المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وممن قال بهذه الخصوصية من نوع التغليظ: - كشف الأسرار عن القول التليد فيما لحق مسألة الحجاب من تحريف وتبديل وتصحيف

[تركي بلحمر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌(المبحث الأول)سورة الأحزاب وأول ما نزل من الآيات في مسألة الحجاب وما لحق تفسيرها من تحريف وتصحيف وتبديل

- ‌تاريخ نزول أول الآيات في مسألة الحجاب:

- ‌كيف مهد الإسلام لتشريع فريضة الحجاب

- ‌أول ما نزل في شأن الحجاب:

- ‌آية الحجاب وإجماع المفسرين عليها

- ‌التحريف والتبديل والتصحيف المعاصر لما لحق كلام شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره لآية الإدناء:

- ‌اختلاف ألفاظ السلف في التفسير غالباً ما يكون اختلاف تنوع:

- ‌الأدلة والنقول على أن (القناع) يأتي بمعني ستر الوجه:

- ‌مخالفة الشيخ الألباني لإجماع المسلمين في تفسيره لقوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}

- ‌آيات الحجاب لم تنزل مرة واحدةولها تسلسل ووقائع

- ‌(المبحث الثاني)سورة النور وما فيها من أدلة أخرى على أن الحجاب قد فرض قبلها وقبل ما فيها من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تناقض أهل السفور في مسألة غض البصر:

- ‌التبرج انفلات لا يقف عند حد:

- ‌سورة النور والرخصة بجواز أن تبدي المرأة من زينتها ما تدعو الحاجة والضرورة إليه

- ‌سورة النور فصلت ما أُجمل في سورة الأحزاب:

- ‌مصطلح أمن الشهوة ونحوه عند الفقهاء المتقدمين وما أصابه من التحريف والتبديل والتصحيف:

- ‌بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز نظر الخاطب لمخطوبته نوع من تفسيره للآية:

- ‌(المبحث الثالث)أقوال الصحابة في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْها} [النور: 31]

- ‌أقوال الصحابة واختلافهم في تفسير آية: {إلا ما ظهر منها} كان من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد

- ‌الجمع بين أقوال الصحابة في الآية:

- ‌ومن تلكم الحالات:

- ‌حالة المرأة الساترة لوجهها واحتاجت لكشف العينين فقط أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لكشف زينة وجهها أو كفيها:

- ‌مقصد الإمام الطبري عند تفسيره للآية:

- ‌حالة احتياج المرأة لتكشف أكثر من الوجه أو الكفين:

- ‌حالة احتياج المرأة لظهور زينتها المكتسبة كالثياب ونحوها:

- ‌فرض لبس الجلباب عند خروج المسلمات الصالحات:

- ‌حالة ظهور زينة المرأة رغما عنها وبغير قصد منها:

- ‌منهج السلف في التفسير:

- ‌منهج الصحابة والتابعين عند تفسيرهم لآية الرخصة {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه}

- ‌منهج أئمة التفسير والفقه عند تفسيرهم لآية الرخصة:

- ‌(المبحث الرابع)التحريف والتبديل فيما لحق كلام أئمة المذاهب الأربعة في فريضة الحجاب

- ‌اختلاف المذاهب الأربعة في مسألة الحجاب كان من اختلاف التنوع

- ‌المناهج الفقهية للمذاهب الأربعة:

- ‌فريضة الحجاب عند المذاهب الأربعة:

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن الوجه والكفين ليسا من العورة وأن ذلك لم يمنع من قولهم بوجوب ستره لعلة الفتنة والشهوة

- ‌أدلة ونقول أئمة الفقهاء من الأحناف والمالكية وغيرهم وتفسيرهم لقوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص للمرأة أن تبديه بأمور منها بما يظهر في صلاتها

- ‌(باب شروط الصلاة):

- ‌اعتراض الألباني على الأئمة في طريقة استدلالهم لتحديد قدر الرخصة لأنه يظن أنهم يستدلون به للسفور

- ‌قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

- ‌بقية أدلة الأحناف والمالكية وغيرهم في تفسير الآية بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص لها أن تبديه في الغالب وأن قولهم ليس بعورة لا يعني عدم وجوب ستره

- ‌(محاورة)حجة القائلين أن علة الأمر بستر الوجه والكفين لكونهما من العورة

- ‌قول أتباع كل مذهب بقول المذهب الآخر وتعدد الروايات في المذهب الواحد دليل على أن اختلاف المتقدمين في فريضة الحجاب كان من قبيل اختلاف التنوع

- ‌خطأ الشيخ الألباني رحمه الله في نسبته مذهب السفور للقائلين أن الوجه والكفين ليسا بعورة:

- ‌وبالعكس فمع ذلك قد تجد بعض أئمة الأحناف والمالكية وبعض الشافعية يقول أن المرأة عورة وذلك لأن الأمر واسع كما قلنا ومثاله:

- ‌وهناك قسم آخر من بعض الأئمة أخذوا يفصلون بنوع آخر وهو أن الوجه والكفين من المرأة عورة، ولكنه في حق من جاز نظره إليها لا يكون بالنسبة لهم من العورة لورود الدليل المبيح في ذلك، وهذا يدلك أن الأمر فيه سعة ولا يترتب عليه في أصل المسألة شيء ومثاله:

- ‌خلاصةأقوال أئمة المذاهب الأربعة في مسألة هل الوجه والكفين عورة أم لا

- ‌سبب ذكرنا لتأصيل المذاهب لمسألة الحجاب:

- ‌(المبحث الخامس)إكمال نقل إجماع المفسرين على أن الآية رخصة وليست تشريعاً لفريضة الحجاب

