الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاريخ نزول أول الآيات في مسألة الحجاب:
أترك الجواب للصحابي الجليل أنس بن مالك خادمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت ابن عشر سنين مَقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أمهاتي يواظبنني على خدمة رسول الله فخدمته عشر سنين وتوفي صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشرين سنة وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله بزينب بنت جحش أصبح النبي بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا وبقي رهطٌ منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، - وفي رواية - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ وزوجته موليةٌ وجهها إلى الحائط، فقام النبي فخرج وخرجْتُ معه لكي يخرجوا فمشى ومشيت حتى جاء عتبة حجرة عائشة - وفي رواية - فانطلق إلى حجرة عائشة فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته فقالت وعليك السلام ورحمة الله كيف وجدت أهلك بارك الله لك؟ فتقَّرى حُجَر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة - إلى أن قال- فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي بيني وبينه بالستر - وفي رواية - فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه وأنزل الحجاب فخرج رسول الله وقرأهن على الناس:{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} إلى قوله: {من وراء حجاب} [الأحزاب: 53] أخرجه الشيخان وغيرهما.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: (هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مقام إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وقلت: يا رسول الله أن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة:{عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} [التحريم: 5] فنزلت كذلك، وفي رواية لمسلم، ذكر أسارى بدر وهي قضية رابعة.
وقد قال البخاري: حدثنا مسدد عن يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش الأسدية التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث، فالله أعلم) انتهى من ابن كثير.
وبهذا يتبين أن بدايات أمر الحجاب وفرضه كانت بعد غزوة الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب وأن آياتها من أول ما أنزل في ذلك ومنها قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكان اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59].
أما سورة النور وما فيها من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، فقد نزلت بعد ذلك بفترة، فكان ما فيها من آيات عديدة في مسائل الحجاب تفصيل وبيان واستثناء ورخص من الأصل السابق، وهذا معلوم من طريقة القرآن وأسلوبه ورحمة الله بعباده والتوسعة عليهم، والدليل على ذلك أمور جلية وبينة منها:
1 -
أن سورة الأحزاب وحادثة التحزب والخندق المذكورة في السورة كانت في السنة الخامسة من الهجرة على الصحيح المشهور كما قاله ابن كثير في تفسيره وابن إسحاق وغيرهم (1)، فهي بلا خلاف قبل سورة النور والتي ذُكر في آياتها وقائع حادثة الإفك التي وقعت في السنة السادسة للهجرة.
2 -
أن سورة النور ذكرت حادثة الإفك كما في الآية رقم (11) ثم جاء بعدها قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وقد بينت عائشة رضي الله عنها عند روايتها للحادثة التي وقعت لها أنهن قد أمرن قبل ذلك بتغطية وجوههن عن الرجال كما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما فيما حكته عن نفسها قالت: (وكان صفوان من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان فأتاني، فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت
(1) سيرة ابن هشام (3/ 165). وقد جزم ابن حزم في جوامع السيرة (صـ 147) وابن القيم في زاد المعاد (3/ 269)، وغيرهما من العلماء المحققين بصحة قول ابن إسحاق.
وجهي بجلبابي)، فدل بوضوح أن الحجاب قد فرض قبل سورة النور وقبل ما فيها من قوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَاظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].
3 -
الحديث المتقدم لخادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم الناس بشأن الحجاب وقوله: (وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله بزينب بنت جحش) متفق عليه.
وقد ذكر أهل السير أن زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب، كان في السنة الخامسة للهجرة مما يدل على أن أول بدايات نزول آيات فرض الحجاب كانت في سورة الأحزاب التي ذكرها أنس وما بعدها من الآيات في نفس السورة، كقوله تعالى:{يدنين عليهن من جلابيبهن} وهي المتقدمة على سورة النور وما فيها من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال الحافظ ابن حجر: (ولا خلاف أن آية الحجاب نزلت حين دخوله صلى الله عليه وسلم بها فثبت أن الحجاب كان قبل قصة الإفك)(1) انتهى. كما هو جلي وواضح والحمد لله.
قال الإمام البيهقي: (وغزوة بني قريظة كانت عقيب الخندق في سنة خمس فنزول الحجاب كان بعده والله أعلم)(2) انتهى.
4 -
وسوف نأتي لمزيد من الأدلة الأخرى عند تفسير آيات سورة النور بمشيئة الله تعالى (3).
(1) فتح الباري (8/ 463).
(2)
سنن البيهقي الكبرى (7/ 92)"باب مساواة المرأة الرجل في حكم الحجاب والنظر إلى الأجانب".
(3)
تفسير آيات سورة النور، المبحث الثاني صفحة (93).