الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مخالفة الشيخ الألباني لإجماع المسلمين في تفسيره لقوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}
وبعد ما تقدم وغيره، فمن يستشهد اليوم لمسألة فريضة الحجاب بقوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ويقول أنها دليل على جواز كشف المرأة لوجهها بدون سبب من حاجة أو ضرورة، أو الأسوأ منه، من يرى كل هذه النقول المتواترة لعلماء أهل التفسير جيلا بعد جيل عن صحابة رسول صلى الله عليه وسلم والتابعين وتابعيهم بإحسان ثم يقول أن هناك خلافا بين السلف في تفسير آية الإدناء، فضلا عن قوله أن آية الإدناء تعني كشف المرأة لوجهها، يكون قد جنا جناية عظيمة، وأتى بما لم يأتِ به الأولون والآخرون منذ أربعة عشر قرناً، وأخطأ وحرف كلام أهل التفاسير قاطبة، وبالتالي كلام الله - عز جل - وهو لا يشعر، وناقض أوله بآخره وأعرض عن إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فلم يأت عن أحد من السلف ما يخالف ذلك بتاتاً، أو أن آية في كتاب الله تعنى أن تكشف المرأة عن وجهها بغير سبب مبيح، حتى جاء الشيخ الألباني رحمه الله، وأتى اليوم كما يقول بتوفيق بين الأدلة، ولا شك أنها زلة العالم.
قال الشيخ محمد الألباني رحمه الله، في كتابه "حجاب المرأة" صفحة (57): (ويلاحظ القراء الكرام أن هذا البحث القيم الذي وقفت عليه بفضل الله من كلام هذا الحافظ ابن القطان يوافق تمام الموافقة ما كنت
ذكرته اجتهاداً مني وتوفيقاً بين الأدلة: أن الآية مطلقة كما ستراه مصرحاً به (ص 87) فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات).
ثم هناك في صفحة (87) قال: (هذا ولا دلالة في الآية على أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره، بل غاية ما فيها الأمر بإدناء الجلباب عليها وهذا كما ترى أمر مطلق فيحتمل أن يكون الإدناء على الزينة ومواضعها التي لا يجوز لها إظهارها حسبما صرحت به الآية الأولى وحينئذ تنتفي الدلالة المذكورة ويحتمل أن يكون أعم من ذلك فعليه يشمل الوجه. وقد ذهب إلى كل من التأويلين جماعة من العلماء المتقدمين وساق أقوالهم في ذلك ابن جرير في (تفسيره) والسيوطي في (الدر المنثور) ولا نرى فائدة كبرى بنقلها هنا فنكتفي بالإشارة إليها ومن شاء الوقوف عليهما فليرجع إليهما. ونحن نرى أن القول الأول أشبه بالصواب لأمور:
الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا. وقد تبين من آية النور المتقدمة أن الوجه لا يجب ستره، فوجب تقييد الإدناء هنا بما عدا الوجه توفيقاً بين الآيتين
…
) انتهى إلخ كلام الألباني رحمه الله.
وأنت تلاحظ أن الشيخ رحمه الله بنى قوله على أمور منها: أنه (لا دلالة في الآية على أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره) ورد كل ما جاء من نقول لأهل العلم بسبب هذا الاعتبار، فكيف لو علمت أن عدداً ممن نقلنا قولهم هنا، هم ممن يقولون:(أن الوجه والكفين ليسا بعورة)، ومع ذلك يوجبون ستره، وهذا ما يؤكد أن مقصد ومراد المتقدمين على أن الوجه والكفين ليسا بعورة لا يعنى عندهم كشفهما
على كل حال وبدون سبب مبيح، بل يعنون به جواز الكشف عند الحاجة والضرورة، كما سيأتي معنا عند تفسير سورة النور، فهنا أجماع ظاهر منهم.
كما وأنه سبق لنا بيان الأدلة على أن آية النور متأخرة وليست متقدمة، فالشيخ - غفر الله لنا وله - أخذ من آية الرخص والاستثناءات التي في سورة النور ما جعله حكماً لفريضة الحجاب ومتعارضاً مع ما جاء من إجماع في سورة الأحزاب، كمن يأخذ بأدلة الفطر للمسافر والمريض ويقول الفطر في رمضان سنة ومستحب.
وقال في الرد المفحم: (يصرُّ المخالفون المتشددون على المرأة وفي مقدمتهم الشيخ حمود التويجري حفظه الله، على أن معنى {يدنين}: يغطين وجوههن، وهو خلاف معنى أصل هذه الكلمة: "الإدناء" لغة، وهو التقريب، كما كنت ذكرت ذلك وشرحته في الكتاب - وكما سيأتي في محله منه - وبينت أنه ليس نصّاً في تغطية الوجه، وأن على المخالفين أن يأتوا بما يرجِّح ما ذهبوا إليه، وذلك مما لم يفعلوا ولن يفعلوا إلا الطعن على من خالفهم ممن تبع سلف الأمة ومفسريهم وعلماءهم) انتهى كلامه رحمه الله.