- ‌فائدة في حكمة التكرار في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}:

- ‌حكمة عدم التحديد في قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها}:

- ‌لو لم تنزل آية الرخصة

- ‌مخالفة الألباني للإجماع في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}

- ‌تفسير قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} وقول الألباني أن الخمار لا يأتي لستر الوجه

- ‌تصحيف الشيخ الألباني لكلام الحافظ ابن حجر

- ‌تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بأرجلهن لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور 31]

- ‌(المبحث السادس)خصوصية أمهات المؤمنين في فرض الحجاب عليهن وما لحقها من التحريف والتصحيف والتبديل

- ‌التمهيد لنزول فريضة الحجاب:

- ‌موقف الصحابة من آيات الحجاب وأمهات المؤمنين:

- ‌طريقة حجاب النساء داخل البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌لماذا ذكرت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بالذات

- ‌طريقة حجاب النساء خارج البيوت والإجماع في ذلك:

- ‌معنى الخصوصية في حجاب أمهات المؤمنين عند المتقدمين وما لحقها من التحريف والتبديل والتصحيف

- ‌الخصوصية الأولىالأدلة على أن معنى الخصوصية التي قصدها بعض المتقدمين لأمهات المؤمنين هي في تغليظ حجابهن بعدم جواز ظهور أشخاصهن أو الرخصة لهن في كشف الوجه والكفين كغيرهن

- ‌وممن قال بهذه الخصوصية من نوع التغليظ:

- ‌وممن قال أيضاً بالخصوصية من نوع تغليظ الحجاب على أمهات المؤمنين

- ‌الخصوصية الثانيةالأدلة على أن معنى الخصوصية الثانية والتي عناها المتقدمون لأمهات المؤمنين هي أنهن حجبن عن أبنائهن فكن بذلك مخصوصات عن بقية الأمهات وكن كالأجنبيات

- ‌خلاصة الكلام في خصوصية أمهات المؤمنين

- ‌الأول: أنهن مخصوصات بعدم ظهور شخوصهن فضلا عن عدم جواز ظهور الوجه والكفين منهن ولو عند الحاجة كما هو جائز لغيرهن

- ‌والثاني: أنهن مخصوصات بالحجاب من أبنائهن ومن يحرم النكاح بهم فكن بذلك دون بقية الأمهات ومن يحرم النكاح بهن اللاتي لم يفرض عليهن ذلك

- ‌تناقض أهل السفور واختلافهم في معنى الخصوصية المحدثةوما أوردوه من شبهات بخصوصها

- ‌رد شبهةعن الإمام القاضي عياض

- ‌كشف المُحْرِمَة وجهها في طريقها عند عدم وجود الرجال الناظرين لها وتناقص أهل السفور فيه:

- ‌مذهب القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها لمجرد خروجها:

- ‌الشبهة المثارة من أهل السفور عن مالك في جواز مؤاكلة المرأة للرجل

- ‌قول أهل السفور نتيجة حتمية لما هو الحاصل اليوم:

- ‌منهج الإمام ابن حزم الظاهري في مسالة الحجاب وما لحقه من تحريف وتبديل وتصحيف

- ‌نَقلُ أهل السفور هجوم ابن حزم على من فرق بين الأَمة والحرة في لبسهن للجلابيب في الصلاة وخارجها:

- ‌وقال ابن القيم: - فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة

- ‌معنى الجلابيب عند الإمام ابن حزم موافق لإجماع أهل العلم:

- ‌(المبحث السابع)استدلالات أهل السفور بالسنة على شبهاتهم

- ‌أولاً: حديث الفضل بن عباس ومخالفتهم لفهم السلف له:

- ‌الوجه الأول: في رد هذه الشبهة وهي عدم وجود ما ادعوه أصلا من كشف الوجه في الحديث:

- ‌الوجه الثاني: وهو على فرض كونها كانت كاشفة عن وجهها:

- ‌ثانيا: استدلالهم بحديث سفْعَاء الخدين

- ‌ثالثا: شبهة استدلالهم بحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق ومخالفتهم لفهم السلف له

- ‌خطأ الألباني في فهم مراد الإمام البيهقي

- ‌تضعيف البيهقي لحديث أسماء بنت عميس الثاني من طريق ابن لهيعة من"كتاب النكاح

- ‌رابعا: استدلالهم بحديث الواهبة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشبهة أهل السفور فيه

- ‌خامسا: ومن أمثلة شبهاتهم الواهية التي ينقلونها:

- ‌ومن أمثلة غرائب استدلالات أهل السفور وشبههم:

- ‌سادساً: استدلالهم لمثل هذا بما جاء في جلباب المرأة للألباني:

- ‌خلاصة شبهات أهل السفور اليوم وبدعة القول أن في تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال سنة ومستحب

- ‌مذهب السلف في مسائل الشبهات:

- ‌(المبحث الثامن)الرخصة الثانية في سورة النور وإجماع أهل العلمقال تعالى: {وَالقواعد مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ وَأن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّ

- ‌(المبحث التاسع)الأدلة من السنة والآثار على فريضة ستر المرأة وجهها عن الرجال

- ‌وختاماً:

الفصل: ‌وممن قال بهذه الخصوصية من نوع التغليظ:

‌الخصوصية الأولى

الأدلة على أن معنى الخصوصية التي قصدها بعض المتقدمين لأمهات المؤمنين هي في تغليظ حجابهن بعدم جواز ظهور أشخاصهن أو الرخصة لهن في كشف الوجه والكفين كغيرهن

ذهب فريق من أهل العلم المتقدمين إلى أنه قد فرض على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تظهر شخوصهن وأن يحتجبن من الناس فلا تظهر أجسادهن ولو كن مستترات، وهذا تعظيماً لحقهن وقدرهن، وبالتالي فمن باب أولى فليس لهن أن يكشفن وجوههن أو أكفهن لشهادة أو معاملة ونحو ذلك، بعكس غيرهن من النساء في جواز ظهور أشخاصهن وهن مستترات وكشفهن عند الضرورة والحاجة.

