الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث التاسع)
الأدلة من السنة والآثار على فريضة ستر المرأة وجهها عن الرجال
1 -
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان صفوان من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه)(1).
قال في عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني الحنفي (م: 762 هـ. ت: 855 هـ)(وفيه تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي سواء كان صالحاً أو غيره) انتهى.
وقال العراقي (م: 725 هـ. ت: 806 هـ) في طرح التثريب "باب حد القذف": (التاسعة عشرة): قولها: «فخمرت وجهي بجلبابي» وفيه تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي سواء كان صالحا أو غيره). أقول وهذا من الأدلة التي ترد شبهة القائلين بأن تغطية وجه المرأة سنة ومستحب فهذه أم المؤمنين وقد كانت في وضع حرج فقد تركها الجيش ظانين أنها في هودجها وساروا وتركوها في ظلمة الليل ومع ذلك عندما رأت الصحابي صفوان رضي الله عنه لم تكشف له وجهها
(1) البخاري (5/ 149) ومسلم (8/ 113) وغيرهما.
ليعرفها ولو كان كشف الوجه جائز لفعلت ذلك وهي في وضع أحوج ما تكون فيه للنجدة والمساعدة بل وهي أم له وللمؤمنين بنص القرآن فعُلم أن ستر وجه المرأة فريضة لا يجوز كشفه إلا في استثناءات معينة ولأسباب مبيحة ضرورية، وهي لم تكشفه مع هذه الضرورة لأن آيات حادثة الإفك من قوله تعالى:{إن الذين جاءو بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} [النور آية: 11] كانت قبل أن تنزل آية الرخصة من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور آية: 31] لهذا غطت وجهها ولم تترخص من عند نفسها لمثل هذه الضرورة الملحة.
وكما ترى فلم يقل أحد في هذه الأحاديث ولا غيرها شيئاً من الخصوصية لأمهات المؤمنين، وقد تقدم بيان هذا في مبحث مستقل وأن المتقدمين لم يفهموا من خصوصية أمهات المؤمنين أن ستر الوجه واجب عليهن وسنة على من سواهن فهذه بدعة حديثة لم تكن في سالفهم أبدا، وإنما الذي عنوه خصوصيتين أثنتين ليس فيهما شيء مما يقوله اليوم فريق من دعاة السفور هدانا الله وإياهم.
الخصوصية الأولى: أنه شدد على أمهات المؤمنين في أمر الحجاب فكن على قول بعض أهل العلم مخصوصات بعدم ظهور شخوصهن ولو كن مستترات في الأزر فضلا عن عدم جواز ظهور الوجه والكفين منهن ولو عند الحاجة، لا في شهادة ولا غيرها ففرض عليهن ذلك بعكس ما هو جائز لغيرهن، وهكذا حمل بعضهم أحاديث حجبهن من
الأعمى والمكاتب الذي عنده ما يؤديه على مثل هذه الخصوصية، فهذا فيه زيادة في توقيرهن وحقهن وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيه جواز كشف المسلمات بل العكس فيه ما يدل على وجوب ستر الوجه على جميع النساء أيضا كما مر معنا من كلام أهل العلم المتقدمين.
الخصوصية الثانية: متفق عليها بينهم حيث قصدوا أنهن مع كونهن أمهات للمؤمنين وجاء تحريم النكاح بهن فقد فرض عليهن الحجاب كبقية النساء، فكن بذلك مخصوصات دون أمهات العالمين ومن يحرم النكاح بهن في الحجاب من أبنائهن وممن يحرم النكاح بهن.
وعلى هذا فلم نجد في كتب المتقدمين أن الحجاب فرض على أمهات المؤمنين وسنة على من سواهن.
2 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيتكِ في المنام يجيء بك الملك في سَرَقَة (1) من حرير فقال لي: هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي فقلت إن يك هذا من عند الله يمضه) انتهى.
قال الإمام البخاري "باب النظر إلى المرأة قبل التزويج"
وهكذا لم يفهم منه رحمه الله لا هو ولا غيره أن هذا الحديث خاص بأمهات المؤمنين دون غيرهن كما يقوله البعض اليوم.
(1) سَرَقَة: هي القطعة.
3 -
وحديث صفية أم المؤمنين عندما كانت في السبي غزوة خيبر قال أنس رضي الله عنه: (لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد قالوا إن حجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد فلما أراد أن يركب حجبها) أخرجه البخاري. وفي رواية له من كتاب المغازي: (فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب). وفي رواية له من كتاب النكاح: (فلما ارتحل وطى لها خلفه ومد الحجاب بينها وبين الناس). وفي رواية لابن سعد في الطبقات ودلائل النبوة للبيهقي قال: (وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ثم شده من تحت رجلها وتحمل بها وجعلها بمنزلة نسائه)(1) انتهى.
ولو كان الحجاب خاصا بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم لقالوا إن حجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي كنساء المسلمين! .
قال في المغني كتاب النكاح: فصل: "الأمة يباح النظر منها إلى ما يظهر غالبا"(وهذا دليل على أن عدم حجب الإماء كان مستفيضا بينهم مشهورا، وأن الحجب لغيرهن كان معلوما) انتهى.
(1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (عند كلامه على أم المؤمنين صفية بنت حيي). ودلائل النبوة للبيهقي - باب ما جرى بعد الفتح في الكنز الذي كتموه واصطفاء صفية بنت حيي. قال الألباني في جلباب المرأة: (صحيح).
4 -
وكذلك عندما عثرت الناقة برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفية أم المؤمنين وهم راجعون إلى المدينة فصُرِعا (1) (قال أبو طلحة: يا نبي الله جعلني الله فداءك هل أصابك من شيء؟ قال: لا ولكن عليك بالمرأة فألقى
…
أبو طلحة ثوبه على وجهه فقصد قصدها فألقى ثوبه عليها - وفي رواية - فقلب ثوبا على وجهه وأتاها فألقاه عليها) (2).
وإنما غطى وجهه بثوبه لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجبها عنهم عندما اتخذها زوجة فلما انكشفت تغطى هو رضي الله عنه.
5 -
حديث صفية رضي الله عنها وهي بالمدينة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم انقلبت فقام معي ليقلبني فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال: على رسلكما إنها صفية بنت حُيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من أحدكم .. ) الحديث متفق عليه.
فهل لو كانت أمنا صفية رضي الله عنها معتادة على كشف وجهها بين الرجال هل احتاج أن يُعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجلين حتى لا يُلقي الشيطان في قلبيهما الشك في جنابه الشريف؟ وهذا يدل على تحريم الاختلاط، ولو كان الحجاب خاصا بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم هل احتاج أن يُعرفها لهم أم أنهم سيعرفوها من خصوصية سترها لوجهها؟ .
(1) أي سقطا من على البعير.
(2)
أخرجه البخاري وغيره عن أنس في الجهاد.
6 -
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا) أخرجه مسلم.
