الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والعشرون
203 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ صيام ثلاثة أيّامٍ من كل شهرٍ ، وركعتي الضّحى ، وأنْ أوتر قبل أن أنام. (1)
قوله: (أوصاني خليلي) الخليل الصّديق الخالص الذي تخلَّلت محبّته القلب فصارت في خلاله. أي: في باطنه.
واختلف. هل الخلة أرفع من المحبّة أو العكس؟.
وقول أبى هريرة هذا. لا يعارضه ما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر. لأنّ الممتنع أن يتّخذ هو صلى الله عليه وسلم غيره خليلاً لا العكس، ولا يقال إنّ المخاللة لا تتمّ حتّى تكون من الجانبين ، لأنّا نقول:
إنّما نظر الصّحابيّ إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرّد الصّحبة أو المحبّة.
قال أبو محمّد بن أبي جمرة في قول أبي هريرة " أوصاني خليلي " قال: في إفراده بهذه الوصيّة إشارة إلى أنّ القدر الموصى به هو اللائق بحاله، وفي قوله " خليلي " إشارةٌ إلى موافقته له في إيثار الاشتغال بالعبادة على الاشتغال بالدّنيا ، لأنّ أبا هريرة صبر على الجوع في
(1) أخرجه البخاري (1124 ، 1880) ومسلم (721) من طرق عن أبي عثمان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم (721) من وجه آخر عن أبي رافع الصائغ عن أبي هريرة مثله.
ملازمته للنّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في حديثه حيث قال: أمّا إخواني فكان يشغلهم الصّفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) فشابه حال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في إيثاره الفقر على الغنى والعبوديّة على الملك.
قال: ويؤخذ منه الافتخار بصحبة الأكابر إذا كان ذلك على معنى التّحدّث بالنّعمة والشّكر لله، لا على وجه المباهاة. والله أعلم.
وهذه الوصيّة لأبي هريرة ورد مثلها لأبي الدّرداء فيما رواه مسلم، ولأبي ذرٍّ فيما رواه النّسائيّ.
قوله: (بثلاثٍ) زاد البخاري " لا أدعهنّ حتّى أموت ".
يحتمل: أن يكون قوله " لا أدعهنّ إلخ " من جملة الوصيّة، أي: أوصاني أن لا أدعهنّ.
ويحتمل: أن يكون من إخبار الصّحابيّ بذلك عن نفسه.
قوله: (صيام ثلاثة أيّام) بالخفض بدل من قوله " بثلاث " ويجوز الرّفع على أنّه خبر مبتدإٍ محذوفٍ
قوله: (من كل شهر) الذي يظهر أنّ المراد بها البيض، وهي الليالي التي يكون فيها القمر من أوّل الليل إلى آخره، حتّى قال الجواليقيّ: مَن قال الأيّام البيض فجعل البيض صفة الأيّام فقد أخطأ.
وفيه نظرٌ ، لأنّ الصّوم الكامل هو النّهار بليلته، وليس في الشّهر يومٌ أبيض كلّه إلَاّ هذه الأيّام ، لأنّ ليلها أبيض ونهارها أبيض فصحّ
(1) أخرجه البخاري (188) ومسلم (2492) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قول " الأيّام البيض " على الوصف.
وحكى ابن بزيزة في تسميتها بِيضاً أقوالاً أخر مستندةً إلى أقوالٍ واهيةٍ.
قال الإسماعيليّ وابن بطّال وغيرهما: ليس في الحديث الذي أورده البخاريّ في هذا الباب ما يطابق التّرجمة (1)، لأنّ الحديث مطلقٌ في ثلاثة أيّام من كلّ شهر والبيض مقيّدة بما ذكر.
وأجيب: بأنّ البخاريّ جرى على عادته في الإيماء إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وهو ما رواه أحمد والنّسائيّ وصحَّحه ابن حبّان من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: جاء أعرابيٌّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأرنبٍ قد شواها، فأمرهم أن يأكلوا وأمسك الأعرابيّ، فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: إنّي أصوم ثلاثة أيّامٍ من كلّ شهرٍ، قال: إن كنت صائماً فصم الغرّ، أي: البيض.
وهذا الحديث اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافاً كثيراً بيّنه الدّارقطنيّ، وفي بعض طرقه عند النّسائيّ " إن كنت صائماً فصم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ".
وجاء تقييدها أيضاً في حديث قتادة بن ملحان - ويقال ابن منهالٍ - عند أصحاب السّنن بلفظ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هي كهيئة
(1) بوّب البخاري على حديث الباب في الصوم " باب صيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة "
الدّهر ".
