الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن بعدهم في التفسير، جعلهم يتسرعون فيحرفون ويبدلون - دون قصد - كلام الطبري عن مقصده ومراده.
اختلاف ألفاظ السلف في التفسير غالباً ما يكون اختلاف تنوع:
والمعروف أن ألفاظ السلف في التفسير واختلافهم غالبا هو من باب خلاف التنوع، لا من خلاف التضاد؛ لأن خلاف التضاد: هو أن يكون بين القولين تضاد، أي: لا يمكن اجتماعهما، وأما خلاف التنوع: هو أن تكون ألمادة المستعملة تختص في قول ما لا تختص في القول الآخر، بمعنى أن صاحب القول الأول يذكر وجهاً من المعنى لا يذكره صاحب القول الثاني، وصاحب القول الثاني يذكر وجهاً من المعنى لا يذكره صاحب القول الأول، ويكون المعنى الأول والثاني كلاهما صحيح، ويحصل التمام باجتماعهما. وغالب ما يكون خلاف التنوع في كلام السلف هو في التفسير، فإن الناظر في كتب التفسير كتفسير ابن جرير وهو أخص كِتاب في المأثور يرى أن أقوال الصحابة والتابعين، ولا سيما من اشتغل منهم بالتفسير فيها اختلاف كثير، وعامةُ هذا الاختلاف إما لفظي وأما تنوع، بمعنى: أن يذكر أحدهما معنى، ويذكر الآخر معنى آخر، لكن يمكن اجتماعهما، ويكمل أحدهما الآخر.
فمن لم يفهم منهجهم ويعرف طريقتهم نسب إليهم الاختلاف إما لمجرد قول الناقل عنهم (واختلفوا) وإما لما يراه من أقوال السلف المختلفة ظاهراً في تفسيرهم للآية، فيظنهم يقصدون اختلاف التضاد، فيحرف ويبدل كلامهم بغير قصد كما في فريضة الحجاب.
وهنا زعموا أن قول الطبري: (ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به) أن بين الصفتين اختلاف تضاد فأداهم ذلك لورطة أخرى وخطأ أكبر وأشنع، وهو أنه يلزم من قولهم ذلك أن يبرهنوا أن لفظة التقنّع الواردة في الصفة الثانية (وإدناء الجلباب: أن تقنع وتشد على جبينها) لا تعني ستر الوجه، ونقل نقلا مبتورا وناقصاً عن بعض أهل اللغة يفيد أنها بمعنى الستر فقط، فقالوا ليس فيها ستر الوجه، بل ومن العجيب أنهم قالوا:(أن التقنّع الذي يلبسه المحاربون لا يكون على الوجه بتاتا فإنه لو كان على الوجه كيف يبصرون الطريق فضلا عن القتال، وأنه وإن ورد عن البعض أنه يستر الوجه فهذا مجاز عن إحاطته بالوجه وليس حقيقة في تغطيته)(1)، وبهذه البساطة نسفت فريضة النقاب ووجوبه في الشريعة المطهرة، وأما كيف يبصرون؟ فإن الأطفال الصغار يعرفون الأقنعة ويلبسونها ويمكنهم أن يجيبوا بأن للمقاتلين في أقنعتهم فتحتين أمام العينين يبصرون بها، بل وورد لفظ القناع الذي يستر الوجه في السنة واللغة وقصص العرب بشكل مستفيض لا يحصى، سنأتي لذكره باستفاضة، بل لو أنهم نظروا في كلام الطبري بنوع من التأمل قليلا، لأغناهم عن ذلك كله، ولعلموا مقصده وأن التقنع يستر الوجه أيضا فقد نقل الإمام الطبري في الصفة الأولى بعد أثر ابن عباس، أثر عبيدة السلماني وكيف وصف ابن عون
(1) نقلاً من كلام الشيخ محمد الألباني رحمه الله في كتابه: (الرد المفحم على من خالف العلماء وتشدد وتعصب، وألزم المرأة بستر وجهها وكفيها وأوجب، ولم يقتنع بقولهم: أنه سنة ومستحب) ..