ولو كانت النساء يخرجن سافرات أمام الرجال، لما قال له صلى الله عليه وسلم في أمر مباح أنظرت إليها؟ ولما احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن في أعين الأنصار شيئا، لأن العين في الوجه! .
7 -
وعن المغيرة بن شعبة قال: (أنه خطب امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) رواه الخمسة إلا أبا داود.
8 -
وفي رواية أخرى عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها فقال: اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما، فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية البيهقي - فَقُلْتُ: أن رَسُولَ اللَّهِ أمرنِى أن أنظر إليها فكأنهما كرها ذلك، قال: فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها (1) فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر وإلا فأنشدك كأنها أعظمت ذلك، قال فنظرت إليها فتزوجتها) (2).
(1) قال في تهذيب اللغة: (خدر) قال الليث: الخدر: ستر للجارية في ناحية البيت وكذلك ينصب لها خشبات فوق قتب البعير مستورة بثوب فهو الهودج المخدر. ويجمع على الأخدار والأخادير والخدور. وأنشد: حتى تغامز ربات الأخادير
…
وخدر الأسد في عرينه، إذا لم يكد يخرج، فهو خادر
…
مخدر. كثير الخدور وأخدره عرينه. وكل شيء منع بصرا عن شيء فقد أخدره. والليل مخدر) وبنحوه عند بقية أهل اللغة.
(2)
رواه أحمد وقال الترمذي حديث حسن وصححه ابن حبان وغيرهم وقال الألباني صحيح كما في المشكاة (3107) والصحيحة (96).
ولو كُن يكشفن الوجوه هل احتاج لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي ينظر إليها؟ وهل كانوا سيكرهون أمرا مباحا لهم ولها فعله فكيف بنظر الخاطب؟ .
9 -
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، قال: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها - وفي رواية - وقال جارية من بني سلمة، فكنت أتخبأ لها تحت الكرب، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها)(1).
وعند ابن ماجه وابن حبان من حديث محمد بن مسلمة بسند صحيح ولفظه: عن ابن أبي حثمة قال: (رأيت محمدا بن مسلمة يطارد امرأة ببصره على إجار يقال لها: بثينة بنت الضحاك، فقلت: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ألقى الله في قلب رجل خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها).
10 -
وعَنْ أبي حُمَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إذا خَطَبَ أحدكُمُ امرأة فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَنْظُرَ إليها إذا كان إنمَا يَنْظُرُ إليها لِلْخِطْبَةِ، وإن كانت لَا تَعْلَمُ) أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والطحاوي.
قال الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة (1/ 156) مؤيدا ذلك: (ومثله في الدلالة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وإن كانت لا تعلم) وتأيد ذلك بعمل الصحابة رضي الله عنهم، عمله مع سنته صلى الله عليه وسلم ومنهم محمد بن مسلمة
(1) صحيح أبي داود للألباني رقم (1832) و (1834).
وجابر بن عبد الله، فإن كلاً منهما تخبأ لخطيبته ليرى منها ما يدعوه إلى نكاحها) انتهى كلام الألباني.
إذا ألا تتساءل معي إذا كان كشف الوجه هو المعمول عندهم لماذا لم يمش أحدهم بجوار مخطوبته وينظر إليها دون أن يتخبأ لها! لتعلم أن النساء في عهد النبوة كن وبلا شك يغطين وجوههن عن الرجال وأنه ليس من اليسير النظر إليهن أو الاختلاط بهن أو مجالستهن، وإلا لكانت كل هذه المعاني والتوجيهات من رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته وأمته ومن بعدهم لا داعي لها ومفرغة من معانيها وحقيقتها العملية الواضحة، وهذا ما قاله ابن قدامة صاحب المغني في "كتاب النكاح" فصل: نظر الرجل إلى الأجنبية من غير سبب: (وفي إباحة النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها دليل على التحريم عند عدم ذلك، إذ لو كان مباحا على الإطلاق فما وجه التخصيص لهذه؟ وأما حديث أسماء إن صح فيحتمل أنه كان قبل نزول الحجاب فنحمله عليه) انتهى.
11 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد - وفي رواية عند مسلم - فوضعت رأسي على منكبه - وفي رواية عند أحمد - فاطلعت من فوق عاتقه فطأطأ لي منكبيه فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه، حتى أكون أنا التي أسأم فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ) متفق علية.
فلو كان كشف الوجه هو المعمول عندهم والسائد لديهم لِمَ سترها رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه وجعلها خلفه بعيدة عن اختلاطها بالرجال؟ ولو كان الأمر خاصاً بهن لِمَ قالت للناس: (فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ)؟ .
قال في عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني الحنفي: (وفيه أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة ألا ترى ما اتفق عليه العلماء من الشهادة عليها أن ذلك لا يكون إلا بالنظر إلى وجهها ومعلوم أنها تنظر إليه حينئذ كما ينظر الرجل إليها والله أعلم) انتهى.
فانظر خلافهم أين وفيم كان، وهو في جواز أن تنظر المرأة للرجل وليس العكس، وانظر اليوم أين وفيم هو خلافنا مع دعاة السفور هدانا الله وإياهم؟ وهو قولهم بجواز كشف المرأة وجهها للرجال لينظروا إليها وزادوا - حديثاً - ومخالطتها ومؤاكلتها. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
12 -
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (جاء عمي من الرضاعة فاستأذن علي فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله فجاء رسول الله فسألته عن ذلك فقال إنه عمك فأذني له قالت: فقلت: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قالت: فقال رسول الله: إنه عمك فليلج عليك قالت: عائشة وذلك بعد أن ضرب علينا الحجاب) انتهى.
ولهذا لم يفهم البخاري ولا غيره عند تبويبه للحديث ما فهمه اليوم البعض من أن ذلك خاص بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين دون غيرهن من النساء فقال: (باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء
في الرضاع) وهكذا كان فهم العيني في عمدة القاري فذكر من فوائد الحديث: (فيه أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن للرجل الذي ليس بمحرم لها في الدخول عليها، ويجب عليها الاحتجاب منه بالإجماع)(1) انتهى.
13 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) أخرجه البخاري.
قال شيخ الإسلام: (وهذا مما يدلُّ على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحْرِمنَ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن)(2).
قال الإمام بن العربي: (وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئا من خمارها على وجهها غير لاصق به وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها) انتهى.
وانظر لفهم هؤلاء الأئمة وقول الألباني رحمه الله حين قال: (فهل يمكن للنسوة اللاتي ربين على الخوف من الوقوع في المعصية إذا صلت أو حجت مكشوفة الوجه والكفين أن يباشرن مثل هذه الأعمال وهن منقبات ومتقفزات؟ لا وربي، فإن ذلك مما لا يمكن إلا بالكشف عن قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} كما سنرى في بعض الأمثلة الشاهدة لما كان عليه النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .. ) انتهى كلامه.
(1) عمدة القاري (20/ 98).
(2)
مجموع الفتاوى (15/ 371).
