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث، وتطلع مالكٌ إلى المسألة من طريقها فأشرف عليه، لأنّ الفطر ضدّ الصّوم والإمساك ركن الصّوم فأشبه ما لو نسي ركعةً من الصّلاة.
قال: وقد روى الدّارقطنيّ فيه " لا قضاء عليك " فتأوّله علماؤنا على أنّ معناه لا قضاء عليك الآن. وهذا تعسّفٌ، وإنّما أقول ليته صحّ فنتّبعه ونقول به، إلَاّ على أصل مالكٍ في أنّ خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لَم يعمل به، فلمّا جاء الحديث الأوّل الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به، وأمّا الثّاني فلا يوافقها فلم نعمل به.
وقال القرطبيّ: احتجّ به من أسقط القضاء، وأجيب: بأنّه لَم يتعرّض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة، لأنّ المطلوب صيام يوم لا خرم فيه، لكن روى الدّارقطنيّ فيه سقوط القضاء وهو نصٌّ لا يقبل الاحتمال، لكنّ الشّأن في صحّته، فإن صحّ وجب الأخذ به وسقط القضاء. انتهى.
وأجاب بعض المالكيّة: بحمل الحديث على صوم التّطوّع كما حكاه
(1) هو أحمد بن نصر ، سبق ترجمته (1/ 312)
ابن التّين عن ابن شعبان، وكذا قال ابن القصّار، واعتلَّ بأنّه لَم يقع في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التّطوّع.
وقال المُهلَّب وغيره: لَم يذكر في الحديث إثباتاً لقضاءٍ فيحمل على سقوط الكفّارة عنه وإثبات عذره ورفع الإثم عنه وبقاء نيّته التي بيّتها. انتهى.
والجواب عن ذلك كلّه: بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والدّارقطنيّ من طريق محمّد بن عبد الله الأنصاريّ عن محمّد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفّارة " فعيّن رمضان ، وصرّح بإسقاط القضاء. قال الدّارقطنيّ: تفرّد به محمّد بن مرزوقٍ عن الأنصاريّ.
وتعقّب: بأنّ ابن خزيمة أخرجه أيضاً عن إبراهيم ابن محمّدٍ الباهليّ ، وبأنّ الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرّازيّ كلاهما عن الأنصاريّ. فهو المنفرد به كما قال البيهقيّ ، وهو ثقةٌ.
والمراد أنّه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان، فإنّ النّسائيّ أخرج الحديث من طريق عليّ بن بكّار عن محمّد بن عمرو ولفظه " في الرّجل يأكل في شهر رمضان ناسياً فقال: الله أطعمه وسقاه ".
وقد ورد إسقاط القضاء من وجهٍ آخر عن أبي هريرة.
أخرجه الدّارقطنيّ من رواية محمّد بن عيسى ابن الطّبّاع عن ابن عليّة عن هشامٍ عن ابن سيرين ولفظه: فإنّما هو رزق ساقه الله إليه ،
ولا قضاء عليه.
وقال بعد تخريجه: هذا إسناد صحيحٌ وكلّهم ثقاتٌ.
قلت: لكنّ الحديث عند مسلمٍ وغيره من طريق ابن عليّة. وليس فيه هذه الزّيادة. وروى الدّارقطنيّ أيضاً إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبريّ والوليد بن عبد الرّحمن وعطاء بن يسارٍ كلّهم عن أبي هريرة.
وأخرج أيضاً من حديث أبي سعيد رفعه " من أكل في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه " وإسناده - وإن كان ضعيفاً - لكنّه صالحٌ للمتابعة. فأقلّ درجات الحديث بهذه الزّيادة أن يكون حسناً فيصلح للاحتجاج به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوّة.
ويعتضد أيضاً بأنّه قد أفتى به جماعةٌ من الصّحابة من غير مخالفةٍ لهم منهم - كما قاله ابن المنذر وابن حزمٍ وغيرهما - عليّ بن أبي طالبٍ وزيد بن ثابتٍ وأبو هريرة وابن عمر.
ثمّ هو موافق لقوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) فالنّسيان ليس من كسب القلب، وموافقٌ للقياس في إبطال الصّلاة بعمد الأكل لا بنسيانه. فكذلك الصّيام.
وأمّا القياس الذي ذكره ابن العربيّ. فهو في مقابلة النّصّ فلا يقبل.
وردّه للحديث مع صحّته بكونه خبر واحدٍ خالف القاعدة ليس بمسلمٍ، لأنّه قاعدةٌ مستقلةٌ بالصّيام فمن عارضه بالقياس على
الصّلاة أدخل قاعدةً في قاعدةٍ، ولو فتح باب ردّ الأحاديث الصّحيحة بمثل هذا لِمَا بقي من الحديث إلَاّ القليل.
وفي الحديث لطف الله بعباده والتّيسير عليهم ورفع المشقّة والحرج عنهما.
وقد روى أحمد لهذا الحديث سبباً فأخرج من طريق أمّ حكيمٍ بنت دينارٍ عن مولاتها أمّ إسحاق أنّها " كانت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتي بقصعةٍ من ثريد فأكلت معه، ثمّ تذكّرت أنّها كانت صائمةً، فقال لها ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أتمّي صومك فإنّما هو رزق ساقه الله إليك.
وفي هذا ردٌّ على من فرّق بين قليل الأكل وكثيره.