‌وممن قال بهذه الخصوصية من نوع التغليظ:

1 -

جاء في سنن البيهقي الكبرى قال الإمام الشافعي رحمه الله عند كلامه على مسألة العبد المكاتب مع سيدته وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان

لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه) (1). حيث جاءت أحاديث أخرى كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: (أيما عبد كوتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أوقيات فهو رقيق)(2)

(1) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود - باب في المكاتب يؤدي بعض كتابه فيعجز أو يموت -والترمذي - باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي - وابن ماجة، - باب المكاتب - قال الألباني في تحقيقه منار السبيل رقم 1769)) (ضعيف).

(2)

رواه الخمسة إلا النسائي قال الألباني في تخريجه لمنار السبيل برقم (1767)) حسن).

ص: 363

وفي لفظ: (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم)(1)، ولهذا اختلف الأئمة في الجمع بين الأحاديث، ولكن الذي يهمنا هنا هو:

قول الإمام الشافعي رحمه الله: (وقد يجوز أن يكون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة إن كان أمرها بالحجاب من مكاتبها إذا كان عنده ما يؤدي، على ما عظم الله به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين رحمهن الله وخصهن به وفرق بينهن وبين النساء أن اتقين ثم تلا الآيات في اختصاصهن، بأن جعل عليهن الحجاب من المؤمنين وهن أمهات المؤمنين ولم يجعل على امرأة سواهن أن تحتجب ممن يحرم عليه نكاحها، وكان في قوله صلى الله عليه وسلم إن كان قاله إذا كان لإحداكن يعني أزواجه خاصة - ثم ساق الكلام إلى أن قال - ومع هذا إن احتجاب المرأة ممن له أن يراها واسع لها وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم يعني سودة أن تحتجب من رجل قضى أنه أخوها وذلك يشبه أن يكون للاحتياط وأن الاحتجاب ممن له أن يراها مباح.

وقال أبو العباس بن سريج في معناه، هذا ليحركه احتجابهن عنه على تعجيل الأداء والمصير إلى الحرية ولا يترك ذلك من أجل دخوله عليهن) (2).

فهنا الإمام الشافعي جزم بخصوصية واحدة وهي (اختصاصهن، بأن جعل عليهن الحجاب من المؤمنين وهن أمهات المؤمنين، ولم يجعل على امرأة سواهن أن تحتجب ممن يحرم عليه نكاحها) وبهذا تعلم أن

(1) رواه أبو داود. وقال في الإرواء (1674)(حسن).

(2)

سنن البيهقي الكبرى (10/ 327).

ص: 364

الإمام الشافعي وغيره من المتقدمين لا يرون فرقاً بين حجاب أمهات المؤمنين عن الرجال وغيرهن من النساء.

ولهذا توقف عن الجزم بصحة خصوصية حجابهن من العبد إذا كان عنده ما يؤديه ولم يؤده، وذلك متوقف عنده على صحة الحديث عن رسول الله:(- إن كان قاله - إذا كان لإحداكن يعني أزواجه خاصة) فلو صح فيحمل على ما خصهن به من نوع أنهن وكونهن أمهات حجبن عن أبنائهن، وبعضهم كالقرطبي وغيره حمله على نوع التغليظ عليهن كعدم ظهور أشخاصهن ورؤيتهن للأعمى، كما سيمر معنا، وقد قلنا أن هذا النوع ليس متفقاً عليه عند العلماء كاتفاقهم على خصوصيتهن في التحجب وهن أمهات، كما قالها الشافعي لأنها بنص القرآن، لهذا فمنهم من لم يثبت خصوصية حجب أشخاصهن أبداً وقال أنهن كبقية نساء المسلمين، وكما ترى في هذه الخصوصية التي قصدوها فليس فيها أن النساء ليس عليهن الحجاب كأمهات المؤمنين وكل ما فيها هو مزيد تغليظ في سترهن وحجابهن من العبد إذا كان عنده ما يؤديه ولم يؤده، وذلك لمكانتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلو قدرهن، وفي كلام الإمام الشافعي ما يدل أن الحجاب وستر الوجه كان عاما لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المسلمين (ولم يجعل على امرأة سواهن أن تحتجب ممن يحرم عليه نكاحها).

وأما هنا فلأن العتق لا يكون إلا عند أداء ما اتفق مع العبد المكاتب عليه، ولو بقي عليه درهم لم يعتق كما نصت بذلك أحاديث ذكرنا بعضها، وهنا قال:(إذا كان لإحداكن) مجرد كون لديه ما يؤديه فقد

ص: 365

صار في حكم المعتق الحر الذي وجب الحجاب منه، ففهم منه البعض على فرض صحة الحديث أنه يحمل عليهن، كما هو شأن ما فهموه من التغليظ عليهن، وحمله بعض الأئمة على أن العبيد مع أمهات المؤمنين خاصة قد يمتنعون عن الأداء، وذلك لمكانتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله أبو العباس بن سريج.

