الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: استدلالهم بحديث الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشبهة أهل السفور فيه
فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت إنها قد وهبت نفسها لله ورسوله، فقال: ما لي في النساء من حاجة. فقال رجل: زوجنيها قال: أعطها ثوبا، قال: لا أجد، قال: أعطها ولو خاتماً من حديد، فاعتل له، فقال ما معك من القرآن. قال: كذا وكذا. فقال: قد زوجتكها بما معك من القرآن) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى للبخاري أيضا: عن سهل رضي الله عنه (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها النبي عليه السلام، فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه
…
) الحديث.
وللرد على هذه الشبهة نقول: ماذا تريدون في حديث هو في غرض الزواج وطلب النكاح؟ وكشف الوجه جائز لكل من أراد الزواج بالنصوص الشرعية فلا دليل فيه، هذا أولاً.
أ- ذلك كما قلنا سابقاً أنه ليس في شيء من أدلتهم أن امرأة كانت كاشفة عن وجهها أبداً وهنا كما ترون، فعلى كثرة ما أورده البخاري وغيره من ألفاظ وروايات لحديث الواهبة متباينة ومختلفة العبارات ومع ذلك فإنه لم يأتِ في شيء منها أن المرأة جاءته كاشفة عن وجهها بين الرجال.
وأما قوله: (فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه) فهذا أيضا يمكن أن يكون وهي في غاية الستر وبخاصة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما لي في النساء
من حاجة) فإن الواحد منا قد لا يكون له رغبة أصلاً في الشيء فلا يحتاج لمشاهدته من أصله أو له مواصفات خاصة في المرأة من طول وشكل ونحو ذلك فلو نظر فيها فوجدها لا تتوفر فيها تلك الأمور المبدئية فإنه لا يحتاج للنظر لوجهها من أصله.
ب- ثم على فرض أنها كانت كاشفة أليس من حق الخاطب النظر لمخطوبته؟ وهذه المرأة جاءت واهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتزوجها، وكذلك الصحابي لما طلب أن يتزوجها، فكيف يستدلون بمثل هذه الأحاديث على كشف المرأة لوجهها؟ والمخالف لهم يقر بجواز ذلك وأنه أحد الأدلة على ستر النساء لوجوههن.
وهذا ما فهمه ابن بطال عند شرحه لهذا الحديث من صحيح البخاري فقال: (ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، وهو قول مالك، والثوري، والكوفيين، والشافعي، وأحمد، وقالوا: لا ينظر إلى غير وجهها وكفيها. وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد وينظر إلى مواضع اللحم .... .
وخالفهم آخرون، وقالوا: لا يجوز لمن أراد نكاح امرأة ولا لغيره أن ينظر إليها إلا أن يكون زوجاً لها أو ذا محرم منها، ووجهها وكفاها عورة بمنزلة جسدها (1)، واحتجوا بحديث ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن سلمة بن أبى الطفيل، عن على بن أبى طالب أن النبي قال
(1) وهنا لتعلم أن من قال بعكس قولهم وأن الوجه ليس بعورة لم يعنى بذلك كشفه لكل أحد كما فهمه عنهم أهل السفور اليوم، وإنما قصدوا بذلك أنه يجوز كشفه عند الخاطب والشاهد ونحو ذلك من الضرورات، وهذا كان أحد الأسباب في أنهم لم يعدوه من العورة كغيرهم.
له: «يا عليّْ لا تتبع بالنظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة» .
قالوا: فلما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم النظرة الثانية؛ لأنها تكون باختيار الناظر، وخالف بين حكمها وحكم ما قبلها إذا كانت بغير اختيار من الناظر، دل على أنه ليس لأحد أن ينظر إلى وجه امرأة إلا أن تكون زوجة أو ذات محرم.
واحتج عليهم أهل المقالة الأولى أن الذي أباحه النبي عليه السلام في الآثار الأول هو النظر للخطبة لا لغير ذلك، وذلك نظر لسبب هو حلال، ألا ترى لو أن رجلا نظر إلى وجه امرأة لا نكاح بينه وبينها ليشهد عليها أو لها أن ذلك جائز، وكذلك إذا نظر إلى وجهها ليخطبها، فأما المنهي عنه فالنظر لغير الخطبة ولغير ما هو حلال) (1) انتهى كلام ابن بطال على حديث الواهبة.
والمهم أننا بنقلنا لكلام الإمام ابن بطال والذي هو نفسه كلام الإمام الطحاوي - والذي سبق معنا (2) - تبين لنا أن لا مذهب ثالث في مسألة الحجاب في زمنهم، كمثل مذهب القائلين اليوم بجواز كشف المرأة لوجهها، وإلا لذكروه واحتجوا به على من قال بمنع الخاطب من النظر للمخطوبة فضلا عن أن يكون ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) شرح البخاري لابن بطال (باب النظر إلى المرأة قبل التزويج).
(2)
كلام الإمام الطحاوي كان في (صـ 163) عند بيان مذهب القائلين إن الوجه ليس بعورة وأن ذلك لا يلزم منه عندهم عدم وجوب ستره لعلة أخرى وهي الفتنة والشهوة.
وصحابته الكرام أو تابعيهم بإحسان أو قول في مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد وجمهور الأئمة كما يدعون! .
وانظر كيف استدل عليهم من رأى جواز نظر الخاطب لمخطوبته وكيف ناقشوهم بحديث رسول الله في جواز نظر الخاطب أو الإجماع في جواز نظر الشاهد، فلم يحتجوا عليهم بحديث الخثعمية ولا الواهبة نفسها ولا أسماء بنت أبي بكر ولا سفعاء الخدين ولا
…
ولا غيرها مما أتى به أهل السفور اليوم، فسبحان الله كم بينهم وبين دعاة السفور اليوم من الفرق والبون الشاسع في الفهم والعلم، ولتعرف أن المتقدمين سواء من قال أن الوجه عورة أو من قال أنه ليس بعورة أنهم على خط واحد مستقيم ومنهج ثابت مطرد، وإن خالف البعض من المتقدمين من كلا الفريقين - وهم قليلون - فمنعوا من النظر للمرأة ولو لحاجة وضرورة ولو للخاطب، فنسب هذا أكثر ما نسب لمن قالوا إن المرأة كلها عورة، وإلا فالحق أننا رأينا أنه روي عن مالك وغيره كراهة ذلك وهم ممن لا يعدون الوجه والكفين من العورة، لتعرف أنهم في أصل المسألة ووجوب سترهما عن الأجانب متفقون مع من قال بأن المرأة كلها عورة، وإنما الخلاف بينهم في اختيار العلة المناسبة التي من أجلها أمر الشارع المرأة المسلمة بستر وجهها وزينتها عن الرجال، فمن قائل لأنه عورة ومن قائل ليس بعورة وإنما لأنه فتنة وشهوة، فظهر اعتراض هؤلاء على أولئك أكثر من ظهور علتهم، فحسبه أهل السفور أنه خلاف بينهم في أصل المسألة وأساسها.