الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخصوصية الثانية
الأدلة على أن معنى الخصوصية الثانية والتي عناها المتقدمون لأمهات المؤمنين هي أنهن حجبن عن أبنائهن فكن بذلك مخصوصات عن بقية الأمهات وكن كالأجنبيات
فالمتقدمون قصدوا معنىً ثانياً متفقاً عليه بينهم وهو أنه مع كونهن أمهات للمؤمنين وجاء تحريم النكاح بهن فقد فرض عليهن الحجاب كبقية النساء، فكن بذلك مخصوصات دون أمهات العالمين ومن يحرم النكاح بهن، في الحجاب من أبنائهن وممن يحرم النكاح بهن، فهذه هي الخصوصية الثانية التي قصدوها، وهي ظاهرة كالشمس لأنها بنص القرآن، وكان من الطبيعي القول بجواز كشفهن لوجوههن، ولكن أوجب الله عليهن الحجاب كبقية النساء، ولهذا فإنك لو قلت عبارة:(أن أمهات المؤمنين مخصوصات بالحجاب) أو نحو قولك: (تغطية الوجه مما اختصت به أمهات المؤمنين) لكان قولك حقاً وصواباً، لأنك تعنى أنهن لسن كبقية الأمهات اللاتي لا يلزمهن الحجاب من أبنائهن.
ولكن جاء من لم يفهم المعنى والمقصد الذي أراده الله عز وجل وبينه أهل العلم، ففهموه بعكس ذلك وقالوا فرض تغطية الوجه خاص بأمهات المؤمنين وسنة على غيرهن، مع أن الإجماع وكلام أهل العلم في ذلك دال على أنهن كبقية النساء الأجنبيات فكان في قولهم تحريف وتبديل وتصحيف دون أن يكون لهم سلف في ذلك إلا الظن والمتشابهات مما
فهموه مبتورا من كلام بعض أهل العلم وصدق الله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]، وقوله تعالى {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَاّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 36]. ولهذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) متفق عليه.
ولم يأتِ هذا الفهم السقيم عن أحد من العالمين، بل جاء من بعض المتأخرين اليوم، وقد ذكرنا مقصد المتقدمين في خصوصيتهن المختلف فيها وسنزيد هنا جمهرة من كلام أهل العلم في مسألة خصوصيتهن المتفق عليها، تدل كتلك على وجوب ستر المسلمات لوجوههن أيضا:
1 -
قال الإمام القرطبي في تفسيره: (الثالثة: قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات) انتهى.
2 -
وقال البيضاوي في تفسيره: ({وأزواجه أمهاتهم} منزلات منزلتهن في التحريم واستحقاق التعظيم وفيما عدا ذلك فكما الأجنبيات) انتهى.
3 -
وقال في تفسير المحرر الوجيز لابن عطية المحاربي: (قال الفقيه الإمام القاضي: وشرف تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين في حرمة النكاح وفي المبرة وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات) انتهى.
4 -
وقال في لباب التأويل في معاني التنزيل للإمام الخازن: (قوله تعالى {وأزواجه أمهاتهم} يعني أمهات المؤمنين في تعظيم الحرمة وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن والخلوة بهن، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب) انتهى.
5 -
وقال صاحب تفسير الكشاف: ({وأزواجه أمهاتهم} تشبيه لهن بالأمهات في بعض الأحكام، وهو وجوب تعظيمهن واحترامهن وتحريم نكاحهن قال تعالى: {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} [الأحزاب: 53] وهن فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها «لسنا أمهات النساء» تعني أنهن إنما أمهات الرجال لكونهن محرمات عليهم كتحريم أمهاتهم، والدليل على ذلك: أن هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهن وكذلك لم يثبت لهن سائر أحكام الأمهات) انتهى.
6 -
قال البغوي في تفسيره: (قوله عز وجل {وأزواجه أمهاتهم} وفي حرف أُبي: "وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم"، وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد، لا في النظر إليهن والخلوة بهن، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب، قال الله تعالى:{وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} انتهى.