قوله: (وإن الاحتجاب ممن له أن يراها مباح) فانظر ما يقوله هذا الإمام العظيم، ثم كيف ينسب إليه أنه يقول بسفور المرأة لوجهها، وهو يقول أن للمرأة أن تحتجب ممن يجوز له أن يراها، وهذا أكثر ما يمكن التمثيل به في أمر المحارم من الرضاعة أو نحو ذلك كمثل ما مثل له من أمر أم المؤمنين سودة رضي الله عنها، بالحجاب من رجل قيل أنه أخوها فقال:(ومع هذا إن احتجاب المرأة ممن له أن يراها واسع لها وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم يعني سودة أن تحتجب من رجل قضى أنه أخوها وذلك يشبه أن يكون للاحتياط وأن الاحتجاب ممن له أن يراها مباح).

فكيف لو رأيت أيها الإمام من يريد من المرأة اليوم العكس وأن تختلط بالأجانب وأن لا تحتجب منهم جميعاً، وينعتونا (بالمتشددين) على المرأة ليس لأننا نقول بحجابها ممن له أن يراها بل بحجابها ممن ليس له أن يراها، وأنت تقول (لها أن تحتجب ممن له أن يراها)(وذلك يشبه أن يكون للاحتياط) فهل في السنة والمستحب يقال (للاحتياط) وممن يُحتاط (من رجل قضى أنه أخوها)؟ .

ص: 366

2 -

ومثله في الاحتياط والخصوصية قول ابن عبد البر في "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" -:

(وأما وجه قوله لزوجته ميمونة وأم سلمة إذا جاء ابن أم مكتوم «احتجبا منه فقالتا أليس بأعمى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما». فإن الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالحجاب على غيرهن، لما هن فيه من الجلالة ولموضعهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدليل قول الله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتُنَّ .. } الآية. وقد يجوز للرجل أن ينظر لأهله من الحجاب بما أداه إليه اجتهاده حتى يمنع منهن المرأة فضلا عن الأعمى)(1) انتهى.

ثم ينسبون إليهم بفهمهم وقراءتهم السطحية المتسرعة جواز أن تخرج المرأة كاشفة عن وجهها أمام الرجال الأجانب، وينسبون أن في فريضة ستر النساء لوجوههن سنة ومستحب، فيا سبحان الله ما أعظم الجناية على العلم والعلماء! وما أبعد غربة الإسلام وما أبعد ما يدعيه المنتسبون لهؤلاء الأئمة، فإذا رأيت كلامهم، ثم قارنته بكلام الأئمة السابقين وما سطروه في كتبهم عرفت أنهم معذورون بجهله بعيدون عنه بعد المشرق عن المغرب.

فهنا يقصد أنهن مختصات من عدم جواز اطلاع حتى الأعمى لهن وليس في كلامهم ما يقوله فريق من أهل السفور هدانا الله وإياهم.

(1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (19/ 152).

ص: 367

3 -

القاضي عياض (ت: 544 هـ) يقول بخصوصية التغليظ لأمهات المؤمنين وأهل السفور ينقلوه شبه على جواز سفور المرأة:

نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري قول القاضي عياض: (فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يُرى شخصها؛ وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها)(1) انتهى كلام القاضي.

4 -

قال الحافظ ابن حجر في رده عليه وعلى من ذهب لنفس قول القاضي عياض: (وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: أقَبل الحجاب أو بعده؟ قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب. وسيأتي في آخر الحديث الذي يليه مزيد بيان لذلك)(2) انتهى من الفتح.

5 -

وقال أيضا في معرض رده على هذا القول في موضع آخر من فتح الباري: (وفي دعوى وجوب حجب أشخاصهن مطلقاً إلا في حاجة البراز نظر، فقد كنَّ يُسافرنَ للحج وغيره، ومن ضرورة ذلك الطواف

(1) فتح الباري (8/ 530) (باب قوله: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم}

(2)

نفس المصدر السابق.

ص: 368

والسعي وفيه بروز أشخاصهن، بل وفي حالة الركوب والنزول لا بدَّ من ذلك، وكذا في خروجهن إلى المسجد النبوي وغيره) (1) انتهى.

6 -

قال القسطلاني في إرشاد الساري راداً على من قال بذلك:

(وفيه تنبيه على أن المراد بالحجاب التستر حتى لا يبدو من جسدهن شيء، لا حجب أشخاصهن في البيوت)(2) انتهى.

7 -

وكذلك نقل النووي في شرح مسلم قال: (القاضي عياض

وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر، ولما توفيت زينب رضي الله عنها جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها) (3) انتهى.

8 -

وقد نقل الألوسي في تفسيره روح المعاني: (واختلف في حرمة رؤية أشخاصهن مستترات فقال بعضهم بها، ونسب ذلك إلى القاضي عياض، وعبارته فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كنَّ مستترات

) - إلى أن قال - (وأنا أرى أفضلية ستر الأشخاص فلا يبعد القول بندبه لهن وطلبه منهن أزيد من غيرهن، وفي البحر ذهب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب فدلته

(1) فتح الباري (11/ 24).

(2)

إرشاد الساري (7/ 303).

(3)

شرح صحيح مسلم للإمام النووي (14/ 151).

ص: 369

أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليه وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر رضي الله تعالى عنه وروى أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم) انتهى.