ولهذا لا تجد في كتبه رحمه الله دعوة لما هو في مثل لبس القفازين وعدم الخضوع بالقول ونحو ذلك بل العكس تساهله في اختلاط النساء بالرجال ومحادثتهم ومؤاكلتهم كما هو قوله في "رده المفحم" وكم فيه من البون الشاسع مع كلام الأئمة المتقدمين، بل والخطورة والتناقض.
قال ابن القيم رحمه الله: (وأما نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المرأة أن تنتقب وأن تلبس القفازين، فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفُصِّل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع، ولا يحرم عليها ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما. وهذا أصح القولين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوَّى بين وجهها ويديها ومنعها من القفازين والنقاب. ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفَصَّل على قدرهما وهما القفازان، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه؛ وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام، إلا النهي عن النقاب، وهو كالنهي عن القفازين فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء. وهذا واضح بحمد الله)(1).
قال الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: (وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعوَّدْنَ الانتقاب ولبسَ القفازين عامة فنُهينَ عنه في الإحرام) انتهى.
(1) تهذيب السنن لابن القيم (2/ 350).
والنهي للمحرمة عن لبس النقاب فيه إثبات ظاهر للنقاب في غير الإحرام، فإن محظورات الإحرام كلبس القُمُص والسراويلات للرجال تحل بعد الإحرام فكذلك لبس النقاب والقفازين للمراة.
14 -
وقول عائشة رضي الله عنها: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه)(1).
وحين ذكر الكمال بن الهمام حديث عائشة هذا قال: (قالوا: والمستحب أن تُسدِلَ على وجهها شيئًا وتُجافيَه
…
ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إبداء وجهها للأجانب بلا ضرورة، وكذا دلَّ الحديث عليه) (2) انتهى.
وقال الشيخ ظفر أحمد العثماني التهانوي: (وفيه دليل على أن المرأة تستر وجهها في غير حالة الإحرام)(3) انتهى.
15 -
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام) أخرجه
(1) أخرجه أبو داود والبيهقي وأحمد وغيرهم. بسند صحيح، ويؤكد صحته ما سنذكره بعده عن أختها أسماء بنت أبي بكر وحفيدتها فاطمة بنت المنذر، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح (2690) -باب ما يجتنبه المحرم- (2/ 107). وضعفه في ضعيف أبي داود (1562) وقال في كتابه جلباب المرأة:(حسن في الشواهد).
(2)
فتح القدير (2/ 405).
(3)
إعلاء السنن (10/ 223).
الترمذي وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في جلباب المرأة.
وقولها: (من الرجال) تعليل يدل على اللزوم والفرض ولو في حال الإحرام وهي ليست من أمهات المسلمين.
16 -
قال الإمام مالك في "الموطأ" - باب تخمير المحرم وجهه - عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر التابعية أنها قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق).
وهذا الحديث جمع شروط الصحة عند الشيخين، قال الألباني: قلت: وهذا إسناد صحيح (1).
17 -
وأخرج سعيد بن منصور قال: حدثنا هشيم قال حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (تُسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها)(2) انتهى.
وهذا كله ـ كما ترى ـ خطاب منهن عام لجميع النساء وهن في حال الإحرام فكيف وهن خارجه؟ وهذا منهن حرص وبيان في أن فرضية غطاء الوجه عند وجود الرجال الأجانب أعظم من قول بعضهم بوجوب كشفه، وأن النهي كان عن النقاب فقط وحتى لا يُساء فهم حديث النهي
(1) الإرواء للألباني برقم (1023).
(2)
الحديث ذكره الحافظ في فتح الباري (3/ 406). وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/ 143) إسناده صحيح على شرط الشيخين. وقد رواه أبو داود في كتاب المسائل عن الإمام أحمد، عن هشيم به مثله إلا أن في روايته «تُسدل المحرمة» بدلا من «تسدل المرأة «.
عن لبسه فتخرج المحرمة كاشفة عن وجهها بين الرجال فتقع في الإثم، بيّنَّ جميعاً رضي الله عنهن أنهن كن يغطين وجوههن بغير النقاب وهن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرهن بدون أن يترتب عليهن بذلك إثم أو نقص أو فدية بإجماع الأئمة مما يدل على وجوبه وفرضه في غير الإحرام بشكل آكد ومن باب أولى، حتى لا يتذرع البعض فيفهم من منع المحرمة من لبس النقاب ونحوه مما هو مفصل كالبرقع والقناع واللثام أن تخرج كاشفة فأخبرن أنهن كن يخمرن وجوههن ويسدلن عليها ما يسترها عن الرجال.
18 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} عمدت النساء إلى أزرهن فشققنها من نحو الحواشي فاختمرن به) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح وغيره: (فاختمرن أي غطين وجوههن).
19 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها وفي -رواية- وَكانت امرأة جَسِيمَةً تَفْرَعُ النِّسَاءَ، فرآها عمر بن الخطاب فقال يا سودة أمَا والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين؟ قالت: فانكفأتُ راجعة، ورسول الله في بيتي وأنه ليتعشى وفي يده عَرْق فدخلت فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر: كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه وأن العَرْق في يده ما وضعه، فقال: أنه قد أذنَ لكُنَّ أن تخرجْنَ لحاجتكنّ) متفق عليه.
قال الإمام القسطلاني: (وفيه تنبيه على أن المراد بالحجاب التستر حتى لا يبدو من جسدهن شيء) انتهى.
وفي الحديث أن النساء لم يكن يُعرفن إذا خرجن إلا بالهيئة ولو كان الحجاب خاص بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحتج الأمر لمشقة حتى يعرفها عمر أو غيره لأنه سيكون أي امرأة مغطية وجهها هي من زوجاته صلى الله عليه وسلم ولكن الأمر لم يكن كذلك بدليل ما سبق وبخاصة (وَكانت امرأة جَسِيمَةً تَفْرَعُ النِّسَاء).
20 -
وعندما دخل عمر بن الخطاب وهو بالمدينة على ابنته حفصة وعندها أسماء بنت عميس الصحابية المشهورة لم يعرفها وهي من هي أفيعقل أنه لم يعرف أسماء بنت عميس وهي ممن أسلم بمكة قبل الحجاب؟ مما يدل على أن تغطية وجوههن كان إجماعا لديهم ولم يرد عن واحدة منهن أنها كشفته وهذا كافٍ.
فعن أبى موسى رضي الله عنه قال: (ودخلت أسماء بنت عميس، وهى ممن قدم معنا (1)،
على حفصة زوج النبى صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة
(1) يعنى أنها ممن قدم معهم من الحبشة، حيث هاجرت إليها من مكة قديماً سنة خمس من البعثة النبوة وكانت آنذاك تحت زوجها جعفر بن أبي طالب، وكان قدومهم للمدينة حين فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة فدام بقاؤهم في الحبشة حوالي خمس عشرة سنة.
فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار-أو في أرض- البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله
…
) متفق عليه.
