الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فهمه عند شرحه للحديث ولغيره من الأحاديث الأتية معنا كتغطية المحرمة لوجهها عندما يحاذيها الرجال أنه يجوز لها ذلك ولا يجب على المرأة ستر وجهها على كل حال، وإنما لو فعلت فهذا سنة ومستحب لها، لأن الأصل ستره عن الرجال فلو سترته لمجرد خروجها احتياطاً، فهذا من ورعها وزهدها وله أصل فيكون كما قال سنة ومستحب.
كشف المُحْرِمَة وجهها في طريقها عند عدم وجود الرجال الناظرين لها وتناقص أهل السفور فيه:
ولهذا فأكثر ما استدلوا به العلماء -على ما قاله القاضي عياض- من جواز كشف المرأة في طريقها ولا رجال، هو ما اتفقوا عليه من حال المرأة المحرمة، فعند خلو الطريق من الرجال حرم كثير من الفقهاء عليها تغطية وجهها لأنه على قول أكثرهم إحرام المرأة في وجهها، في حين أجمعوا على جواز السدل على وجهها إذا حاذاها الرجال، ومن هنا ففي حال خلو الطريق أوجبوا على المحرمة كشفه وأباحوه لغيرها كما قاله القاضي عياض وغيره، وذلك لأنتفاء الفتنة من وجود الرجال الناظرين لها، فالمحرمة تكشف وجهها في طريقها فإذا حاذاها الرجال سدلت عليه ما يستره، فعُلم من ذلك أنهم يعنون بوجوب كشفه عند عدم وجود الرجال الأجانب كما هو الظاهر من نصوصهم التي ستمر معنا وكما قصده القاضي عياض في غير المحرمة، لا أن
تكشفه على كل حال كما يريده أهل السفور اليوم فتناقضوا وناقضوا كلام أهل العلم وحاروا في الجمع بين أقوالهم، إذ كيف يوجب الفقهاء على المحرمة كشف وجهها ثم يجمعون مع ذلك على ستره والستر كما ينسبونه لهم سنة ومستحب؟ فكيف تغلب السنة والمستحب ما هو واجب وهو كشفها لوجهها حال الأحرام؟ هذا عجيب لا يمكن أن يمر على المتقدمين وبخاصة أن منهم من حرم تغطية المرأة لوجهها لدرجة الفدية وذلك في حال أن سترته لا تريد ستراً من أعين الرجال، ثم يفهمون من قول عائشة عند البيهقي (إن شاءت) الاختيار في ستر وجهها ويستدلون بمثل هذه الزيادة المتفردة - إن صحت - على أن المرأة كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سافرة بين الرجال، فهل قالت عائشة رضي الله عنها (إن شاءت) وهي بين الرجال؟ وهل فعلت عائشة ما فهموه ولو لمرة واحدة أم كان فعلها وقولها حين سترت وجهها وهي محرمة مع أختها أسماء ونساء المسلمين مخبراً عموم الناس بعكس ما فهموه، إنما قالت:(المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت)(1)، فلعلها أرادت (إن شاءت) جواز الستر ولو لم يكن هناك رجال، كما حققه كثير من أهل العلم وهو أن المحرمة إنما نهيت عن النقاب ونحوه ولم تُنهى عن مطلق ستره، ولم تؤمر بكشف وجهها في الإحرام، وحتى لا
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى "باب المرأة لا تتنقب فى إحرامها ولا تلبس القفازين".
يُفهم من النهي عن لبس النقاب للمحرمة تحريم ستره، أخبرت بقولها:(إن شاءت) فلها ستره مطلقا ولو لم يكن هناك رجال، مادام بغير نقاب ونحوه.
ومن الاحتمالات أيضاً أن أحد الرواة ممن دون عائشة رضي الله عنها أراد أن يقول (المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت) فكررها مرة أخرى في آخره (إن شاءت)، أو قصد أن المحرمة (تسدل الثوب على وجهها)«بما شاءت» من خمار أو جلباب أو نحو ذلك من ملابسها سوى النقاب ونحوه، فنُقِل بدلا من ذلك (إن شاءت)، بدليل أن قول عائشة رضي الله عنها هذا مروي من عدة طرق عديدة ومخرج في أكثر من كتاب كما عند ابن أبي شيبة (1) والبخاري تعليقا (2) وغيرهما وليس فيها هذه الزيادة (إن شاءت) لمن تأمله، ثم إن صحت هذه الزياد فكما قلنا، لها محامل كثيرة ذكرنا بعضها أنفا.
بل ولا أدل على بطلان قولهم من كل وجه، أن نتساءل هل قال - بمثل هذا الاستدلال الذي فهموه من كلام عائشة عند البيهقي - أحد قبلهم، ممن مروا بالحديث منذ أربعة عشر قرناً مضت؟ لا والله.
