المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بقية أدلة الأحناف والمالكية وغيرهم في تفسير الآية بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص لها أن تبديه في الغالب وأن قولهم ليس بعورة لا يعني عدم وجوب ستره - كشف الأسرار عن القول التليد فيما لحق مسألة الحجاب من تحريف وتبديل وتصحيف

[تركي بلحمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌(المبحث الأول)سورة الأحزاب وأول ما نزل من الآيات في مسألة الحجاب وما لحق تفسيرها من تحريف وتصحيف وتبديل

- ‌تاريخ نزول أول الآيات في مسألة الحجاب:

- ‌كيف مهد الإسلام لتشريع فريضة الحجاب

- ‌أول ما نزل في شأن الحجاب:

- ‌آية الحجاب وإجماع المفسرين عليها

- ‌التحريف والتبديل والتصحيف المعاصر لما لحق كلام شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره لآية الإدناء:

- ‌اختلاف ألفاظ السلف في التفسير غالباً ما يكون اختلاف تنوع:

- ‌الأدلة والنقول على أن (القناع) يأتي بمعني ستر الوجه:

- ‌مخالفة الشيخ الألباني لإجماع المسلمين في تفسيره لقوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}

- ‌آيات الحجاب لم تنزل مرة واحدةولها تسلسل ووقائع

- ‌(المبحث الثاني)سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تناقض أهل السفور في مسألة غض البصر:

- ‌التبرج انفلات لا يقف عند حد:

- ‌سورة النور والرخصة بجواز أن تبدي المرأة من زينتها ما تدعو الحاجة والضرورة إليه

- ‌سورة النور فصلت ما أُجمل في سورة الأحزاب:

- ‌مصطلح أمن الشهوة ونحوه عند الفقهاء المتقدمين وما أصابه من التحريف والتبديل والتصحيف:

- ‌بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز نظر الخاطب لمخطوبته نوع من تفسيره للآية:

- ‌(المبحث الثالث)أقوال الصحابة في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْها} [النور: 31]

- ‌أقوال الصحابة واختلافهم في تفسير آية: {إلا ما ظهر منها} كان من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد

- ‌الجمع بين أقوال الصحابة في الآية:

- ‌ومن تلكم الحالات:

- ‌حالة المرأة الساترة لوجهها واحتاجت لكشف العينين فقط أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لكشف زينة وجهها أو كفيها:

- ‌مقصد الإمام الطبري عند تفسيره للآية:

- ‌حالة احتياج المرأة لتكشف أكثر من الوجه أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لظهور زينتها المكتسبة كالثياب ونحوها:

- ‌فرض لبس الجلباب عند خروج المسلمات الصالحات:

- ‌حالة ظهور زينة المرأة رغما عنها وبغير قصد منها:

- ‌منهج السلف في التفسير:

- ‌منهج الصحابة والتابعين عند تفسيرهم لآية الرخصة {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه}

- ‌منهج أئمة التفسير والفقه عند تفسيرهم لآية الرخصة:

- ‌(المبحث الرابع)التحريف والتبديل فيما لحق كلام أئمة المذاهب الأربعة في فريضة الحجاب

- ‌اختلاف المذاهب الأربعة في مسألة الحجاب كان من اختلاف التنوع

- ‌المناهج الفقهية للمذاهب الأربعة:

- ‌فريضة الحجاب عند المذاهب الأربعة:

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن الوجه والكفين ليسا من العورة وأن ذلك لم يمنع من قولهم بوجوب ستره لعلة الفتنة والشهوة

- ‌أدلة ونقول أئمة الفقهاء من الأحناف والمالكية وغيرهم وتفسيرهم لقوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص للمرأة أن تبديه بأمور منها بما يظهر في صلاتها

- ‌(باب شروط الصلاة):

- ‌اعتراض الألباني على الأئمة في طريقة استدلالهم لتحديد قدر الرخصة لأنه يظن أنهم يستدلون به للسفور

- ‌قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

- ‌بقية أدلة الأحناف والمالكية وغيرهم في تفسير الآية بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص لها أن تبديه في الغالب وأن قولهم ليس بعورة لا يعني عدم وجوب ستره

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن علة الأمر بستر الوجه والكفين لكونهما من العورة

- ‌قول أتباع كل مذهب بقول المذهب الآخر وتعدد الروايات في المذهب الواحد دليل على أن اختلاف المتقدمين في فريضة الحجاب كان من قبيل اختلاف التنوع

- ‌خطأ الشيخ الألباني رحمه الله في نسبته مذهب السفور للقائلين أن الوجه والكفين ليسا بعورة:

- ‌وبالعكس فمع ذلك قد تجد بعض أئمة الأحناف والمالكية وبعض الشافعية يقول أن المرأة عورة وذلك لأن الأمر واسع كما قلنا ومثاله:

- ‌وهناك قسم آخر من بعض الأئمة أخذوا يفصلون بنوع آخر وهو أن الوجه والكفين من المرأة عورة، ولكنه في حق من جاز نظره إليها لا يكون بالنسبة لهم من العورة لورود الدليل المبيح في ذلك، وهذا يدلك أن الأمر فيه سعة ولا يترتب عليه في أصل المسألة شيء ومثاله:

- ‌خلاصةأقوال أئمة المذاهب الأربعة في مسألة هل الوجه والكفين عورة أم لا

- ‌سبب ذكرنا لتأصيل المذاهب لمسألة الحجاب:

- ‌(المبحث الخامس)إكمال نقل إجماع المفسرين على أن الآية رخصة وليست تشريعاً لفريضة الحجاب

- ‌فائدة في حكمة التكرار في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}:

- ‌حكمة عدم التحديد في قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها}:

- ‌لو لم تنزل آية الرخصة

- ‌مخالفة الألباني للإجماع في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تفسير قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وقول الألباني أن الخمار لا يأتي لستر الوجه

- ‌تصحيف الشيخ الألباني لكلام الحافظ ابن حجر

- ‌تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بأرجلهن لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور 31]

- ‌(المبحث السادس)خصوصية أمهات المؤمنين في فرض الحجاب عليهن وما لحقها من التحريف والتصحيف والتبديل

- ‌التمهيد لنزول فريضة الحجاب:

- ‌موقف الصحابة من آيات الحجاب وأمهات المؤمنين:

- ‌طريقة حجاب النساء داخل البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌لماذا ذكرت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بالذات

- ‌طريقة حجاب النساء خارج البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌معنى الخصوصية في حجاب أمهات المؤمنين عند المتقدمين وما لحقها من التحريف والتبديل والتصحيف

- ‌الخصوصية الأولىالأدلة على أن معنى الخصوصية التي قصدها بعض المتقدمين لأمهات المؤمنين هي في تغليظ حجابهن بعدم جواز ظهور أشخاصهن أو الرخصة لهن في كشف الوجه والكفين كغيرهن

- ‌وممن قال بهذه الخصوصية من نوع التغليظ:

- ‌وممن قال أيضاً بالخصوصية من نوع تغليظ الحجاب على أمهات المؤمنين

- ‌الخصوصية الثانيةالأدلة على أن معنى الخصوصية الثانية والتي عناها المتقدمون لأمهات المؤمنين هي أنهن حجبن عن أبنائهن فكن بذلك مخصوصات عن بقية الأمهات وكن كالأجنبيات

- ‌خلاصة الكلام في خصوصية أمهات المؤمنين

- ‌الأول: أنهن مخصوصات بعدم ظهور شخوصهن فضلا عن عدم جواز ظهور الوجه والكفين منهن ولو عند الحاجة كما هو جائز لغيرهن

- ‌والثاني: أنهن مخصوصات بالحجاب من أبنائهن ومن يحرم النكاح بهم فكن بذلك دون بقية الأمهات ومن يحرم النكاح بهن اللاتي لم يفرض عليهن ذلك

- ‌تناقض أهل السفور واختلافهم في معنى الخصوصية المحدثةوما أوردوه من شبهات بخصوصها

- ‌رد شبهةعن الإمام القاضي عياض

- ‌كشف المُحْرِمَة وجهها في طريقها عند عدم وجود الرجال الناظرين لها وتناقص أهل السفور فيه:

- ‌مذهب القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها لمجرد خروجها:

- ‌الشبهة المثارة من أهل السفور عن مالك في جواز مؤاكلة المرأة للرجل

- ‌قول أهل السفور نتيجة حتمية لما هو الحاصل اليوم:

- ‌منهج الإمام ابن حزم الظاهري في مسالة الحجاب وما لحقه من تحريف وتبديل وتصحيف

- ‌نَقلُ أهل السفور هجوم ابن حزم على من فرق بين الأَمة والحرة في لبسهن للجلابيب في الصلاة وخارجها:

- ‌وقال ابن القيم: - فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة

- ‌معنى الجلابيب عند الإمام ابن حزم موافق لإجماع أهل العلم:

- ‌(المبحث السابع)استدلالات أهل السفور بالسنة على شبهاتهم

- ‌أولاً: حديث الفضل بن عباس ومخالفتهم لفهم السلف له:

- ‌الوجه الأول: في رد هذه الشبهة وهي عدم وجود ما ادعوه أصلا من كشف الوجه في الحديث:

- ‌الوجه الثاني: وهو على فرض كونها كانت كاشفة عن وجهها:

- ‌ثانيا: استدلالهم بحديث سفْعَاء الخدين

- ‌ثالثا: شبهة استدلالهم بحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق ومخالفتهم لفهم السلف له