تغطية الوجه بلفظة (التقنع) فقال الإمام الطبري: (قال ابن عون بردائه فتقنع به، فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب) وهذا هو نفس تفسير ابن عباس الذي في الصفة الأولى (أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة) مما يكفي معه أن يفهم الشخص منه معنى التقنع الوارد في الصفة الثانية التي أشكلت عليهم، وأنه كذلك بمعنى ستر الوجه أيضاً.
وكل ما في الأمر أن الإمام الطبري أراد أن يبين صفات مختلفة وردت عن السلف بالأسانيد التي لديه في طريقة وكيفية الإدناء الذي هو كما قال بنفسه أنه تغطية الرؤوس والوجوه! حيث جاءت كيفيات وصفات وألفاظ في ذلك عن السلف كابن عباس وغيره فأراد الطبري أن يذكرها كما هي بأسانيدها التي لديه عنهم ففصل وقسم اختلافها في طرق الإدناء وستر الرؤوس والوجوه، وإلا فهناك نقولات عديدة من غير طريق الطبري نقلها أهل التفاسير عن ابن عباس وغيره من السلف بلفظة التقنع والمفيدة صراحة ستر المرأة لوجهها بقناعها وأنها إحدى الطرق والصفات في الإدناء وستر الوجه كما هو المروي عن ابن عباس وغيره من السلف وسنأتي لذكرها قريباً عند النقل عن أهل التفسير.
وما سبق إجمالاً ولنزيد الأمر توضيحاً نذكر ما يلي:
أولاً- نلاحظ قول الطبري من بداية كلامه عن آية الإدناء فسرها بأنها تغطية الرؤوس والوجوه فقال: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن) انتهى. فهو قرر سلفاً أن الإماء يكشفن شعورهن ووجوههن وأن الله قال لنبيه أن يخبر زوجاته وبناته ونساء المؤمنين بعدم التشبه بهن في كشف الرؤوس والوجوه.
ولما وصل في كلامه إلى قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن} قال بعدها (ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به) أليس كلام الطبري واضحا وضوح الشمس من أنه لما وصل لقوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن} وأراد أن يفسر صفة الإدناء عليهن من جلابيبهن بالمأثور عن السلف ذكر في ذلك اختلاف صفة الإدناء، ولكن معناها ومؤداها واحد كما قرره سلفاً وهو تغطية الرؤوس والوجوه، وهذا ما يُعرف باختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وهذا مشهور ومعلوم من تفسير الإمام الطبري وغيره من تفاسير الصحابة والسلف وأهل الأثر من المحدثين، نجدهم يكررون الحديث الواحد في نفس الباب والموضوع لأدنى اختلاف في رجال السند أو لفظه وإن كان معناه واحداً، والمتأمل للطبري في تفسيره يجده يقف عند كل آية ويقول فيها (واختلف) مثل ما قال هاهنا فيُفصل ويعدد الأقوال والآثار وقد
يكون المعنى واحداً، كما في هذه الآية حيث ذكر اختلاف الصفتين وهما بمعنى تغطية الوجه وإن كانا يختلفان في الطريقة والصفة والكيفية للستر، كما سننقل ذلك عن جميع المفسرين بل ومن نقلوه هم عن الإمام الطبري وعن ابن عباس وأنهما صفتان في الإدناء بمعنى تغطية الوجه، بل قال بعضهم وكلا المعنيين تحصيل حاصل، ولم يفهموا ما فهمه بعض المتأخرين اليوم من وجود اختلاف تضاد بينهما؛ وذلك لأن الصفة الأولى وهي تغطية الوجه كاملا وذلك بالسدل أو بالإلقاء أو بالإرخاء لشيء من جلابيبهن من فوق رؤوسهن أو بإظهار عين واحدة، وأما الصفة الثانية ومنها التبرقع أو التقنع أو النقاب أو التلثم ولا يكون لها ستر وجهها بهذه الأمور إلا بالصفة الثانية وهي بعطفه والشد على الجبين والضرب به على وجهها خشية من سقوطه لأنه لا يثبت ولا يستمسك على وجهها إلا بذلك، بعكس الإرخاء والسدل والإلقاء الذي يكون من فوق رأسها، وهذا مشاهد ومعروف لكل القائلين أو الداعين أو من نساؤهم مغطيات لوجوههن، يعرفون ويفهمون كلام الطبري الذي نقله عن ابن عباس وغيره في اختلاف الصفتين والطريقتين وأنه بمعنى ستر الوجه بالطرق المعروفة والممارسة لدي نسائهم، فهذه من المترادفات، كما نقول سترت المرأة وجهها، أو سترته بالبرقع أوسترته باللثام أوسترته بالنقاب فكذلك أو سترته بالتقنع، فهل يقول أحد أن العبارات أوالصفات أوالإشكال أو الطرق لذلك الستر اختلفت وبالتالي فلا تدل كلها على ستر الوجه؟ .