وللنّسائيّ من حديث جرير مرفوعاً: صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر صيام الدّهر: أيّام البيض صبيحة ثلاث عشرة. الحديث. وإسناده صحيح.
وأمّا ما رواه أصحاب السّنن وصحَّحه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيّام من غرّة كلّ شهر. وما روى أبو داود والنّسائيّ من حديث حفصة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى.
فقد جمع بينهما وما قبلهما البيهقيّ: بما أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام ما يبالي من أيّ الشّهر صام.
قال: فكلّ من رآه فعل نوعاً ذكَرَه، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت.
والذي يظهر أنّ الذي أمر به وحثّ عليه ووصّى به أولى من غيره، وأمّا هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز، وكلّ ذلك في حقّه أفضل.
وتترجّح البِيض بكونها وسط الشّهر ، ووسط الشّيء أعدله، ولأنّ الكسوف غالباً يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع ، فإذا اتّفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائماً فيتهيّأ له أن
يجمع بين أنواع العبادات من الصّيام والصّلاة والصّدقة، بخلاف من لَم يصمها. فإنّه لا يتأتّى له استدراك صيامها، ولا عند من يجوّز صيام التّطوّع بغير نيّة من الليل إلَاّ إن صادف الكسوف من أوّل النّهار.
ورجّح بعضهم: صيام الثّلاثة في أوّل الشّهر ، لأنّ المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع.
وقال بعضهم: يصوم من أوّل كل عشرة أيّام يوماً.
وله وجهٌ في النّظر، ونقل ذلك عن أبي الدّرداء، وهو يوافق ما تقدّم في رواية النّسائيّ في حديث عبد الله بن عمرو " صم من كلّ عشرة أيّام يوماً ".
وروى التّرمذيّ من طريق خيثمة عن عائشة ، أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الشّهر السّبت والأحد والاثنين، ومن الآخر الثّلاثاء والأربعاء والخميس. وروي موقوفاً وهو أشبه، وكأنّ الغرض به أن يستوعب غالب أيّام الأسبوع بالصّيام.
واختار إبراهيم النّخعيّ أن يصومها آخر الشّهر ليكون كفّارةً لِمَا مضى، ويؤيّده حديث عمران بن حصينٍ في الأمر بصيام سرار الشّهر. (1)
(1) أخرجه البخاري (1882) ومسلم (1161) عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ، أو لآخر: أصمتَ من سرَرِ شعبان؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرتَ فصم يومين.
قال ابن حجر في الفتح: والسَّرر بفتح السين المهملة ، ويجوز كسرها وضمها جمع سرة ، ويقال أيضاً سرار بفتح أوله وكسره، ورجَّح الفراء الفتح، وهو من الاستسرار. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال أبو عبيد والجمهور: المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سُميت بذلك لاستسرار القمر فيها ، وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين.
ونقل أبو داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أنَّ سرره أوله، ونقل الخطابي عن الأوزاعي كالجمهور.
وقيل: السرر وسط الشهر. حكاه أبو داود أيضاً ، ورجحه بعضهم، ووجَّهه بأنَّ السرر جمع سرة وسرة الشيء وسطه.
ويؤيده الندب إلى صيام البيض. وهي وسط الشهر ، وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاص. وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان.
ورجَّحه النووي بأنَّ مسلماً أفرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات ، وأردف بها الروايات التي فيها الحضُّ على صيام البيض. وهي وسط الشهر.
لكن لم أره في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره - وهو " سرة " - بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ " سرار " وأخرجه من طرق في بعضها " سرر ". وفي بعضها " سرار "، وهذا يدلُّ على أنَّ المراد آخر الشهر.
قال الخطابي: قال بعض أهل العلم: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن ذلك سؤال زجر وإنكار، لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين.
وتعقّب: بأنه لو أنكر ذلك لم يأمره بقضاء ذلك.
وأجاب الخطابي: باحتمال أن يكون الرجل أوجبها على نفسه فلذلك أمره بالوفاء ، وأن يقضي ذلك في شوال. انتهى.
وقال ابن المنير في الحاشية: قوله (سؤال إنكار) فيه تكلّف، ويدفع في صدره قول المسئول " لا يا رسول الله " فلو كان سؤال إنكار لكان صلى الله عليه وسلم قد أنكر عليه أنه صام ، والفرض أنَّ الرجل لم يصم. فكيف ينكر عليه فعل ما لم يفعله؟.