- ‌خطأ الألباني في فهم مراد الإمام البيهقي

- ‌تضعيف البيهقي لحديث أسماء بنت عميس الثاني من طريق ابن لهيعة من"كتاب النكاح

- ‌رابعا: استدلالهم بحديث الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشبهة أهل السفور فيه

- ‌خامسا: ومن أمثلة شبهاتهم الواهية التي ينقلونها:

- ‌ومن أمثلة غرائب استدلالات أهل السفور وشبههم:

- ‌سادساً: استدلالهم لمثل هذا بما جاء في جلباب المرأة للألباني:

- ‌خلاصة شبهات أهل السفور اليوم وبدعة القول أن في تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال سنة ومستحب

- ‌مذهب السلف في مسائل الشبهات:

- ‌(المبحث الثامن)الرخصة الثانية في سورة النور وإجماع أهل العلمقال تعالى: {وَالقواعد مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ وَأن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّ

- ‌(المبحث التاسع)الأدلة من السنة والآثار على فريضة ستر المرأة وجهها عن الرجال

- ‌وختاماً:

الفصل: ‌بقية أدلة الأحناف والمالكية وغيرهم في تفسير الآية بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص لها أن تبديه في الغالب وأن قولهم ليس بعورة لا يعني عدم وجوب ستره

‌بقية أدلة الأحناف والمالكية وغيرهم في تفسير الآية بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص لها أن تبديه في الغالب وأن قولهم ليس بعورة لا يعني عدم وجوب ستره

18 -

الإمام القدوري - الحنفي - (ت: 428 هـ) قال في متنه الشهير بـ (الكتاب (:

(ولا يجوز أن ينظر الرجل من الأجنبية إلا إلى وجهها وكفيها، وإن كان لا يأمن الشهوة لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجةٍ) انتهى.

ومع وضوح كلام المصنف رحمه الله تعالى، وقد مر معنا مثله وهو جواز نظر الأجنبي لها، إذا لم يخش فتنة وشهوة، فإن خشي فلا ينظر إلا إذا كانت الحاجة ماسة له شخصياً، وقد شرح هذا المتن لأهميته عدد من الأئمة والعلماء:

19 -

أولهما: شرح العبادي الحدادي (ت: 800 هـ) وسماه بـ (الجوهرة النيرة) يقول في شرح الفقرة السابقة:

(قوله: ) ولا يجوز أن ينظر الرجل من الأجنبية إلا إلى وجهها وكفيها (لأن في إبداء الوجه والكف ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذا وإعطاء وقد يضطر إلى كشف وجهها للشهادة لها وعليها عند الحاكم فرخص لها فيه وفي كلام الشيخ دلالة على أنه لا يباح له النظر إلى قدمها وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يباح ذلك لأن المرأة تضطر إلى المشي فيبدو قدمها فصار كالكف ولأن الوجه يشتهى والقدم لا

ص: 202

يشتهى فإذا جاز النظر إلى وجهها فقدمها أولى قلنا الضرورة لا تتحقق في كشف القدم إذ المرأة تمشي في الجوربين والخفين فتستغني عن إظهار القدمين فلا يجوز النظر إليهما.

(قوله: (فإن كان لا يأمن الشهوة لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجة)(لقوله صلى الله عليه وسلم: من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية بشهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة) الآنك هو الرصاص وقول: إلا لحاجة هو أن يريد الشهادة عليها فيجوز له النظر إلى وجهها وإن خاف الشهوة؛ لأنه مضطر إليه في إقامة الشهادة أصله شهود الزنا الذين لا بد من نظرهم إلى العورة إذا أرادوا إقامة الشهادة) انتهى كلامه.

وأنت أخي القارئ ترى عبارات القوم أنهم يتكلمون في تحديد قدر الرخصة وفي أمر في أصله كان مستورا وأن انكشافه أو إبداءه كان رخصة للضرورة والحاجة في ذلك وليس تشريعا دائماً، فتأمله وراجعه تعرف الحقيقة بادية في كلام المتقدمين كالشمس بلا خفاء.

20 -

وثانيهما: شرح عبد الغني الدمشقي الميداني (ت: 1289 هـ)

وسماه بـ (اللباب في شرح الكتاب) -الأحناف- يقول في شرح الفقرة السابقة أيضا:

(ولا يجوز) للرجل (أن ينظر من الأجنبية) الحرة (إلا إلى وجهها وكفيها) ضرورة احتياجها إلى المعاملة مع الرجال أخذاً وإعطاءً وغير ذلك وهذا تنصيص على أنه لا يباح النظر إلى قدمها وعن أبي حنيفة أنه يباح لأن فيه بعض الضرورة.

ص: 203

وعن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعها أيضا لأنه قد يبدو منها عادة، هداية. وهذا إذا كان يأمن الشهوة (فإن كان لا يأمن) على نفسه) الشهوة لم ينظر (1) إلى وجهها إلا لحاجة (ضرورية (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك (الآنك: الرصاص المذاب وهو حينئذ شديد الحرارة) يوم القيامة) هداية.

قال في الدر: فحل النظر مقيد بعدم الشهوة وإلا فحرام، وهذا في زمانهم وأما في زماننا فمنع من الشابة قهستاني وغيره. ا. هـ.

(ويجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم عليها) أي المرأة (وللشاهد إذا أراد الشهادة عليها النظر إلى وجهها وإن خاف أن يشتهي) للحاجة إلى إحياء حقوق الناس بواسطة القضاء وأداء الشهادة ولكن ينبغي أن يقصد به أداء الشهادة أو الحكم عليها لا قضاء الشهوة تحرزا عما يمكنه التحرز عنه وهو قصد القبيح، وأما النظر لتحمل الشهادة إذا اشتهى قيل: يباح والأصح أنه لا يباح لأنه يوجد من لا يشتهي فلا ضرورة بخلاف حالة الأداء. هداية. (ويجوز) أيضا (للطبيب) أن ينظر إلى موضع المرض منها (وينبغي أن يُعلم امرأة مداواتها لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل فإن لم يقدر يستر كل موضع منها سوى موضع

(1) لأن بعضهم فرقوا لو اشتهى المتعاملون معها فلا يجوز نظرهم لإمكان توكيلها لغيرها بعكس عند التقاضي أو الإشهاد لأداء الحقوق كما سيأتي في كلامهم بعده.

(2)

فيجوز نظره ولو اشتهى، لأن بعضهم فرق بين شاهد التحمل وشاهد الأداء فشاهد الأداء والخاطب والقاضي ممن لا بد منه بنفسه ولا يمكن بغيره فهذه ضرورة أقوى من سابقتها كما سيأتي قوله.

ص: 204

المرض ثم ينظر ويغمض بصره ما استطاع لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة وصار كنظر الخافضة والختان. هداية) (1) انتهى.

أقول وكلامهم واضح في عدم جواز كشف المرأة لوجهها إلا في حالة الضرورة، وأنهم لا يعنون الكلام في بيان مسألة مشروعية فريضة الحجاب، وإنما في الرخصة في كشف المرأة وجهها للأجنبي كحال الشهادة والعلاج ونحو ذلك، وأنه في بعض الحالات لو لم تأمن الفتنة والشهوة منه كأن كان فاسقا أو معروفا بالفحش أو خيف عليه لجمالها أو رقة دينه منعوه، ومثل هذا لا يقال في تشريع.

ولهذا قال في الدر: (فحل النظر مقيد بعدم الشهوة وإلا فحرام. وهذا في زمانهم وأما في زماننا فمنع من الشابة قهستاني وغيره) أي منعوا النظر للشابة بتاتاً ولو لحاجة وضرورة ولو بدون شهوة لأنها تختلف عن غيرها، وسداً للباب لكثرة الفساد في زمانهم، فكيف به في زماننا، ويقصد منعوه من ناظر مخصوص ممن جاز نظره لها للحاجة فتنبه! . وذلك في زمانهم لكثرة الفساد ولقلة الناظرين الورعين.

21 -

ومثله كما قال العلامة ابن نجيم في البحر الرائق شرح كنز الدقائق: (واعلم أنه لا ملازمة بين كونه ليس بعورة وجواز النظر إليه فحل النظر منوط بعدم خشية الشهوة مع انتفاء العورة ولذا حرم النظر إلى وجهها ووجه الأمرد إذا شك في الشهوة ولا عورة، كذا في شرح

(1) اللباب شرح الكتاب (4/ 23).

ص: 205

المنية قال مشايخنا: تمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة) (1) انتهى.

22 -

وقال ابن عابدين (ت: 1252 هـ) في حاشيته:

(والمعنى تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة) انتهى.

23 -

وبهذا المعنى وهو منع النساء في زمانهم من الكشف ولو لحاجة، قال السهارنفوري في بذل المجهود شرح سنن أبي داود:

(إن المرأة إذا بلغت لا يجوز لها أن تظهر للأجانب إلا ما تحتاج إلى إظهاره للحاجة إلى معاملة أو شهادة إلا الوجه والكفين، وهذا عند أمن الفتنة؛ وأما عند الخوف من الفتنة فلا. ويدل على تقييده بالحاجة: اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره)(2) انتهى.