فالإمام البيهقي نفسه ذكر بعده (باب المحرمة تلبس الثوب من علو فيستر وجهها وتجافي عنه) ولم يفهم من تلك الزيادة ما فهموه من
(1) مصنف ابن أبي شيبة باب " في القفازين للمحرمة"
(2)
صحيح البخاري " باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة"
التخيير في كشف المرأة لوجهها أو ستره أمام الرجال، بل إن اقواله وتبويباته كما في كتبه صريحة في وجوب ذلك كما سيمر معنا النقل عنه رحمه الله تعالى (1).
وهذا سبيل من تمسك بالمتشابهات والشواذ من الأقوال تناقض في المحكمات من الأمور العظيمة والجليلة، وأما من تمسك بالمحكمات أمكنه حمل مثل هذه المتشابهات وغيرها على محامل كثيرة واحتمالات قوية سديدة، وبهذا تعلم غلط فهم أهل السفور لكلام العلماء المتقدمين، وأنهم ينقلون الشبهات لعموم الناس دون فهم وتمحيص فكانوا كحاطب ليل قد يجمع ما يضره وما قد يكون ضده كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن فإنه وقع أيضا في تفسير الحديث فالذين أخطؤوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهباً يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم، تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأوّلون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه ومن هؤلاء فرق الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرهم .... .
(1) سيأتي نقل أقوال الأمام البيهقي في (المبحث السابع صـ 487) عند الكلام على "ثالثا: شبهة استدلالهم بحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق ومخالفتهم لفهم السلف له".
والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة وذلك من جهتين: تارة من العلم بفساد قولهم وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن إما دليلا على قولهم أو جوابا على المعارض لهم
…
) انتهى كلام شيخ الإسلام.
ولهذا فالحق أن أئمة الإسلام متفقون على أن ستر وجه المرأة المحرمة عند الرجال هو أوجب من قولهم لها بوجوب كشفه حال الإحرام، لهذا لم يتناقضوا، فمن نقل الإجماع على كشفه كابن عبد البر نقل أيضا في ذات المكان الإجماع على وجوب ستره سدلاً عن الرجال، ولا يمكن أن يكون لأن ستره عن الرجال، سنة ومستحب ومثله:
1 -
قال ابن عبد البر - المالكي -: (وأجمعوا أن إحرامها في وجهها دون رأسها، وأنها تخمر رأسها وتستر شعرها وهي محرمة، أجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال إليها، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها أي وهي محرمة بنحو خمار إلا ما ذكرنا عن أسماء)(1) انتهى
2 -
ونقل الحافط ابن حجر في الفتح: (وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفا تستر به عن نظر
(1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (15/ 108).
الرجال ولا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت «كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر» تعني جدتها، قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً كما جاء عن عائشة قالت «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزنا رفعناه» ) (1) انتهى.
وهنا كان مقصد العلماء هو نفسه ما قصده القاضي عياض وغيره ممن قالوا بجواز كشف المرأة في طريقها وحيث أمنت من نظر الرجال لها.
3 -
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: عند حديث: «كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه» (2) قال: تمسك به أحمد فقال: إنما لها أن تُسدل على وجهها من فوق رأسها. واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبًا منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها. لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقًا كالعورة) (3) انتهى كلامه.
وانظر لقوله: (تحتاج إلى ستر وجهها) وكلام ابن عبد البر، وابن المنذر في سترها عن أعين الناس، هذه لوحدها عبارات مفهومة لا تقال
(1) فتح الباري (باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر).
(2)
أخرجه أبو داود والبيهقي وأحمد وغيرهم، ويؤيده ما جاء نحوه عن أختها أسماء، وما جاء عن حفيدتها فاطمة، ولهذا قال الألباني في "جلباب المرأة":(حسن في الشواهد).
(3)
نيل الأوطار (5/ 6).
في أمر في أصله سنة ومستحب، فكيف مع إجماعهم على وجوب كشفه؟ أفيقال:(تحتاج إلى ستر وجهها) ويكون أيضا بعد ذلك سترُهُ سنة ومستحب؟
4 -
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام)(1).
وقولها (من الرجال) تعليل يدل على اللزوم والفرض ولو في الحج وهي ليست من أمهات المؤمنين، ويدل على أن تغطيته ليست على كل حال وإنما عند وجود الرجال.
5 -
وأخرج الإمام مالك في "الموطأ"(باب تخمير المحرم وجهه) عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر التابعية أنها قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق)(2).
6 -
وقال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي: (المسألة الرابعة عشرة: قوله في حديث ابن عمر: «لا تنتقب المرأة» وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها)(3) انتهى.
فكل ما سبق يدل على أن الستر ليس واجباً لذاته وعلى كل حال وإنما يجب عند وجود الرجال وخاصة في حق المحرمة، وأن قولهم للفظة
(1) أخرجه الترمذي وابن خزيمة وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في كتابه جلباب المرأة.
(2)
وهذا الحديث جمع شروط الصحة عند الشيخين بل هو على شرطهما.
(3)
عارضة الأحوذي (4/ 56).