21 -
ومثله ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن كهمس الهلالي رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند عمر رضي الله عنه إذ جاءت امرأة فجلست إليه فذكر الحديث في شكايتها زوجها وأن عمر رضي الله عنه أرسل إليه فقعدت المرأة خلف عمر رضي الله عنه فقال عمر لزوجها ما تقول هذه الجالسة خلفي؟ قال: ومَن هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه امرأتك)(1) الحديث.
22 -
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنقبر رجلا فلما رجعنا وحاذينا بابه إذا هو بامرأة لا نظنه عرفها فقال يا فاطمة من أين جئت .. ) أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان وصححه الحاكم وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي فدل على أن المرأة عامةً عندهم تخرج بجلباب قد لا يعرفها معه أقرب الناس منها كوالدها إلا بهيئتها.
23 -
وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغَلَس) متفق عليه.
(1) قال في كنز العمال (45860): (والبخارى فى تاريخه والحاكم فى الكنى، قال ابن حجر: إسناده قوى).
فهذا صريح في أن الذي منع من معرفتهن هو تلفعهن بمروطهن، وزاد الغلس في عدم معرفتهن ولو بالهيئة لمن يعرفهن بالهيئة؛ لأن التلفع واللفاع هو كل ما تتلفع به المرأة كالملحفة.
قال الأصمعي: التلفع: أن تشتمل بالثوب حتى تجلل به جسدك.
وقال الأزهري كما في تاج العروس وغيره: يجلل به الجسد كله. وقال الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: (فالمتلفعات: النساء اللاتي قد اشتملن بجلابيبهن حتى لا يظهر منهن شيء غير عيونهن وقد تلفع بثوبه والتفع به إذا اشتمل به أي تغطى به)(1) انتهى.
وقال ابن الأثير في النهاية: (اللفاع: هو ثوب يجلل به الجسد كله، كساء كان أو غيره، وتَلَفَّع بالثوب إذا اشتمل به).
والمرط: الكساء من صوف أو خز. فإن بعضهن وإن كن مغطيات بالكامل فانهن يُعرفن بهيأتهن لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة المرأة الأخرى في الغالب ولو كان بدنها مغطى كما هو معلوم وكما مر معنا
…
قول عائشة في الإفك: (فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب). وقولها في سودة: (وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها). وقول عمر لسودة: (أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين).
وقول الصحابي في فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رجعوا من المقبرة: (إذا هو بامرأة لا نظنه عرفها).
(1) الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي (1/ 76).
كل ذلك وغيره يدل على أن الغلس في حديث تلفعهن هو الذي زاد في المنع من معرفتهن لبعضهن البعض أو ممن يعرفهن ولو بالهيئة؛ لأن المرأة لو كانت كاشفة عن وجهها وصادفها رجل لا يعرفها فإنها لا تُعرف له ولو كانت كاشفة، ولم يصبح لكلام عائشة رضي الله عنها فائدة، فدل أنها تقصد ممن يعرفهن، ومن شدة الغلس والتلفع الذي يسترهن بالكامل وكون مروطهن سوداء لم يعرف بعضهن البعض.
قال الملا على القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح "باب تعجيل الصلوات"(متلفعات: بالنصب على الحالية أي: مستترات وجوههن وأبدانهن قال الطيبي: التلفع: شدة اللفاع وهو ما يغطي الوجه ويتلحف به، بمروطهن المرط بالكسر كساء من صوف أو خز يؤتزر به وقيل الجلباب وقيل الملحفة) انتهى.
فالمروط: أكسية واسعة كما في عدة أحاديث، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:(خرج النبى صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا})(1).
(1) أخرجه مسلم (6414).
وعن عائشة قالت: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود)(1). وعنها أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعليه مرط من هذه المرحلات وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه بعضه وعلي بعضه والمرط من أكسية سود)(2).
وفي البخاري قال ثعلبة بن أبي مالك: (إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطا بين نساء من نساء المدينة)(3).
وفي الحديث المشهور في حادثة الإفك قالت عائشة رضي الله عنها: (فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا
…
فعثرت أم مسطح في مرطها) متفق عليه.
فكن يتجلببن بها لتستر ما تحته من الثياب وفي ذلك دليل على سعتها وسوادها وبعدها عن الفتنة.
24 -
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (لما نزلت هذه الآية {يدنين عليهن من جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان وعليهن أكسية سود يلبسنها - وفي رواية أخري - قالت: لما نزل
(1) اخرجه احمد في مسنده، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(2)
اخرجه احمد وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(3)
البخاري (2725)"باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو".
{يدنين عليهن من جلابيبهن} [الأحزاب: 59] خرج نساءُ الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية) (1).
قال في عون المعبود: (كأن على رؤوسهن الغربان) جمع غراب (من الأكسية) شُبهت الخمر في سوادها بالغراب) انتهى.
والجلباب: هو الرداء فوق الخمار بمنزلة العباءة والجلباب والمروط السود لأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج النساء لمصلى العيد قلن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ فقال (لتلبسها أختها من جلبابها).
فالحديث يدل على الوجوب وأن نساء الصحابة لم يكن يخرجن إلا (بجلباب)، قال في القاموس المحيط:(الجلباب: ثوب واسع للمرأة دون الملحفة أو ما تغطي به ثيابها من فوق كالملحفة) انتهى.
وليس كحجاب غالب المغطيات لرؤوسهن اليوم يخرجن بالتنورة أو البنطال وبحجة أنهن مغطيات لرؤوسهن وبدون جلباب ساتر لثيابهن تلك.
25 -
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) أخرجه البخاري.
فقوله: (كأنه ينظر إليها) دليل على أن النساء كن يُغطين وجوههن وإلا لما احتاج الرجال أن تُوصف لهم النساء ولاستغنوا عن ذلك بالنظر إليهن مباشرة.
(1) أخرجه أبو داود بسند صحيح وعبد الرزاق الصنعاني في تفسيره وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن مردويه. وصححه الألباني في حجاب المراة (صـ 38).
26 -
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل أعرابي فقال ألا تنجز لي يا محمد ما وعدتني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشر فقال له الأعرابي أكثرت على من أبشر، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال إن هذا قد رد البشرى فاقبلا أنتما، فقالا قبلنا يا رسول الله، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومجّ فيه ثم قال اِشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا، فأخذا القدح ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادتهما أم سلمة من وراء الستر أفضلا لأمكما مما في إنائكما، فأفضلا لها منه طائفة) أخرجه مسلم.
27 -
قوله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرًا قالت: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه) أخرجه الترمذي وغيره بسند صحيح.