فليس قولهم (لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره) راجع إلى قولهم (اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه) كما يظنه البعض أنه من باب سد الذرائع، وكأن مسألة تغطية المرأة لوجهها لا دليل عليها من الكتاب والسنة، وجاء هؤلاء واتفقوا من عند أنفسهم على منعهن، ولو كان كذلك، لما كان هناك اتفاق من أصله بين المسلمين، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولقام أئمة الإسلام ولفعلوا مثل ما فعل الشيخ الألباني بالرد على من حرم على النساء ما أباحه الله لهن من ظهور وجوههن وأكفهن وبيان السنة والمستحب، ولحصل من النزاع

(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/ 284).

(2)

بذل المجهود شرح سنن أبي داود (16/ 431).

ص: 206

بينهم كما هو الحاصل اليوم بين الفريقين، ولهذا فمن فهم قولهم (لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره) راجع لإجماعهم واتفاقهم على منع النساء من الخروج سافرات، أخطأ خطأً ظاهراً وبيناً، وذلك بسبب عدم تمعنهم في قراءة كلامهم وبتر أوله، لأن قولهم (لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره) وردت عند بعض المتقدمين وتعني وجود خلاف في مسألة جزئية من مسائل الحجاب، فهو راجع لما تقدم وأن ذكروه من التفصيل في بداية كلامهم لبعض تلك المسائل، فمنهم من تساهل فيها ومنهم من احتاط وشدد، فالذين احتاطوا ومنعوا استندوا (لاتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات) وقالوا (لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره) كما هو ظاهر من كلام الشيخ السهارنفوري هنا، بل ومن قبله من الائمة المتقدمين جداً، لمن تنبه لكلامهم، ومثله كثير مذكور هنا في عدة مواضع من كلامهم.

ومن أمثلة تلك الأمور والمسائل المختلفة بينهم والتي قد يذكرون فيها مثل تلك العبارات أو نحوها للاحتياط:

أأن منهم من منع من النظر للنساء مطلقاً ولو دعت لذلك حاجة أو ضرورة، وبعضهم منعه في حق الشابة بالذات؛ لأنها لا تسلم من الكشف أمام عدة أشخاص من شهود ومتعاقد وقاضٍ ونحوهم، وفي زمنهم رأوا أن الفتنة أكثر فمنعوا من ذلك، وبعضهم خص الشابة لأن الافتتان بها أكثر واستندلوا لذلك على اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره فقولهم (لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره) راجع لحسم باب الخلاف احتياطاً وذلك بمنع الشابة وغيرها من كشف وجهها ولو لحاجة.

ص: 207

ب- اشتراط بعضهم أمن الفتنة والشهوة عند نظر من جاز نظره للمرأة، ولهذا فعند بيانهم لجواز نظر الأجنبي يقيدونه (عند أمن الفتنة والشهوة) فجائز عند أغلبهم (وأما عند الخوف من الفتنة والشهوة فلا). وذهب بعضهم لعدم اشتراط ذلك، وقالوا لا يسلم أحد من أن ينظر للمرأة ويأمن عدم تحرك شهوته، ولو لزم ذلك كل من جاز نظره عند الحاجة والضرورة لتعطلت حقوق ومصالح.

ولهذا فمن منع واحتاط قال ويدل على ذلك اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره فقولهم (لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره) راجع لحسم باب الخلاف احتياطاً وذلك بمنع نظر من خُشي منه أو عليه الفتنة والشهوة.

ت- وهناك من الأئمة من شرطوا الحاجة الملحة والضرورية، لبيان أن النظر للمرأة لا يجوز إلا بذلك، بل وبعضهم منعوا من كشف النساء لوجوههن لكل حاجة يمكنها أن تستغني أو يُستغنى عنها بالتوكيل أو الإنابة أو بغيرها ونحو ذلك، ورجعوا في ذلك للأصل وهو اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره، فقولهم (لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره) راجع لحسم باب الخلاف احتياطاً وذلك بمنع النظر للنساء إلا بعد تقييده بالحاجة والضرورة الملحة.

ث- وقد تأتي عبارتهم تلك ويقصدون بها معنى آخر عندهم وهو المنع أيضا مما رخص فيه بعض الفقهاء وهو جواز خروج المرأة كاشفة عن وجهها في الطريق الخالية، حيث لا يوجد رجال أو وجدوا

ص: 208

ولكن لا يمكنهم رؤيتها فأجازه البعض كالقاضي عياض وغيره، ومنعه آخرون لمجرد خروجها لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة واستندوا لذلك باتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره، فقولهم (لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره) راجع لحسم باب الخلاف احتياطاً وذلك بمنع المرأة من كشف وجهها في طريقها ولو لم يكن هناك من يمكنه النظر إليها. وهكذا في غير ذلك من الأمور الخلافية الجزئية الكثيرة فيما قد يتساهل فيه البعض استناداً للرخصة أو الجواز، ويحتاط فيه غيرهم للأصل والإجماع على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه.

وللحق فسواء قصدوا أي من المعاني السابقة أو بغيرها في المنع والاحتياط والتشديد أو بهم جميعاً، فليس هذا بغريب منهم، وقد سبق معنا نقل الطحاوي والقرطبي عن البعض ممن منع من نظر الخاطب للمخطوبة، وسيمر معنا المزيد حيث وردت عن مالك وغيره منع الخاطب والبائعات من كشف الوجه لأن أغلب تلك البيوع ليست بتلك الضرورية التي يتطلب فيها الأمر توثيقها ومعرفة شخص المرأة للرجوع لها أو عليها، أو لأنه يمكن للشابة توكيل أحد قرابتها، وهذا من ورعهم وليس بمستغرب منهم فكيف نقول عنهم أنهم يقولون بالسفور؟ ! ونحن نقول وكيف لو رأو زماننا، وأن قوما يقولون بجواز كشف المرأة لوجهها بدون سبب ولا ضرورة؟ والله المستعان.

ولهذا فلا يجوز أن يُفهم كلامهم على عكس ما أرادوه وقصدوه وكأن النساء كن يخرجن كاشفات، وجاء هؤلاء ومنعوهم من عند أنفسهم، كما

ص: 209

فهمه البعض اليوم، لا. هذا تحريف وتبديل وهدر ونسف وطمس للحقيقة التي في كتب المتقدمين ولا يجوز لأحد اليوم أن يقول مثل هذه العبارات المعكوسة وينسبها لهم، بل هم يعنون الرخصة وهذا من حق الأئمة والعلماء وفي مقدورهم أن يمنعوا مثله إذا رأو تساهل الناس في الأخذ بالرخص من غير ضرورة ولا حاجة أو لغلبة الفساد فهذا سائغ ومقبول ولا يعد من قبيل التحليل والتحريم، بل من رد الناس لضابط الرخصة وهي الضرورة وعدم الفتنة والشهوة، ولهذا جاء عندهم:

في حاشية الطحاوي على المراقي - حنفي - قال في الجنائز - فصل: " في حملها ودفنها ":

(قوله: للرجال ويقصدون بزيارتها وجه الله تعالى وإصلاح القلب ونفع الميت بما يتلى عنده من القرآن ولا يمس القبر ولا يقبله فإنه من عادة أهل الكتاب ولم يعهد الاستلام إلا للحجر الأسود والركن اليماني خاصة وتمامه في الحلبي قوله: وقيل تحرم على النساء وسئل القاضي عن جواز خروج النساء إلى المقابر فقال: لا تسأل عن الجواز والفساد في مثل هذا وإنما تسأل عن مقدار ما يلحقها من اللعن فيه واعلم بأنها كلما قصدت الخروج كانت في لعنة الله وملائكته وإذا خرجت تحفها الشياطين من كل جانب وإذا أتت القبور تلعنها روح الميت وإذا رجعت كانت في لعنة الله، كذا في الشرح عن التتارخانية قال البدر العيني في شرح البخاري: وحاصل الكلام أنها تكره للنساء بل تحرم في هذا الزمان لا سيما نساء مصر لأن خروجهن على وجه فيه فساد وفتنة).

ص: 210

ومثله في الاحتياط قال في الجوهرة النيرة - حنفي - (قوله: ويكره للنساء حضور الجماعات) يعني الشواب منهن، لما فيه من خوف الفتنة. (قوله: ولا بأس أن تخرج العجوز في الفجر والمغرب والعشاء والجمعة والعيدين) وهذا عند أبي حنيفة أما عندهما فتخرج في الصلوات كلها؛ لأنه لا فتنة لقلة الرغبة فيهن وله أن شدة الغلمة حاملة على الارتكاب ولكل ساقطة لاقطة

والفتوى اليوم على الكراهة في الصلوات كلها لظهور الفسق في هذا الزمان ولا يباح لهن الخروج إلى الجمعة عند أبي حنيفة، كذا في المحيط فجعلها كالظهر) انتهى.

ومثله قال في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع -حنفي-: في العيدين (فصل: في شرائط وجوبها وجوازها: (وأما النسوة فهل يرخص لهن أن يخرجن في العيدين؟ أجمعوا على أنه لا يرخص للشواب منهن الخروج في الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة؛ لقوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} والأمر بالقرار نهي عن الانتقال ولأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام.

وأما العجائز فلا خلاف في أنه يرخص لهن الخروج في الفجر والمغرب والعشاء والعيدين، واختلفوا في الظهر والعصر والجمعة قال أبو حنيفة: لا يرخص لهن في ذلك وقال أبو يوسف ومحمد يرخص لهن في ذلك

وأما صلاة العيد فإنها تؤدى في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية عن الرجال كي لا تصدم فرخص لهن الخروج والله أعلم.