ثانياً- أن الإمام الطبري نقل الصفتين عن ابن عباس الأولى صريحة (أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة) والثانية (أن تقنع وتشد على جبينها) والقناع معروف ومنه ما يلبسه أهل الحرب على وجوههم فلا يظهر منه إلا أعينهم ليبصروا بها، ولما كان قناع المرأة لا يثبت على وجهها كطريقة لبس قناع المحاربين الذي يثبت بوضعه من فوق رؤوسهم ليستر وجوههم؛ لهذا أمرها عند التقنع بشده وتثبيته على جبينها وعطفه على وجهها حتى لا يسقط منها فيظهر وجهها، فلو لم يفهم الإمام الطبري أن المعنيين عن ابن عباس بمعنى واحد كيف ينقل عنه قولين متعارضين ومتناقضين في تفسيره لنفس الآية دون أن يتعجب أو يتنبه لاختلافهما؟ أو يرجح أحدهما على الآخر، كما هي عادته رحمه الله؟ إلا أنه لم ير فيهما أي اختلاف يذكر، سوى أن ابن عباس أراد بيان طريقتين وكيفيتين وصفتين لستر الوجه لمن سترته بالسدل أو الإرخاء بأن ألقته على وجهها بطرف جلبابها أو غيره من خمار ونحوه، ومن سترته بطريقة التقنع أو النقاب أو اللثام أو البرقع ونحوهم فيكون بالشد على الجبين أوالعطف والضرب.
وفي هذا من الفائدة والفهم الدقيق في أهمية بيان اختلاف الطريقتين كما نقلها شيخ المفسرين عن سلف الأمة ما لا يغيب مثله عن الطبري أو علماء الأمة فضلا عن حبرها ابن عباس حيث يعلم أهمية ذكر الطريقتين، وأن المحرمة لا يجوز لها النقاب وما في حكمه من التقنع أو اللثام أو البرقع كما روى ذلك ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم:(لا تنتقب المرأة المحرِمة ولا تلبس القفازين) أخرجه البخاري وغيره.
ولهذا كان ابن عباس يقول في المحرِمة فيما ثبت عنه، قال أبو داود في "مسائله للإمام أحمد"، في باب: ما تلبس المرأة في إحرامها: حدثنا أحمد، قال حدثنا يحيى وروح، عن ابن جريج، قال أخبرنا، قال عطاء، أخبرني أبو الشعثاء، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به. قال روح في حديثه: قلت: وما لا تضرب به؟ فأشار لي، كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي ما على خدها من الجلباب، قال: تعطفه وتضرب به على وجهها، كما هو مسدول على وجهها). بسند صحيح عن ابن عباس على شرط الشيخين، وأخرج مثله البيهقي في معرفة السنن والآثار ومسند الشافعي بلفظه عن ابن عباس قال في المرأة المحرمة:(تدلي عليها من جلابيبها ولا تضرب به. قلت: وما لا تضرب به؟ فأشار لي كما تجلبب المرأة، ثم أشار إلى ما على خدها من الجلباب فقال: لا تغطيه فتضرب به على وجهها؛ فذلك الذي لا يبقى عليها، ولكن تسدله على وجهها كما هو مسدولا ولا تقلبه ولا تضرب به ولا تعطفه) انتهى. فهو يقصد النقاب ومثله اللثام والتقنع ونحو ذلك مما هو داخل في النهي للمحرمة.