فهذه أم سلمة رضي الله عنها استعظمت أن تنكشف أقدام النساء إذا كانت ثيابهن مرتخية شبرا، فهل لو كان الوجه مكشوفا ستستعظم ظهور القدمين وتقول:(إذا تنكشف أقدامهن)؟ أم أنها لن تلحظ ذلك أو سترى العكس وهو أن المرأة كالرجل لا يجوز لها جر ثوبها كما في الحديث الذي سمعته، حتى تنجو من الوعيد الشديد من عدم نظر الله يوم القيامة لمن فعل ذلك؛ لأنهن إذا كن قد كشفن وجوههن مِثل الرجال لكون ذلك مباح فكيف يُغطين ما دون ذلك وهي الأقدام وفيها الوعيد الشديد؟ فعُلم
أن الأمر مختلف وأن المرأة في عهدهم لم تكن تكشف عن شيء من جسدها، بل لو كان الوجه مكشوفا كيف علمت أن النساء يختلفن عن الرجال فقالت مباشرة:(فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ ).
ولما كان لقولها: (إذا تنكشف أقدامهن) داعيا للسؤال أو مكانا للاستغراب ووجوههن أصلا مشكوفة، بل كان الأنسب أن تعتقد أن النساء يقصرن ثيابهن مثل الرجال، لأنها كما وافقت الرجل في كشف الوجه وهو مباح على حسب قول أهل السفور، فلأن توافق الرجل في تقصير ثوبه إلى الكعبين لتنجو من النار ومن عقوبة عدم نظر الله لها يوم القيامة من باب أولى. ولكنها فهمت العكس لأن الأمر عندهم مختلف بين الرجال والنساء فطالبت بزيادة وهو جر الثوب لذراع ولم تكتفِ بالارتخاء لشبر مع ما في ذلك من المشقة والحرج.
28 -
فعن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقالت: أم سلمة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهره ما بعده)(1).
29 -
ونحوه: (أن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت يا رسول الله: إن لنا طريقا إلى المسجد مُنتنة فكيف نفعل إذا مطرنا؟ فقال: أليس من بعدها طريق هي أطيب منها؟ قلت: بلى، قال: فهذه بهذه)(2).
ولم يأذن لهن بتقصيره مع ما فيه من الأذى والشدة، أفلا يدل ذلك على الوجوب؟ ثم يُقال بكشف الوجه وأن ستره سنة ومستحب! ! .
(1) أخرجه أهل السنن وقال الألباني في صحيح أبي داود وجلباب المرأة (صحيح).
(2)
أخرجه أبو داود وابن ماجه وقال الألباني في صحيح أبي داود وجلباب المرأة (صحيح).
30 -
قال ابن عبد البر (وقد مضى القول في معنى هذا الحديث في "كتاب الصلاة" وهذان الحديثان (1) يدلان على أن نساء العرب لم يكن يلبسن الخفين ولو لبسن الخفين ما احتجن إلى إطالة الذيول وإن كان منهن من يلبس الخفين في السفر لا في الحضر وهذا هو المعروف عند السلف في زي الحرائر ولباسهن إطالة الذيول ألم تسمع إلى قول عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
كتب القتل والقتال علينا
…
وعلى المحصنات جر الذيول
وقد روي أن أول امرأة جرت ذيلها هاجر أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام (2).
وقال في التمهيد أيضاً: (وجَرُ ذيل الحرة معروف في السنة مشهور عند الأُمةِ ألا ترى إلى قول عبد الرحمن بن حسان بن ثابت
…
) (3).
31 -
وقال في التمهيد أيضاً عند حديث فاطمة بنت قيس واعتدادها في بيت ابن عمها ابن أم مكتوم قال: (وفي هذا الحديث وجوب استتار المرأة إذا كانت ممن للعين فيها حظ (4) عن عيون الرجال وفي ذلك تحريم النظر إليهن).
(1) يقصد حديث أم سلمة الأول وما بعده من حديث أم ولد لإبراهيم.
(2)
الاستذكار لابن عبد البر (باب ما جاء في إسبال المرأة ثوبها)(8/ 312).
(3)
التمهيد لابن عبد البر عند كلامه عن (حديث ثان لأبي بكر بن نافع)(687).
(4)
بعكس الكبيرة أو المقبحة أو الصغيرة التي لا تُشتهى، وكذلك الحال في الرجل من غير ذوي الإربة أو المجنون أو الطفل.
32 -
وقال في التمهيد بعده مباشرة أيضا: (وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى فاطمة هذه إذ جاءته في هذه القصة، حدثنا أحمد بن محمد، قال حدثنا أحمد بن الفضل، قال حدثنا محمد بن جرير، قال حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال حدثنا سفيان بن عيينة، عن مجالد، عن الشعبي عن فاطمة ابنة قيس، قالت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستتر مني وأشار عني بثوبه على وجهه).
33 -
وقال بعده في التمهيد أيضا: (وكذلك في حديث قيلة ابنة مخرمة الحديث الطويل في قدومها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بيده خلفه إذ قيل له أرعدت المسكينة فقال: ولم ينظر إلي، يا مسكينة عليك السكينة)(1).
34 -
وقال بعده أيضا: (وفي حديث بُريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعلي لاتتبع النظرة النظرة
…
وقال: جرير سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال غض بصرك. رواه الجماعة .... وقد ذكرنا ما يجوز النظر
إليه من الشهادة عليها وشبهها في غير هذا الموضع
…
) (2) انتهى.
(1) قال الحافظ في الفتح (11/ 65) (قالت:
…
وبيده عسيب نخلة مقشرة قاعدا القرفصاء قالت: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال له جليسه: يا رسول الله أرعدت المسكينة، فقال ولم ينظر إلي: يا مسكينة عليك السكينة، فذهب عني ما أجد من الرعب
…
الحديث) قال الحافظ إسناده لا بأس به. انتهى. وذكره في مجمع الزوائد (باب خراج الأرض)(9796) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. وقال في الإصابة عند ترجمتها: (الحديث بطوله أخرجه الطبراني مطولا وأخرج البخاري في الأدب المفرد (1178). طرفا منه وأبو داود طرفا منه أيضا (3070)، والترمذي (2812)
…
قلت: ساقه الطبراني وابن منده بطوله) انتهى كلامه. وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (وفد شيبان)(1/ 317).
(2)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (19/ 152).
35 -
عن سَعْدَ بْنَ أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: (اسْتأذن عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالية أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتأذن عُمَرُ قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الحِجَابَ، فأذن لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الحِجَابَ قَالَ عُمَرُ: فأنتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أن يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ: أي عَدُوَّاتِ أنفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْنَ: نَعَمْ، أنتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشيطان قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إلا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ) متفق عليه.
فحجابهم من عمر دليل على أن الحجاب واجب وليس سنة ومستحب.
36 -
وعن أئمة التابعين وأعلامهم أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره: (عن يعقوب قال: حدثنا ابن عُلَية، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني (1) في قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} [الأحزاب: 59] فَلَبسَها عندنا ابن عون، قال: وَلبسها عندنا محمد بن سيرين، قال محمد: ولَبِسها عندي عَبيدة السلماني، قال ابن عون: فتقنَّعَ بردائه فغطّى أنفه وعينه
(1) عبيدة السلماني كاد أن يكون من الصحابة أسلم عام فتح مكة بأرض اليمن وأخذ عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالخليفة الراشد علي بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهما وكان إماماً في الفقه، وثَبْتا في الحديث، قيل إنه توفي سنة (72 هـ).
اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبًا من حاجبه، أو على الحاجب) (1) انتهى.
وإسناده في غاية الصحة وأخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما بسند صحيح رجاله كلهم ثقات أئمة وقدوات وجبال في الثقة والضبط، وعلق صاحب كتاب "عودة الحجاب" على هذا الأثر بقوله:(رجال هذا الإسناد جبال في الثقة والضبط. ثم قال: وإذا تقرر لديك أن عبيدة السلماني من كبار التابعين وأنه نزل المدينة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يزل بها حتى مات لعلمت حينئذ أنه يفسر ما كان سائداً في المجتمع الذي كان يمثله أجلة الصحابة وأكابر الأمة الذين عليهم مدار الدين) انتهى.
ومن العجيب أن أهل السفور اليوم يضعفون مثل هذا الأثر بحُجج واهية ساقطة منها أنه مقطوع كون عبيدة السلماني تابعي فهل ادعى أحد أنه حديث مرفوع حتى يقال إنه مقطوع غير موصول؟ ! والحقيقة أن أسمى غايات أهل السفور اليوم أن يظفروا بأثر عن السلف كهذا ولن يجدوه، ومن ضمن ما ضعفوه به أن من رووه مرة يقولون (وأخرج عينه اليمنى) ومرة (وأخرج عينه اليسرى) وعلى فرض صحة قولهم أفيحق لنا تضعيفه بمثل هذه الجزئية ونترك أصل المسألة وهو تغطية المرأة لوجهها؟ فهب أنه كشف العينين معاً كمن لبست النقاب فهذا جائز باتفاق، أو هب أن التابعي الجليل سئل عن تفسير الآية فكشف في مرة
(1) تفسير ابن جرير والسيوطي وغيرهما.
العين اليمنى ومرة العين اليسرى، لأنه يعلم أن ذلك ليس ذي بال لأن المقصد أن ترى المراة لنفسها ما يعينها على رؤية الطريق وأداء واجب الستر، كما هو المعروف لدى أهل العلم من مقاصد الشريعة العامة ومراميها العالية، وخاصة أنه جاء في بعض الروايات (إحدى عينيه)، فكيف وفي السنة أحاديث أتت بروايات متعددة وفي بعضها أختلاف شكلي من هذا النوع؟ .
ومن أسوأ ما ضعّفوه به قولهم مخالفته لتفسير ابن عباس لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَاظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] فهل حقاً كان عبيدة السلماني يفسر آية الرخصة هذه فخالف فيها ابن عباس أم أنه كان في الحقيقة يفسر آية الإدناء المشرعة والواصفة لفريضة الحجاب من قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} [الأحزاب: 59] فكيف يقال في تفسير آيتين مختلفتين أن هذا خالف هذا فيها؟ ! . وإن كان قصدهم ما جاء عن ابن عباس في تفسيره لآية الإدناء بلفظ التقنع فقد تقدم معنا خطأهم عند نقلنا لتفسير الإمام الطبري وأنها تعني ستر الوجه بطريقة التقنع أوالنقاب أو اللثام ونحوه مما يعطف ويضرب على الوجه ويُشد على الجبين حتى يثبت على الوجه فلا يسقط، بعكس السدل.
ويؤيد ذلك رواياته الأخرى الصريحة في الآية والتي تناقلها أهل العلم عنه، بأنها الأمر بتغطية المرأة لوجهها عن الرجال، فبطلان قولهم ظاهر من كل وجه.
والعجيب والخطير أنهم يستهزؤون بهذا الكلام من كشف المرأة لإحدى عينيها مع أنه مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن عبيدة السلماني وغيرهما من أئمة الأسلام، وكلامهم مبثوث في كتب أهل العلم وأهل التفسير بشكل مستفيض ومشهور حتى أنه يندر أن تقرأ في تفسير من تفاسيرهم عن آية الإدناء ولا تجد ذلك مذكورا عندهم (1)، ومع ذلك فلم يضعفه أحد ولم يقل فيه ما قاله أهل السفور اليوم فهذه والله جرأة عجيبة وحيدة عن الحق فكيف وهو موافق في أصله العام لسيرة أمهات المؤمنين والصحابيات الكريمات والتابعيات الجليلات، كما يقولون: (والنصوص متضافرة عن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يحتجبن حتى في وجوههن وإليك بعض الأحاديث والآثار التي تؤيد ما نقول
…
ففي هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على أن حجاب الوجه قد كان معروفا في عهده صلى الله عليه وسلم وأن نساءه كن يفعلن ذلك وقد استن بهن فضليات النساء بعدهن) انتهى نقلا من كلام الشيخ الألباني في كتابه جلباب المرأة.
ومن نظر في كلام الألباني وبماذا ضعف به هذا الأثر كما في كتابه "الرد المفحم" تذكر قول القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
…
ولكن عين السخط تبدي المساويا
(1) راجع ما نقلناه عن أهل العلم في تفسير الآية صفحة (32 - 77) لترى كلام ابن عباس وغيره من السلف فيها.
37 -
روي عن الإمام عاصم الأحول قال: (كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا وتنقبت به فنقول لها: رحمك الله قال تعالى: {وَالقواعد مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ .. } هو الجلباب، قال فتقول لنا أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: {وَأن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} فتقول: هو إثبات الحجاب)(1) أخرجه البيهقي وابن المنذر وسعيد بن منصور بإسناد صحيح ثابت عن هؤلاء التابعين الأعلام تلامذة الصحابة الكرام.
أفتقرء فيه أن في ستر المراة لوجهها سنة ومستحب، فكتموه؟ .
فإذا كانت المرأة الشابة عند مذهب أهل السفور تكشف الوجه والكفين فماذا أبقوا ليكون رخصة من الله للعجائز القواعد في البيوت؟ .
والعجيب أن هذا الأثر قد صححه الألباني مع أنه كأثر التابعي الجليل عبيدة السلماني، ومع ذلك لم يقل فيه ولا في غيره من الآثار أنه منقطع موقوف على التابعي أو نحو ذلك كما قاله هناك! . مما يوهم معه القارئ بأن الأثر عن عبيده السلماني رحمه الله ضعيف.
38 -
وكذلك القصة التي وقعت في عهد معاوية رضي الله عنه ورواها عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: (جاءت امرأة إلى سمرة بن جندب فذكرت أن زوجها لا يصل إليها فسأل الرجل فأنكر وكتب فيه إلى معاوية رضي الله عنه قال فكتب أن زوجهُ امرأةً من بيت المال
(1) وصححه الألباني في "جلباب المرأة" و"الرد المفحم".
لها حظ من جمال ودين قال ففعل قال وجاءت المرأة متقنعة) (1).
