الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: استدلالهم بحديث سفْعَاء الخدين
استدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (شهدت مع رسول الله الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئًا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء - وفي رواية متفق عليها أيضاً - فظن أنه لم يسمع النساء - فوعظهن وذكرهن، فقال: تصدقْنَ فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاءُ الخدين فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: لأنكنَّ تكثرن الشكاة وتكفُرنَ العشير قال: فجعلنَ يتصدقْنَ من حُليّهنَّ .. )، وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:(قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة ثم خطب فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة) متفق عليه.
فقال دعاة السفور: فقد وصف جابر المرأة بأنها سفعاء الخدين، وهذا دليل بزعمهم على كونها كانت كاشفة عن وجهها أمامه.
والرد على مثل هذه الشبة من عدة وجوه وليس من وجه واحد:
أ- كما قلناه سابقاً ليس في أي حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أن امرأة في زمنهم كانت كاشفة عن وجهها بلا سبب مبيح، ومجرد كون جابر رضي الله عنه قال: إنها سفعاء الخدين فليس هذا لأنها كانت كاشفة أمامه، فليس هناك دليل على أن جابر رآها بنفسه، فقد يكون قوله وصف مشهور لتلك المرأة وأخبره به زوجه أو بعض قرابته من النساء، أو الراويات للحديث.
ب- بل إن في كلام جابر رضي الله عنه ما يدل ويؤكد على أنه لم يشاهد المرأة بنفسه كونه قال: (ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن) وقوله: (فقامت امرأة من سطة النساء) وقوله: (فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال) وفي رواية لابن عباس: (فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن) كلها تدل على بعدهم عن موضع النساء، فلم يكونوا جميعا مختلطين، وأنه كان يحكي ما حصل هناك فلم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال سوى بلال يعتمد عليه ويَجمع الصدقات ولم يقل إن وصفه لها كان عن حضور ومشاركة ورؤية منه لذلك، بل العكس.
ت- بل والأظهر والآكد في أن جابرا رضي الله عنه لم يرى تلك المرأة بنفسه أن ابن عباس رضي الله عنهما في روايته سُئِل: (قيل له: شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولولا مكاني من الصغر ما شهدته)(1) فقد كان عمره في حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة يناهز الحُلم، فيكون قبلها من المؤكد صغيرا كما قال عن نفسه وقوله هذا مما يدل على عكس ما أرادوه، وأن النساء كن يحتجبن من الرجال البالغين ولهذا قال:(ولولا مكاني من الصغر ما شهدته) وهو لصغره ممن قال الله تعالى فيهم: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} [النور: 31] فكيف يصح أن يقال إن جابرا رضي الله عنه وهو الرجل البالغ شهد ذلك ورآه، قال الحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه
(1) أخرجه البخاري (باب العَلم الذي بالمصلى)، وكان قبله بوب لرواية مشابهة عنده
…
(باب خروج الصبيان إلى المصلى).
لحديث ابن عباس في العيد: (لأن الصغر يقتضي أن يُغتفر له الحضور معهن بخلاف الكبر) انتهى.
ث- فيكفيهم لو يعدلون قول ابن عباس السابق فدل أن رواية جابر ووصفه لتلك المرأة بكونها (سفعاء الخدين) لم يكن عن رؤية لها أبداً بل كانت عن وصف ونعت لما اشتهرت به تلك المرأة بين النساء من سفع في الخدين فقد يكون أخبره بذلك زوجته أو بعض قريباته أو بعض النسوة الناقلات للخبر والحديث، أو أن المرأة عُرفت بذلك بعد تلك الحادثة بين الناس، والنعت والوصف كان مشهورا عندهم كقوله صلى الله عليه وسلم:(أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى امرأة ذات منصب وجمال أمت من زوجها حبست نفسها على أيتامها حتى بانوا أو ماتوا)(1) ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يقصد امرأة بعينها وأن قوله ممتد في أمته لكل من هذه وصفها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تُباشِرُ المرأة المرأة فَتنعَتها لِزَوجِها كأنه ينظُرُ إليها)(2) وغير ذلك كثير مشهور عنهم في الوصف والنعت ونقل الأخبار من المرأة لزوجها ونحو ذلك ولم يقل أحد عن هذه الأحاديث أو غيرها أنها تدل على كشفهن للرجال أو تعني رؤية الرجال لهن فهو يقول: (كأنه ينظُرُ إليها) وهكذا مثله قول جابر إنما كان ينقل ما قيل له من حال المرأة ولم يكن ذلك عن رؤية منه لها.
(1) قال الشيخ شعيب الأرناؤوط عند تخريجه لمسند الإمام أحمد (حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف لضعف النهاس) انتهى. والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/ 62) وأخرجه صاحب المعجم الكبير وعبد الرزاق في مصنفه (11/ 299) وأبو داود في سننه (5151).
(2)
المتفق عليه.