ص: 211

ثم هذا الخلاف في الرخصة والإباحة، فأما لا خلاف في أن الأفضل أن لا يخرجن في صلاة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في مسجدها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في دارها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» ) انتهي.

ونحو ذلك كثير جداً لا يحصى مما قالوه في الاحتياط ورجحوه (لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره).

مثله كذلك قال في روضة الطالبين من "كتاب النكاح" - شافعي -الفصل الثالث في أحكام النظر: (الضرب الأول نظر الرجل إلى المرأة فيحرم نظره إلى عورتها مطلقا وإلى وجهها وكفيها إن خاف فتنة وإن لم يخف فوجهان قال أكثر الأصحاب لا سيما المتقدمون لا يحرم لقول الله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} وهو مفسر بالوجه والكفين لكن يكره قاله الشيخ أبو حامد وغيره والثاني يحرم قاله الإصطخري وأبو علي الطبري واختاره الشيخ أبو محمد والإمام وبه قطع صاحب المهذب والروياني ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات وبأن النظر مظنة الفتنة وهو محرك للشهوة فاللائق بمحاسن الشرع سد الباب فيه والإعراض عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبية) انتهى.

ص: 212

فقولهم (فاللائق بمحاسن الشرع سد الباب .. ) هو لمن رجح الوجه الثاني ومنع من النظر ولو عند الأمن من الفتنة والشهوة.

24 -

قال الشرنبلالي - الحنفي- في (متن نور الإيضاح):

(وجميع بدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها باطنهما وظاهرهما في الأصح وهو المختار). وقد كتب العلامة الطحطاوي عند هذه العبارة:

(ومَنْعُ الشابة من كشفه - أي الوجه - لخوف الفتنة، لا لأنه عورة)(1) انتهى. وهذا ظاهر في أن العلة من منع كشفه عندهم خوف الفتنة وفي

الشابة لم يرخصوا لها ولو لحاجة للفرق بينها وبين غيرها فالفتنة بها أكثر، وهذا قاله عدد من الأئمة كما سيمر معنا.

25 -

ومثله ما جاء في الدرر المباحة للنحلاوي - الأحناف -

الباب الثالث: في النظر والمس. (المسألة الأولى: نظر الرجل إلى المرأة).} (القسم الأول) فينظر الرجل من الأجنبية الحرّة - ولو كافرةً - إلى وجهها وكفيها، فقط للضرورة، قيل: والقدم، والذراع، والمرفقِ إذا أجرت نفسها للخَبْزِ ونحوه من الطبخ، وغسل الثياب، لأنه يبدو منها عادة، وتمنع الشابة من كشف وجهها، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة، وعبدُها كالأجنبي معها، إلا أنه يدخل عليها بلا إذنها إجماعاً. ولا يسافر بها إجماعاً. فإن خاف الشهوة، امتنع نظره إلى وجهها، إلا لحاجة كقاضٍ وشاهدٍ يحكم ويشهد عليها وكذا مريدُ نكاحها ولو عن شهوةٍ بنية السُّنة لا قضاء الشهوة {انتهى كلامه.

(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح متن نور الإيضاح (صـ 161).

ص: 213

وقوله: (وتمنع الشابة من كشف وجهها لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة) وهذا كما بيناه علة الأحناف والمالكية وبعض الشافعية وبعض الحنابلة القائلين بتحريم كشف المرأة لوجهها بعلة الفتنة والشهوة لا علة العورة وأما الشابة فلان الفتنة بها أكثر وقد كره أحمد كشفها ولو لحاجة وهكذا مالك كما سيمر معنا. وقوله: (فإن خاف الفتنة) وانظر لصيغة المفرد والسياق العام فهي كما رأيت يعنون بها ناظر مخصوص لا أن تخرج فتعلم من ينظر لها نظر شهوة ومن ينظر لها نظرا عاديا والأمثلة على ذلك لاتحصى.

وهؤلاء أئمة الأحناف لماذا لم يستشهد أحدهم بأدلة السفور اليوم بدلا من أن يذكروا الحاجة والضرورة كعند القاضي والشاهد فلا نجد دليلا مما استشهد به مبيحو السفور اليوم، ولا تجد له ذكرا أصلا.

26 -

وقال شمس الأئمة السرخسي الحنفي

(حرمة النَّظر لخوف الفتنة، وخوف الفتنة في النَّظر إلى وجهها وعامة محاسنها في وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء)(1) انتهى.

وهذا ما يبين لك علة التحريم عند من لم يقل بالعورة.

27 -

وجاء في فتح العناية لملا علي القاري - الأحناف -

(قال: ) والحرُّةُ) أي وعورة الحرةِ (بَدَنُهَا) أي جميع أعضائها لقوله عليه صلى الله عليه وسلم: «المرأة عورةٌ» . رواه الترمذيّ وصحّحه، وفي رواية

(1) المبسوط (10/ 152).

ص: 214

النَّسائي. (الحُرَّة)(إلا الوَجْهَ والكفَّ والقَدَمَ) لقوله تعالى: {ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا ما ظَهَرَ مِنْها} أي إلا ما جَرَتْ به العادة على ظهورها للأجانب من الوجه والكف والقدم، إذ من ضرورة إبداء الزينة إبداء مواضعها، والكحلُ زينةُ الوجه والخاتم زينة الكف ولأن المرأة لا تجد بُدّاً من مزاولة الأشياء بيديها. ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً: الشهادةُ والمحاكمة. ويقول (وَ) ينظر (الرَّجل مِنَ الأجنبية و) من) السَّيِّدَةِ إلى الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ) لأنها محتاجة إلى إبداء ذلك لحاجتهما إلى الإشهاد وإلى الأخذ والإعطاء، ومواضع الضرورة مستثناة من قواعد الشرع) انتهى.

28 -

وقال الإمام الكاساني -الحنفي- (ت: 587) رحمه الله تعالى في بدائع الصنائع (1) من كتب الأحناف:

(حكم الأجنبيات الحرائر)

(وأما النوع السادس: وهو الأجنبيات الحرائر فلا يحل النظر للأجنبي من الأجنبية الحرة إلى سائر بدنها إلا الوجه والكفين لقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} إلا أن النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة وهي الوجه والكفان رخص بقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} والمراد من الزينة الظاهرة الوجه والكفان فالكحل زينة الوجه والخاتم زينة الكف ولأنها تحتاج إلى البيع والشراء والأخذ والعطاء

(1) بدائع الصنائع (4/ 293).

ص: 215

ولا يمكنها ذلك عادة إلا بكشف الوجه والكفين فيحل لها الكشف وهذا قول أبي حنيفة (1) رضي الله عنه وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يحل النظر إلى القدمين أيضا.

وجه هذه الرواية: ما روي عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها في قوله تبارك وتعالى: {إلا ما ظهر منها} القلب والفتخة وهي خاتم إصبع الرجل فدل على جواز النظر إلى القدمين ولأن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة واستثنى ما ظهر منها والقدمان ظاهرتان ألا ترى أنهما يظهران عند المشي فكانا من جملة المستثنى من الحظر فيباح إبداؤهما.

وجه ظاهر الرواية: ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله عز شأنه: {إلا ما ظهر منها} أنه الكحل والخاتم وروي عنه في رواية أخرى أنه قال: الكف والوجه فيبقى ما وراء المستثنى على ظاهر النهي ولأن إباحة النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها للحاجة إلى كشفها في الأخذ والعطاء ولا حاجة إلى كشف القدمين فلا يباح النظر إليهما (2) ثم إنما يحل النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منها من غير شهوة فأما عن شهوة فلا يحل لقوله صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان» وليس زنا العينين إلا النظر عن شهوة ولأن النظر عن شهوة سبب الوقوع

(1) وبهذا تعلم أن مذهب أبي حنيفة النعمان تحريم كشف المرأة لوجهها بدون سبب مبيح من مثل ما ذكره أهل المذهب أنفسهم.

(2)

وبهذا تعلم أنهم لم يعدوا الوجه والكفين عورة للضرورة لكشفهما كما في بعض الحالات، لا لأنه يباح كشفهما على كل حال بلا ضرورة. فما رأوه أنه ضرورة قالوا ليس بعورة والعكس بالعكس ولهذا اختلفوا في القدمين، وهذا ضابطهم فتنبه بارك الله فيك.

ص: 216

في الحرام فيكون حراما إلا في حالة الضرورة بأن دُعي إلى شهادة أو كان حاكما فأراد أن ينظر إليها ليجيز إقرارها عليها فلا بأس أن ينظر إلى وجهها، وإن كان لو نظر إليها لاشتهى أو كان أكبر رأيه ذلك لأن الحرمات قد يسقط اعتبارها لمكان الضرورة ألا ترى أنه خص النظر إلى عين الفرج لمن قصد إقامة حسبة الشهادة على الزنا؟ ومعلوم أن النظر إلى الفرج في الحرمة فوق النظر إلى الوجه ومع ذلك سقطت حرمته لمكان الضرورة فهذا أولى. وكذا إذا أراد أن يتزوج امرأة فلا بأس أن ينظر إلى وجهها وإن كان عن شهوة لأن النكاح بعد تقديم النظر أدل على الألفة والموافقة الداعية إلى تحصيل المقاصد على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين أراد أن يتزوج امرأة «اذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يدوم بينكما» دعاه عليه الصلاة والسلام إلى النظر مطلقا وعلل عليه الصلاة والسلام بكونه وسيلة إلى الألفة والموافقة) انتهى من بدائع الصنائع.