9 -

وقال السيوطي في الخصائص الكبرى: (باب اختصاصه صلى الله عليه وسلم بتحريم رؤية أشخاص أزواجه في الأزر وسؤالهن مشافهة قال الله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} قال في الروضة تبعاً للرافعي والبغوي: لا يحل لأحد أن يسألهن إلا: {من وراء حجاب} الآية وأما غيرهن فيجوز أن يسألهن مشافهة

وأخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن عوف قال أرسلني عمر وعثمان بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم السنة التي توفي فيها عمر يحج بهن فكان عثمان يسير أمامهن فلا يترك أحدا يدنو منهن ولا يراهن إلا من مد البصر وعبد الرحمن خلفهن يفعل مثل ذلك وهن في الهوادج وكانا ينزلان بهن في الشعاب ولا يتركان أحدا يمر عليهن، وأخرج ابن سعد عن أم معبد بنت خالد بن خليف قالت: رأيت عثمان وعبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر حجا بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت على هوادجهن الطيالسة الخضر وهن حجرة من النساء يسير أمامهن عثمان على راحلته يصيح إذا دنا منهن أحد إليك إليك، وابن عوف من ورائهن يفعل مثل ذلك، وأخرج ابن سعد عن المسور بن مخرمة قال قد رأيت عثمان وهو أمام أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يلقي الناس مقبلين في وجهه فينحيهم حتى يكونوا مد البصر حتى يمضين) انتهى.

ص: 370

أقول وهذا لعظم مكانتهن وقدرهن عليهن أفضل الصلاة والسلام، فهل يعقل من هذه حالهن وأمرهن إذا كان أمرهن الله بستر شخوصهن أن يكون جائزاً أن يسير نساء الصحابة بينهن سافرات الوجوه؟ .

هل قال بذلك أحد من العالمين فضلا عن علماء الشريعة وورثة الأنبياء؟ . وهذا لنفهم معنى الخصوصية التي ذكرها بعض أهل العلم من المتقدمين.

10 -

قال في أسنى المطالب - شافعي -:

(وهن أمهات المؤمنين) أي مثلهن لا في حكم الخلوة والنظر والمسافرة والظهار والنفقة والميراث بل في تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن (إكراما) له، ولقوله تعالى {وأزواجه أمهاتهم}

(فائدة) ذكر البغوي عن الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات وللمعتدة السكنى فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن، ولا يملكن رقابها) (1) انتهى.

(1) أسنى المطالب (14/ 238).

ص: 371

11 -

الإمام الطحاوي يقول بخصوصية التغليظ لأمهات المؤمنين وأهل السفور ينقلوه شبه على جواز سفور المرأة

ومثله قول الإمام الطحاوي وهو مما نقله عنه أهل السفور في تأيد مذهبهم الباطل، فنقلوه نقلا مغلوطاً ومبتوراً وناقصاً عن سياقه العام وعن مقصد الإمام الطحاوي وغيره من العلماء رحمهم الله، كما في مسألة خصوصية أمهات المؤمنين التي سبقت معنا من قول القاضي عياض وغيره، وذلك عند قوله في شرح معاني الآثار:(أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرّم عليهم من النساء، إلى وجوههن وأكفهن، وحرم ذلك عليهم من أزواج صلى الله عليه وسلم وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، رحمهم الله تعالى)(1) انتهى.

فهو رحمه الله أراد بيان خصوصية أمهات المؤمنين التي مرت معنا ولهذا أمل من القارئ الكريم أن يقرأ هذا النص بجوار النص السابق والذي ذكرناه له، في منع البعض نظر الخاطب لمخطوبته، وذلك عند بداية نقلنا لكلام الفقهاء القائلين أن الوجه والكفين ليس بعورة وأن هذا لا يعني عندهم كشفه بلا سبب مبيح، لنرى مقصد ومراد الإمام الطحاوي من كلامه هنا، ونفهم أسلوب المتقدمين وعباراتهم في الاستنباط والاستدلال ولنتأكد من شناعة البتر والاختصار، فهذا ليس هو سياق الطحاوي بتمامه أبدا، كما جاء النقل عنه، وإنما فيه بتر ظاهر، فهو أراد أن يبين ما قاله الشافعي والقاضي عياض والسيوطي

(1) شرح معاني الآثار (2/ 392) وانظر "الرد المفحم" للألباني (ص 34).

ص: 372

والقسطلاني وابن حجر وغيرهم ممن سبق معنا آنفا، كما هو ظاهر كلامه لمن تأمله، فهو مما له تعلق بمسألتنا في خصوصية أمهات المؤمنين ولهذا يحسن بنا نقله هنا بتمامه ليتضح الأمر.

فقال: ("باب نظر العبد إلى شعور الحرائر"

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه» (1) قال أبوجعفر: فذهب قوم من أهل المدينة إلى أن العبد لا بأس، أن ينظر إلى شعور مولاته ووجهها، وإلى ما ينظر إليه ذو محرمها منها

وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا ينظر العبد من الحرة إلا إلى ما ينظر إليه منها الحر الذي لا محرم بينه وبينها وكان من الحجة لهم في ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكروا في حديث أم سلمة، لا يدل على ما قال: أهل تلك المقالة، لأنه قد يجوز أن يكون أراد بذلك حجاب أمهات المؤمنين، فإنهن قد كن حجبن عن الناس جميعا، إلا من كان منهم ذو رحم محرم. فكان لا يجوز لأحد أن يراهن أصلا إلا من كان بينهن وبينه رحم محرم، وغيرهن من النساء لسن كذلك لأنه لا بأس أن ينظر الرجل من المرأة التي لا رحم بينه وبينها، وليست عليه بمحرمة إلى وجهها وكفيها، وقد قال الله عز وجل {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}

فأبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء (2) إلى وجوههن

(1) وهو نفس الحديث الذي تقدم تخريجة وتكلم عليه الإمام الشافعي في خصوصية أمهات المؤمنين، راجع (صـ 363).

(2)

قوله (ما ليس بمُحرّم عليهم من النساء) أي اللاتي لا يحرم النكاح بهن من النساء وهن الأجنبيات.

ص: 373

وأكفهن، وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت آية الحجاب، ففضلن بذلك على سائر الناس

قال أبو جعفر: فكن أمهات المؤمنين قد خصصن بالحجاب ما لم يجعل فيه سائر الناس مثلهن.