ويحتمل: أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر فلما سمع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يتقدَّم أحدٌ رمضان بصوم يوم أو يومين ، ولم يبلغه الاستثناء ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك فأمره بقضائها لتستمر محافظته على ما وظف على نفسه من العبادة، لأنَّ أحب العمل إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه.
وأشار القرطبي إلى أنَّ الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره - وهو آخر الشهر - الفرار من المعارضة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين.
وقال: الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك ، وحمل الأمر على من له عادة حملاً للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع. انتهى بتجوّز
وقال الرّويانيّ: صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر مستحبٌّ، فإن اتّفقت أيّام البيض كان أحبّ. وفي كلام غير واحد من العلماء أيضاً أنّ استحباب صيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر.
قال شيخنا في " شرح التّرمذيّ ": حاصل الخلاف في تعيين البيض تسعة أقوالٍ:
أحدها: لا تتعيّن ، بل يكره تعيينها وهذا عن مالك.
الثّاني: أوّل ثلاثة من الشّهر. قاله الحسن البصريّ.
الثّالث: أوّلها الثّاني عشر.
الرّابع: أوّلها الثّالث عشر.
الخامس: أوّلها أوّل سبت من أوّل الشّهر ، ثمّ من أوّل الثّلاثاء من الشّهر الذي يليه وهكذا. وهو عن عائشة.
السّادس: أوّل خميس ثمّ اثنين ثمّ خميس.
السّابع: أوّل اثنين ثمّ خميس ثمّ اثنين.
الثّامن: أوّل يوم والعاشر والعشرون. عن أبي الدّرداء.
التّاسع: أوّل كلّ عشرٍ. عن ابن شعبان المالكيّ.
قلت: بقي قولٌ آخر. وهو آخر ثلاثة من الشّهر عن النّخعيّ. فتمّت عشرةً.
قوله: (وصلاة الضّحى) في رواية لهما " وركعتي الضّحى " زاد أحمد في روايته " كلّ يوم ".
قال ابن دقيق العيد: لعلَّه ذكر الأقلّ الذي يوجد التّأكيد بفعله، وفي هذا دلالة على استحباب صلاة الضّحى وأنّ أقلها ركعتان، وعدم مواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على فعلها لا ينافي استحبابها ، لأنّه حاصلٌ بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النّبيّ صلى الله عليه وسلم على فعله مرجّح على ما لَم يواظب عليه.
تكميل: أخرج الشيخان عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال: ما حدّثنا أحدٌ أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي الضّحى غير أمّ هانئٍ فإنّها قالت: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكّة، فاغتسل وصلَّى ثماني ركعاتٍ، فلم أر صلاةً قطّ أخفّ منها، غير أنّه يتمّ الرّكوع والسّجود.
واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضّحى.
وفيه نظرٌ. لاحتمال أن يكون السّبب فيه التّفرّغ لِمُهمّات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنّه صلَّى الضّحى فطوّل فيها. أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة.
واستدل بحديث أم هانئ على إثبات سنّة الضّحى.
وحكى عياض عن قومٍ. أنّه ليس في حديث أمّ هانئ دلالة على ذلك، قالوا: وإنّما هي سنّة الفتح، وقد صلَاّها خالد بن الوليد في بعض فتوحه كذلك.
وقال عياض أيضاً: ليس حديث أمّ هانئ بظاهرٍ في أنّه قصد صلى الله عليه وسلم بها سنّة الضّحى ، وإنّما فيه أنّها أَخبرت عن وقت صلاته فقط ، وقد
قيل: إنّها كانت قضاء عمّا شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيه.
وتعقّبه النّوويّ: بأنّ الصّواب صحّة الاستدلال به لِمَا رواه أبو داود وغيره من طريق كريب عن أمّ هانئ ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى سبحة الضّحى. ولمسلمٍ في " كتاب الطّهارة " من طريق أبي مرّة عن أمّ هانئ - في قصّة اغتساله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح -: ثمّ صلَّى ثمان ركعات سبحة الضّحى.
وروى ابن عبد البرّ في " التّمهيد " من طريق عكرمة بن خالد عن أمّ هانئ ، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة فصلَّى ثمان ركعات، فقلت: ما هذه؟ قال: هذه صلاة الضّحى.