أرأيت كيف أن الإمام الحنفي رحمه الله استدل بجواز النظر للفرج ليجوز النظر للوجه، ولو أرادوا سفور الوجه هل سيقارنه بنظر الفرج؟ ولهذا قال:(ومعلوم أن النظر إلى الفرج في الحرمة فوق النظر إلى الوجه ومع ذلك سقطت حرمته لمكان الضرورة فهذا أولى) وأين هم من أدلة أهل السفور اليوم؟ لتعلم أخي الكريم شدة أمر كشف النساء في زمنهم فكيف يتهمونهم بنسبة عكس ما يسطرونه بأيديهم؟ وبهذا يظهر لك مذهب الإمام المبجل أبي حنيفة النعمان رحمه الله. وفي صريح عباراتهم ما يغني عن التعليق.

ص: 217

29 -

وقال في البحر الرائق شرح كنز الدقائق - الحنفي -

لابن نجيم المصري (ت: 970 هـ) تكملة البحر الرائق للطوري، كتاب الكراهية - فصل في النظر واللمس -

(والقسم الأول منها على أربعة أقسام:

نظر الرجل إلى الأجنبية، ونظره إلى زوجته، وأمته، ونظره إلى ذوات محارمه، ونظره إلى أمة الغير، والدليل على جواز النظر ما روي:«أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» قال رحمه الله: (لا ينظر إلى غير وجه الحرة وكفيها) قال الشارح (1) وهذا الكلام فيه خلل، لأنه يؤدي إلى أنه لا ينظر إلى شيء من الأشياء إلا إلى وجه الحرة وكفيها فيكون تحريضاً إلى النظر إلى هذين العضوين وإلى ترك النظر إلى كل شيء سواهما. ا. هـ.

ولا يخفى على متأمل عدم هذا الخلل، لأن حرف (إلى) بدل عن (من) الابتدائية التي إلى غايتها فهو في قوة المنطوق فالتقدير لا يجوز له النظر من المرأة إلى غير الوجه وكفيها، فقد أفاد منع النظر منها غير الوجه وكفيها لا التحريض فتدبره واستدل الشارح على جواز النظر إلى ما ذكر بقوله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال علي وابن

(1) الشارح هو الإمام الزيلعي (ت: 743 هـ)(شرح متن شيخه النسفي صاحب نصب الراية) وشرحه يسمى "تبيين الحقائق" يقول شارحا الفقرة السابقة من متن الإمام النسفي (ت: 701 أو 710) والمسمى "كنز الدقائق" من أشهر متون المذهب.

ص: 218

عباس ما ظهر منها الكحل والخاتم لا الوجه كله والكف فلا يفيد المدعي فتأمل والأصل في هذا أن المرأة عورة مستورة، لقوله صلى الله عليه وسلم «المرأة عورة مستورة» إلا ما استثناه الشرع وهما عضوان، ولأن المرأة لا بد لها من الخروج للمعاملة مع الأجانب فلا بد لها من إبداء الوجه لتُعرف فتطالب بالثمن ويرد عليها بالعيب ولا بد من إبداء الكف للأخذ والعطاء وهذا يفيد أن القدم لا يجوز النظر إليه وعن الإمام أنه يجوز ولا ضرورة في إبداء القدم فهو عورة في حق النظر وليس بعورة في حق الصلاة كذا في المحيط) (1) انتهى كلامه.

قوله (فيكون تحريضاً إلى النظر إلى هذين العضوين وإلى ترك النظر إلى كل شيء سواهما) أرأيت كيف غضب الشارح لأنه فهم من كلام صاحب المتن وهو من نفس مذهبه أن في قوله ذلك تحريض ودعوة للتساهل في كشف المرأة لوجهها وكفيها؟ ولو كانت الحاجة مقتصرة كما يقول على كشف بعض الوجه أو كحل العينين من خلف النقاب، أو لكشف الكفين فقط، أو لكشف خاتمها، فلا داعي لفهم حديث أسماء بالضرورة لكشف الوجه عندهم، لأن المقصد منه عندهم في ذلك الوقت أنه لتحديد الرخصة فتقدر الحاجة بقدرها، كما قال بعدها مستشهد بأقوال السلف (ما ظهر منها الكحل والخاتم لا الوجه كله والكف

والأصل في هذا أن «المرأة عورة مستورة» ).

(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق "تكملة البحر الرائق للطوري"(8/ 218).

ص: 219

ولهذا لم يعجبه أن يطلق القول بحل النظر عند الحاجة للوجه والكفين مباشرة على ظاهر حديث أسماء، لأنهم فهموا منه عند الرخص والرخصة تقدر بقدرها، ورأى أن في ذلك تحريض وتوسع في كشف العورات بلا داعٍ ولا حاجة؛ فقد لا تحتاج لكشف الوجه كله ولا الكفين فيمكن أن يعرفها ببعض ذلك وقد صرحوا في أبواب الشهادة على أنه لو عرفها وهي منقبة أو ببعض وجهها جاز أن يشهد كما سيأتي قول كثير منهم، واعتبر ذلك تحريضا فكيف لو سمع بمقالة القوم اليوم وما فهموه من حديث أسماء وغيره، بدون وجود الضرورة للرخصة ماذا سيقولون فيهم؟ .

وسبق لنا عند تفسير أقوال الصحابة بيان الحالات التي قصدها كل صحابي من أقوالهم المختلفة وأنها تعني شيئا واحدا وهو أن الآية رخصة، فذكر كل واحد منهم مقداراً من الزينة الجائز إظهارها في بعض أحوال الضرورة وهذا ما فهمه منهم الشارح وغيره من أهل العلم رحمهم الله تعالى، ولهذا فيحسن بنا نقل الأصل والمتن لما فيه من مزيد فوائد.

30 -

فقال في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي الحنفي: (فصل في النظر والمس) قال رحمه الله: (لا ينظر إلى غير وجه الحرة وكفيها) وهذا كلام فيه خلل لأنه يؤدي إلى أنه لا ينظر إلى شيء من الأشياء إلا إلى وجه الحرة، وكفيها فيكون تحريضا على النظر إلى هذين العضوين، وإلى ترك النظر إلى كل شيء سواهما، وليس هذا

ص: 220

بمقصود في هذه المسألة، وإنما المقصود فيها أنه يجوز له النظر إلى هذين العضوين لا أنه لا يكفهما، وإنما جاز النظر إليهما لقوله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال علي وابن عباس رضي الله عنهم ما ظهر منها الكحل والخاتم والمراد به موضعهما، وهو الوجه والكف كما أن المراد بالصلاة في قوله تعالى:{لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} مواضعها؛ ولأن في إبدائهما ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال والإعطاء وغير ذلك من المخالطة فيها ضرورة كالمشي في الطريق ونحو ذلك والأصل أن لا يجوز النظر إلى المرأة لما فيه من خوف الفتنة ولهذا قال عليه السلام «المرأة عورة مستورة» إلا ما استثناه الشرع) انتهى.

31 -

ومثله قال العلامة ابن الهمام الحنفي (ت: 861 هـ) في شرح سماه "فتح القدير" وهو مشهور: على شرح الهداية للإمام المرغيناني (ت: 593 هـ) صاحب أهم متون المذهب الشهير بـ"الهداية" وهو شرح لكتابه "بداية المبتدي" يقول في هذا المتن: (ولا يجوز أن ينظر الرجل إلى الأجنبية إلا وجهها وكفيها فإن كان لا يأمن الشهوة لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجة (.

ص: 221

32 -

ولهذا فقال العلامة ابن الهمام (ت: 861 هـ) في شرحه للهداية أسماه "فتح القدير":

مسائل النظر أربعة أقسام:

نظر الرجل إلى المرأة، ونظر المرأة إلى الرجل، ونظر الرجل إلى الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة:

والقسم الأول منها على أربعة أقسام أيضا: نظر الرجل إلى الأجنبية الحرة، ونظره إلى من يحل له من الزوجة والأمة، ونظره إلى ذوات محارمه، ونظره إلى أمة الغير:(قوله قال علي وابن عباس رضي الله عنهما: ما ظهر منها الكحل والخاتم، والمراد موضعهما وهو الوجه والكف) أقول: الظاهر أن المقصود من نقل قول علي وابن عباس هاهنا إنما هو الاستدلال على جواز أن ينظر الرجل إلى وجه الأجنبية وكفيها بقولهما في تفسير قوله تعالى {إلا ما ظهر منها} فإن في تفسيره أقوالا من الصحابة لا يدل على المدعى هاهنا شيء منها سوى قولهما، لكن دلالة قولهما على ذلك غير واضح أيضا، إذ الظاهر أن موضع الكحل هو العين لا الوجه كله، وكذا موضع الخاتم هو الإصبع لا الكف كله، والمدعى جواز النظر إلى وجه الأجنبية كله وإلى كفيها بالكلية، فالأولى في الاستدلال على ذلك هو المصير إلى ما جاء من الأخبار في الرخصة في النظر إلى وجهها وكفيها) انتهى.