، فهذا هو النظر في هذا الباب وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رحمهم الله تعالى) انتهى.

وكم فيه من البون الشاسع بين ما أراده الطحاوي رحمه الله من الخصوصية لأمهات المؤمنين وما أراده دعاة السفور.

فهو قصد نفس مقوله القاضي عياض: (فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها؛ وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها)(1) انتهى كلام القاضي.

وفي قول الطحاوي: (وغيرهن من النساء لسن كذلك لأنه لا بأس أن ينظر الرجل من المرأة التي لا رحم بينه وبينها وليست عليه بمحرمة إلى وجهها وكفيها) فمن المعلوم أن ذوات الأرحام ومن حُرِم النكاح بهن يجوز النظر إلى وجوههن وأكفهن، وليس في هذا خلاف لتفهم أنه يقصد الرجل الأجنبي عند الرخصة فتنبه، كما أن قوله: (لأنه لا بأس

(1) فتح الباري (8/ 530)(باب قوله: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم .. }).

ص: 374

أن ينظر الرجل من المرأة) فلا يُقال (لا بأس) في أمر في أصله مشروع وإنما في رخصة كما يُقال لا بأس الفطر في رمضان ونحو ذلك.

وفي هذا إثبات الحجاب كما هو ظاهر على غيرهن من نساء المسلمين، كما أنه حين ذكر جواز نظر العبد لمولاته أراد نظره لوجهها وكفها فقط، لا شعرها وغيره كما يقوله البعض حيث جعلوا العبد في النظر لها كالمحرم منها، وقال آخرون: إنما هو كما ينظر الأجنبي لها عند الحاجة أي للوجه والكفين، واستشهد بآية الرخصة في ذلك، وكلامه الذي نقلناه سابقاً في جواز نظر الخاطب لمخطوبته ومناقشته، ورده على من منع من ذلك في زمانهم، لهو أعظم دليل على أنهم لا يعرفون في ذلك الوقت جواز نظر الرجال الأجانب للنساء بلا سبب مبيح ولهذا قال:(فأبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء إلى وجوههن وأكفهن). والمُحرم عليهم الغير مباح لهم كما اوضحه سابقاً (1) هو النظر بلا حاجة ولا سبب مباح من شهادة ونكاح وبيع ونحوه.

(1) راجع كلام الإمام الطحاوي (صـ 163) عند أول نقلنا لأدلة ونقول أئمة الفقهاء من الأحناف والمالكية وغيرهم وتفسيرهم لقوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} بأنها رخصة وتحديدهم القدر المرخص للمرأة أن تبديه - في الغالب - بأمور منها بما يظهر في صلاتها.

ص: 375

12 -

الإمام ابن بطال (ت: 449 هـ) يقصد خصوصية أمهات المؤمنين وأهل السفور ينقلونه شبهة على جواز سفور المرأة

حيث نَقل عنه الحافظ ابن حجر في الفتح كلاما عند حديث الخثعمية التي عرضها أبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها.

قال الحافظ ابن حجر: (وقال ابن بطال: في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة عليه لم يمتنع. قال: ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها، فخشي الفتنة عليه، وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم، وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن، وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يَلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار، ولمَا صرف وجه الفضل، قال: وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضاً، لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء وأن قوله:

{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} على الوجوب في غير الوجه) (1) انتهى كلامه رحمه الله.

ويجدر التنبيه:

أن كلام ابن بطال هذا والذي ينقله أهل السفور في كتبهم، ليس هو بنفس نظمه، وإنما الحافظ ابن حجر جمع أقواله من مجموع ما قاله ابن بطال عند شرحه للحديث من كتابه: "شرح ابن بطال على صحيح

(1) فتح الباري باب قوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم} (ج 11 صـ 12).

ص: 376

البخاري" ولم يفهم منه الحافظ ولا غيره سفور ولا شيء من ذلك، كما يقوله وفهمه أهل السفور منه، فابن بطال ظاهر كلامه أنه أراد خصوصية أمهات المؤمنين كما عناها الأئمة غيره، وكما نقله الحافظ ابن حجر بنفسه عن القاضي عياض وغيره، وهكذا فعل عندما نقل كلام ابن بطال.

وقوله: (وأن قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} على الوجوب في غير الوجه) انتهى.

فهذا والله من فهمهم الدقيق لآية الرخصة {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} لأنها جاءت بعد النهى عن غض البصر، ففهم السلف أن غض البصر إذا لم يكن هناك حاجة ولا ضرورة واجب في جميع بدن المرأة فلا يبدو منها شيء، وأما عند وجود حاجة أو ضرورة فالغض واجب في جميع بدنها غير الوجه، فيرخص في نظره ويستثنى من الأمر بغض البصر وإبداء الزينة، فتحديد قدر الرخصة بالوجه فقط، هو للغالب كما رجحه الكثير من أئمة أهل العلم والتفسير كما مر معنا حتى لا يتوسع الناس عند الأخذ بالرخص بأكثر من ذلك بلا حاجه، ولهذا لم يعده أكثرهم من العورة.

وممن مر معنا قولهم في تحديد قدر ما يظهر من المرأة عند الضرورة الإمام الرازي حيث قال: (ورابعها: ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى غير الوجه لأن المعرفة تحصل به).

ص: 377

وقال الواحدي في تفسيره لآية الرخصة: (فلا يجوز للمرأة أن تُظهر إلا وجهها ويديها إلى نصف الذِّراع).

وقال صاحب تفسير السراج المنير وقد سبق معنا: (وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة في الصلاة وسائر بدنها عورة فيها).

