الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث السادس)
خصوصية أمهات المؤمنين في فرض الحجاب عليهن وما لحقها من التحريف والتصحيف والتبديل
قال تعالى: {النَّبِيُّ أولَى بِالمؤمنين مِنْ أنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أمهاتهم وَأولُو الأرْحَام بَعْضُهُمْ أولَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6].
لقد سبق لنا الكلام باختصار عن هذه الآية عند حديثنا عن التمهيد قبل نزول أول آية في شأن الحجاب، وبينا هناك أن الله بدأ السورة بجعل زوجات نبيه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، تشريفاً وتكريماً لنبيه صلى الله عليه وسلم ولزوجاته الطيبات الطاهرات، فأعلى بذلك قدرهن ورفع به شأنهن، بل ومن العجيب أنه أتى بها وبما فيها من التشريف والتكريم وكان قبلها بآية واحدة فقط قد ألغى التبني وظهار الجاهلية كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً {1} وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً {2} وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً {3} مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَّحِيماً {5} النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً {6} [الأحزاب].
وكأنه حين أن جاء بهذا التشريف بعد أن ألغى قبله التبني وظهار الجاهلية، عني به أمومتهن بأعلى درجاتها وأسمى غاياتها، ولهذا فكان الصحابة في بداية الأمر وقبل نزول آيات الحجاب يتوافدون لبيوت النبي صلى الله عليه وسلم لسؤاله عن بعض قضاياهم وشئونهم وحاجاتهم، أو إجابة دعوة من أب كريم، وخلاف ذلك مما يعنُّ لهم فكانوا يكثرون المجيء ويطيلون المكث والحديث، مطمئنين عند من هو أولى بهم من أنفسهم وعند أمهات لهم كما قرره سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات.
فكان عمر يقول: (يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب) ولم يكن لأحد بعد قول الله تعالى أن يحجب الأبناء عن الدخول على أمهاتهم، قالت عائشة رضي الله عنها:(كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك قالت: فلم يفعل وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قِبل المناصع فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال: عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب قالت: فأنزل الله عز وجل آية الحجاب) متفق عليه.
ومن ذلك ما رواه أنس قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: (يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَلَوْ أمرتَ أمهات المؤمنين بِالحِجَابِ، فأنزل اللَّهُ آية الحِجَابِ)(1).
وهي التي أخبر عنها الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه وما بعدها من الآيات في الأمر بإدناء الجلابيب، قال الحافظ ابن حجر في الفتح:(وطريق الجمع بينها أن أسباب نزول الحجاب تعددت وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصتها في الآية، والمراد بآية الحجاب في بعضها قوله تعالى {يدنين عليهن من جلابيبهن})] الأحزاب 59 [(2) انتهى.
قال أنس ابن مالك رضي الله عنه: (كنت ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أمهاتي يواظبنني على خدمة رسول الله فخدمته عشر سنين وتوفي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله بزينب بنت جحش أصبح النبي بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا وبقي رهطٌ منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث - وفي رواية - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ وزوجته موليةٌ وجهها إلى الحائط فقام النبي فخرج وخرجتُ معه لكي يخرجوا فمشى ومشيت حتى جاء عتبة حجرة عائشة -وفي رواية - فانطلق إلى حجرة عائشة فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته فقالت وعليك السلام ورحمة الله كيف وجدت أهلك
(1) أخرجه البخاري وغيره.
(2)
انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري (قوله باب خروج النساء إلى البراز).
بارك الله لك؟ فتقرَّى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة - إلى أن قال - فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي بيني وبينه بالستر - وفي رواية - فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه وأنزل الحجاب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأهن على الناس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً {53} [الأحزاب](1).
وبذلك نزلت أول آية في الحجاب وهي في منع الدخول على النساء من الرجال الأجانب في البيوت ولم يسمح بالدخول إلا لمن استثناهم الله بعدها بقوله تعالى: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً {55} [الأحزاب]. وأما غير هؤلاء {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وراء حِجَابٍ} .
ولهذا تفهم لماذا كان عمر يصر على ذكر حجب أمهات المؤمنين بالذات؟ .
(1) الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما.
لأنهن كان يدخل عليهن الرجال أكثر من غيرهن وفي أكثر من وقت، بحكم مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكونهن أمهاتهم، فكان هذا من حكمة الله أن رتب الأمر على ذلك فبدأ بجعلهن أمهات للمؤمنين ثم حجبهن عن أبنائهن ليبين عظيم فريضة الحجاب على المؤمنات حتى لم يستثنِ منه أحدا، حتى أمهات المؤمنين، فكن بذلك مخصوصات دون أمهات العالمين عن الحجاب من أبنائهن.
ثم لما كان لابد للنساء من الخروج من بيوتهن أرشدهن الله بعدها مباشرة إلى كيفية الحجاب من الرجال حال الخروج من البيوت وذلك بطريقة إدناء الجلابيب عليهن كما هو قوله تعالى بعدها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59].
فاستقام الأمر واستوى حجابهن عن الأجانب داخل البيوت بسؤالهن من وراء حجاب، وخارجها بلبسهن وإدناء الجلابيب عليهن، وجاءت الروايات العديدة والمتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان في بيان طريقة ووصف وشكل ذلك الإدناء.
وجاء إجماع أهل العلم من المفسرين وغيرهم، كما مر معنا، أنها الأمر بستر النساء لوجوههن عن الرجال، دون أي مخالف.
ولهذا لما كانت سورة النور متأخرة في السنة السادسة للهجرة عن سورة الأحزاب التي كانت في السنة الخامسة هجريا، جاء في النور الرخص لإظهار المرأة زينتها عند الحاجة والضرورة، والرخص