واستدل به على أنّ أكثر صلاة الضّحى ثمان ركعات.
واستبعده السّبكيّ ووجّه: بأنّ الأصل في العبادة التّوقّف، وهذا أكثر ما ورد في ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد من فعله دون ذلك. كحديث ابن أبي أوفى ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى الضّحى ركعتين. أخرجه ابن عديّ. وجاء من حديث عتبان مثله. رواه أحمد من طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى في بيته سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا بصلاته. أخرجه عن عثمان بن عمر عن يونس عنه.
وقد أخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس مطولاً ، لكن ليس فيه ذكرُ السبحة ، وكذلك أخرجه البخاريُّ مطولاً ومختصراً في مواضع.
وحديث عائشة عند مسلم: كان يُصلِّي الضّحى أربعاً. وحديث جابر عند الطّبرانيّ في " الأوسط " ،أنّه صلى الله عليه وسلم صلَّى الضّحى ستّ ركعات.
وأمّا ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم ففيه زيادةٌ على ذلك.
كحديث أنس مرفوعاً: من صلَّى الضّحى ثنتي عشرة ركعةً بنى الله له قصراً في الجنّة. أخرجه التّرمذيّ واستغربه. وليس في إسناده من أطلق عليه الضّعف.
وعند الطّبرانيّ من حديث أبي الدّرداء مرفوعاً: من صلَّى الضّحى ركعتين لَم يكتب من الغافلين، ومن صلَّى أربعاً كتب من التّائبين، ومن صلَّى ستّاً كُفي ذلك اليوم، ومن صلَّى ثمانياً كُتب من العابدين، ومن صلَّى ثنتي عشرة بنى الله له بيتاً في الجنّة. وفي إسناده ضعفٌ أيضاً.
وله شاهدٌ من حديث أبي ذرٍّ رواه البزّار. وفي إسناده ضعفٌ أيضاً، ومن ثَمَّ قال الرّويانيّ ومن تبعه: أكثرها ثنتا عشرة.
وقال النّوويّ في شرح المهذّب: فيه حديث ضعيف.
كأنّه يشير إلى حديث أنس، لكن إذا ضمّ إليه حديث أبي ذرٍّ وأبي الدّرداء قوي وصلح للاحتجاج به.
ونقل التّرمذيّ عن أحمد: أنّ أصحّ شيءٍ ورد في الباب حديث أمّ هانئ. وهو كما قال.
ولهذا قال النّوويّ في الرّوضة: أفضلها ثمان وأكثرها ثنتا عشرة، ففرّق بين الأكثر والأفضل. ولا يتصوّر ذلك إلَاّ فيمن صلَّى الاثنتي
عشرة بتسليمةٍ واحدة فإنّها تقع نفلاً مطلقاً عند من يقول إنّ أكثر سنّة الضّحى ثمان ركعات.
فأمّا من فصّل فإنّه يكون صلَّى الضّحى، وما زاد على الثّمان يكون له نفلاً مطلقاً فتكون صلاته اثنتي عشرة في حقّه أفضل من ثمانٍ لكونه أتى بالأفضل ، وزاد.
وقد ذهب قوم منهم أبو جعفر الطّبريّ ، وبه جزم الحليميّ والرّويانيّ من الشّافعيّة. إلى أنّه لا حدّ لأكثرها. وروى (1) من طريق إبراهيم النّخعيّ قال: سأل رجلٌ الأسود بن يزيد. كم أصلّي الضّحى؟ قال: كم شئت.
وفي حديث عائشة عند مسلم: كان يُصلِّي الضّحى أربعاً ويزيد ما شاء الله. وهذا الإطلاق قد يحمل على التّقييد فيؤكّد أنّ أكثرها اثنتا عشرة ركعة. والله أعلم.
وذهب آخرون: إلى أنّ أفضلها أربع ركعاتٍ.
فحكى الحاكم في كتابه المفرد في صلاة الضّحى عن جماعةٍ من أئمّة الحديث ، أنّهم كانوا يختارون أن تُصلَّى الضّحى أربعاً لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك كحديث أبي الدّرداء وأبي ذرٍّ عند التّرمذيّ مرفوعاً عن الله تعالى " ابن آدم اركع لي أربع ركعاتٍ من أوّل النّهار أكفك آخره ".
وحديث نعيم بن حمّاد عند النّسائيّ، وحديث أبي أُمامة وعبد الله
(1) أي: الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله.