وقال في حاشية الجمل على المنهج للإمام زكريا الأنصاري: (وله استيعاب وجهها بالنظر للشهادة عند الجمهور لكن الصحيح عند الماوردي أنه ينظر لما يعرفها به فلو حصل ببعض وجهها لم يجاوزه).

وقال في المغني: (وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أهل الْعِلْمِ فِي إباحة النَّظَرِ إلى وَجْهِهَا، وَذَلِكَ لأنهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ).

وقال البيهقي في السنن الكبرى: (باب تخصيص الوجه والكفين بجواز النظر إليها عند الحاجة).

وقال أيضا عند حديث جابر في نظر الخاطب: (قال الشافعي: ينظر إلى وجهها وكفيها ولا ينظر إلى ما وراء ذلك ثم قال: وأما النظر بغير سبب مبيح لغير محرم فالمنع منه ثابت بآية الحجاب، ولا يجوز لهن أن يبدين زينتهن إلا للمذكورين في الآية من ذوي المحارم، وقد ذكر الله تعالى معهم ما ملكت أيمانهن) انتهى.

وأنت ترى أن كلام ابن بطال بنفس السياق والمنهج المتحد عن المفسرين والفقهاء في عدم النظر لغير الوجه، وإن اختلفت طريقة ومنهج وعبارات الاستنباط والاستدلال التي بينهم، فهو لما كان في

ص: 378

سياق شرحه لحديث الخثعمية من صحيح البخاري، ولم يكونوا يعرفون القول بالسفور ولا شيئا من ذلك بلا سبب مبيح، ولهذا دلل وحمل الحديث على جواز كشفه بقوله:(ليس فرضاً، لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة) أي ليس فرضا لا يجوز كشفه أبدا، كأمهات المؤمنين ولو في حالات الحاجة والضرورة كالشاهدة ونحوها، كما قاله القاضي عياض وغيره فدل أنهم يعنون بقولهم (فرضا) غير معنى قولهم (واجب) كما تلاحظ من كلامهم وبخاصة عند ذكرهم لأمرين وفيهما ما هو أقوى في الحكم من غيره، كما في قول القاضي أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله:(المسألة الرابعة عشرة: قوله في حديث ابن عمر: (لا تنتقب المرأة) وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها) (1)، وكما في بيان الفرق فيما يخص حجاب أمهات المؤمنين وما فيه من التشديد وعدم الرخصة، بعكس غيرهن، كما هو كلام القاضي عياض:(فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز) فدل على أن غير أمهات المؤمنين يكن مثلهن مغطيات، ولكن للشهادة ونحوها لهن كشف ذلك، فكلام ابن بطال مثله وعلى منهج واحد مع

(1) عارضة الأحوذي (4/ 56).

ص: 379

غيره من الأئمة القائلين بهذه الخصوصية، فليس معنى فرضا أن يكون في حق غيرهن سنة، بل المناسب أن يكون ما بعده واجب لغيرهن ولكن يستثنى عند الحاجة.

أما لو لم يكن الأمر في معرض بيان الفرق بين الأمرين، فإن ستر وجه المرأة لا شك أنها فريضة ربانية، فهم في كل الأحوال أوجبوا عليها ستره، إلا عند الضرورة والحاجة.

وإلا فلو أراد ابن بطال سفور المرأة لوجهها بمثل هذا الاستدلال الذي ينقله عنه أهل السفور (ليس فرضاً، لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة) لَعُورِض أول ما عورض من أهل السفور أنفسهم كما مر معنا عندما قالوا معترضين على الطبري والقرطبي وغيرهما من الأئمة: (وما علاقة ما تظهره في الصلاة بما تظهره خارج الصلاة).

فصار مفهوماً حمل كلام ابن بطال على منهج أمثاله من كثير من المفسرين والفقهاء المتقدمين والذين مرت معنا نقولاتهم في بيان تحديد القدر الظاهر من المرأة في صلاتها وعند الرخصة في كشف وجوههن للأجانب عند الحاجة والضرورة بعكس أمهات المؤمنين، وإلا لما كان استدلاله صوابا بظهور الوجه في الصلاة، ولكان بدلا من ذلك استدل على السفور بأصل حديث الخثعمية أو غيره كما يفعله أهل السفور اليوم.

ولهذا فقول ابن بطال: (وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم، وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن) فقوله هذا من أدل

ص: 380

الأمور على أنه يعني كشفه عند الحاجة، وأنه رأى في كشف الخثعمية سبباً مباحاً، كما سنبينه قريباً، من روايات الحديث وكلام أهل العلم على الحديث، فهو أراد بيان خصوصية حجاب أمهات المؤمنين وعدم جواز كشفهن لوجوههن ولو لحاجة أو سبب مبيح كما هو جائز لغيرهن، ولا أدل على ذلك من ذكره لعبارته السابقة والدالة على خطورة كشف المرأة لوجهها، فلا يمكن من أئمة كأولئك أن يقولوا كلاماً متناقضاً ككلام أهل السفور اليوم، فكلامه ظاهر يقصد به الرخصة لغيرهن لقوله فيه أيضا:(إذا أمنت الفتنة) كما دلت عليه أقوال أهل العلم عند اشتراطهم لجواز نظر الأجنبي عند الضرورة، أن يؤمن منه وعليه الفتنة عند النظر إليها، وكلامه هذا بإجماع أهل العلم لا يجوز النظر للمرأة بلذة وشهوة وفتنة ولو لحاجة أو ضرورة ولو إلى الأمة العبدة، حيث مر معنا منعهم للشاهد وغيره من النظر بلذة ولو لحاجة، فكيف يصح إذا أن نحمل كلام ابن بطال على الجواز دوما وفي الأحوال العادية ومن غير ضرورة ولا حاجة ولعموم الناس وهو في كلامه قد بين خطورة الأمر غاية بيان، وهذه مصيبة المصائب إلا أن يَفهم أهل السفور من كلام ابن بطال أيضا، جواز أن يخرج الرجال والنساء يتلذذون ببعضهم البعض ويمذون عياذا بالله.