ومن المستظرفات. ما رواه عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ عن عمرو بن دينارٍ: أنّ إنساناً جاء إلى أبي هريرة ، فقال: أصبحتُ صائماً فنسيت فطعمت، قال: لا بأس. قال: ثمّ دخلت على إنسانٍ فنسيت وطعمت وشربت، قال: لا بأس. الله أطعمك وسقاك. ثمّ قال: دخلت على آخر فنسيت فطعمت، فقال أبو هريرة: أنت إنسانٌ لَم تتعوّد الصّيام.
واختلفوا فيمن جامع ناسياً.
القول الأول. أخرج عبد الرّزّاق قال: أخبرنا ابن جريجٍ عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قال: لو وطئ رجلٌ امرأته وهو صائم ناسياً في رمضان لَم يكن عليه فيه شيءٌ.
وعن الثّوريّ عن رجلٍ عن الحسن قال: هو بمنزلة من أكل أو شرب ناسياً " وروي أيضاً عن ابن جريجٍ أنّه سأل عطاءً عن رجلٍ أصاب امرأته ناسياً في رمضان، قال: لا ينسى، هذا كلّه عليه القضاء. وتابع عطاءً على ذلك ، الأوزاعيّ والليث ومالكٌ وأحمد ، وهو أحد الوجهين للشّافعيّة.
وفرّق هؤلاء كلّهم بين الأكل والجماع.
القول الثاني: عن أحمد في المشهور عنه: تجب عليه الكفّارة أيضاً، وحجّتهم قصور حالة المُجامع ناسياً عن حالة الآكل.
وألحق به بعض الشّافعيّة من أكل كثيراً لندور نسيان ذلك.
قال ابن دقيق العيد: ذهب مالكٌ إلى إيجاب القضاء على من أكل أو شرب ناسياً وهو القياس، فإنّ الصّوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات، والقاعدة أنّ النّسيان لا يؤثّر في المأمورات.
قال: وعمدة من لَم يوجب القضاء حديث أبي هريرة ، لأنّه أمر بالإتمام، وسمّى الذي يتمّ صوماً، وظاهره حمله على الحقيقة الشّرعيّة فيتمسّك به حتّى يدل دليلٌ على أنّ المراد بالصّوم هنا حقيقته اللّغويّة.
وكأنّه يشير بهذا إلى قول ابن القصّار: إنّ معنى قوله " فليتمّ صومه " أي: الذي كان دخل فيه ، وليس فيه نفي القضاء. قال وقوله " فإنّما أطعمه الله وسقاه " ممّا يستدلّ به على صحّة الصّوم لإشعاره بأنّ الفعل الصّادر منه مسلوب الإضافة إليه فلو كان أفطر لأضيف الحكم إليه.
قال: وتعليق الحكم بالأكل والشّرب للغالب لأنّ نسيان الجماع نادرٌ بالنّسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوماً، وقد اختلف فيه القائلون بأنّ أكل النّاسي لا يوجب قضاءً.
واختلف القائلون بالإفساد. هل يوجب مع القضاء الكفّارة أو لا؟ مع اتّفاقهم على أنّ أكل النّاسي لا يوجبها.
ومدار كل ذلك على قصور حالة المُجامع ناسياً عن حالة الآكل، ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه. فإنّما طريقه القياس ، والقياس مع وجود الفارق متعذّرٌ، إلَاّ إن بيّن القائس أنّ الوصف الفارق ملغًى. انتهى.
وأجاب بعض الشّافعيّة: بأنّ عدم وجوب القضاء عن المُجامع مأخوذ من عموم قوله في بعض طرق الحديث " من أفطر في شهر رمضان " لأنّ الفطر أعمّ من أن يكون بأكلٍ أو شربٍ أو جماعٍ، وإنّما خصّ الأكل والشّرب بالذّكر في الطّريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعاً ولعدم الاستغناء عنهما غالباً.
تكميل: أورد البخاريُّ الحديثَ في كتاب الأيمان باب " إذا حنث ناسياً " أي: هل تجب عليه الكفّارة أو لا؟.
وقد اختلف السّلف في ذلك على مذاهب.
ثالثها: التّفرقة بين الطّلاق والعتاق فتجب فيه الكفّارة مع الجهل والنّسيان. بخلاف غيرهما من الأيمان فلا تجب، وهذا قول عن الإمام الشّافعيّ. ورواية عن أحمد.
والرّاجح عند الشّافعيّة. التّسوية بين الجميع في عدم الوجوب، وعن الحنابلة عكسه ، وهو قول المالكيّة والحنفيّة.
وقال ابن المنذر: كان أحمد يُوقع الحنث في النّسيان في الطّلاق حسب ، ويقف عمّا سوى ذلك.
وقال ابن المنير في الحاشية: أوجب مالك الحنث على النّاسي. ولَم يخالف ذلك في ظاهر الأمر إلَاّ في مسألةٍ واحدةٍ ، وهي من حلف بالطّلاق لَيصومنَّ غداً فأكل ناسياً بعد أن بيّت الصّيام من الليل، فقال مالك: لا شيء عليه، فاختلف عنه. فقيل: لا قضاء عليه ، وقيل: لا حنث ولا قضاء وهو الرّاجح.
أمّا عدم القضاء فلأنّه لَم يتعمّد إبطال العبادة، وأمّا عدم الحنث فهو على تقدير صحّة الصّوم؛ لأنّه المحلوف: عليه، وقد صحّح الشّارع صومه، فإذا صحّ صومه لَم يقع عليه حنثٌ.