وقوله: (يصرُّ المخالفون المتشددون على المرأة
…
على أن معنى {يدنين} : يغطين وجوههن). أقول ولا أدري كيف يستجيز الشيخ مثل هذا القول وهو يقول: (ممن تبع سلف الأمة ومفسريهم وعلماءهم) فهل هؤلاء الأئمة من أهل العلم والتفسير والذين لم يقولوا كلمة واحدة
كقوله: سنة ومستحب، بل كلهم أجمعوا بصيغة (أمَر الله) كما هي صيغة الخطاب الرباني لرسوله صلى الله عليه وسلم {قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين} أفيكون هؤلاء من المتشددين أيضاً؟ نعم، على كلامه هم كذلك، فإن كان لا يدري بأقوالهم فهو معذور، وإن كان يعلم فهذه والله مصيبة.
هذه ألفاظ لم يسبقه بها أحد، وإلا فما معنى تلك النقول من أئمة الإسلام وأعلامها الكبار؟ وللأسف استغل ذلك بعض أهل السفور وصغار الطلبة، فأطلقوا ألسنتهم ليردوا على المتقدمين كثيراً من الثوابت والمحكمات، وأصبحنا نسمع من يقول "هم رجال ونحن رجال" - غفر الله لنا ولهم -.
ثم قال في موضع آخر: (ففي كتب اللغة: " تقنّعت" المرأة أي: لبست القناع وهو ما تغطي به المرأة رأسها"، كما في "المعجم الوسيط" وغيره، مثل الحافظ نفسه فقد قال في "الفتح" (7/ 235 و 10/ 274): "التقنع": تغطية الرأس"
…
ويحتمل أن يكون أراد معنىً مجازياً أي: ما يحيط بالوجه من باب المجاورة
…
وبذلك فسرها ترجمان القرآن عبد الله بن عباس فيما صح عنه، فقال:"تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به" كما سيأتي تخريجه"
…
وإدناء الجلباب أن تقنّع، وتشده على جبينها". وهذا نص قولنا: أنه لا يشمل الوجه. ولذلك كتمه كل المخالفين
…
فقال الحافظ (6/ 25): قوله: "مقَنَّع" بفتح القاف والنون المشددة: وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب" انتهى كلام الحافظ.
فإنه يعني ما جاور الوجه وإلا لم يستطع المشي فضلاً عن القتال كما هو ظاهر
…
) انتهى كلامه من الرد المفحم.
وقد تقدم الكلام بإسهاب على هذا بحمد الله، وأن (التقنع) يأتي ويستر الوجه، وذلك عند نقلنا لتفسير الطبري على الآية، مما تعلم معه أن الألباني بنى كلامه رحمه الله على فهمه أن التقنع لا يستر الوجه مما فهمه من كلام الطبري الذي سبق معنا في أختلاف صفة الإدناء، وإلا فابن عباس رضي الله عنه كلامه ظاهر حيث أنه يخاطب المرأة المحرمة فيقول:"تدني الجلباب إلى وجهها" أي تستره "إلى وجهها" بنوع السدل والإرخاء، لا بنوع الضرب والعطف والشد على الوجه والجبين، فهذا منهي عنه حال الإحرام كالنقاب والبرقع والتقنع ونحوه كما تقدم معنا، ولهذا فبطل قوله:(وقد ذهب إلى كل من التأويلين جماعة من العلماء المتقدمين وساق أقوالهم في ذلك ابن جرير في "تفسيره" والسيوطي في "الدر المنثور") انتهى.
وأما السيوطي فقد مر معنا كلامه الصريح، وكذلك الحافظ ابن حجر المشهورة أقواله في وجوب تغطية النساء لوجوههن، ولهذا فلو كان غير هؤلاء! .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (مقدمة التفسير):
فصل: (وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين - حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان; فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين مثل
تفسير عبد الرزاق ووكيع وعبد بن حميد وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ومثل تفسير الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية وبقي بن مخلد، وأبي بكر بن المنذر وسفيان بن عيينة وسنيد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي سعيد الأشج وأبي عبد الله بن ماجه وابن مردويه.
"إحداهما" قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
و"الثانية" قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.
"فالأولون" راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
و"الآخرون" راعوا مجرد اللفظ وما يجوز عندهم أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق.
والأولون "صنفان": تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول وقد يكون حقا فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول
وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن فإنه وقع أيضا في تفسير الحديث
فالذين أخطأوا في الدليل والمدلول - مثل طوائف من أهل البدع - اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم. تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه ومن هؤلاء فرق الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرهم
…
والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين: تارة من العلم بفساد قولهم، وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن؛ إما دليلا على قولهم أو جوابا على المعارض لهم
…
.
فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.
وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعا وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم -
فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها أما عقلية وأما سمعية كما هو مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضعه وفسروا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير ما أريد به وتأولوه على غير تأويله فمن أصول العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه وأنه الحق وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق.
وكذلك وقع من الذين صنّفوا في شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين من جنس ما وقع فيما صنّفوه من شرح القرآن وتفسيره) (1) انتهى كلامه رحمه الله.
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (الجزء الثالث عشر صـ 355).