الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آيات الحجاب لم تنزل مرة واحدة
ولها تسلسل ووقائع
روى الخطيب البغدادي في "جامع بيان العلم" عن إبراهيم التيمي قال: خلا عمر بن الخطاب ذات يوم، فجعل يحدِّث نفسه، فأرسل إلى ابن عباس، قال: كيف تختلف هذه الأمة، وكتابها واحد ونبيها واحد، وقبلتها واحدة؟ قال ابن عباس: يا أميرَ المؤمنين، إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل، وأنه يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يعرفون فيم نزل، فيكون لكلّ قومٍ فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا. فزَبَرَهُ عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ثم دعاه بعدُ، فعرف الذي قال، ثم قال: إيه، أعد عليّ) انتهى.
ويتبين لنا مما سبق أن آيات الحجاب لها تسلسل ووقائع وتدرج، كما ألمح لذلك أنس رضي الله عنه وكما بينته الوقائع والأحداث الخاصة بمسائل فريضة الحجاب، فمعلوم أنه في زمن الوحي والنزول كانت الآيات في القضية الواحدة تنزل تباعا، بعضها بعد بعض شارحة ومفصلة ومفسرة، وقد تأتي في نفس السورة وقد تأتي في سورة أخرى، ولم يكن أحد من الصحابة يضرب بعضها ببعض أو يرد ما جاء في هذه الآية بما جاء في الآيات الأخرى، ولم يكونوا محتاجين لأن يعتنوا بتاريخ نزول الآيات أو أسبابها، كونهم عاصروا النزول والوقائع فلم يختلط عليهم السابق باللاحق وسهل عليهم فهم المراد عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن بعدهم، وزادهم علماً وفهماً بكتاب الله
تعالى ما بينه لهم رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني الآيات مما يحتاج إلى بيانه، وسؤالهم له عما أشكل عليهم في ذلك ولهذا المنهج نقل المتقدمون من أهل التأويل تفسير كل آية في موضعها كما جاءت عن السلف وبمرادها ومقصدها عنهم، دون أن يقيدوا فيما نقلوه هنا أو هناك أي ملحظ أو إشكال يدل على وجود خلاف تضاد في فريضة الحجاب.
قال شيخ الإسلام في مقدمة التفسير: (فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له
…
وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح
…
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين) انتهى.
فسورة الأحزاب قد نزلت فيها مساءلة الرجال للنساء من وراء حجاب بمعنى عدم رؤيتهن أو الدخول عليهن في البيوت، إلا من الأصناف المذكورين في الآية، فإذا خرجن فيكون طريقة حجابهن عن أعين الرجال كما أرادها الله بالأمر بلبسهن للجلابيب وإدنائها عليهن، فاستوى الأمران هنا وهناك وانتهى الأمر على ذلك في السنة الخامسة للهجرة.
ثم جاءت بعدها آيات سورة النور في السنة السادسة من الهجرة النبوية مفصلة ومفسرة لما أجمل هناك، وجاءت بآداب وأحكام زائدة في مسائل الحجاب لم تكن في بداية أمره، كآداب الاستئذان وغض البصر عما سبق ونزل من أمر الحجاب، وكذلك نزلت الاستثناءات والرخص، ومنها قوله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} .
فلا تبدي المرأة إلا ما تدعو الحاجة والضرورة إليه، ثم تبعه الاستثناء الثاني {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن
…
} فلا تبدي المرأة من زينتها في بقية أحوالها العادية إلا للأصناف المذكورين في الآية وقد جاء فيها ذكر أصناف جديدة ممن لهم الدخول للبيوت والنظر لزينة المرأة، ولم يكونوا قد ذكروا في سورة الأحزاب.
كما جاء أيضا في سورة النور الرخصة للقواعد من النساء أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وهذا كذلك لم يكن موجودا في أول نزول أمر الحجاب كما في سورة الأحزاب، والرخص التي في سورة النور دليل على أنها متأخرة وليست متقدمة على سورة الأحزاب وفريضة الحجاب؛ لأنه لا يعقل أن تنزل الرخص قبل الفرائض فكان في ذلك رحمة من الله لعباده، رحم الله الجميع.
(المبحث الثاني)
سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}