وجاء عند ابن أبي شيبة - في النقاب للمحرمة -: (أن علياً كان ينهى النساء عن النقاب وهن حرم ولكن يسدلن الثوب عن وجوههن سدلاً)(1).
(1) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 293).
ثالثاً- أنه قد مر معنا في أول كلام الإمام الطبري قوله في تفسيره للآية: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن).
ثم لما نقل الصفة الثانية عن ابن عباس والتي أشكلت على البعض كونها بلفظة التقنع (قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن. وإدناء الجلباب: أن تقنّع وتشد على جبينها).
فالكلام كله في كلا الموضعين في مخالفة الإماء والنهى عن التشبه بهن في سفورهن فكيف يكون في الموضعين خلافٌ جوهريّ؟ ومدارهما على شيء واحد هو مخالفة الإماء في سفورهن، بل في الموضع الأول قد قرر الإمام الطبري النهى عن التشبه بالإماء في خروجهن بكشف شعورهن ووجوههن.
ومقدمته هذه تفسير إجمالي للآية، وهى ولا بد مما فهمه من المعنى الإجمالي للصفتين ولأقوال السلف فيها، ومنها صفة التقنع، وإلا كان على أقل الأحوال ولو فرضنا وجود اختلاف تضاد بين الصفتين أن نقول أن الطبري مؤيد للصفة الأولى وهي تغطية النساء لشعورهن ووجوههن؛ لأن هذا ما قرره واستهله عند تفسيره للآية الكريمة وقبل تطرقه لذكر اختلاف صفة الإدناء.
رابعاً- لما كان قولهم أن الصفتين مختلفتان اختلاف تضاد استلزم من ذلك أن ينفوا أن التقنع الوارد في الصفة الثانية بمعنى ستر الوجه، وفعلا هذا ما قالوه فكان أشنع وأخطر وأظهر في بطلانه مما قبله فكان أن حرّفوا وبدّلوا اللغة، وأنكروا أن يأتي التقنع ستراً للوجه، وهذا من تسرعهم، أو عدم بحثهم في معاجم اللغة، فما أن يجدوا كلمة لها استعمال واسع وتعني أكثر من معنى، إلا طاروا بها وقصروها فقط على معنى محدد، ومنعوا حملها على الوجه الآخر كونه مؤيدا لقول المخالفين لهم، فهم نقلوا عن بعض أهل اللغة أنه يستر رأس المرأة بالمقنعة، والقناع أشمل وأوسع من المقنعة، فقالوا هذا دليل أنه لم يَرِدْ بلفظ ستر الوجه، مع أنه قد ورد وبكثرة لا تحصى! وهذا ظلم وتقول على العلماء ما لم يقولوه، فمادة التقنع بمعنى الستر، فما المانع إن استعملت لستر الرأس أو إذا استعملت لستر الصدر كتقنع المقاتلين بالدروع ألا يستعمل لفظ التقنع لغير ذلك، كتقنعهم للوجوه فهي تأتي بمعنى الستر وتحتمل كل تلك المعاني وأكثر، فلماذا حجّروا واسعاً، لَما كان الشأن فيه لستر وجه المرأة، فلو قال قائل شربت بالكاسة لبناً، وشهد له بذلك مائة شخص أنهم رأوه يشرب بالكاسة لبنا، فهل نقول أن الكاسة لا تستعمل لشرب الماء أو العصير وغير ذلك من المشروبات؟ .
فكيف وقد وردت لفظة التقنّع لستر الوجه للرجال وللنساء؟ بل وإذا ذكر قناع المرأة كان بالأخص يراد منه تقنعها بستر وجهها كما قصده السلف، كما في الأحاديث وكتب التفاسير والآثار وشروح العلماء ومعاجم أهل اللغة.