الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ أصلاً) انتهى كلام ابن حزم من "كتاب الصلاة". وهو يتكلم في عورة المرأة في الصلاة.
وهكذا غيرهم من الأئمة الذين ينقلون أقوالهم مبتورة خارج سياقها العام أو لعدم معرفتهم بطريقة ومنهج كل مذهب بدليل أنهم لا يهتمون ولا يبالون بتعارضها مع أقوالهم الأخرى أو بالجمع بينها، ثم يفهمونها من نوع الفهم الذي قالوه وأفسدوا على الناس الحياء والدين.
* * *
نَقلُ أهل السفور هجوم ابن حزم على من فرق بين الأَمة والحرة في لبسهن للجلابيب في الصلاة وخارجها:
حيث قال جمهور العلماء على أن عورة الأمة في الصلاة وخارجها غير عورة الحرة في الصلاة وخارجها، فالأمة في الصلاة وخارجها عند عامة أهل العلم يجوز لها أن تصلي وتخرج مكشوفة الرأس، ولهذا اعترض عليهم ابن حزم بشدة في "كتاب الصلاة" فقال: (وَأما الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالأمة فَدِينُ اللَّهِ تعالى واحد وَالخلقةُ وَالطَّبِيعَةُ واحدة، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْحَرَائِرِ وَالإماء سَوَاءٌ حَتَّى يأتي نَصٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ. فإن قيل: أن قَوْلَ اللَّهِ تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنَّ أو ابَائِهِنَّ} يَدُلُّ عَلَى أنهُ تعالى أراد الْحَرَائِرَ.
فَقُلْنَا: هَذَا هُوَ الْكَذِبُ بِلَا شَكٍّ لأن الْبَعْلَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ وَأيضا فَالأمة قَدْ تَتَزَوَّجُ؛ وَمَا عَلِمْنَا قَطُّ أن الإماء لَا يَكُونُ لَهُنَّ: أبناء وَآبَاءٌ وَأخْوَالٌ وَأَعْمَام كَمَا لِلْحَرَائِرِ.
وَقَد ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ وَهَلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن ذَلِكَ اَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]، إلى أنهُ إنمَا أمر اللَّهُ تعالى بِذَلِكَ لأن الْفُسَّاقَ كانوا يَتَعَرَّضُونَ لِلنِّسَاءِ لِلْفِسْقِ فَأمر الْحَرَائِرَ بِأن يَلْبَسْنَ الجلابيب لِيَعْرِفَ الْفُسَّاقُ أنهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يَعْتَرِضُوهُنَّ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَنَحْنُ نَبْرَأ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ الْفَاسِدِ الَّذِي هُوَ: إما زَلَّةُ عَالم وَوَهْلَةُ فَاضِلٍ عَاقِلٍ أو افْتِرَاءُ كَاذبٍ فَاسِقٍ؛ لأن فِيهِ أن اللَّهَ تعالى أطْلَقَ الْفُسَّاقَ عَلَى أَعْرَاضِ إماءِ المسلمين وَهَذِهِ مُصِيبَةُ الأبدِ وَمَا اختلف اثْنَان مِنْ أهل الإسلام فِي أن تَحْرِيمَ الزِّنَا بِالْحُرَّةِ كَتَحْرِيمِهِ بالأمة وَأن الْحَدَّ عَلَى الزَّاني بِالْحُرَّةِ كَالْحَدِّ عَلَى الزَّاني بالأمة وَلَا فَرْقَ، وَأن تَعَرُّضَ الْحُرَّةِ فِي التَّحْرِيمِ كَتَعَرُّضِ الأمة وَلَا فَرْقَ وَلِهَذَا وَشِبْهِهِ وَجَبَ أن لَا يُقْبَلَ قَوْلُ أحد بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلا بِأن يُسْنِدَهُ إليه عليه السلام.
حدثنا - ثم ساق بالسند - عَنْ عَائِشَةَ أم المؤمنين أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلا بِخِمَارٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبي بَكْرٍ عَنْ أمهِ أنهَا سَاَلَتْ أم سَلَمَةَ أم المؤمنين: فِي كَمْ تُصَلِّي المرأة. قَالَتْ: فِي الدِّرْعِ السَّابِغِ الَّذِي يُوَارِي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا وَفِي الخمار.
قَالَ عَلِيٌّ: لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي خِلَافِ هَذَا وَعَنْ غَيْرِهِ (1) وَلَكِنْ لَا حُجَّةَ فِي أحد دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإذا تَنَازَعَ السَّلَفُ رضي الله عنهم وَجَبَ الرَّدُّ إلى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تعالى الرَّدَّ إليه: مِنْ القرآن وَالسُّنَّةِ؛ وَلَيْسَ فِي القرآن وَلَا فِي السُّنَّةِ: فَرْقٌ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ حُرَّةٍ، وَلَا أمةٍ
…
فإن قَالُوا: قَدْ جَاءَ الْفَرْقُ فِي الْحُدُودِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالأمة.