ص: 222

33 -

ومثله ما قاله ابن حجر الهيثمي - الشافعي - في التحفة:

(ويحرم نظر فحل وخصي ومجبوب وخنثى إذ هو مع النساء كرجل وعكسه فيحرم نظره لهما ونظرهما له احتياطا

(بالغ)

عاقل مختار إلى عورة حرة

(كبيرة) ولو شوهاء بأن بلغت حداً تشتهى فيه لذوي الطباع السليمة لو سلمت من مشوه بها كما يأتي (أجنبية) وهي ما عدا وجهها وكفيها بلا خلاف لقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبصارهم} [النور: 30]، ولأنه إذا حرم نظر المرأة إلى عورة مثلها كما في الحديث الصحيح فأولى الرجل، (وكذا وجهها) أو بعضه ولو بعض عينها، أو من وراء نحو ثوب يحكي ما وراءه) وكفها) أو بعضه أيضا وهو من رأس الأصابع إلى الكوع (عند خوف الفتنة) إجماعاً من داعية نحو مس لها، أو خلوة بها وكذا عند النظر بشهوة بأن يلتذ به، وإن أمن الفتنة قطعاً (وكذا عند الأمن من الفتنة) فيما يظنه من نفسه وبلا شهوة (على الصحيح) {انتهى كلامه.

وانظر قوله: (كذا وجهها أو بعضه ولو بعض عينها وكفها أو بعضه) لتفهم أنهم يتكلمون في حالة الرخصة عند نظر الأجنبي للحاجة كما فسرها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا في تقرير مسألة تشريع الحجاب وما يجوز في أحوال المرأة العادية، فهذا مستحيل مع قولهم.

34 -

قال في البحر الرائق شرح كنز الدقائق - للأحناف -

قال العلامة ابن نجيم - في أحكام المحرمة -: (وفي فتاوى قاضي خان: ودلَّت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير

ص: 223

ضرورة. ا. هـ. وهو يدل على أن هذا الإرخاء عند الإمكان ووجود الأجانب واجبٌ عليها) (1) انتهى.

فقوله (لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة) مما يبين لك أن الأئمة متفقون على وجوب ستر المرأة وجهها ولو كانت محرمة، فكيف في غيره، وأن اختلافهم فقط في علة تحريم كشفه بدون سبب مبيح فمن قائل لأنه عورة، ومن قائل لخشية الفتنة والشهوة.

35 -

قال العلامة المرغيناني في فتح القدير - الحنفي -

عند كلامه عن إحرام المرأة في الحج: (وتكشف وجهها لقوله عليه السلام: إحرام المرأة في وجهها) قال العلامة المحقق الكمال بن الهمام تعليقًا على هذه العبارة: (ولا شك في ثبوته موقوفًا. وحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أبو داود وابن ماجه، قالت: "كان الركبان يمرون ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا سَدَلَت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه". قالوا: والمستحب أن تسدل على وجهها شيئًا وتجافيه، وقد جعلوا لذلك أعوادًا كالقُبة توضع على الوجه يسدل فوقها الثوب. ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إبداء وجهها للأجانب بلا ضرورة وكذا دلَّ الحديث عليه)(2) ا. هـ.

(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/ 381).

(2)

فتح القدير للعلامة المرغيناني (2/ 405).

ص: 224

36 ـ وقال العلامة الحصكفي (الدر المختار ورد المحتار) -الحنفي-:

عند كلامه عن إحرام المرأة في الحج: (والمرأة كالرجل، لكنها تكشف وجهها لا رأسها، ولو سَدَلَت شيئًا عليه وَجَافَتهُ جاز (1)، بل يندب. قال خاتمة المحققين، العلامة ابن عابدين في حاشيته على (الدر المختار): عند قوله: (بل يُندب) قال: أي خوفًا من رؤية الأجانب، وعبَّر في الفتح بالاستحباب؛ لكنْ صرَّحَ في «النهاية» بالوجوب. وفي «المحيط»:"ودلَّت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة، لأنها منهية عن تغطيته لحقِّ النُّسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا الإرخاء فائدة" ا. هـ.

ونحوه في الخانية. ووفق في البحر بما حاصله: أن مَحْمَلَ الاستحباب عند عدم الأجانب، وأما عند وجودهم فالإرخاء واجب عليها عند الإمكان، وعند عدمه يجب على الأجانب غض البصر) (2) انتهى.

واختلافهم ليس في وجوب ستر وجهها عن الرجال كما هو ظاهر وإنما فيما هو الحكم والأفضل فيما لو خرجت في طريقها وهي محرمة ولا رجال، هل تستره أم لها أن تكشفه؟ وسنأتي لمزيد بيان في ذلك عند ردنا على الشبهة المثارة عن الإمام القاضي عياض.

(1) والجواز بالسدل والمجافاة في حالة لم يكن هناك رجال وهذا خوفاً من رؤيتهم لها كما قاله ابن عابدين، لان من الفقهاء من قال لا يصح أن أحرام المرأة في وجهها، وإنما نهيت عن النقاب ونحوه فقط ولم تؤمر بكشف وجهها، وأما عند وجودهم فهم يوجبون ستره كما ترى.

(2)

الدر المختار ورد المحتار (2/ 189).

ص: 225

37 -

وفي شرح الطحاوي- الحنفي - أيضا وعند كلامه عن المحرمة في الحج قال: (الأولى كشف وجهها ولكن في (النهاية) أن السدل أوجب ودلت المسألة على أن المرأة لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة) انتهى.

وأما قوله (الأولى كشف وجهها) فهذا صحيح وهو باتفاق المذاهب عند عدم وجود الرجال، كما قالت عائشة رضي الله عنها:(إذا حاذانا الرجال سدلت إحدانا جلبابها على وجهها) وسيأتي ولكن السدل أوجب وهذا صحيح أيضا موافق لفعل السلف والصحابيات والتابعيات، ودال على فرض ستر الوجه، ولهذا لن تجد في كلامهم أنها تكشف أبدا.

38 -

قال الشيخ أحمد عزالدين البيانوني- الحنفي - (ت: 1395 هـ)

(قول الأئمة «عند خوف الفتنة» إنما يعلم في ناظر خاص وأما النظر إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة أمامهم فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعا فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة)(1).

39 -

قال في المعتصر من المختصر لمشكل الآثار للطحاوي (من أشهر كتب الأحناف):

(فقال مُر أختك فلتركب ولتختمر ولتصم ثلاثة أيام وكان كشفها وجهها حراما فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفارة لمنع الشريعة إياها منه، وهو

(1) الفتن (صـ 210).

ص: 226

على ما زاده بعض الرواة من قوله ويكفر يمينه فيمن نذر أن يعصي الله وعليها مع ذلك الهدى لركوبها فيما نذرت من المشي) انتهى كلامه.

وقوله (وكان كشفها وجهها حراما) وقد سبق أن قرر الإمام الطحاوي وهو من قدامى الأحناف أن الوجه والكفين ليسا عندهم بعورة، ومع ذلك لم يمنعهم هذا التقعيد أن يقرروا هناك وهنا تحريم الكشف.

40 -

وقال في الشرح الصغير للشيخ الدردير - المالكي -

(عورة الحرة مع رجل أجنبي منها، أي ليس بِمَحْرَمٍ لَهَا جميع البدن غير الوجه والكفين وأما هما فليسا بعورة وإن وجب سترهما لخوف فتنة)(1) انتهى.

41 -

قال في مواهب الجليل شرح مختصر الشيخ خليل - المالكي -

كتاب النكاح (فصل نُدب لمحتاج ذي أهبَّة نكاحَ بكر)

(فَرْعٌ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: يَجُوزُ النَّظَرُ لِلشَّابَّةِ الأجنبية الْحُرَّةِ فِي ثَلاثَةِ مَوَاضِعَ: لِلشَّاهِدِ وَلِلطَّبِيبِ وَنَحْوِهِ، وَلِلْخَاطِبِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَدَمُ جَوَازِهِ لِلْخَاطِبِ، وَلا يَجُوزُ لِتَعَلُّمِ عِلْمٍ وَلا غَيْرِهِ. انتهى. زَادَ الأقْفَهْسِيُّ فِي المواضع التي يَجُوزُ النَّظَرُ فِيهَا الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ (2). ا. هـ.

وَمُقْتَضَى كلام الْقَبَّابِ فِي مُخْتَصَرِ أحكام النَّظَرِ لِابن الْقَطَّان أنهُ لا يَجُوزُ النَّظَرُ إليهنَّ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فإنه قَالَ: مسألة: لَيْسَ مِنْ الضرورات احتياجها إلى أن تَبِيعَ وَتَبْتَاعَ، أو تَتَصَنَّعَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ

(1) الشرح الصغير (1/ 289).

(2)

أي وفي هذه المواضع أيضا قيل يجوز النظر إليهن زيادة عن الثلاثة التي سبقت وهذا يبين قوة الخلاف في المذهب وشدة مالك في الأخذ بالرخص.