كما أن قول ابن بطال: (وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم)، فهذه وحدها كافية لفهم مراده ومعناه، وتأكيد لما قلناه من أنه أراد خصوصية أمهات المؤمنين وبيان الرخصة لغيرهن فيما يظهر عند الضرورة.

ص: 381

لأن استنتاج بعض أهل العلم السابقين من حديث الخثعمية أنها كانت كاشفة لوجهها، أن ذلك منها كان لسبب مبيح، وهذا على فرض إنها كانت فعلا كاشفة عن وجهها وهو ما لم يرد أبدا في أي رواية من روايات الحديث وطرقه العديدة، ولهذا لم يُحفظ عن أحد من المتقدمين أنه فهم من حديث الخثعمية وغيره أنه لجواز خروج النساء سافرات بين الرجال، هذا مالم يقله أحد.

أ- قال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية: (باب عرض المرأة على الرجل الصالح) عن ابن عباس عن الفضل بن عباس (كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأعرابي مَعَهُ ابنةٌ لَهُ حَسْنَاءُ، فَجَعَلَ يَعْرِضُهَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجَاءَ أن يَتَزَوَّجَهَا، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ إليها، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ بِرأسي فَيَلْوِيهِ، وَكان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ)(1) انتهى.

ب- وقال صاحب كتاب: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري، قال:(باب فيمن عرض ابنته على من يتزوجها وما جاء فيمن أذن في زواجها ثم أنكر أو زوجها ويقول كنت لاعباً).

ت- وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: (باب عرض الرجل ولِيَّتَه على أهل الخيرة).

(1) الحديث صحيح، وسنأتي لذكر من صححه من الأئمة وأهل العلم في موضعه (صـ 467) عند ذكرنا لشبهات أهل السفور من السنة، وذلك منعا للتكرار، ويكفينا هنا تبويب وفهم الأئمة للحديث.

ص: 382

وهذا ما فهمه ابن بطال فأراد أن يميز حجاب أمهات المؤمنين عن حجاب غيرهن من النساء عند الحاجة والرخصة.

فكيف لو علمت أيضا أن ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري من كتاب الحج وعند "باب وجوب الحج وفضله" قال عن نفس الحديث كلاما بتمامه يبين مقصده: (وفى نظر الفضل إلى المرأة مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من شهوات النساء، وفيه أن على العالم أن يغير من المنكر ما يمكنه إذا رآه) انتهى.

وقوله: (أن يغير من المنكر ما يمكنه إذا رآه) دل أنه لم يفهم من الحديث جواز السفور للنساء دوما، وأنه في حالة الجواز والرخصة يُشترط الحاجة، ومتى ما كان النظر بلا حاجة لم يجز، أو كان لحاجة ولكن صادف خشية الوقوع في الفتنة أو الشهوة مُنع منه، وهذا ما كان من الفضل رضي الله عنه حيث نظر للمرأة وهي تعرض نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس له هو، فلما شعر به عليه الصلاة والسلام، صرف وجهه عنها، وإلا لو كانت وجوه النساء مكشوفة وما يعرف من طبيعة البشر وميلهم للنساء حتى كاد أن يقع بسببها نبي من أنبياء الله في الفاحشة {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ {24} [يوسف]، أو هذا الصحابي الجليل وهو ملاصق لأفضل رسل الله عليهم أفضل الصلاة والسلام، فكيف يُعقل أن ابن بطال قصد الكشف بدون حاجة، ثم طالب بالإنكار وهو يَعرِفُ:(مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من شهوات النساء) هذا تناقض ولما أمكنهم إنكاره على عموم الناس.

ص: 383

فإن جاز لابن بطال القول من نفسه بأن الخثعمية كاشفة وجهها مع أن الحديث لم يصرح بذلك بتاتاً، ولكن للاستدلال به، لبيان مسألة خصوصية أمهات المؤمنين عن غيرهن من النساء في كشف وجوههن عند الحاجة والضرورة المؤقتة ولأمر مباح كما فهمه أئمة الإسلام وهو عرض الأعرابي ابنته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يمكن، أما أن يفتروا بأنها كاشفة وجهها، لينصروا مذهبهم الباطل، ويقولوا أن كشفها كان بدون سبب أو احتمال من تلك الاحتمالات القوية والتي ذكرها أهل العلم المتقدمين، والتي سنأتي لذكرها تفصيلا عند ردنا على شبهاتهم من السنة بمشيئة الله تعالى، ودون أن يفهموا روايات الحديث وأقوال أهل العلم فيها، ليردوا فريضة الله وحجابه المنزل على عباده من المؤمنات بمثل هذه الاحتمالات المبتورة والمحرفة والمصحفة والتي نقلوها عن بعض العلماء، دون أن ينظروا لبقية كلامهم ونحن نرى الإجماع والنقول عن أهل العلم على اختلاف مذاهبهم ومعارفهم، فلا يلقوا لها بالاً، فهذه والله مصيبة المصائب، إلا أن نرمي بكلامهم لنأخذ اليوم بكلام وفهم هؤلاء في المتشابهات والظنون.

ولهذا رجحنا هنا أبسط الردود، فكيف ببقية الردود المحكمة والمقنعة والتي عندما سنأتي لسردها بمشيئة الله تعالى ستعلم حينها أن الله لا يضيع هذا الدين، وإنما نحن من ضيعه، والله سائلنا جميعا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 384