قلنا: نَعَمْ وَبَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَلِمَ سَاويْتُمْ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِيمَا هُوَ مِنْهُمَا عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَفَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالأمة فِيمَا هُوَ مِنْهُمَا عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ صَحَّ الإجماع وَالنَّصُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى الأمة كَوُجُوبِهَا عَلَى الْحُرَّةِ فِي جَمِيعِ أحكامهَا مِنْ الطَّهَارَةِ وَالْقِبْلَةِ وَعَدَدِ الرُّكُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمِنْ أينَ وَقَعَ لَكُمْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَوْرَةِ وَهُمْ أصحاب قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ؟ وَهَذَا مِقْدَارُ قِيَاسِهِمْ الَّذِي لَا شَيْءَ أسْقَطَ منه وَلَا أشَدَّ تَخَاذلاً، فَلَا النَّصَّ اتَّبَعُوا وَلَا الْقِيَاسَ عَرَفُوا وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ) انتهى كلام ابن حزم.
(1) يقصد من مثل ما نقله الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (469)"باب شروط الصلاة": (حديث عمر: أنه رأى أمة سترت وجهها فمنعها من ذلك وقال: أتتشبهين بالحرائر؟ البيهقي من طريق صفية بنت أبي عبيد قالت: خرجت أمة مختمرة متجلببة، فقال عمر: من هذه المرأة؟ فقيل: جارية بني فلان، فأرسل إلى حفصة، فقال: ما حملك على أن تخمري هذه المرأة، وتجلببيها وتشبهيها بالمحصنات حتى هممت أن أقع بها، لا أحسبها إلا من المحصنات؟ لا تشبهوا الإماء بالمحصنات) انتهى. وقد روي بعدة طرق وروايات مر بعضها معنا عند تفسير آية الإدناء، قال الألباني في الإرواء (6/ 203):(هذا سند على شرط مسلم) انتهى. وقال في نصب الراية (4/ 318): (قال البَيهقي: والآثَار بذلكَ عَنْ عُمَرَ صَحِيحَةٌ).
وأنت ترى أن اعتراضه على من فرق بين الحرة والأمة في لبس الجلابيب في الصلاة وخارجها ولهذا اعترض على من قال أن سبب نزول قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن} هو أن الجلابيب للحرائر وليست للإماء.
فهل في هذا أن النقاب وستر الوجه ليس على المسلمات كما هو الإجماع الذي مر معنا؟ وابن حزم يقصد أنه لا دليل على وجود فرق في وجوب الستر بالجلابيب لهن جميعا حرائر وإماء، وإن زاد هو هنا فأدخل الإماء في وجوب سترهن للوجوه كالحرائر، وزاد في الصلاة خلافا للجمهور أن لا يبدو من الأمة إلا وجهها وكفيها كما هو الاتفاق في صلاة الحرة.
فكيف لدعاة السفور أن يستدلُوا بمثل هذا الكلام فينقلوا كلام ابن حزم للعوام وكأنه يؤيد مذهب السفور؟ أو وكأنه ينقض الإجماع على آية الإدناء؟ وكأن هجومه السابق على من يقولون بفرض ستر المرأة لوجهها؟ .
هذه مغالطة كبيرة ونوع من أنواع التدليس على العباد، أليس كلامه الذي نقلوه عنه هو في اعتراضه على من لم يوجب على الإماء لبس الجلابيب كالحرائر، سواء في الصلاة أو خارجها؟ فلماذا إذا ينقلون هذا المقطع من كلام ابن حزم بالذات؟ .
وقد ذهب جمع من الأئمة لمثل ما ذهب إليه ابن حزم من وجوب ستر
الوجه على الإماء ومنهم:
- الإمام أبو حيّان الأندلسي رحمه الله في تفسيره المحيط حيث قال: (والظاهر أن قوله: {ونساء المؤمنين} يشمل الحرائرَ والإماء والفتنة بالإماء أكثر لكثرةِ تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح) انتهى.
وسبق لنا أن نقلنا قوله مطولا عند تفسيره للآية.
- والنووي كما قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: (فائدة: اختار النووي أن الأمة كالحرة في تحريم النظر إليها لكن يعكر عليه ما في الصحيحين في قصة صفية فقلنا: إن حجبها فهي زوجته وإن لم يحجبها فهي أم ولد كذا اعترضه ابن الرفعة، وتعقب بأنه يدل على أن الأمة تخالف الحرة فيما تبديه أكثر مما تبديه الحرة، وليس فيه دلالة على جواز النظر إليها مطلقا)(1) انتهى.
وقال بنوع من التفصيل القريب من هذا بعض أهل العلم فقد نقل عن الإمام أحمد قال ابن قدامة رحمه الله: (فصل: والأمة يباح النظر منها إلى ما يظهر غالباً كالوجه والرأس
…
قال أحمد في الأمة إذا كانت جميلة: تنتقب ولا ينظر إلى المملوكة، كم من نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل) انتهى.
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب،
(1) تلخيص الحبير (3/ 312).