ص: 227

مَالِكٍ: أَرَى أن يُتَقَدَّمَ إلى الصُّنَّاعِ فِي قُعُودِ النِّسَاءِ إليهمْ وَلا تُتْرَكُ الشَّابَّةُ تَجْلِسُ إلى الصُّنَّاعِ، وَأما المتجالة وَالخادم الدُّونُ وَمَنْ لا يُتَّهَمُ عَلَى الْقُعُودِ عِنْدَهُ وَمَنْ لا يُتَّهَمُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهُوَ كُلُّهُ صَوَابٌ فإن أكثر هَذِهِ لَيْسَتْ بِضَرُورَةٍ تُبِيحُ التَّكَشُّفَ فَقَدْ تَصْنَعُ وَتَسْتَصْنِعُ وَتَبِيعُ وَتَشْتَرِي وَهِيَ مُسْتَتِرَةٌ وَلا يُمْنَعْنَ مِنْ الخروج وَالمشي فِي حَوَائِجِهِنَّ وَلَوْ كُنَّ مُعْتَدَّاتٍ وَإلى المسجِدِ وإنما يُمْنَعْنَ مِنْ التَّبَرُّجِ وَالتَّكَشُّفِ وَالتَّطَيُّبِ لِلْخُرُوجِ وَالتَّزَيُّنِ بَلْ يَخْرُجْنَ وَهُنَّ مُنْتَقِبَاتٌ، وَلا يَخْفِقْنَ فِي المشي فِي الطُّرُقَاتِ، بَلْ يُلْصَقْنَ بِالْجُدْرَان انتهى مِنْ مُخْتَصَرِ أحكام النَّظَرِ. (تَنْبِيهٌ) مَنْ أبيحَ لَهُ النَّظَرُ (1) فَلا يَجُوزُ لَهُ قَصْدُ اللَّذَّةِ وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلى الأمردِ لا يَجُوزُ فِيهِ قَصْدُ اللَّذَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) انتهى كلامه.

فأين غير (ثَلاثَةِ مَوَاضِعَ: لِلشَّاهِدِ وَلِلطَّبِيبِ وَنَحْوِهِ وَلِلْخَاطِبِ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَدَمُ جَوَازِهِ لِلْخَاطِبِ) فكيف يقال أن مالك يجوز كشف المرأة لوجهها وهو لم يجوزه للخاطب لإمكان أن توصف له المرأة.

ثم أرأيت كيف الحرص من إمام المذهب مالك رحمه الله وأتباعه فلم يبيحوا لها ما أباحه غيرهم من الكشف للبيع أو الشراء ونحوه (فإن أكثر هَذِهِ لَيْسَتْ بِضَرُورَةٍ تُبِيحُ التَّكَشُّفَ) وكيف أيده أئمة المذهب (بَلْ يَخْرُجْنَ وَهُنَّ مُنْتَقِبَاتٌ).

(1) قوله: (مَنْ أبيحَ لَهُ النَّظَرُ) لتعلم أنهم يتكلمون في رخصة جواز النظر من ناظر مخصوص وليس كلامهم في تشريع لفرضة الحجاب لعموم الناس.

ص: 228

42 -

قال الإمام أبو الليث السمرقندي (ت: 375 هـ) -الحنفي- في تفسيره "بحر العلوم:

(والنظر إلى النساء على أربع مراتب: في وجه يجوز النظر إلى جميع أعضائها وهي النظر إلى زوجته وأمته وفي وجه يجوز النظر إلى الوجه والكفين وهو النظر إلى المرأة التي لا يكون محرما لها ويأمن كل واحد منهما على نفسه فلا بأس بالنظر عند الحاجة) انتهى كلامه.

43 -

قال في جامع الأمهات لابن الحاجب - المالكي -

(ولا يحل خلوة الرجل بامرأة إذا لم يكن زوجاً ولا محرماً ويحرم عليه النظر إلى شيء من بدنها إلا الوجه والكفين من المتجالة (1)، وأما الشابة فلا ينظر إليها إلا لضرورة لتحمل شهادة أو علاج وإرادة نكاح ويجوز لذي المحرم أن يرى منها الوجه والكفين وكذلك لعبدها إلا أن يكون له منظر فيكره أن يرى ما عدا وجهها) (2) انتهى.

يقول أن المحرم وعبدها يجوز أن يرى الوجه والكفين، وهل هذا يحتاج لبيان، وهم يرون كشفه لعموم الناس؟ ! وهذا من حرصهم في منع توسعها في الكشف عند محارمها من أمثال إخوانها وأعمامها، وأبناء الإخوان والأخوات ونحوهم، فالأولى عندهم عدم إظهار غير الوجه والكفين فقط، فكيف بغيرهم من الأجانب الذين سبق وتكلم عليهم (وأما الشابة فلا ينظر إليها إلا لضرورة لتحمل شهادة أو علاج وإرادة نكاح)!

(1) المتجالة: الكبيرة في السن وقال في غريب الحديث للخطابي (2/ 121)(قوله تجاللن: أي طعن في السن وكبرن يقال تجالت المرأة فهي متجالة وجلت فهي جليلة إذا كبرت وعجزت).

(2)

جامع الأمهات (1/ 568).

ص: 229

44 -

وقال العلامة محمد بن أحمد المعروف بعليش في (منح الجليل شرح مختصر خليل) - المالكي -

قال: (وهي أي العورة من حرة مع رجل أجنبي مسلم جميع جسدها غير الوجه والكفين ظهراً وبطناً، فالوجه والكفان ليسا عورة فيجوز لها كشفهما للأجنبي) انتهى.

مما تفهم معه أن الأصل هو كونه مستوراً ولكن يجوز للأجنبي المخصوص ممن له حاجة وضرورة، لا يقصدون عموم الناس.

45 -

وقال في الرسالة للإمام القيرواني -المالكي- (ت: 386 هـ)

(ولا يخلو رجل بامرأة ليست منه بمحرم ولا بأس أن يراها لعذر من شهادة عليها أو نحو ذلك أو إذا خطبها وأما المتجالة فله أن يرى وجهها على كل حال) انتهى.

46 -

ومن شروحها: شرح الإمام المنوفي (ت: 939 هـ) في كفاية الطالب الرباني - للمالكية -:

((و) كذلك (لا) حرج (في النظر إلى المتجالة) التي لا أرب فيها للرجال ولا يتلذذ بالنظر إليها (و) كذا (لا) حرج (في النظر إلى الشابة) وتأمل صفتها (لعذر من شهادة عليها) في نكاح أو بيع ونحوه ومثل الشاهد الطبيب والجرايحي وإليه أشار بقوله: (أو شبهه) أي شبه العذر من شهادة فيجوز لهما النظر إلى موضع العلة إذا كان في الوجه واليدين وقيل: يجوز وإن كان في العورة لكن يبقر الثوب قبالة العلة وينظر إليها (وقد أرخص في ذلك) أي في النظر إلى الشابة (للخاطب) لنفسه من غير استغفال للوجه والكفين فقط لما صح من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك

ص: 230

وقيدنا بنفسه احترازا من الخاطب لغيره فإنه لا يجوز له النظر اتفاقاً). انتهى كلامه. ومن صريح كلامهم ما يغني ويفي بالغرض.

47 -

وقال الإمام القرافي (ت: 682 هـ) في الذخيرة في الفقه المالكي (وقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} يقتضي العفو عن الوجه واليدين من الحرة لأنه الذي يظهر عند الحركات للضرورة)(1) انتهى.

48 -

وقال الإمام الدردير المالكي (ت: 1201 هـ) في أقرب المسالك:

(ومع رجل أجنبي غير الوجه والكفين) وشرح كلامه في الشرح الصغير (وعورة الحرة مع رجل أجنبي: منها أي ليس بمحرم لها جميع البدن (غير الوجه والكفين): وأما هما فليسا بعورة. وإن وجب عليها سترهما لخوف فتنة) انتهى.

وهذا هو نفسه ما مر معنا من قول الأحناف والمالكية المتقدمين بل وما سيأتي عن بعض الشافعية وبعض الحنابلة وهو أن الوجه والكفين ليسا بعورة (وإن وجب عليها سترهما لخوف فتنة). وهكذا درجوا يعبرون بصيغة المفرد الواحد (مع رجل أجنبي)(ليس بمحرم لها) لبيان جواز نظر ذلك منها في مثل الأحوال التي ذكروها للخاطب والشاهد والمتعاقد ونحوهم مما يلزم معه معرفة شخصها للرجوع لها أو عليها.

(1) الذخيرة في الفقه المالكي (2/ 104).

ص: 231

49 -

وقال في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للنووي - شافعي -

(فصل في تكفين الميت وحمله وتوابعهما):

قال: (وممن استثنى الوجه والكفين المصنف في مجموعه لكنه فرضه في الحرة، ووجوب سترهما في الحياة ليس لكونهما عورة بل لكون النظر إليهما يوقع في الفتنة غالباً) انتهى.

يقصد (المصنف في مجموعه) الإمام النووي (ت: 676 هـ) رحمه الله في كتابه المجموع، وكان من أعظم الداعين والمصرحين بفريضة ستر المرأة لوجهها، حتى أوجبه على الإماء كابن حزم ومع ذلك أصابته جناية المتأخرين اليوم بسبب قراءتهم السريعة والسطحية والمبتورة فألصقوا به مذهب السفور، فيا سبحان الله لو غير النووي (1)! .

وكيف يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

ولكن عزاءنا وعزاءه أن يد الجناية بالتحريف والتبديل والتصحيف قد طالت - من غير قصد - قوماً غيره.

50 -

وقال في حاشية الجمل على المنهج لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت 926 هـ) -شافعي-:

عند كلامه عن الشهادة: (قوله منتقبة أي لابسة للنقاب وهو ما يغطي وجهها كالبرقع. انتهى. شيخنا وفي المصباح، ونقاب المرأة جمعه نقب مثل كتاب وكتب وانتقبت وتنقبت غطت وجهها بالنقاب وهو ما وصل إلى محجر عينها. انتهى. قوله فإن عرفها بعينها أي ولو بدون رفع

(1) سترى نقولات عديدة وصريحة عن هذا الإمام في وجوب ستر النساء لوجوههن فتنبه! .

