الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب غيره، أو أنهم حملوا معناه على حالة الرخصة في صلاتها وعند الضرورة، ولم يستدلوا به على ما استدل به اليوم دعاة السفور، فهم احتاطوا حتى في حالات الضرورة المباحة شرعا، والشيخ الألباني ظن ما يريده من التكشف الدائم، أليسوا هم في وادٍ والشيخ في وادٍ آخر، لهذا اعترض عليهم جميعا ولم يفهم ما يقولون وما يرمون إليه مع أنه ظاهر لمن تأمل في كلامهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ومن أعظم التقصير: نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه، وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس، ثم يُعتبر أحد الموضعين المتعارضين بالغلط دون الآخر
…
) (1).
وقال في موضع آخر: (والعلم يحتاج إلى نقل مصدق ونظر محقوق. والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه ومعرفة دلالته كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله)(2) انتهى.
فإما أن هؤلاء لا يعرفون أن يعبروا عن مقاصدهم ومرادهم كما يقوله الشيخ الألباني عندما اعترض على إمامين جليلين وهما الطبري والقرطبي، والحقيقة أنه اعتراض على جميعهم، لهذا قال الشيخ:(وما علاقة ما يظهر في صلاتها بما يظهر خارج الصلاة؟ ) واعترض عليهم بقوله: (وهذا الترجيح غير قوي عندي)(وفي هذا التعقيب نظر أيضا) بمعني أنهم لا يحسنون التعبير عن حججهم ولا حسن الاستنباط، لأنهم
(1) مجموع الفتاوى (114/ 31).
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية (1/ 243).
استدلوا في نظره على السفور بحجة ضعيفة وبعيده وهي (ما يظهر حال صلاتها) و (بما يظهر في العادة والعبادة) وكأنه أراد منهم أن يستدلوا بالأحاديث والآثار التي فهمها هو وغيره من المتأخرين اليوم على أنها تعني جواز كشف المرأة لوجهها، ولهذا قال:(لدليل بل لأدلة أخرى غير هذه كما يأتي بيانه) فهل لم يكونوا مطلعين عليها؟ والحق أنهم يتكلمون في آية الرخصة وتحديد ما ينكشف من المراة عند الحاجة والصلاة، والشيخ يحسب أنهم يستنتجون أدلة لمذهب السفور.
ومن ضمن المتقدمين الذين قووا القول بتحديد هذا القدر بالوجه والكفين عند الحاجة.
17 -
الإمام البيهقي رحمه الله في سننه الكبرى (1):
فبعد إيراده لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ونَقلهُ لأقوال الصحابة فيها وحديث أسماء ثم تضعيفه للحديث قال كلاماً يقوى به ذلك التحديد فظنه الشيخ الألباني أنه يقصد تقوية الحديث وهو إنما قوى أصل المسألة في تحديد القدر الظاهر في الصلاة وعند الحاجة كغيره من الأئمة، فهذا غلط أيضا على البيهقي، لأن الألباني لو تابع كلامه إلى آخره لتبين له مقصده في "كتاب النكاح" ورؤية الخاطب حيث قال:
…
(1) سنن البيهقي الكبرى (7/ 86)، وسنأتي لنقل كلام الإمام البيهقي وشرحه بإسهاب في المبحث السابع عند ردنا لشبهة استدلال وفهم أهل السفور لحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق ومخالفتهم لفهم السلف لهم (صـ 487).
(باب تخصيص الوجه والكفين بجواز النظر إليها عند الحاجة) ثم قال بعده (باب من بعث بامرأة لتنظر إليها)! ثم قال بعده (باب تحريم النظر إلى الأجنبيات من غير سبب مبيح قال الله عز وجل قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) انتهى.
وأنا أعلم أن الشيخ معذور بمشيئة الله تعالى ولكن قصدي بهذا أن أبين خطورة المجاملة لو صححنا مثل هذا الكلام، فسيظن الناس أن مقصد أولئك هو فعلاً ما قاله الشيخ وفهمه منهم فنحكم عليهم بضياع علمهم وتحريف قولهم وتبديل قصدهم ونسبة السفور لهم، وكيف لو علمنا أن أئمة كُثُر غير أولئك قد قالوا بقولهم فإما أن نخطئ الشيخ أو نحرف كلام كثير من أئمة الإسلام وننسب إليهم مثل هذا القول وأنهم لم يعرفوا أن يُبينوا عن حجتهم في السفور وهم يحملون أسفار العلم في صدورهم، فليست المسألة سهلة كما يعتقدها البعض اليوم.