بن عمرو والنّوّاس بن سمعان كلّهم بنحوه عند الطّبرانيّ، وحديث عقبة بن عامر وأبي مرّة الطّائفيّ كلاهما عند أحمد بنحوه، وحديث عائشة عند مسلم كما تقدّم.
وحديث أبي موسى رفعه: من صلَّى الضّحى أربعاً بنى الله له بيتاً في الجنّة. أخرجه الطّبرانيّ في " الأوسط "، وحديث أبي أُمامة مرفوعاً " أتدرون قوله تعالى (وإبراهيم الذي وفّى) قال: وفي عمل يومه بأربع ركعات الضّحى " أخرجه الحاكم.
وجمع ابن القيّم في الهدي الأقوال في صلاة الضّحى فبلغت ستّةً:
القول الأوّل: مستحبّة.
واختلف في عددها.
فقيل: أقلّها ركعتان وأكثرها اثنتا عشرة، وقيل: أكثرها ثمان، وقيل: كالأوّل لكن لا تشرع ستّاً ولا عشرة، وقيل: كالثّاني لكن لا تشرع ستّاً، وقيل: ركعتان فقط، وقيل: أربعاً فقط، وقيل: لا حدّ لأكثرها.
القول الثّاني: لا تشرع إلَاّ لسببٍ، واحتجّوا بأنّه صلى الله عليه وسلم لَم يفعلها إلَاّ بسببٍ، واتّفق وقوعها وقت الضّحى، وتعدّدت الأسباب:
فحديث أمّ هانئٍ في صلاته يوم الفتح كان بسبب الفتح ، وأنّ سنّةَ الفتحِ أن يُصلِّي ثمان ركعات، ونقله الطّبريّ من فعل خالد بن الوليد لَمّا فتح الحيرة.
وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى ، أنّه صلى الله عليه وسلم صلَّى الضّحى حين بشّر
برأس أبي جهل. (1) وهذه صلاة شكرٍ كصلاته يوم الفتح.
وصلاته في بيت عتبان إجابةً لسؤاله أن يُصلِّي في بيته مكاناً يتّخذه مُصلًّى ، فاتّفق أنّه جاءه وقت الضّحى فاختصره الرّاوي فقال: صلَّى في بيته الضّحى.
وكذلك حديث بنحو قصّة عتبان مختصراً ، قال أنس: ما رأيته صلَّى الضّحى إلَاّ يومئذٍ. (2) وحديث عائشة: لَم يكن يُصلِّي الضّحى إلَاّ أن يجيء من مغيبه. (3) لأنّه كان ينهى عن الطّروق ليلاً فيقدم في
(1) أخرجه ابن ماجه في " السنن "(1391) والبزار في " مسنده "(3386) من طريق سلمة بن رجاء قال: حدثتني شعثاء، عن عبد الله بن أبي أوفى به.
قال البوصيريُّ في الزوائد: في إسناده شعثاء ، ولم أر من تكلَّم فيها لا بجرح ولا بتوثيق ، وسلمة بن رجاء ليَّنه ابن معين. وقال ابن عدي: حدَّث بأحاديث لا يُتابع عليها. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: ينفرد عن الثقات بأحاديث. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: ما بأحاديثه بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. انتهى.
(2)
أخرجه البخاري في " صحيحه "(639).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (717).
وللبخاري (1076) ومسلم (718) عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
ولمسلم (719) عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله.
قال الشارح في الفتح: في الأول: تقييد النفي بغير المجيء من مغيبه ، وفي الثاني: نفي رؤيتها لذلك مطلقاً ، وفي الثالث الإثبات مطلقاً.
وقد اختلف العلماء في ذلك:
فذهب ابن عبد البر وجماعة إلى ترجيح ما اتفق الشيخان عليه دون ما انفرد به مسلم ، وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع. فيقدم من روي عنه من الصحابة الأثبات.
وذهب آخرون إلى الجمع بينهما. قال البيهقي: عندي أنَّ المراد بقولها " ما رأيته سبحها " أي: داوم عليها ، وقولها " وإني لأسبحها " أي: أداوم عليها ، وكذا قولها: وما أحدث الناس شيئاً. تعني المداومة عليها.
قال: وفي بقية الحديث إشارة إلى ذلك حيث قالت: وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. انتهى.
وحكى المحب الطبري ، أنه جمع بين قولها " ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه " ، وقولها " كان يصلي أربعاً ويزيد ما شاء الله " بأنَّ الأول محمول على صلاته إياها في المسجد والثاني على البيت.