وهذا أحد الآثار التي تثبت عمل الصحابة والتابعين وحال نسائهم من تغطية الوجه وبلفظ التقنع الذي قالوا أنه لا يأتي بمعني ستر الوجه.
39 -
عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن موسى القاضي قال:
حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين ومائتين وتقدمت امرأة فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهرا فأنكر فقال القاضي: شهودك. قال: قد أحضرتهم. فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة لتصح عندهم معرفتها. فقال الزوج: وإني أشهد القاضي أن لها عليَّ هذا المهر الذي تدعيه ولا تسفر عن وجهها. فردت المرأة وأخبرت بما كان من زوجها. فقالت: فإني أشهد القاضي:
(1) أخرجه البيهقي (228/ 7) وسنده حسن. وقد حسنه الألباني أيضا في "جلباب المرأة، وتلاحظ فيه لفظة (التقنع) التي قال عنها عند ذكره لتفسير الطبري على آية الإدناء: أنها لا تعني ولا تأتي لستر الوجه. وقد سبق لنا هناك (صـ 45) ذكر ما لا يحصى من النقول على أن التقنع يأتي أيضا بمعنى ستر الوجه. قال في كتاب "الأفعال" لابن القطاع: (باب الثنائي المكرر)
…
-حصحص- (وفى الحديث أن سمرة بن جندب أتى برجل عِنين فكتب فيه إلى معاوية فكتب إليه أن اشتر له جارية من بيت المال وأدخلها معه ليلة ثم سلها عنه ففعل فلما أصبح قال: ما صنعت، قال: فعلت فيه حتى حصحص فيه، فسأل الجارية فقالت: ما صنع شيئا، فقال له: خل سبيلها يا محصحص).
أن قد وهبت له هذا المهر وأبرأته منه في الدنيا والآخرة. فقال القاضي: يكتب هذا في مكارم الأخلاق) (1).
والقصة صححها الألباني في جلباب المرأة ولم يضعفها بالانقطاع ولا بشيء، مع أن أثر عبيدة السلماني أجل وأقدم منها بكثير، فكيف وهذه رواتها أيضاً في الزمن الأول وعباراتها وسياقها يدلان على أن الأمر جلل والنزاع بلغ الحد، فلا يمكن أن يكون المعنى لكون كشف الوجه كان سنة ومستحب كما يقوله البعض، وقد جاز في موضع الرخصة والحاجة ثم هم أيضا يمتنعون إلا في حالة واحدة إذا لوينا أعناق الأدلة بمثل تلك الاحتمالات والتأويلات التي تفردوا بذكرها اليوم! .
40 -
وجاء في تفسير قوله تعالى {فَجَاءتْهُ إحداهما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء} [القصص: 25]، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها ليست بسلفع خراجة ولاجة)(2).
وهو من أدلة غطاء الوجه وأنه من فرائض الله التي كانت على نساء المسلمين ممن قبلنا.
(1) شعب الإيمان للبيهقي (10392)"الثاني والسبعون هو باب في الغيرة والمذاء". وقد وردت القصة في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (7022)"باب الميم ذكر من اسمه موسى"(13/ 53). وفي تاريخ دمشق لابن عساكر (7706). وفي البداية والنهاية (11/ 81).
(2)
أخرجه البغوي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة والبيهقي وابن المنذر وابن أبي حاتم بإسناد صحيح كما قاله ابن كثير في تفسيره، ورواه الحاكم وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
حيث أن الأدلة تشير على أن المرأة عند أهل الكتاب قد كانت تلبس النقاب على وجهها فاليهود ورغم ما أحدثوه في التوراة من تحريف وتبديل فما زال فيها بقية من حق دلَّ عليها القرآن وأنها مما بقي من الأمور التي أوحاها الله لرُسُلِهم الموافقة لشريعة الإسلام الخاتمة، وقد حاجهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حكم بالرجم على من زنا منهم.
فذِكر البرقع جاء في غير موضع من العهد القديم:
فقد جاء في «سفر التكوين» قصة طويلة عن امرأة اسمها «رِفقة» وفيها « .. وإذا جِمالٌ مقبلة ورفعت رِفقة عينيها، فرأت إسحاق فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: مَن هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا، فقال العبد هو سيدي فأخذت البرقع وتغطَّت» (1).
وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من «سفر التكوين» «ولما طال الزمان ماتت ابنة شوع
…
وقيل لها: هو ذا حموك صاعد إلى تِمنةَ ليجُزَّ غنمه. فخلعت عنها ثياب تَرَمُّلها، وتغطت ببرقع وتلفَّفت» (2).
والنصارى لليوم يسترون وجه العروس بشاش خفيف كنوع من البروتوكولات التي ترمز لتعاليمهم الدينية.
ويزول عجبك عندما تعلم أن الأمة الإسلامية عبر عصورها كانت المرأة تخرج وهي منتقبة متغطية، سواء في المشرق أو المغرب أو بلاد الشام أو الجزيرة العربية أو غيرها من بلاد الإسلام فلعهود
(1) سفر التكوين الإصحاح الرابع والعشرون (63 ـ 66).
(2)
سفر التكوين الإصحاح الثامن والثلاثون (11 ـ 14).
قريبه وإلى نحو منتصف القرن الرابع عشر الهجري وقبل الاستعمار الغربي وما تلاه من استعمار فكري وكبار السن والصور الفوتوغرافية، والأشرطة الوثائقية، والنقولات تثبت ذلك. بل العجب أن تعلم بأن قاسم أمين من أشهر دعاة تحرير المرأة، يَذكر عنه الصحفي مصطفى أمين بأن زوجته كانت تغطي وجهها إلى أن توفي! (1).
قال الشيخ محمد علي الصابوني في " روائع البيان " (ومن درس حياة السلف وما كان عليه النساء الفضليات نساء الصحابة والتابعين وما كان عليه المجتمع الإسلامي عرف خطأ هذا الفريق من الناس الذين يزعمون أن الوجه لا يجب ستره ويدعون المرأة أن تسفر عن وجهها، وما دروا أنها مكيدة دبرها لهم أعداء الدين وفتنة من أجل التدرج بالمرأة المسلمة إلى التخلص من الحجاب الشرعي الذي عمل له الأعداء زمنا طويلا
…
. - إلى أن قال -
بدعة كشف الوجه: ظهرت في هذه الأيام الحديثة، دعوة تطورية جديدة، تدعو المرأة إلى أن تسفر عن وجهها، وتترك النقاب الذي اعتادت أن تضعه عند الخروج من المنزل، بحجة أن النقاب ليس من الحجاب الشرعي، وأن الوجه ليس بعورة، دعوة (تجددية) من أناس يريدون أن يظهروا بمظهر الأئمة المصلحين الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة ليجددوا للأمة أمر دينها، ويبعثوا فيها روح التضحية والإيمان والكفاح. دعوة جديدة، وبدعة حديثة من أناس يدعون العلم ويزعمون الاجتهاد، ويريدون أن يثبتوا بآرائهم (العصرية الحديثة) أنهم أهل لأن يُنافسوا الأئمة المجتهدين وأن يجتهدوا في الدين كما اجتهد
(1) انظر (من واحد لعشرة صـ 119) لمصطفى أمين.