ص: 232

النقاب كما يقع لكثير من الناس أنهم يعرفون المرأة بعينها في نقابها. انتهى. شيخنا ولو شهد عليها من وراء نقاب خفيف صح وكذا لو تحقق صوتها من وراء النقاب ولازمها حتى أدى على عينها

وله استيعاب وجهها بالنظر للشهادة عند الجمهور لكن الصحيح عند الماوردي أنه ينظر لما يعرفها به فلو حصل ببعض وجهها لم يجاوزه، ولم يزد على مرة إلا إن احتاج للتكرار) (1) انتهى.

فكيف لو علمت أن الماوردي من أئمة الشافعية الذين لا يعدون الوجه والكفين من العورة ومع ذلك لم يمنعهم من القول بوجوب ستره.

51 -

وانظر حيث قال في كتابه "الحاوي الكبير" للعلامة أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ): (مسألة: قال الشافعي: وإذا أراد أن يتزوج المرأة موضع النظر فليس له أن ينظر إليها حاسرة، وينظر إلى وجهها وكفيها وهي متغطية بإذنها وبغير إذنها، قال الله تعالى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31] قال: الوجه والكفان.

قال الماوردي: (قد مضى الكلام أن وجه المرأة وكفيها ليسا بعورة في كتاب الصلاة: لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31]. قال الشافعي: الوجه والكفان، وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وعطاء، وقال ابن عباس والمسور بن مخرمة: هو الكحل والخاتم عبارة عن الوجه بالكحل وعن اليدين بالخاتم، فإذا أراد الرجل أن يتزوج المرأة، جاز له أن ينظر إلى وجهها وكفيها لا غير.

(1) حاشية الجمل على المنهج (10/ 797).

ص: 233

وقال أبو حنيفة: ينظر مع الوجه والكفين إلى ربع الساق.

وقال المغربي: لا يجوز أن ينظر إلى شيء منها (1).

فأما أبو حنيفة فإنه اعتبر القدمين بالكفين: لأنه أحد الطرفين، فلم يجعلها عورة والكلام معه في حد العورة قد مضى.

وأما داود: فاستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أراد أحدكم خطبة امرأة فليولج بصره فيها فإنما هو مسر

ودليلنا على داود قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر} منها: يعني الوجه والكفين، ويدل عليها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن أسماء دخلت على عائشة وعليها ثوب رقيق فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن المرأة إذا حاضت حرم كل شيء منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه.

ودليلنا على المغربي رواية جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أراد أحدكم خطبة امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها فإن في أعين الأنصار شيئا، أو قال: سوءاً

ثم من مر الدليل على جواز أن ينظر المعقود عليه أبلغ في صحة العقد من فقده، فاقتصر على نظر الوجه والكفين: لخروجهما عن حكم العورة، وأن في الوجه ما يستدل به على الجمال وفي الكفين ما يستدل به على خصب البدن ونعمته فأغناه ذلك عن النظر إلى غيره) (2) انتهى.

(1) هذا يقولونه في الخاطب وفيه النصوص العديدة فكيف بغيره، ثم يقال أن فيهم من يقول بالسفور، والله هذا تزييف للحقيقة وطمس للعلم، وإحكام لغربة الإسلام.

(2)

الحاوي الكبير للعلامة الماوردي (9/ 75). وأنظر كيف فهموا وأستدلوا بحديث أسماء في جواز نظر الخاطب ونحوه وليس لعموم الناس، كما سيأتي معنا مزيد بيان لفهم السلف له.

ص: 234

ومع قوله (قد مضى الكلام أن وجه المرأة وكفيها ليسا بعورة في كتاب الصلاة) وفي الرخص قوله (فاقتصر على نظر الوجه والكفين: لخروجهما عن حكم العورة) ومع ذلك أوجب ستره كما رأيت قبله قول صاحب حاشية الجمل على المنهج: (وله استيعاب وجهها بالنظر للشهادة عند الجمهور لكن الصحيح عند الماوردي أنه ينظر لما يعرفها به فلو حصل ببعض وجهها لم يجاوزه ولم يزد على مرة إلا إن احتاج للتكرار) انتهى.

52 -

الإمام أبو شجاع الأصفهاني - الشافعي- (ت: 593 هـ) في متنه الشهير يقول: (ونظر الرجل إلى المرأة على سبعة أضرب:

أحدها: نظره إلى أجنبية لغير حاجة فغير جائز

) انتهى.

53 -

وقال في المقدمة الحضرمية للعلامة بافضل الحضرمي (ت: 918 هـ): (والحُرَّةُ فِي صَلَاتِهَا وَعِنْدَ الأجانب جَميعُ بَدَنِهَا إلا الوَجْهَ والكَفَّيْنِ، وَعِنْدَ مَحَارِمِهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ).

ومن شروحها (الحواشي المدنية) للشيخ محمد بن سليمان الكردي.

قال: (هذا لا ينافي قول من قال أن عورتها عند الأجانب جميع بدنها لأن حرمة نظر الأجانب إلى الوجه والكفين إنما هي من حيث أن نظرهما مظنة للشهوة لا من حيث كونهما عورة (1).

(1) الحواشي المدنية للشيخ محمد بن سليمان الكردي (1/ 276).

ص: 235

ولاحظ كيف فهم كلام المصنف أنه ليس عورة وأنه لا يعني عندهم عدم ستره وانظر للفظة (حرمة) عند قوله (حرمة نظر الأجانب

من حيث أن نظرهما مظنة للشهوة لا من حيث كونهما عورة).

54 -

وقال الشيخ محمد علاء الدين الإمام في (الدر المنتقى في شرح الملتقى المطبوع بهامش مجمع الأنهر):

(وجميع بدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها، وقدميها في رواية، وكذا صوتها، وليس بعورة على الأشبه، وإنما يؤدي إلى الفتنة، ولذا تمنع من كشف وجهها بين الرجال للفتنة)(1) انتهى.

55 -

وقال الشيخ الحصكفي في: (الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين)) يعزر المولى عبده، والزوج زوجته على تركها الزينة الشرعية مع قدرتها عليها، وتركها غسل الجنابة أو على الخروج من المنزل لو بغير حق أو كَشفت وجهها لغير محرم) (2) انتهى.

فكيف يقولون أن هؤلاء على مذهب السفور ألمجرد أنهم يقولون الوجه والكفين ليسا من العورة؟ وإن يكن، ولكن ما فطنوا أن هذا دليل على أن الأصل عندهم ستره وأنهم لم يقولوا ذلك إلا ليدللوا على جواز كشفهما عند الحاجة كما فهموه من الآية الكريمة وحديث الخاطب وبدليل أنه لم يمنعهم قولهم ليس بعورة من القول بصريح العبارة على وجوب ستره عن الرجال، ألم يلحظوا هذا الحرص الشديد منهم حتى

(1) الدر المنتقى في شرح الملتقى (1/ 81 (المطبوع بهامش مجمع الأنهر.

(2)

الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين (3/ 188).

ص: 236

أجازوا الشهادة من خلف النقاب أو ببعض وجهها، أين نذهب بهذه النصوص؟ فلو سألهم الله عن ذلك، ألن يقولوا يارب هذه ما كتبته أكفنا؟ أجاء فيها أن النقاب كان عندنا سنة أو مستحب؟ ثم يقال أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعيات كن يخرجن سافرات الوجوه! والله لم يجرؤ أن يقلها منذ عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم وإلى قرون عديدة إلا المتأخرون اليوم من أهل السفور.

ومن الفوائد وأهمها والتي تعنينا هنا هي فهمهم للآية على أنها رخصة لأن تبدي المرأة وجهها وكفيها عند الضرورة وما مثلوا به كالشهادة والخاطب والعلاج ونحو ذلك، وتكلموا في القدر الذي يجواز مما يظهر غالباً عند الحاجة، ولهذا اختلف الأحناف والمالكية وغيرهم في ظاهر الكف وباطنه، لدرجة أن أجاز بعضهم الباطن لأنه للأخذ والإعطاء ولم يجوزوا كشف الظاهر لعدم الحاجة لكشفه، فهل يقول دعاة السفور بمثل هذا التفصيل اليوم؟ وكذلك اختلفوا في القدمين هل يجوز كشفهما أم لا؟ وطولوا في مناقشة المسألة، وبيان الحجج لكلا الفريقين، أهذا لكونهم كانوا يقولون أن تغطية الوجه كان سنة ومستحب؟ فمن نسب لهم اليوم أنهم لا يعنون باختلافهم هذا ما يظهر عند الضرورة والرخصة، وإنما يعنون بيان ما يجوز كشفه في أحوالها العادية، هل هو باطن الكف أو ظاهره وهل هما القدمان أم لا؟ مع نسبته لهم أنهم يجوزون كشف الوجه والكفين بلا سبب مبيح، كان بذلك مسفها لهم كمن نسب لهم أنهم رأوا وأصابوا النملة وذهلوا فأخطأوا البعير، فكان معيباً لعقولهم صارفاً الناس عن علومهم.

ص: 237

ومع أن لدي من أقوالهم أكثر من ذلك إلا أني أرجئ نقلها حتى لا نخرج عن سياق نقل أئمة الفقه على كون الآية رخصة من الله لأن تظهر المرأة من زينتها ما تدعوا الحاجة والضرورة إليه.

ص: 238