قال: ويعكّر عليه حديثها الثاني ، ويجاب عنه بأن المنفي صفة مخصوصه وأخذ الجمع المذكور من كلام ابن حبان.
وقال عياض وغيره: قوله " ما صلاها " معناه ما رأيته يصليها ، والجمع بينه وبين قولها " كان يصليها " أنها أخبرت في الإنكار عن مشاهدتها ، وفي الإثبات عن غيرها.
وقيل في الجمع أيضاً يحتمل أن تكون نفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص ، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلّيها إذا قدم من سفر لا بعدد مخصوص ولا بغيره. كما قالت: يصلي أربعاً ويزيد ما شاء الله. انتهى
أوّل النّهار فيبدأ بالمسجد فيصلي وقت الضّحى.
القول الثّالث: لا تستحبّ أصلاً، وصحّ عن عبد الرّحمن بن عوف ، أنّه لَم يصلها ، وكذلك ابن مسعود.
القول الرّابع: يستحبّ فعلها تارة وتركها تارةً بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الرّوايتين عن أحمد.
والحجّة فيه حديث أبي سعيد: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي الضّحى حتّى نقول لا يدعها، ويدعها حتّى نقول لا يصليها. أخرجه الحاكم. وعن عكرمة ، كان ابن عبّاس يصليها عشراً ويدعها عشراً.
وقال الثّوريّ عن منصور: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها
كالمكتوبة. وعن سعيد بن جبير: إنّي لأدعها وأنا أحبّها. مخافة أن أراها حتماً عليّ.
القول الخامس: تستحبّ صلاتها والمواظبة عليها في البيوت، أي: للأمن من الخشية المذكورة.
القول السّادس: أنّها بدعةٌ. صحّ ذلك من رواية عروة عن ابن عمر، وسئل أنس عن صلاة الضّحى فقال: الصّلوات خمس. وعن أبي بكرة ، أنّه رأى ناساً يصلّون الضّحى فقال: ما صلَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عامّة أصحابه.
والحكمة في الوصيّة على المحافظة على ذلك تمرين النّفس على جنس الصّلاة والصّيام ليدخل في الواجب منهما بانشراحٍ، ولينجبر ما لعله يقع فيه من نقص.
ومن فوائد ركعتي الضّحى. أنّها تجزئ عن الصّدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يومٍ - وهي ثلاثمائة وستّون مفصلاً - كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذرٍّ ، وقال فيه " ويجزئ عن ذلك ركعتا الضّحى ".
وحكى شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح التّرمذيّ: أنّه اشتهر بين العوامّ. أنّ من صلَّى الضّحى ثمّ قطعها يَعمى، فصار كثيرٌ من النّاس يتركونها أصلاً لذلك، وليس لِمَا قالوه أصل، بل الظّاهر أنّه ممّا ألقاه الشّيطان على ألسنة العوامّ ليحرمهم الخير الكثير لا سيّما ما وقع في حديث أبي ذرٍّ.
وقد جمع الحاكم الأحاديث الواردة في صلاة الضّحى في جزءٍ مفردٍ ، وذكر لغالب هذه الأقوال مستنداً. وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفساً من الصّحابة.
لطيفة: روى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُصلِّي الضّحى بسورٍ منها: والشّمس وضحاها، والضّحى. انتهى. ومناسبة ذلك ظاهرة جدّاً
قوله: (وأن أوتر قبل أن أنام) وللبخاري " ونوم على وتر ".
وفيه استحباب تقديم الوتر على النّوم ، وذلك في حقّ من لَم يثق بالاستيقاظ (1)، ويتناول من يُصلِّي بين النّومين.
تنبيهان:
الأوّل: اقتصر في الوصيّة للثّلاثة المذكورين على الثّلاثة المذكورة ، لأنّ الصّلاة والصّيام أشرف العبادات البدنيّة، ولَم يكن المذكورون من أصحاب الأموال. وخصّت الصّلاة بشيئين ، لأنّها تقع ليلاً ونهاراً بخلاف الصّيام.
الثّاني: ليس في حديث أبي هريرة تقييدٌ بسفرٍ ولا حضر. ولكنّ الحديث يتضمّن الحضر ، لأنّ إرادة الحضر فيه ظاهرة، وحمله على الحضر والسّفر ممكن، وأمّا حمله على السّفر دون الحضر فبعيد ، لأنّ السّفر مظنّة التّخفيف.
(1) تقدم الكلام عليه في حديث عائشة برقم (130).