7 -
وقال في تفسير النيسابوري: ({وأزواجه أمهاتهم} أي في هذا الحكم فإنهن فيما وراء ذلك كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن. ومن كمال عناية الله سبحانه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم يقل وهو أب
لهم وأن جاءت هذه الزيادة في قراءة ابن مسعود، وإلا حرم زوجات المؤمنين عليه أبدا، إلا أن يراد الأبوة والشفقة في الدين كما قال مجاهد: كل نبي فهو أبو أمته. ولذلك صار المؤمنون أخوة) انتهى.
8 -
وقال في روح المعاني للألوسي: ({وأزواجه أمهاتهم} أي منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وإرثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات) انتهى.
9 -
وقال في زاد المسير لابن الجوزي: (قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} أي في تحريم نكاحهن على التأبيد ووجوب إجلالهن وتعظيمهن ولا تجري عليهن أحكام الأمهات في كل شاء، إذ لو كان كذلك لما جاز لأحد أن يتزوج بناتهن ولوَرِثن المسلمين ولجازت الخلوة بهن وقد روى مسروق عن عائشة أن امرأة قالت: يا أماه فقالت: لست لكِ بأم إنما أنا أم رجالكم فبان بهذا الحديث أن معنى الأمومة تحريم نكاحهن فقط وقال مجاهد وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم، وما بعد هذا مفسر) انتهى.
10 -
وقال في أحكام القرآن للجصاص: ({وأزواجه أمهاتهم} قيل فيه وجهان: أحدهما: أنهم كأمهاتهم في وجوب الإجلال والتعظيم.
والثاني: تحريم نكاحهن وليس المراد أنهن كالأمهات في كل شيء لأنه لو كان كذلك لما جاز لأحد من الناس أن يتزوج بناتهن لأنهن يكن أخوات للناس وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم بناته، ولو كن أمهات في الحقيقة ورثن
المؤمنين، وقد روي في حرف عبدالله، وهو أب لهم، ولو صح ذلك كان معناه أنه كالأب لهم في الإشفاق عليهم وتحري مصالحهم كما قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز
عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128]) انتهى.
11 -
وقال في أحكام القرآن لابن العربي: (المسألة الثالثة: {وأزواجه أمهاتهم} ولسن لهم بأمهات، ولكن أُنزلن منزلتهن في الحرمة، كما يقال: زيد الشمس، أي أنزل في حسنه منزلة الشمس، وحاتم البحر أي أنزل في عموم جوده بمنزلة البحر؛ كل ذلك تكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم وحفظا لقلبه من التأذي بالغيرة) انتهى.
12 -
وقال أبو السعود: ({وأزواجه أمهاتهم} أي منزلات منزلة الأمهات في التحريم واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك فهن كالأجنبيات) انتهى.
13 -
وقال الإمام ابن كثير: (وقوله: {وأزواجه أمهاتهم} أي: في الحرمة والاحترام، والإكرام والتوقير والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين، كما هو منصوص الشافعي في المختصر، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم) انتهى.
14 -
وقال في معرفة السنن والآثار للبيهقي " كتاب النكاح" - باب ما جاء في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه - (قال الشافعي: وكان مما خص الله نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} وقال: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} فحرم نكاح نسائه من بعده على العالمين، وليس هكذا نساء أحد غيره، وقال الله: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فأبانهن به صلى الله عليه وسلم من نساء العالمين، وقوله: {وأزواجه أمهاتهم} مثل ما وصفت من اتساع لسان العرب، وأن الكلمة الواحدة تجمع معاني مختلفة، ومما وصفت من أن الله أحكم كثيرا من فرائضه بوحيه، وسن شرائع، واختلافها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وفي فعله، فقوله: {أمهاتهم} يعني في معنى دون معنى، وذلك أنه لا يحل لهم نكاحهن بحال، ولا يحرم عليهم نكاح بنات لو كن لهن، كما يحرم عليهم نكاح بنات أمهاتهم اللاتي ولدنهم أو أرضعنهم)(1) انتهى.