أئمة المذاهب ويكون لهم أنصار وأتباع. لقد لاقت هذه الدعوة "بدعة كشف الوجه" رواجاً بين صفوف كثيرة من الشباب وخاصة منهم العصريين، لا لأنها "دعوة حق"؛ ولكن لأنها تلبي داعي الهوى، والهوى محبَّب إلى النفس، وتسير مع الشهوة، والشهوة كامنة في كل إنسان، فلا عجب إذاً أن نرى أو نسمع من يستجيب لهذه الدعوة الأثيمة ويسارع إلى تطبيقها بحجة أنها "حكم الإسلام" وشرع الله المنير. يقولون: إنها تطبيق لنصوص الكتاب والسنة وعمل بالحجاب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به المسلمات في كتابه العزيز، وأنهم يريدون أن يتخلصوا من الإثم بكتمهم العلم {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} إلى آخر دعاواهم الطويلة العريضة. ولست أدري: أي إثم يتخلصون منه وهم يدعون المرأة إلى أن تطرح هذا النقاب عن وجهها وتُسفر عن محاسنها في مجتمع يتأجج بالشهوة ويصطلي بنيران الهوى ويتبجح بالدعارة، والفسق، والفجور؟ !
…
. - إلى أن قال -
فهل يعقل أن يأمرها الإسلام أن تستر شعرها وقدميها، وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها؟ وأيهما تكون فيه الفتنة أكبر: الوجه أم القدم؟ يا هؤلاء كونوا عقلاء ولا تلبسوا على الناس أمر الدين، فإذا كان الإسلام لا يبيح للمرأة أن تدق برجلها الأرض لئلا يسمع صوت الخلخال وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها، فهل يسمح لها أن تكشف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة ومكمن الخطر؟ ) (1) انتهى كلامه.
(1) روائع البيان للشيخ الصابوني (2/ 182).
وقال الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: (نعم! هو النقاب (Veil) الذي تعده أوربا غاية في الشناعة والقبح، ويكاد الضمير الغربي يختنق حتى من تصوره، ويعتبره الغربيون عنوان الظلم وسيما الوحشية وضيق الفكر، وهو أول ما يعقد عليه الخنصر إذا ذكرت أُمة شرقية بالجهالة والتخلف في طريق التمدن، وأما إذا وصفت أمة في الشرق بكونها سائرة في طريق الحضارة والتمدن، فأول ما يذكر من شواهده بكل تبجح وافتخار؛ هو كون (النقاب) قد زال عن هذه الأمة أو كاد.
ويا لخزيكم يا أصحابنا المتجددين المستغربين إذا تبين لكم أن هذا الشيء لم يخترع بعد زمان النبي بل نسج بردته القرآن نفسه، وروجه النبي صلى الله عليه وسلم في أمته في حياته، على أن شعوركم بهذا الخزي وإطراقكم بالندامة والخجل ليس بنافعكم شيئاً؛ لأن النعامة إن أخفت رأسها في التراب لرؤية الصائد، فإنه لا يطرد الصائد ولا ينفي وجوده، كذلك إن أشحتم بوجوهكم عن الحقيقة لم تبطل به الحقيقة الثابتة ولم تمح آية القرآن، وإن حاولتم أن تكتموا هذه الوصمة - كما ترونها - في تمدنكم من وراء حجب التأويل لم تزيدوها إلا وضوحاً وجلاء، وإذا كنتم قد قررتم أن هذا النقاب عار على أنفسكم وشنار بعد إيمانكم بوحي الغرب، فليس إلى غسله عن أنفسكم من سبيل غير أن تعلنوا براءتكم من الدين الإسلامي الذي يأمر بالأشياء السمجة البغيضة كلبس النقاب وإسدال الخمار وستر الوجوه
…
. - إلى أن قال -
إن بين مقاصد الإسلام ومقاصد الحضارة الغربية - كما ذكرناه غير مرة - لَبَوناً بعيداً وفرقاً شاسعاً جداً، ومخطئ بيِّن الخطأ من يريد أن
يفسر أحكام الإسلام بوجهة نظر الغرب، ذلك بأن ما عند الغرب من المقياس لأقدار الأشياء وقيمها، يختلف عنه مقياس الإسلام كل الاختلاف، فالذي يكبره الغرب ويعده غاية لحياة الإنسانية، هو في عين الإسلام من التوافه والهنات، وإن ما يهتم به الإسلام ويعظم شأنه هو عند الغرب من سقط المتاع، لذلك كل من قال بصحة المقياس الغربي فلا بد أن يرى جميع ما في الإسلام واجب الترميم والإصلاح، وإذا مضى يفسر أحكام الإسلام ويشرحها، جاء بها محرفة عن معانيها، ثم لم يوفق في تطبيقها على الحياة العملية حتى في صورتها المحرفة لما يعترض سبيله إلى ذلك من أحكام القرآن ونصوص السنة البينة فحريٌ بمثل هذا الرجل قبل أن ينظر في جزئيات المناهج العملية، أن يتأمل المقاصد التي قد اتخذت للوصول إليها تلك المناهج، وينظر هل هي صالحة للقبول أم لا. وإن هو لم يكن يوافق تلك المقاصد نفسها فأي غناء يغنيه البحث في المناهج التي تختار لتحقيق تلك المقاصد؟ ولماذا يكلف نفسه مسخ تلك المناهج وتحريفها؟ أليس من الأجدر به الأصلح له أن يهجر الدين الذي يخطئ مقاصده؟ وأما إذا كان يتفق مع تلك المقاصد، فلا يبقى البحث بعد ذلك إلا فيما يتخذ لتحقيقها من المناهج، هل هي صحيحة أم لا؟ وهذا البحث يمكن طيه بكل سهولة، ولكن هذه الطريقة لا يتبعها إلا ذوو المروءة والكرم وهم قليلون، وأما
المنافقون الذين هم بطبيعتهم أخبث ما خلق الله في هذا الكون، فلا يزكو بهم إلا أن يدَّعوا إيمانهم بشيء ويؤمنوا في الحقيقة بشيء آخر! ) (1).
قال في "بهجة المحافل" للعامري الشافعي في حوادث السنة الخامسة ما لفظه: (وفيها نزول الحجاب وفيه مصالح جليلة وعوائد في الإسلام جميلة، ولم يكن لأحد بعده النظر إلى أجنبية لشهوة أو لغير شهوة وعفي عن نظر الفجأة) انتهى.
وقد ذكر بعض الفضلاء ما يربو على ستين اسماً من أسماء المعاصرين اليوم فقط والقائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها من غير النجديين! ونقل في ذلك بعض أقوالهم ومؤلفاتهم (2).
(1) من كتاب "الحجاب"(صـ 326) للشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله.
(2)
راجع مقال (أسماء القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها من غير النجديين) للشيخ سليمان الخراشي.