فبالله عليكم مذهب لا يدري من أين شرعت فريضة الحجاب؟ ولا أوله نزولاً من آخره ألا يكون مذهبا شاذاً وبدعياً مخالفاً لإجماع الأمة في آيتي {يدنين} و {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وعلى فريضة عظيمه،
إنه ذلك الإجماع المنقطع النظير؟ فهل تمنعنا محبتنا للشيخ ونحن نعلم أنه أول من لو تبين له الحق في المسألة لقال أنه مذهب بدعي؟ والله ورسوله أحب إلينا مما سواهما وأن نحب المرء لا نحبه إلا لله وأنَّ هذا الدين أمانة في أعناق كل من بان له الحق ألا يداهن ولا يجامل في أعز ما لديه، بل عليه أن يغضب إذا انتهكت محارم الله، والألباني كما قال شيخ الإسلام عن زلة العلماء (مغفور لهم خطؤهم) ولكن بقي دورنا نحن لو كتمنا ما أنزل الله، رحم الله الجميع.
وقد سبق معنا تأكيد مذهب المتقدمين من السلف ومن بعدهم من علماء الأمة أنهم على ركن ثابت وخط مستقيم بحمد الله في مسألة فريضة الحجاب فلو رجعوا لكلام القرطبي مثلا لما شك فيه ولا في كلامه السابق أحد ولعلموا مقصده ومراده فهو مثلا في أول آية نزلت في شأن الحجاب قال: (في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مُسآلتهن من وراء حجاب في حاجةٍ تُعرض، أو مسألة يُستَفتَين فيها ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها)(1) إلخ، وهذا بخلاف أيضا كلامه السابق معنا والصريح على آية الإدناء فليراجع.
وأيضا الإمام الطبري حيث مر معنا في آية الإدناء مستهلا تفسيره لها (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن. ولكن ليدنين عليهن
…
) ثم ذكر اختلاف طريقة الإدناء عن ابن عباس وغيره، سواء بطريقة السدل والإرخاء أو بطريقة التثبيت على الوجه بالضرب والشد على الجبين كالتقنع والنقاب والبرقع فحسبوه هناك أيضا أنه من خلاف التضاد.
(1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 227).
وكذلك وضوح قول البغوي والجصاص في تفسيرهم لآية الإدناء وغيرها وقد سبق في موضعه فليراجع.
فكيف يشكك في نسبة هؤلاء وغيرهم وإيهام الناس على أنهم على مذهب السفور بأدنى الاحتمالات والتأويلات في مقابل أقوالهم الصريحة؟ وبالضبط فعلوا بنصوص الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم فصرفوها وحملوها بأدنى الاحتمالات والتأويلات الباردة، لتدل في نظرهم على مذهب السفور.
والآن نرجع لما كنا وقفنا عنده من قول الإمام البغوي: (جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة وشهوة فإن خاف شيئا غض البصر وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه) وهذا يبين لكم أنهم يتكلمون في رخصة وليس في أمر مشروع ومباح أصلا إبداؤه، فقوله (للرجل الأجنبي إذا لم يخش فتنة أو شهوة) هو لناظر مخصوص ممن جاز له النظر إليها للحاجة أو الضرورة كالشاهد ونحوه، وليس كما فهمه الكثير أنه لعموم الناس، فهذا عندهم حرام إن لم يكن لأنه عورة عندهم فلأنه فتنة وشهوة فالاختلاف هو فقط في علة التحريم، أما تحريم كشف الوجه والكفين بلا حاجة فهم مجمعون عليه كما سترى، ولكن من نظر للأمر الشرعي لستر النساء لوجوههن لكون العلة الفتنة والشهوة قال بها ومن نظر أن العلة هي العورة قال بها.
والآن نكمل ما نحن بصدده من نقل أدلة الفقهاء.