15 -
وقال صاحب روضة الطالبين: (الضرب الرابع: ما اختص به من الفضائل والإكرام ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والإكرام فمنه أن زوجاته اللاتي توفي عنهن رضي الله عنهن محرمات على غيره أبدا
…
وقال الواحدي من أصحابنا قال بعض أصحابنا: لا يجوز أن يقال هو أبو المؤمنين لقول الله تعالى: {ما كان محمد أبآ أحد من
(1) انظر كذلك كتاب الأم للإمام الشافعي (5/ 151).
رجالكم} [الأحزاب: 4]، قال نص الشافعي على أنه يجوز أن يقال هو أبو المؤمنين أي في الحرمة ومعنى الآية ليس أحد من رجالكم ولد صلبه والله أعلم) (1) انتهى.
16 -
وقال في الدر المنثور للإمام جلال الدين السيوطي:
(أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وأزواجه أمهاتهم} قال يعظم بذلك حقهن.
وأخرج ابن أبى حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وأزواجه أمهاتهم} يقول أمهاتهم في الحرمة لا يحل لمؤمن أن ينكح امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إن طلق ولا بعد موته، هي حرام على كل مؤمن، مثل حرمة أمه) انتهى.
17 -
وقال في أضواء البيان للإمام محمد الأمين الشنقيطي (قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} وما ذكر من أن المراد بكون أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين هو حرمتهن عليهم، كحرمة الأم، واحترامهم لهن كاحترام الأم إلخ. واضح لا إشكال فيه، ويدل له قوله تعالى:{وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53] لأن الإنسان لا يسأل أمه الحقيقة من وراء حجاب وقوله تعالى: {إن أمهاتهم إلا اللائي
(1) روضة الطالبين للنووي- كتاب النكاح- (الباب الأول خصائص رسول الله في النكاح).
ولدنهم} [المجادلة: 2]، ومعلوم أنهن رضي الله عنهن، لم يلدن جميع المؤمنين الذين هن أمهاتهم، ويفهم من قوله تعالى:{وأزواجه أمهاتهم} أنه هو صلى الله عليه وسلم أب لهم، وقد روى عن أبي بن كعب وابن عباس أنهما قراء: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم، وهذه الأبوة أبوة دينية، وهو صلى الله عليه وسلم أرأف بأمته من الوالد الشفيق بأولاده، وقد قال جل وعلا في رأفته ورحمته بهم:{عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] وليست الأبوة أبوة نسب كما بينه تعالى بقوله: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} [الأحزاب: 4] ويدل لذلك أيضا حديث أبي هريرة عند أبي دأود والنسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها)(1) انتهى كلامه رحمه الله.
والأدلة غير ما ذكرناه لا يمكن حصرها، كما أنها متيسرة، فلا داعي لنقلها، فبعد قوله تعالى:{وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] ونزولها وبخاصة بعد الآيات التي ألغت التبني وظهار الجاهلية فهم الصحابة أن الله عني بذلك أمومتهن بأسمى درجاتها وهذا هو ما كان قبل الحجاب فكثر دخول الناس عليهن ولهذا (قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب)(2)،
(1) وقال مثله في "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" وقد تقدم في بداية الكتاب.
(2)
متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
و (كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك قالت: فلم يفعل)(1)، فكانت هناك فترة، حتى نزلت بعدها آيات كريمات في نفس سورة الأحزاب تمهد لفريضة الحجاب على الجميع وتنهى وبخاصة أمهات المؤمنين عن الخضوع بالقول حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، وعدم تبرج الجاهلية الأولى وأمرهن بالقرار في بيوتهن، ثم نزلت تلك الآيات التي في فرض الحجاب عليهن داخل البيوت كما في قوله تعالى:{وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراءحجاب} [الأحزاب: 53]، أو تلك التي في حال خروجهن من البيوت كما في قوله تعالى:{يا أيها النَّبِيُّ قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} [الأحزاب: 59]. كل تلك الآيات بينت للصحابة ودلت بالإجماع على أن غيرهن في ذلك أولى وأحرى وأنهن في باب تحريم النظر إليهن وغير ذلك هن كبقية النساء الأجنبيات لا كالأمهات من كل وجه، والله أعلم وهو الهادي لسواء السبيل.
(1) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.