ج- ويؤكد ذلك أيضا أن جابراً رضي الله عنه كان هو الوحيد من بين رواة الحديث الخمسة الذي وصف أنها سفعاء الخدين، بل ولم يأت عنه ذلك الوصف إلا في رواية من بين رواياته المختلفة.
ح- كذلك رد العلماء بأن هذه الواقعة لسفعاء الخدين كانت قبل فرض الحجاب فإن صلاة العيد شُرعت في السنة الثانية للهجرة وسورة الأحزاب نزلت بالأمر بالحجاب بعد ذلك باتفاق الأئمة جميعاً، وهذا كافٍ أيضاً لا يحتاج لمزيد كلام.
خ- احتمال أن تكون تلك المرأة من الإماء اللاتي لا يجب عليهن ستر وجوههن كما في قصة صفية أم المؤمنين رضي الله عنها وقول الصحابة فيها: (إن حجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد)(1) بدليل أن لفظة (سطة) هي عند مسلم فقط، وثبت عند الباقين كالنسائي وأحمد والبيهقي والدارمي أنها:(امرأة من سفلة النساء) وفي رواية ابن أبي شيبة (امرأة ليست من علية النساء).
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: (هكذا هو في النسخ «سطة» بكسر السين وفتح الطاء المخففة وفي بعض النسخ: واسطة النساء، قال القاضي: وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم وأن صوابه: من سفلة النساء. وكذا رواه ابن أبي شيبة في مسنده والنسائي في سننه. وفي رواية لابن أبي شيبة: امرأة ليست من عليه النساء. وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده: سفعاء الخدين. هذا كلام القاضي) انتهى كلام النووي من شرح مسلم.
(1) أخرجه البخاري.
وقال في مشارق الأنوار على صحاح الآثار: (س ط ت) قوله: فقامت امرأة من سطة الناس كذا هو في جميع نسخ مسلم وكذا قيدناه عن شيوخنا بكسر السين وتخفيف الطاء وأصله من الوسط من ذوات الواو وفي رواية الطبري من واسطة فسره بعضهم أن معناه من علية النساء وخيارهم، وكان القاضي الكناني يقول: أرى اللفظ مغيرا وأحسبه من سفلة النساء، فكأنه اختلط رأس الفاء مع اللام فجاء طاء قال ويعضده أن ابن أبي شيبة والنسائي روياه كذا من سفلة ويروى أيضا فقامت امرأة من غير علية النساء، وحق هذه الكلمة أن تكتب في حرف الواو ولكنه ذكرناها هنا لاشتباه صورتها بالصحيح ولأنها مغيرة) انتهى.
ومما يؤيد كونها أيضا من الإماء وصفه لها بـ (سفعاء الخدين) أي تغير وسواد في وجهها فعن أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: اسْتَرْقوا لها فإن بها النظرة)(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرة تحتجب والأمة تبرز)(2) وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: (وذكر صاحب البارع في اللغة أن السفع سواد الخدين من المرأة الشاحبة والشحوب تغير اللون بهزال أو غيره). وهذا يؤيد ما في د.
د- ومن المحتمل أن تكون عجوزًا كبيرة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً بدلالة ألفاظ الحديث السابقة من الشحوب والهزال ونحوه.
(1) أخرجه البخاري.
(2)
تفسير سورة النور لشيخ الإسلام ابن تيمية.
ذ- أنه وعلى فرض كونها كانت كاشفة فهذا لأنها في مجلس علم مع المعصوم صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الحافظ ابن حجر وآخرون: (أن النبي لا يَحرُمُ عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات لمحل العصمة بخلاف غيره)(1) فاطمأنت أن أحدا لا يراها فرآها جابر فجأة فذكر ما لم يذكره غيره.
ر- ويحتمل أن حجابها انحسر أو سقط منها بغير قصد كقول الشاعر:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
…
فتناولته واتقتنا باليد
وهذا كله الواحد منها كاف ومقنع، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، وهو أيضاً منا على فرض كونها كانت كاشفة عن وجهها، وتقولنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه، فكيف يتجرأ البعض ليفتوا الناس بكشف وجه المرأة بمثل هذه الأدلة الظنية المشتبهة مع ما فيها من احتمالات قوية مقنعة، وبخاصة أن ما فهموه من حديث سفعاء الخدين هو فهم محدث لم يسبقهم إليه أحد قبلهم، فهذه كتب الحديث وشروحه هل قال فيها أحد بقولهم أو فهم منها أحد مثل فهمهم؟ فكيف وهي مخالفة أصلاً لصريح ما اعترفوا به من ستر النساء لوجوههن زمن رسول صلى الله عليه وسلم أفيردوه بالظني ليقولوا بفهم آخر محدث وهو أن سترهن لذلك كان سنةً ومستحباً.
(1) فتح الباري (9/ 210). وكذلك السيوطي في الخصائص الكبرى باب: اختصاصه بإباحة النظر إلى الأجنبيات والخلوة بهن.